[align=center]يوم الصمت[/align]
تخطى حدوده فكان لابد من إقامة الحد عليه..ليس من المهم أي من الحدود تخطى..و ليس من المهم أن يقام عليه أحد حدود الله.
لقد عصى السلطان..ذلك الفلاح الصعلوك..كيف يجرؤ على فعل ما فعل..و يالها من فعلة شنعاء..لقد أمر السلطان أن يعم الصمت المدينة فى يوم الأربعاء من كل أسبوع..يجب أن تخرس كل الألسنة التى تلوك الأحاديث الصالح منها و الطالح و كأنه يدرب شعبه على الصمت..ففيه راحة للحاكم و المحكوم..تعجب الخلق..و لماذا الأربعاء بالذات..لماذا لا يكون الأحد مثلا..أو الثلاثاء و لكنهم أمنوا بأن للأربعاء حكمة بليغة لا يعيها سوى السلطان و لا يحق لأحد التدخل فيها.
أستوى السلطان على كرسى العرش و من حوله نخبة الوزراء و كوكبة من رجال الدولة..و هؤلاء الذين لهم مكانة خاصة و لا هم بوزراء و لا برجال دولة..و لكن لهم فوائد أخرى عظيمة للسلطان و رجاله.
أجتمع الجمع فلابد من رؤية العقاب الرادع..إنها كارثة ستكون عواقبها وخيمة على الدولة إذا لم تؤخذ بالشدة..لقد نطق ذلك الصعلوك في يوم الصمت..لم يحدث من قبل أن عصى السلطان..فيأتي اليوم هذا الصعلوك و يعصى.
دقت الطبول دقات ثلاث..دلف إلى القاعة الفسيحة ذلك الصعلوك يجرجر سلاسله ومن خلفه الجلاد ملوحا" بكرباجه المعقود الطرف..لكم يشعر بسعادة اليوم..لم يكن أبدا" ساديا"بل هو يتمتع بضمير حي يقظ..يقبض راتبه أول كل شهر و كأنه ممسك بجمرة نار..كيف يستمتع بماله وهو لا يفعل بمقابله شيئا..لقد تملك الخوف و الفزع الناس فلم يعد أحد يعصى..إذن فلا عمل له.
أنتبه الجميع على صوت طرقعة الكرباج العالية..واحدة في الهواء فأخرى على البلاط المذهب..قام المنادي و قرأ بصوت عال لا يخلو من هيبة..بأمر سلطاننا العظيم المبجل يجلد الفلاح العاصي مائة جلدة.
هم الجلاد بتنفيذ الحكم..و لكن إشارة من كبير الوزراء أوقفت كل المراسم ..قام من مقعده يلملم ثيابه الفضفاضة المرصعة بالجواهر..بمناسبة هذا الحدث.. أمر مولانا السلطان بأن يشارك كل من فى القاعة في جلد هذا العاصي حتى تكون مشاركة فعلية من جميع طبقات الشعب في حكم البلاد..ضجت القاعة بالهتاف بحياة السلطان بعد إعلان كبير الوزراء..و بدأ الحفل..مضت العيون تتابع ..و الأذان تعد الطرقعات..
و الأيدي تتوالى حتى كاد أن ينتصف العد..لقد نال كل من فى القاعة شرف جلد العاصى ..و بدأ دور الجلاد..و من خلف زعيق الكرباج سألوه..لم عصيت..؟رد و الدموع تغالبه..لم أعصى..و أستمر العد..عادوا وسألوه..لم نطقت..؟ رد لسان حاله دون كلام..لم أنطق..تواصل العد حتى كاد أن ينتهى..سقط العاصي مغشيا" عليه و هنا ندت صرخة من أطراف القاعة..يا مولاي إنى حكيم هذا الزمان..هذا الرجل لم ينطق..لقد كان يكوى له أحد جروحه فلم يحتمل فصرخ بآهة عالية ..تقدم كبير الوزراء بسرعة..القانون لم يحدد نوعية الكلام فيستوي الأمر سواء كان المنطوق كلمة أو آهة.. أنقلب وجه السلطان..و أشار بيديه أن يريه الحكيم موضع الجرح..نزعت عن العاصي قطعة الملابس الوحيدة التي كانت تستر عورته..رأى السلطان موضع ذلك الجرح الغائر فى مكان حساس من جسد الفلاح ..فوجئ الجميع بالسلطان..ماذا يحدث..؟ أيبكى سلطاننا العظيم...قام من عرشه يتكأ و قد عم الحزن وجهه و الدموع تتقاطر من عيونه..لقد ظلم هذا الفلاح المسكين ظلما" فادحا"..لن يهدأ لى بال بعد الأن..لعله أتعس أيام حياتى على الإطلاق..و خرج مسرعا" من القاعة و هو ينتحب بشدة.
