~ و يَبْقَى الحُبّ ,, ~
تأملتُهُ ذاتَ مَساءٍ , فبَدا لي وادعَ الثَّغرِ كالطفلِ المِبْسَام .
كانَ لألآءُ الفَرح يتندَّى في وجههِ الطَّاهر .
أبصرُهُ تارةً كورقيِّ الحَمام يقفُ على غُصينٍ أملدٍ قُربَ شُرفةِ قلبي و يشدو عند أذني بهديلٍ حانٍ يستلُّ أرزاءَ سُويدائي ذاهباً بحُلكتها نحو البعيد , فأستلُّ قُبلتي الزَّهراء لأرسمُها على مُحيَّاه النَّاضر فيرحلُ مُحلِّقاً نحوالأفق قاصداً وجهَ القمر كي يتزيَّا بصفايا رُوحه النيَّرة , فأرأهُ تارةً أخرى كالقُمير الوضَّاء يُلوِّحُ لي بيده الغَضَّة من سماء الله و يهدهدُ أمنياتي فيها , و يرسلُ شَعاعةً من نُورهِ ليكسو بها ظلماءَ سُويدائي ذاهباً بحُلكتها نحوَ البَعيدِ البعيد .
......
أومضتُ له بعيني كي يرجعَ إليَّ لكنَّهُ أشاحَ بوجهه التَعبِ عني ثم ألقى عليَّ نظرةً حائرةً وأتبعَ سَبباً .
بعدئذٍ جفا النَّومُ أجفاني , فجلستُ أُطالعُ في ذكرياتي ثمَّ توسّدتُ على أريكتي فغفوت و خليلي لازالَ يدثّرُني بعباءةٍ من زهور المُنى المُبلَّلةِ بالجَوى ؛ لأصحو و أجدَ قربي قلادةً يتأجَّجُ النُّورُ فيها و لا يتأتَّى لأناملي أن تلمسَها كيلا تؤذي حُسنها البَّاهر .
نهضتُ أُراقصُ فرحتي كالفراشةِ النشوانةِ بثوبي الورديّ و أدورُ في جنون فرحي و تسكنُني خواطرَ الحُبِّ الأسطورية . إنَّه خليلي دونَ أدنى شكّ قد تسللَ عبرَ الشُّباكِ و تركَ القلادةَ قربي و لهذا السبب غادرَ دون أن يُودّعني ليلة أمس ليفاجئَني هذا الصَّباح بهذه القِلادة .
ويْلاهُ من هولِ هذا المارد الحاني الذي يسكنُني في هذه اللحظة..!!
حملتُ القلادةَ بأناةٍ كالأمِّ تحنو على وليدها الغافي .
لا أدري ماذا حصل بعدها , أقصد لماذا كان يحصل ؟!
فبعد أن توضّأتُ من نور قُربانه و عطرّتُ أحلامي بشذا أُقحوانه ؛ جلستُ أتأملُ القلادةَ و إذا بها تشرعُ بالبُكاء .
يا لله إنَّها تبكي و الدَّموعُ تتناثرُ على جنبيها كاللؤلؤ المنظوم ...!!
سكنتُ للحظة ثمَّ أمعنتُ النَّظر فيها فلربَّما هي رؤيا .
يا لهفَ نفسي ......لا ..... لمْ تكن رؤيا.....!!
بَكتِ القلادة فبكيتُها و غمرتني مياه الطُهر و الودّ بندىً كذوب ناغيتُ ألاءَها فانطفأتْ .
غرقتُ إثرها فيه هُنياتٍ تُعدُّ ثمَّ عِمتُ على وجه الحقيقة ؛ لأقرأ وسط القلادة نثراً مُطوَّلاً يحكي قصة سربٍ من الياسمين كانَ يعيشُ بين أطلالٍ دارسةٍ خَلتْ إلا من عائدةٍ تزورُها دائماً.
كانت تجثو على بعض أحجار الدَّار و ترتِّلُ ألحانَ حُبّها الدَّارس و تبكي حنينها المقتول ثمَّ ترجعُ أدراجها خائبةً .
كانَ الياسمينُ قد تعلَّمَ فنَّ الإصغاء لهمسها حتى أَلِفَهُ و صارَ ينمو من رحيق ألم ذاك الهمس .
فنمَا الياسمينُ كما تنمو كُلّ الزَّهور ليشبهها كلها فلا يشبه نفسه .
كانت بتلاتُه بيضاءَ نقيَّةً غَضَّةً شذيَّة .تتدلى خجلانةً على أجمةٍ من الوريقات الخضراء النَّاضرة لكنها تنسَّكتْ .... نعمْ .... تنسَّكتْ و انقطعتْ عن حياتنا الدُّنيا إلى حياتها الدُّنيا .
كانتْ ممارسة الصّمت طقساً من طقوس عبادتها المُعتادة فتقفُ أمامها مشدوهاً لتجدَها أنطقَ ما تكونُ مع أنها لمْ تنطقْ و أتمّ ما تكون بياناً مع أنها لم تُبنْ .
و بِمَ تنطقْ أو تُبنْ ؟!
و منذ متى كانت للزهور لغات ؟!
و إن كانت للياسمين لغةٌ خاصة , فهل كان يُحاضر يوماً في مجالس الأدب كي يتعلم فنونَ البلاغة بالحذفِ , تارةً للإكتفاء و تارةً للإضافة ؟!
كيف و هو يُجاورُ دياراً مَخليَّةً لا يسكنُها جنيّ ؟!
