كتبه/سعيد عبدالعظيم
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد،
فقد تابعت الدنيا محاكمة مبارك وولديه والعادلي ورجاله وقد جاءوا بمبارك على سرير المرض وحرص ولداه «علاء وجمال» على ستره عن كاميرات التصوير، وكان كلاهما يمسك بالمصحف، وقيل أنه كان يريد الصيام في رمضان إلا أن الطبيب منعه، وذكروا أنه يستمع للقرآن الكريم، وقد رد على التهم الموجهة إليه هو وأولاده بالنفي، وقد غلب على الناس مشاعر الفرحة المختلطة بالشماتة؛ وذلك لما ذاقوه من بطش وقهر وظلم، وسفه وطغيان، وقتل للأبرياء، وترويع للآمنين، وصد عن سبيل الله.
فمجرد مثوله أمام المحكمة ودخوله القفص أثار ارتياح جموع الناس، ولو كانت المحاكمة في بدايتها، وعلى شيء يسير من المظالم جرت في بضعة أيام، ولا ندرى عما تسفر عنه المحاكمة، فالقاضي يحكم على نحو ما يسمع في القضية المعروضة عليه، وقد يُعطى المتهم براءة لعدم كفاية الأدلة والقرائن، ولذلك قالوا: «إن حكم الحاكم وقضاء القاضي وفتوى المفتى لا تجعل الحرام حلالاً ولا الحلال حراماً»، فالأمر على ما عند ربك، والكل سيقف بين يدي من لا تخفى عليه خافية، حيث يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، ثم يقال لها: «كوني تراباً»، فيومئذٍ يتمنى الكافر أن لو كان تراباً، قال -تعالى-:(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47]، وقال: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المجادلة: 6]، وقال: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) [الإسراء: 33]
وفي الحديث:(إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضًا أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ أَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ وَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَدَعْهَا) [رواه البخاري]، والأمر إما جنة وإما نار (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى: 7]
وقد غلب عليَّ الخوف الممزوج بالحزن، وأنا في القاهرة أشاهد المحاكمة، فالإنسان يهين ويذل نفسه بالذنوب والمعاصي، والظلمُ عاقبتُه وخيمة، وكلُّنا ذلك العبد المذنب المسيء.
فلو استطاع الإنسان لتنفس طاعةً وعبوديةً لله؛ فهو -سبحانه- أحق بأن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.
قال الحسن: «فإنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذلّ المعصية لا يُفارق رقابهم أبى اللهُ إلا أن يُذل من عصاه».
وقال: «هانوا على الله فعصوه ولو عزوا عليه لعصمهم».
وقال أبو بكر: ثلاث من كُن فيه كُن عليه: المكر(وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر: 43]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ) [يونس: 23]، والنكث (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) [الفتح: 10]
على الباغي تدور الدوائر، ومن سل سيف البغي قُتل به، ومن حفر بئراً لأخيه سقط فيها، والظلم ظلمات.
وكان معاوية -رضي الله عنه- يقول: «ما هبت أحداً هيبتي من رجل ظلمته لا يجد عليَّ نصيراً إلا الله»،(وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) [النساء: 45].
وعدت في الليل إلى الإسكندرية لأجد ابني يُذكرني بالقبض عليَّ منذ عشر سنوات، وأنا طريح الفراش بعد إجراء العملية في العمود الفقري؛ مما تسبب في تأخير البُرء لأكثر من عامين، وها هو مبارك يحاكمونه وهو طريح الفراش، وكأنه أراد أن يُسليني، فالجزاء من جنس العمل وأعمالكم عُمالكم، وكما تدين تدان، فالبر لا يبلى، والذنب لا يُنسى.
ثم جاءتني مكالمة من المستشار أحمد السيد يحكي لي فيها المحاورة التي دارت مع زملائه، وكيف قبضوا عليَّ بلا ذنب ولا جريرة، وأن بعض المستشارين قد اعترض على محاكمة مبارك والتحقيق معه وهو على هذه الحالة المرضية، وتذكرت بدوري ما قاله لي ولدي، وأنني كنت قد ظُلمت؛ فإن طابور المظلومين طابور طويل جداً، وإن كان قد فُعل مثل ذلك بمبارك، فماذا يقول هؤلاء الذين عُذبوا وقتلوا وشُردوا وظُلموا عبر سنين حكمه الطويلة؟
وماذا تقول من رُوعت في زوج أو أخ أو ابن أو أب؟
ولا يليق بالإنسان أن يتصور أن له مكانة وقيمة توجب الفعل بالمثل والانتقام العاجل ممن ظلم؛ فقد يتوب إلى الله، وقد يرد الحقوق لأصحابها، وقد يستوفي الظالم جزاءه في الآخرة. وقد حسن إسلام بعض من آذى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم ينلهم شيء لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ويكفي أن نعلم أن الله هو الحكم العدل، لا يظلم الناس شيئاً، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
تذكرت قول رئيس قسم التحقيقات العميد (أ. ش) وهو يقول لي في جهاز أمن الدولة بالقاهرة أنهم كانوا يراعون الحالات الإنسانية -كحالتي المرضية- ثم اتفقوا على عدم اعتبار ذلك.
لابد من التفريق بين المحاكمة واثبات التهمة، وبين استيفاء الحق وإقامة الحد، فمثلاً من الذي قتل المتظاهرين؟ ومن الذي شارك في التعذيب؟ ومن الذي نهب أموال الدولة؟ جرائم كثيرة متنوعة لا تمنع الحالة المرضية من إثباتها واستيفائها متى أمكن، والإنسان قد يتوب إلى الله من الكفر فما دونه(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال: 38]
والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وفي الحديث عن عبادة بن الصامت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:(وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ) [رواه مسلم]
أما بالنسبة لحقوق الآدميين ففيها القصاص، وقد يعفو الإنسان عن حقه، ولكنه لا يملك العفو عن حقوق الآخرين، فإذا وصلت القضية مستوفاة الشروط فلا يملك القاضي التنازل بل لابد من إقامة الحق والعدل.
وفي قصة ماعز الأسلمي استنكه النبي -صلى الله عليه وسلم- رائحة فمه (لعله مخمور) وسأل أبه مس من جنون (لعله مخبول) قال: أتدرى ما الزنا... فلما وُجدت الشروط وانتفت الموانع، أقام النبي -صلى الله عليه وسلم- الحد على ماعز.
فالتهمة تستدعي بينة أوضح من شمس النهار، ولأن يُخطىء الحاكم والقاضي في العفو خير من أن يُخطىء في القصاص.
وفي قصة الغامدية وبعد أن أقرت واعترفت بلا استكراه (إذ لا يصح الاعتراف مع الاستكراه) أمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- أن تذهب حتى تضع مولودها وترضعه وتفطمه، ثم أقام الحد عليها، فلا يجوز إقامة الحد على الحامل حتى تضع، ولا على المريض حتى يبرأ.
قد يُفلت العبدُ من العقوبة الدنيوية، وتبقى ثقتُنا ويقينُنا في العدل الإلهي؛ فالعدل أساس الملك، وبه قامت السموات والأرض(وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8]
وَآخِرُ دَعْوَانا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
رد مع اقتباس
