تهتز خطواتى .. تترنح وأنا أحاول أن أدارى حذائى عن العيون..أمشى بخطى مبعثرة خجلى..اضطرب كلما وقعت عين على قدمى ذات الحذاء القديم والذى فغر فاه بلا حياء أمام الجميع .. يا للخجل الذى يتلبسنى الآن .. العرق يغمرنى وارتباكى يزداد مع كل خطوة .. أكاد أبكى قهرا كلما نظرت لأحذية الفتيات اللامعة النظيفة التى ترفع أنفها فى كبرياء حين تمر بجوار حذائى الممزق وتلقى عليه نظرة احتقار تكاد تمزق ما بقى منه

اللعنة عليك أيها الحذاء .. اللعنة عليك أيها الفقر .. اللعنة عليك أيها العالم البغيض








أسير فى طريقى وحذائى ممزق .. وقلبى ممزق .. وكرامتى ممزقة .. وأحشائى ممزقة فلم أتناول شىء منذ الصباح .. ولا أظننى سأجد شيئا فى البيت الذى تسكنه تسعة أفواه فاغرة دوما .. جائعة أبدا

وصلت للبيت الصغير .. ضيقا مخنوقا يكاد يلفظ ما فيه .. أخواتى الستة .. أمى المسكينة التى أنهكتها الأيام وأورثتها كثرة الإنجاب المرض .. أبى الموظف البسيط الذى كان كل حلمه أن ينجب ذكرا يتحمل معه مسؤولية البنات .. وها قد تهاوى الحلم فوق رأسه ورؤوسنا جميعا .. سبعة بنات لا يكاد يميز منهن واحدة .. وكلهن يتعلقن برقبته .. وقد انحنى ظهره من ثقل حمله .. لا أعرف كيف أمكنه إبقائنا على قيد الحياة حتى الآن
أخطو بين الأجساد المتكومة على الأرض وأنفاسى تختنق وصدرى ضيق والبيت ضيق والكون ضيق .. لم أتينا إلى تلك الحياة .. ما ذنبنا لنحيا كأفراخ الدجاج لا نكاد نتبين مستقبل ولا نكاد نحيا حاضر ولا نملك ذكريات ماض تعيننا على الاستمرار فى تلك الحياة البائسة
أتكوم فوق الفراش القديم أنظر لرحابة السماء الواسعة التى تضم كل تلك النجوم اللامعة وذلك القمر الكبير .. لم لا نعيش فى السماء مادامت الأرض قد ضاقت بنا .. انطلقت تنهيدة حارة من صدرى كادت تذيب الجدارالقديم
ولم أعد أحتمل .. أريد الهرب من هذا البيت .. أريد الخروج إلى الشارع الرحب .. أريد مكان لأتنفس .. انتعلت الحذاء القديم وتسللت بين كومة الأجساد المفترشة المكان من حولى وخرجت





مشيت طويلا حتى أنهكت قدمىّ .. رأيت الشارع الكبير والأنوارالمتألقة والسيارات السريعة والناس الكثيرة .. جلست على حافة سور الحديقة أتأمل كل شىء .. أتنفس الهواء .. أجبر ذاكرتى على نسيان ما يؤلمها ولو للحظات .. مددت ذراعىّ أحتضن الفراغ .. الفراغ العزيز .. مازال الكون يحوى بعضا منه بل الكثير منه .. فلم يضن علينا بالقليل .. لم لا يقبلنا لنكون مثل هؤلاء السائرين فيه هانئى البال .. لم يحكم علينا بالموت أحياء فى تلك المقبرة الجماعية التى نسكنها .. ألف ألف سؤال يمزق عقلى ويمنعنى من استنشاق الحرية

أفقت على صوت بوق سيارة .. انتبهت لسائقها الذى يقف أمامى مباشرة ويبتسم بلزوجة عجيبة .. لم أعره اهتماما .. لكنه ظل يضغط على بوق سيارته ومعه يضغط على أعصابى .. نظرت له فى حدة محاولة معرفة ماذا يريد بالضبط .. كانت ابتسامته تزداد اتساع ولزوجة .. وتلك النظرة الوقحة فى عينيه أخبرتنى كل شىء
لم أصدق ما أرى .. هل أبدو رخيصة إلى هذا الحد! .. كيف يجرؤ هذا .. نظرت لنفسى .. لثوبى القديم .. لحذائى الممزق .. لا شىء بى يغرى أحدهم سوى الفقر .. الحاجة .. الشعور بكونى قابلة للشراء بأى ثمن
انتفضت بفزع للفكرة ووقفت والغضب نار تحرق عينى .. لكنه لم يقرأ الغضب فى عينى .. ربما ظنه موافقة ضمنية .. ووجدته يخرج محفظته المكتنزة ويمسك ببعض أوراقها الكبيرة فى إغراء .. الأوراق الملونة السحرية .. التى تفعل الأعاجيب .. وتحض الناس على السرقة والرشوة والقتل من أجلها كما تحض البعض على بيع أنفسهم أيضامن أجلها
تقدمت خطوة وعينى على الورق .. أبحث عن الثمن الذى قدرنى به .. لابد أنه يفعل الكثير .. ربما بضعة أثواب جديدة .. ربما بضع أحذية لامعة .. ربما بعض الطعام الذى سرعان ما سيتلاشى ويذوب فى البطون الجائعة .. ربما البعض من أى شىءآخر قابل للنفاذ سريعا .. ثم ماذا .. سأعود أرخص مما ظننى هذا الحقير




أتقدم خطوات وابتسامته تتسع وأمله يكبر ويده تمتد لتفتح بابالسيارة المجاور له




أتقدم خطوات أدوس أجساد أخواتى .. أحطم قلبى أمى .. أهشم شرف أبى .. أسير عبر النار وفى عينى نار وفى قلبى نار وفى عقلى نار
وصلت إليه وأمسكت بباب سيارته .. المعدن البارد جمد كفى .. انسابت قشعريرة فى أعماقى ومازالت حمم النيران تصهرنى .. اقتربت منه ببطء وبكل حنقى .. بكل بغضى .. بكل غضبى بصقت فوق وجهه ونقوده وصفعت باب سيارته وعدوت بعيدا
أعدو أعدو وحذائى الباسل يحتملنى فى صبر .. الشارع الواسع من ورائى .. ويستقبلنى الزقاق الضيق .. وأعدو إلى البيت الضيق .. وأندس بين أجساد أخواتى أحتمى بينهن .. أستنشق أنفاسهن .. ليس لى مكان سوى هنا .. لم يُخلق البراح لأمثالنا .. لاحت منى نظرة للشرفة .. القمر يطل بأريحية والنجوم تتألق .. لم لا يمكننا العيش فى السماء؟!



بقلمي ,,