مذ خلقَ اللهُ آدمَ عليه السلامَ وأودعَ فيه تلك الاستراتيجيات المُذهلة للبقاء مانفك يطفو على سطحِ النفسِ البشرية أشلاءُ مُركَبٍ غريزي تضخمَ حتى بلغَ حد الانفجار أو يرسبُ في قاعها آخرَ قد عُطِلَ حتى مات !!! , ومالتفاؤلُ Optimism أو التشاؤمُPessimism إلا بعضاً من هذه المُركَبات التي أودعتْ في النفسِ لتُعين الإنسانَ على البقاء الذي هو قدره - كجنس - عن طريقِ جَلبِ الخيرِ لنفسه أو دَفعِ الشرِ عنها , وهذه المُركبات كغيرها يحتاجُ فيها الإنسانُ إلى التوازنِ فلا إفراطٌ ولا تفريط , فالتفاؤل المُفرط المبني على الثقة العمياء والظنِ الحَسنِ في كل أحدٍ وكل شيء هو أمرٌ مَرضي , كما أنه بوابة عظيمةٌ للجراحِ التي قد تُمزقُ الروحَ تمزيقاً , وهي تتنافى مع كون المسلمُ كيِسٌ فَطِنٌ كما أخبرَ بذلك صلى الله عليه وسلم , وكذلك فإن التشاؤمَ المفرِطَ هو أمرٌ مرضي مرفوض تماماً , صحيحٌ أن مايحدث للإنسان من تجارب سلبية قد تورثه هذه الصفة كما حدث مع ابن الرومي فيكون لسان حاله كقول ابن الرومي :




رأيتُ الذي يسعى ليدركَ حظه *** كسارٍ بليلٍ كي يُسايِرَ كوكبا
يسيرُ فلا يسـطيعُ ذاكبسيرهِ *** وكيف وأنّى رام شأواً مغرِّبا





وصحيحٌ أنه ليس المطلوب هو إزالة هذه الصفة تماماً من النفس فهي ثابتة ولن تتغير مهما حدث , ولكن المطلوب ضبطها كما أخبرَ بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال :




(الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل)






(من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك، قالوا: يا رسول الله، ما كفارة ذلك؟ قال: أن يقول أحدهم: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك )




وهذا الحديثُ وإن كان يصبُ في مصلحة من قال بمثلِ هذا كهيبوقراط عندما صنفَ الأمرَ تبعاً لكيمياء الدم إلى أربعة أصنافٍ : الصفراوي Choleric والسوداوي Melancholic و اللمفاوي Phlegmatic والدموي Sanguine , وقال أن السوداوي متشائم ، وأن الدموي متفائل .. إلا أنه ليس هذا هو الأمرُ , إنما الأمرُ هو التوازن فحسب ..




ومن المُعينات على التوازن أمورٌ كثيرة أعظمها الإيمان بالقادر الحكيم { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ } ..




ولفظةُ أمنٍ هنا تشملُ حتى الأمن النفسي Psychological Security والذي هو المحك في التشاؤم والتفاؤل ..




وأختمُ الحديثَ عن هذا الأمرِ فأقول :




التشاؤمُ والتفاؤلُ كما قال شاد هلمستر - موافقاً بذلك نظرية سيلكمان - ( أن الطريقةَ التي نفسرُ بوساطتها الأشياء أو الأحداث هي الأكثر تأثيراً على سلوكنا الحالي و المستقبلي أكثر من وقوعها) وأقول : أن ذلك ينتجُ عنه استجابة Response مختلفة من شخصٍ لآخر وإن كان الحدثُ نفسُ الحدثِ عند الاثنين , ولكنهما - التفاؤل والتشاؤم - ومن ناحية أخرى قد يكونا عَرضين ومؤشرين لأمرٍ خطيرٍ يجب فيه اللجوء - بعد الله - لأهل الاختصاص لأنه قد يتطورَ لأمورٍ لاتُحمدُ عُقباها- لاسمحَ الله - , وقد يحتاجُ صاحبه لأكثر من التحفيز النظري عن طريق القراءة أو حتى الدورات التجارية والتي تفتقرُ في مقاييسها لأبسط الخصائص السيكوميترية المُعتمدة فتقذفُ الإنسانَ مكتوفاً في يمِ الثقة والتفاؤل لتنهشه أنيابُ قَتلةِ الجمال والحب فيعودُ أسوأ مما كان عليه !! ويكونا بذلك - التفاؤل والتشاؤم - كقمة جبل الجليد ماتخفي تحتها أعظمُ بكثير ...














وقد يكون مردُ ذلك اكتئاباً عادياً Depression أو قد يصلُ لدرجةٍ خطيرةٍ إذا مالوحظ أن الشخص قد جمعَ مع التشاؤم صفاتٍ أخرى كالعدوانية Aggressive و الكآبة Despression وبعضَ العُقدِ كعقدة الاضطهاد Perseuction Complex وغير ذلك , فهنا لابد من التدخل العلاجي المُقنن الذي - وفي اعتقادي - لو تنبه لذلك من كان حولَ (فان كوخ ) عندما رسمَ لوحته الشهيرة ( حقل الذرة والغربان ) في عام 1890 للميلاد














- والتي كانت تعبيراً صارخاً عن السوداوية والتشاؤم - لم ينتهِ به الأمرُ - بإرادة الله - بأن يُطلقَ النارَ على نفسه في نفسِ العام , وكذلك حتى لاينتهي الأمرُ بنا نطاردُ كوكباً سياراً دون أن نصله كما قال ابن الرومي في بيتيه السابقين ..








أحمد النجار