ليلتانِ لم يزرْ النعاسُ جفنَيهِ ولايزَالُ حَتى اللَحظَةِ يَرِنُ في أُذُنَيهِ صَوتَ أبي زَوجَتِهِ يُهَدِدهُ إن لَم يُطَلِقْ ابنَتَهُ عاجِلاً فسيَحوِلُ حياتهُ إلى جَحيمٍ لايُطاق ..
تَذّكّرَ زوجَتَهُ وهي تَصرُخُ في وجههِ : ماعدتُ أُريدُكَ , ألستَ رَجُلاً ؟!!!
لاأُريدُ الحياةَ مَعَكَ ولا لثانيةٍ واحَدَةٍ .. , طلقني إن كانت عِندَكَ كرامة ..
غَطى وجههُ براحَتيه مُحاوِلاً أن يفهَمَ كيفَ سَمحَ لَها ولأبيها بخداعَهِ وبتجريدهِ مِنْ كُلِ شيء ؟!!
كيف سلمهما كُلَ حياته وأملاكَهِ ؟!!!
كيف فَعلَ ذّلِكَ ؟!!
رَفَعَ رأسهُ على خطواتِ البَرَدِ محاوِلاً التسَلُلَ إلى عِظامَه نهضَ نحو خِزانَةِ ملابَسهِ ليرتدي مايتقي بِه عَضَة البَردِ ( فالبَردُ والحُزنُ جبارانِ إن اجتمعا على جَسَدٍ أهلكاه ) وفتَحَ بابها فانتفَضَ واغرورَقتْ عيناهُ بالدَمعِ حينما شاهَدَ ( الشالَ ) الذي غَزلَتهُ لَهُ أمه بيدها ..
أمسَكَ بالشالِ وجثا على رُكبتيهِ ووضعَهُ على وجههِ وبكى بصوتٍ عالٍ وصاحَ : أمي ...
ألحَتْ عَليهِ زوجَتهُ وأبوها بأن يودِعَها في دارٍ للمسنين ففَعل !!!
ثلاثُ سنواتٍ مَرتْ مُنذُ آخرِ مَرَةٍ زارها وبعدها لم يعدْ يسألُ عَنها ولم يعدْ يَعرِفُ عَنها شيئاً !!!
قَررَ أن يُصلِحَ هذا الجُرمَ العَظيمَ وأن يُحضِرَ أُمهُ للحياةِ مَعهُ وأن يعوضها الحرمان فلفَ الشالَ عَلى رَقبَتهِ وخَرَجَ مُتجِهاً لدارِ المُسنين ..
.
.
ماإن وصلَ للدارِ حتى وجَدَ سَيارَةَ إسعافٍ بجوار الدارِ ومجموعةً من الناسِ مُتجمهِرَةً حولَ الدارِ , رَكضَ نَحوَ الدارِ ولَمحَ في الممرِ نِسوَةً يبكونَ بُحرقَةٍ بالغَةٍ ومُعظمُهنَ يَرتَدينَ شالاً يُشبِهُ الشالَ الذي على رَقبَتِهِ .. , لم يُردْ السماحَ للاحتمالِ بالوصولِ إلى عَقلَهِ فزادَ من سُرعَتِهِ حتى سَمِعَ إحداهُنَ تبكي وتقول : لقد أهدتني هذا الشالَ قبلَ أن تموت ....



أحمد النجار


** الشالُ هو - الآن - مايُلَفُ حولَ الرَقَبَةٍ في أيام البَرد وليسَ لَه أصلٌ في اللغةِ العَربية بل هو كَلمِةٌ فارسية ( شال chale ) ..
(( الشال هو قطعِةٌ طويلةٌ من القماش الموصلي أو من النسيج الصوفي ))
وصف مصر الجزء 18 الصفحة 108 لـ الكونت دي شابرول