المقدمة



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على رسول الله محمد صاحب السنة الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، الذين اصطفى من عباده المسلمين أما بعد:

فبعد أن أنهيت كتابي الرابع عشر (الاجتهاد بين الحقائق الشرعية والمهازل التاريخية) قمت بزيارة أخ كريم، وسيد فاضل، وهو سماحة السيد محمد الموسوي، مد الله تعالى في عمره، ونفع المسلمين بعلمه، فاستقبلني بوجهه الطلق، وغمرني بعواطفه النبيلة، وأحاطني بتواضعه الجم فأخبرته بما أنجزت، ولأنني أثق به، وبعمق إيمانه بعدالة قضية أهل بيت النبوة، وبإخلاصه التام لها، وخبرته الطويلة بها، فقد سألته ماذا يقترح علي أن أكتب؟ فأجابني على الفور، كأنه كان يتوقع مني هذا السؤال (أقترح عليك أن تجيب على السؤال التالي: أين سنة الرسول؟)!! فاستهواني الموضوع، واستقر في نفسي فقلت للسيد: ما رأيك لو أضفنا إلى هذا السؤال سؤالا آخر (وماذا فعلوا بها؟

فيكون عنوان الكتاب الجديد (أين سنة الرسول؟! وماذا فعلوا بها؟!) فتهلل وجه السيد، وأيد الفكرة، وصممت على أن أعنون كتابي الخامس عشر بهذا العنوان، وأفصحت للسيد عما صممت عليه فبارك الفكرة، وذكر لي أسماء بعض المراجع، ووضعنا الخطوط العريضة لمخطط البحث، والأبواب التي سألج منها إلى الموضوع، كان الموضوع ميسرا تماما، وكأننا والله قد أعددنا له </SPAN>الصفحة 6 منذ مدة طويلة، قلت للسيد: إنني مرهق، فلقد بلغت من الكبر عتيا، سأستريح شهرين أو ثلاثة، وبعدها أنطلق بإذن الله، وشحذ السيد عزيمتي، وبعد يوم واحد من لقائنا بدأت الكتابة، بنفس راضية مطمئنة، وبيسر ما عهدته بأي كتاب آخر، صحيح أنني لم أنطلق من الصفر، لأن موالي أهل بيت النبوة على العموم ينظرون للأنبياء والرسل والأئمة نظرة خاصة، ويعتبرونهم صفوة الجنس البشري، ويعرفون مكانتهم عند الله تعالى، وحاجة بني الإنسان لهم، وعلى هذا الأساس قامت ثقافتهم، واستقرت قناعتهم، وخلال تجاربهم ومعاناتهم التاريخية النادرة عرفوا طبيعة التكامل والتلازم بين كتاب الله المنزل ونبيه المرسل من جهة، وبين القرآن وسنة النبي أو بيانه لهذا القرآن من جهة أخرى، وأنه لا غنى لأحدهما عن الآخر، فهما وجهان لعملة مقدسة واحدة، فسنة الرسول فصل جوهري متداخل تداخلا عضويا مع الشريعة الإلهية المكونة حصرا من كتاب الله ومن سنة رسوله أو من بيان النبي لهذا الكتاب، فسنة الرسول هي العمود الفقري لدين الإسلام، وهي التي تترجم القرآن من النص إلى التطبيق، ومن النظر إلى الحركة، لأن المهمة الأساسية للنبي الأعظم تنصب على بيان ما أنزل الله، فالقرآن كمعجزة بيانية له وجوه متعددة والرسول وحده هو الذي يعرف المقصود الإلهي من كل آية من آياته، وكلمة من كلماته، معرفة قائمة على الجزم واليقين لا على الفرض والتخمين، ثم إن الله سبحانه وتعالى هو الذي أوجد هذا التكامل الفذ، والتداخل العجيب بين القرآن وبيان النبي لهذا القرآن، فالقرآن قد أجمل، وأرسى القواعد الكلية، والبنى الأساسية، وحدد الأفق العام، وترك للرسول مهمة التفصيل والبيان على ضوء توجيهات الوحي الإلهي، فالقرآن وحي باللفظ والمعنى، والسنة وحي بالمعنى والصورة، فالصلاة وهي عماد الدين جاءت مجملة، ولم يتطرق القرآن إلى كيفيتها وتفصيلاتها، وكذلك الزكاة، والحج، والصوم، ونظام الحكم والجهاد.. الخ والرسول الأعظم من خلال سنته المباركة هو الذي فصل وبين أحكامها بيانا كاملا قابلا للتطبيق على ضوء التوجيهات الدقيقة للوحي الإلهي، وتقريبا.

