على فراشٍ..... لا يضم آلامه....
لايطيق حمله وآلامه....
من تحته..... يصيح الفراش..
رُباه..... ما هذا الثقل كله !!!
مضى العُمر..... وبقيت منه العِبر
بضع أنفاسٍ.... تثقل هذا الجسد المسجى فوقها
ينتفض فجأة..... يتكور كالطفل.....الحُمى تكاد تُفتت جسده.....
حوله نصف عُمره..... زوجته وبنيه...
ونصف آخر قد مضى !!
تمزقه نظراتهم له.....
يُشيح ببصره بعيداً..... يتكور أكثر
تصب زوجته الماء على رأسه....
و همهمات بنيه بدعاء مكتوم....
بينما هو لا يريد هذا الألم.....لأنه خرج عن وعاء جسده إلى نصف عُمره الآخر .....!
إنه يتسرب من جسده إليهم....
يرفع يديه في الهواء
يريد أن يعيد طيف الألم الهارب منه إلى تلك الوجوه
تنهار زوجته وتبكي......فهي ترى أن آثار الحمى وصلت لحدود الهلوسة.....
البقية تبتعد إلى الخلف خطوة.....إلا أحدهم...
يقترب منه خطوة
يضم يدي والده ويُقبلها
فيملأها ما شاء دمعاً.....
يريد أن يشرح لهم
يريد أن يقول لهم شيئاً
أنه يريد منع هذا التسرب !
فلا ينطق لسانه إلا حمداً !!!
كُل وصاياه أصبحت حمداَ...
تعود به الذاكرة ....لغير بعيد
أمه بين يديه....
تموت وهي تدعو له بالستر !!
لم يفهم لماذا هذا الدعاء تحديداً !!
وها هو الآن لا ينطق إلا ( الحمدلله )
يخفت الضوء........
يستجديه ....فيعود
تختفي كل الوجوه حوله
لتظهر وجوهاً من عدم
عن يمينه عدوه الأكبر...... وعن يساره صديقه الأوفى..
وخلفهم الذي أقسم ألا يذكر أسمه ما دام حياً....
ما دام حياً !!
ما أقصره من وعد !!
يراهم يحدثونه....ولا يسمع !!
يركز سمعه أكثر فأكثر
إنهم يتحدثون عما فعلوه به..... يبررون كل ما فعلوه وقالوه...
ينصت باهتمام شديد....
تسكنه بعض خناجر المرض للحظات ....ولكنه يستمع ...
كُل شيء.....تغير !
لم يعد مُهماً ما تركوه بداخلي....
لم يعد مُهماً ألا أراهم بعد اليوم....
فالناس..... أشياء لايمكن التخلص منها أبداً....فللحياة حياة تليها !!
يبتسم !
يفتح فمه....
يريد أن يقول لهم ( إني غفرت لكم جميعاً....الحاضر منكم والغائب )
فلا ينطق إلا الحمد !
يمد يده لمصافحتهم
فإذا بزوجته تضمها !!
يعيد النظر من جديد
اختفى جميع الأصدقاء... !!
فلم يكن أحدهم هُنا منذ البدء !
يبدو أنها حقاً هلوسات ....!!
يسقط الألم كسرات على رأسه....
يعود ليتكور من جديد على فراشه
ينطق لا إراديا
( أمي إن البرد قارص...)
تحضنه زوجته وتهمس في إذنيه
( أمك ماتت منذ زمن..... أُتراك نسيت يا حبيبي )
لينطق من جديد ( الحمدلله )
من خلفهم
الجدار
ينظر إليه
حزيناً.....يقول له ( الهوينة يا رجل..... قد قتلت قلوباً أردت أن تحميها .....أخرس هلوساتك....أخرسها بربك !! )
ابنه القريب.......يضع يده على صدره
ويتلو ماشاء من القرآن
ينظر إليه باعتزاز وفخر....
حامداً....ربه
عينه......تشرب صورة ابنه هذا فتغرق دمعاً....
يشيح ببصره عنهم قائلاً ( أريد أن أبكي !! ابتعدوا....!! )
تسأله زوجته ( هل أفقت ...؟؟ من أنا ؟؟؟ )
أراد أن يقول لها ( أنتِ الصابرة )
لكنها نُطقت حمداً
لا عجب أن صارت كُل الإجابات حمداً.....فوالله إنها تقضيها !!
أشاح بوجهه بعيداً عنهم
وبكى !
يضغط بوجهه على فراشه
فيصله أنين فراشه !!
لا عجب أني زائدٌ !!
إني أُثقل المكان بوجودي.....!
يسكن دقيقة.....
ثم يعيد بصره إليهم
ليجد أمه وأبيه.....!
أبوه.... يبتسم إليه...... تلك الابتسامة التي تمنحه الثقة المُطلقة بأن ما فعله صحيحاً
أمه تحضن رأسه.....لتصل أنفه رائحة طفولته .... دفء الأمان...
يريد أن ينطق لكنه يعجز....
يظهر من خلفهم رفيق دربه...... قرينه الشيطاني !!
يعبر الأجساد.....يصل إلى أذنه
يهمس فيها :- ( تعبت يا صديقي .....وأتعبتني )
يريد أن يجيبه....فيضع الشيطان إصبعه على فمه
يعود إلى أذنه ( قد قلت طويلاً.....والآن استمع فقط ....
قضيت معك عُمرك......عرفتك أكثر من هؤلاء...
وعرفت أنك رجلٌ لايموت بسهولة..... كما كُنت تحيا بصعوبة !
انتظرتك طويلاً أن تسلمني روحك.....ولكنك لم تفعل...
هاتها......فلا أريد منك شيئاً بعدها أبداً !! )
يضع الشيطان يده على صدره.....
ليشعر باختناق شديد.....فيصرخ حمداً !!
وبضع قطراتٍ من دم !
تنجلي الصورة.....
لتعود من جديد زوجته وبنيه
يرفع يده ويقبض على الكف الممدودة على صدره !!
فإذا بها يد ابنه...... !!
يتلو القرآن !
يطمئن قلبه
يرفع يده...ببطء كأفعى تتسلق ذراع ابنه
لتصل إلى وجهه
يبتسم بوجه ابنه....فيبادله ابنه الابتسامة
تعود يده من جديد وتتوقف عند صدر ابنه
على قلبه
يضع إصبعه على صدر ابنه فـيلكزه
ويعيد الابتسامة لولده....
يتوقف ابنه عن القراءة يمسح دمعه....
ويقول
( فهمت أبي.....فهمت )
تتسع ابتسامة الوالد
فقد خفت وهج الألم كثيراً الآن
ينظر إلى زوجته
يحمد ربه
حتى ذهب الضوء فجأة
ولكن هذه المرة لم يستدعيه .
أرسطوالعرب