فى الشارع المتعرج .. بين البرك الصغيرة الموحلة.. وفى مهب رائحة الفقر العطنة.. وقفت السيارة السوداء الفارهه فى تأفف .. برز سائقها يرتدى زى رمادى ذا صفين من الأزرار . فتح الباب .. هبت روائح عطرية كدرت تناغم مفردات الشارع المسكين . إنحنى السائق مادا رأسه إلى داخل السيارة ..

" لن أتأخر يا سيدى .. وأرجوك لا تفتح النافذة .. أرجوك "

أومأ الصغير بعدم إكتراث ، وعيناه مشغولتان بأشكال البيوت الغريبة .. المائلة والبارزة والمشقوقة .. .. يخفض رأسه ، ويثنى جذعه حتى يرى سطح إحداها ..أدهشته الدجاجات الواقفات على بقايا سوره المتداعى .. تلقف رغم الزجاج المغلق صوت إمرأة تصرخ وتزمجر ، متنقلة على أوتار صوتها كأمهر العازفين .. عبارات الويل والثبور تلتهم إمرأة أخرى تطل من شرفة خشبية أوشكت على الإنهيار .. إمرأة الشرفة صامته .. عابسة .. مفردات اللغة لديها لا تقوى على الصمود .. تتحرك بآلية الغضب بين جنبات الشرفة الضيقة .. تعاطف الصغير مع إنكسار تلك العجوز ، مع إنهزام قدرتها الدفاعية .. قفز من مقعده مصفقا حينما أنهت عجوز الشرفة تلك الواقعة ، بإناء القمامة فوق رأس غريمتها ..

عينان سوداوان هيابتان ترقبانه .. ويدان صغيرتان قذرتان قد إلتصقتا بالزجاج اللامع .. إرتعد لذلك المتلصص .. إلتقت الأعين البريئة الصامته .. لحظة .. لحظات مضت .. علت الإبتسامة شفتان يحملها وجه صغير قذر .. مد الصغير كفيه من داخل السيارة .. ماثلت الأخرتان .. ملئت الإبتسامات الشفاه .. إلتصق رأس ذو شعر مصفف بالزجاج ، فنطح الزجاج رأس ذو شعر مغبر مشعث ..

وإنبعث للبسمات صوت .. وعلت الضحكات ..

انفتح الزجاج قليلا ..

- أسمى محمد
- وأنا أيضا أسمى محمد

إزداد الزجاج نزولا ..

- هل تلعب يا محمد
- وماذا ألعب
- عندى حصان !

جرى الصغير نحو باب متهالك .. أحضر عصا طويلة مربوط بها مزق من قماش ..

- أنظر حصانى ..
علت الإبتسامة وجه الآخر ..

ركب الصغير الحصان .. وقفز .. وقفز .. محدثا بصوته صهيلا ، ودبيبا ..

- هل أركب معك ؟
- أنزل

ونزل .. وركب الحصان .. وتعالت الصيحات .. راحا ..وجاءا .. خاضا فى وحل الشارع.. شعرا كلاهما بأنه فارسا يتحكم فى حصان ، ولا يخاف السقوط .

- وماذا عندك غير ذلك؟
- تلعب سيجة ؟
- كيف؟
- هيا نجمع الحصى لأعلمك

الأيدى القذرة تجمع فى نشاط ، والأيدى البضة تقلدان .. جلسا فى تلقائية على الأرض .. إمتدت أصبع صغير أسمر إلى التراب يخطط ويقسم الملعب .. الحصى يأخذ موقعه على رقعة اللعب .. صرخ السائق " إمش يا شوارعى يا متشرد " .. قفز الصغيران .. إرتفع كف كبير إلى عنان السماء وهوى على وجه أحدهما .. بكى .. تساقطت الدموع .. أخذت مجرى لها عبر ذرات الغبار على الوجه الصغير ..

ودلف الآخر إلى محبسه المتحرك ..

الكف الصغير بداخلها يلوح ..

والوجه البائس فى الخارج تغسله الدموع .. !!







--------------------------------------------------------------------------------