كانت قريتي كل العالم طرفيها قطبيه .مدرستها، مستوصفها كأنها منظمات عالمية أتى منسوبيها من كواكب أخرى. لم تغيرنا دراسة الجغرافيا أو وقائع التاريخ فكانت مجرد رسومات ومعلومات لم تتبلور يوما كصورا لواقع الأرض.

وكأن التاريخ ذهب بكل أحداثه حتى المواقع الجفرافية التي كانت مسرحا لأحداثه.

قريتنا كانت كبيرة و مترابطة وكأن لها ذراعين طويلتين تحضننا بهما كل مساء تتفقدنا وتحصينا عددا.

ولها قوانين وأنظمة دقيقة ولكنها سهلة ميسرة. لم تسمح للمؤثرات الخارجية(كرجال الصحة والتعلم مثلا)بالتدخل في ثوابتها وكأنها تحصن أبنائها بجرعات وقائية منذ الولادة.

وكان الكل مسئول عن الكل في أمور الدين والدنيا. ا

المسافرون عنا يُبكى عليهم ويدعى لهم حتى في خطبة صلاة الجمعة.كثيرا ما سافر الكبار للحج أو لأغراض أخرى فيعودون الينا بهدايا بسيطة غير أنها كانت دائما جديدة علينا ...



لكن .. أحمد إبن القرية المتفوق دراسيا سافر في بعثة دراسية إلى خارج الوطن وكان ذلك بمثابة ركوبه صاروخا وخروجه عن محيط الأرض.

وكم كان حزينا موقف رجال ونساء القرية وهم يلتفون حول أبيه وأمهه لأيام عدة لمواساتهما في ذلك المصاب الجلل.

ومرت ألأيام وأنطفأت النيران تحت الأقدام عدا أهله بالطبع الذين كانت (المكاتيب) لا تطفي لظا لوعة فراق الحبيب.

مر عاما وأتت بشائر الصيف وعاد أحمد في أول إجازة ( عاد الطارش)..نعم إنه أحمد حتى وإن أضاع بعض السمرة التي تميزنا وأتشح ببعض البياض الا أنه أحمد!

في منزل والده الكل يردد الحمد لله على سلامة أحمد وسمعت بعضهم يهمس لمن جاوره. ترى ماذا أحضر أحمد لقريته ؟؟

حتى وإن كانت الهدايا لأهله فقط فهي لنا جميعا. .

عاد أحمد...

ولأنه طالب علم من أصحاب المصادر المحدودة فقد إقتصرت هداياه علىالقليل من الملبوسات لأهله وكان بينها حذاء لأخته.

عفوا لكنه.....الحذاء المشكلة؟

فقد كانت حذاء بكعب عالي(5سم).وما أن تزينت بها الفتاة حتى أحتجت النساء على هذا التبرج الفاضح ،وقاطعنها الفتيات خوفا على
السمعة، وتهكم الشباب على ماجاء به الغراب لأمه بل لعل بعضهم لا يكاد يرى منزلهم الا ويردد (لمن انه مشى في الكعب عالي).

إلا أن الكبار لم يعيرو ذلك الحدث الإهتمام اللازم ولم يقفو بحزم للتصدي له؟؟.

وسافر أحمد مرة أخرى وبمرور الأيام تقبلنا بنت القرية في زيها الجديد كأول التنازلات!.

وكعادته مر الزمن سريعا وعاد أحمد في إجازته الثانية علىغير ترقب منا بل على العكس فقد كانت ايدينا على قلوبنا خوفا مما قد يفاجئنا به.

وقد فعل....وأحضر بعض الأقمصة والبناطيل.ولأول مرة سمعت من تمنى لو أن جارنا الحبيب رحل عنا..

وتكرر سفر أحمد وإجازاته وفي كل مرة كانت هديته معولا يهدم به حصانة قريتنا.

وكانت(....) تحضر المناسبات والأفراح أحيانا دون دعوة مما زكى في نفوس الفتيات روح التمرد على موديلات ثياب القرية والمنديل الأصفر الذي لم يكن امامهن ان تتشحن سواه.


تنوعت هدايا أحمد وأفكاره وكثرت تنازلاتنا،وبدأن أمهات ألأجيال القادمة يجارين خيوط الموضة .. فأستطال كعب فلانة وخرجت أخرى الى الحقل بمسفع أزرق وإنبعثت ريحة المكياج من بيت فلان و..و..

وإرتخت يدا القرية عن أكتافنا بعد ان بلغت ثقافتنا (أنا حر في بيتي) ولا أعلم لمن كانت الحرية هناك.!

وبعد أن أصبح أحمد في كثير من بيوت القرية، إنزوت عنا القرية ببعض أبنائها وكأنها تبكي لأنها أنجبت أحمد!!

وأظنها نقشت له في نفسها تمثالا كُتب تحته (الإبن العاق). ومع أنني أشاركها شعور خيبة الأمل ،الا أن اللوم لا يقصر على أفكار أحمد التي كانت ستأتينا بأي حال،،،

بل أحمل الكثير على تنازلات البدايات.








يعرب