قد كان ترياقُ تلك العائدة المسكينة أن تُلقي بأطنان ألمها إلى تلك الدِّيار
ـ جارةِ أحواض الياسمين ـ
فحفظَ منها دروساً عن الحزن و الأسى و ضياع الأحلام و سَحق المُنى ثمَّ ترجمَها إلى لُغته الخاصة لينثُرَ في فنائه عبراتِ الرُّوح المُلتاعة التي تأسى لأسى غيرها و تنقطعُ عن كل شيء إلا عن حزنها على من تُحبّ , مُستشهداً على كل ذلك بأبياتِ الصَّمت التي تُحدِّثُ الجاثم أمامها عن سرِّ تلك الظاهرة و تدعوه ألا يستغرب .
استمرَّ الياسمينُ أياماً و شهورَ و سنينَ كثيرة على تلك الحال حتى بَلغه ذات غُديَّة خبراً ينعي بكَّائةَ الطَّلل حاملاً نعشها إليه .
و ما اكتفى القضاء بمحو أثار تلك الدّيار الخَربَة و لا بقتل عائدتها بل مضى يذبحُ سربَ الياسمين .
لكنه هذه المرة كان رؤوماً فقد توسلَّ إليه السَّرب أن يُتمَّ عمليةَ الذَّبح و يصنعُ من زهورهِ المُدمَّاة بعبيرها إكليلاً يُزينُ به رَمسَ مُعلّمته .
و هكذا تجاورَ الصِّحابُ الثلاثةُ في دارِ الفناء مُسطّرينَ أسطورة البقاء ما بقيَ الوفاء .
أنهيتُ قراءة القصة والدّموع تنصبُّ من عينيَّ بهملانٍ أحملُ بين ضلوعي عُصفوراً مُرتجفاً يخشى قُربَ الختام حتى و إن اختلفتْ النّهاية .
تداركتُ دمعي و سائلتُ القِلادة , عَلامَ بكيتِ ؟!
فردَّتْ بصمتٍ يُشبهُ صمتَ الياسمين تنبهُني أنَّ المسرحيةَ ستتكررُ بفصول مختلفة .
وَيلاهُ ماذا أفهم من إيمائها ؟!
أنَّ أيامَ سَعدي قدْ آنتْ بصَرمٍ حَذَّاء فما بقيَ لي منها إلا صُبابةٌ كصُبابةِ الإناء ...؟!
ويلاه ممَّا أدركت ......!!
لكني ـ أيُّها الحبيب و إنْ سلوتَ عني و رُمتَ غير حُبي و عُهدتي ـ فأنا على عهدي ما حييتْ و نشوى الحُبّ المَالئ جوارحي و فناء أفكاري لن ينضبَ ما دامَ معينُ الهواء عاملاً في صدري .
و لكنْ ثمَّة سؤال يتربّعُ على شفتي المُرتجفة :
كيفَ يتأتَّى لمُحبٍّ أنْ يستنصرَ لتعذيب مُضناه كُلَّ لحظة بوحٍ سماوية تعانقتْ فيها رُوحُ الحبيبين فنَمتْ بفضلها زُهورُ الأمل في رياض القلوب , ثم يأتي ليصنعَ منها ملحمة بشعة ؟! كيف ؟!
كيف يصنع من بتلاتِ الياسمين شوكةً صَلدَّةً تُذهبُ نور بصر حبيبه ؟! كيف ؟!
كيف يحرقُ النورَ المَخبوء في منديل القمر و كنتُ قد تنشّفتُ به يوماً ؟!
كيف يغرس خنجرهُ المسموم في صدر ورقي الحمام ليسقطَ عن غصنهِ على مرأىً من عيني حبيبه و وسط شرفة قلبه ؟!
كيف يجرؤ أن يُحوِّلَ روضَ القلب إلى طَللٍ خَربٍ و يعدمُ زهور الأمل المُتبقي فيه ثم ينتهي إلى قتل صاحبة الطلل ؟! كيف ؟!
.......
ها قد تضرَّجتْ ساحة القلب بألوان الغدر المُختبئ في ثنياتِ الآتي , ليختلطَ بدمائه مُؤرِّخاً مَجزرةً أسطوريَّةً جديدة.
منذُ عهدٍ بعيدٍ و أنا أعشقُ الورودَ الحمراء لوجود معنى فلسفي مخبوء في اللون الأحمر , لكني كنتُ أخشى أن يكشفَ لي القدر عن جريمةٍ مصبوغةٍ بلونٍ يماثلها .
ها قد كُشفَ السِّتار فاسّتعرَ النبضُ خوفاً من مصيرٍ عُرفَ فبقي مجهولاً .
و ها هو الحُبُّ يتقدمُ بسُموٍّ يرفلُ في ثوبه الجُوري مُتكلماً من عالمه العاجيِّ الورديِّ , مُعلناً أمام مَلأٍ من القوم و النسَّاءِ و الأطفالِ و العَجزةِ هامساً بقوة :
(( أنا الكبرياءُ الأسمى ,, أتحطَّمُ بوميضِ ثغرٍ باسمٍ .
(( أنا الماردُ الجبَّار ,, و قلبي قلبُ طفلٍ حالم .
(( أنا الحُبُّ ما دُمْتُ حيَّاً في قلبٍ وفيٍّ فإنّي سأبقى عبداً في مِحرابه ما دُمْتُ حَيَّاً ........
.....
...
..
.
.
.
17/12/2004