ألجمت المفاجأة الجميع دقائق..أجهشوا بالبكاء و الألم يعتصر قلوبهم..أنتفض كبير الوزراء غضبا..إنه يدعو إلى انعقاد مجلس الوزراء..اجتماع على أعلى مستوى..أنسحب الوزراء إلى قاعة جانبية..سرت همهمة..ماذا سيحدث..؟لازال الرجل ملقى على الأرض يتأوه بلا حراك وكأنه فى النزع الأخير..؟ماذا سيحدث..؟ هل سيعوض الرجل..؟هل سيفصل قائد الشرطة لأنه لم يتحرى الأمر..؟ هل سيحاسب الحكيم الذي ألجمه الخوف..؟ماذا يفعلوا هم..؟ أسيعاقبهم السلطان في محاولة منه لإرضاء ضميره..و على الجانب الأخر كان اجتماع الوزراء يحاول أن يجد مخرجا"..اتفقوا أنه إنقاذا للموقف يتولى الفلاح جلد كل من تولى جلده و لكنهم رأوا في ذلك إهدارا لهيبة الدولة فاقترحوا أن يقوم كلا منهم بجلد الأخر جلدة واحدة كما جلد الرجل..تكلم القاضي..أنتم تعطون المشكلة أكبر من حجمها كل ما هنالك أن نعتذر بأسم السلطان للفلاح و فى هذا قمة الديمقراطية..فيبدو سلطاننا كرجل لكل العصور..بل لعل هذا التصرف يضعه فى مصاف أعظم الحكام على مر التاريخ..أبتسم كبير الوزراء..لقد توصل لقرار أفضل.
أنتفض الجمع على صوت الحاجب..دلف كبير الوزراء ومن خلفه طاقمه..إنحبست الأنفس على وقع أقدام السلطان الذي عاد متورم الأعين من شدة البكاء..تقدم كبير الوزراء..يا مولانا السلطان..إن ما حدث اليوم لهو حدث جلل تشيب له الولدان..لابد من عقاب ذلك الصعلوك العقاب الوبيل لقد أجرم في حق أمة بأسرها..جرم لم يقوى عليه ألد أعداء السلطان و الأمة..جرم هان بجواره جرمه الذي حاكمناه عليه.
مرة أخرى سرت الهمهمة بالقاعة أخرسها صوت كبير الوزراء و قد تحشرج بما يشبه البكاء..نعم يا مولاى..نعم لقد أبكاك..أحزنك..أغمك..كيف يا مولاي..أأبكاك أحد من قبل..؟ أأحزنك أحد من قبل..؟
يا لعظمتك يا مولاي.. لقد عاقبت ذلك العاصى بشفافيتك..فقد أحسست بروحك الصافية بما سيقترف حتى قبل أن يفعلها..يا مولاي و مولانا جميعا..إن كل من فى أمتك من أقصى البلاد إلى أدناها يتمنى أن يحتضنه الموت فداء لحظة حزن تصيبك..أما ذلك الخائن فقد كان الأولى أن يسر بما جرى عليه و لا أن يحزنك حتى
و لو كان الموت نصيبه أبتسم السلطان و أعتدل في جلسته و عادت له هيبته..أحسنت يا كبير الوزراء فماذا ترى..؟ أو ليس بعدها يا مولاي..الموت للخائن ليكون عبرة لأمثاله..سنقطع أيديه و أرجله من خلاف..
و يفصل رأسه عن جسده و يعلق كل جزء على أحد أبواب المدينة..ضجت القاعة بالهتاف بحياة السلطان و حكمة كبير الوزراء الذى أنقذ العباد..و أخيرا" تركوا الأمر للسياف الذي أتى هو الأخر مسرورا" فرحا" فقد وجد أخيرا" عملا".