</SPAN>الصفحة 7 للذهن، ولله المثل الأعلى، فالقرآن بمثابة الدستور الإلهي الشامل الذي يتضمن المبادئ الكلية، والبنى الأساسية، والأهداف العليا، وهو وحي من الله، تلقاه الرسول تلقيا حرفيا، وبلغه كما تلقاه، أما سنة الرسول فهي بمثابة القوانين التي تضع الدستور موضع التطبيق، وهذه القوانين ليست من عند الرسول، بل هي وحي إلهي، لكن ليس باللفظ الحرفي، وإنما بالصورة والمعنى اليقيني المحدد، فقد يصلي جبريل أمام الرسول، ويطلب من الرسول أن يصلي كما صلى، إن الرسول الأعظم يتصرف بدقة متناهية، وعلى ضوء توجيهات الوحي الإلهي، والرسول معد ومؤهل إلهيا، وتوضيحا نقول: (مبرمج) فسيولوجيا، يتبع ما يوحى إليه من ربه بدون زيادة ولا نقصان، (ومطعم) ضد الزلل والخطأ أو معصوم، فلا ينطق عن الهوى، ولا يخرج من فمه إلا حق، فهو امتداد للحق الإلهي، ووجه من وجوه الرسالة الإلهية، ومهمة النبي أن يضع المنظومة الحقوقية الإلهية المتكونة من كتاب الله وسنة رسوله موضع التطبيق بالتصوير الفني البطئ الذي تستوعبه الخاصة والعامة من بني البشر، ولكن تحت إشراف الوحي الشريف وبتوجيهاته، ومن هنا كان الإيمان بالرسول جزءا لا يتجزأ من الإيمان بالله، وكانت طاعة الرسول تماما كطاعة الله، ومعصية الرسول تماما كمعصية الله، وموالاة الرسول والقبول بقيادته تماما كموالاة الله، واتباع سنة الرسول تماما كاتباع القرآن، لأن سنة الرسول هي التطبيق العملي للقرآن.

ولأن الإسلام آخر الأديان، ولأن رسول الله خاتم النبيين، ولأن المنظومة الحقوقية الإلهية، هي القانون الإلهي النافذ المفعول طوال عصور التكليف في الدنيا، فقد تولت سنة الرسول بيان كل شئ، أو وضعت الآلية الشرعية لمعرفة الحكم الشرعي لكل شئ، ولقد ركزت السنة الشريفة تركيزا خاصا على من سيخلف النبي ويتولى تطبيق المنظومة الحقوقية الإلهية من بعده. ولو أن المسلمين قد التزموا بسنة رسول الله، المتعلقة بنظام الحكم، لتغير مجرى التاريخ البشري كله، ولاستقر النظام الإلهي كنظام حكم، ولذاقت البشرية طعم النظام الإلهي، عندها لن ترضى عنه بديلا، إن.

</SPAN>الصفحة 8 الذين حالوا بين سنة رسول الله المتعلقة بنظام الحكم وبين أن تشق طريقها إلى واقع الحياة يتحملون وزر ذلك كله!!

ومن المدهش حقا أن الخلفاء الذين عطلوا سنة رسول الله، المتعلقة بنظام الحكم، وأحلوا محلها سنتهم الوضعية، قد نجحوا بإقناع الأغلبية الساحقة من المسلمين، بأن قواعد سنة الخلفاء هي النظام السياسي الإسلامي الوحيد وأنه ليس في الإسلام سواها، وما زالت خاصة الأغلبية وعامتها يجترون هذا الزعم منذ 14 قرنا!!

ولو أن الخلفاء لم يمنعوا رواية وكتابة سنة الرسول طوال مائة عام ونيف ولم يحرقوا المكتوب منها، لوصلتنا سنة الرسول كاملة باللفظ والمعنى، ولشكلت مع القرآن الكريم أعظم منظومة حقوقية عرفتها البشرية، ولما اختلف اثنان في أي نص من نصوص سنة الرسول الشريفة، الذين أحرقوا سنة رسول الله المكتوبة ومنعوا رواية وكتابة سنة الرسول طوال عام ونيف يتحملون وزر هذا الخلط الذي أصاب سنة الرسول!!!

كنت أعرف أن سنة الرسول قد تعرضت لمحنة رهيبة، ولكن قبل كتابة هذا البحث لم أكن أعلم بأن محنة سنة الرسول بهذا الحجم!!!



أين سنة الرسول!! وماذا فعلوا بها!!؟

لقد أجبت على هذين السؤالين في كتابي هذا الذي اتخذ من هذين السؤالين عنوانا له، وقدمت الجواب من خلال ثمانية أبواب، فتحت في كل باب نوافذ متعددة، تظافرت جميعا، فصبت في خانة الإجابة، وقد اشتمل الباب الأول على مكانة السنة في الإسلام، أما الباب الثاني، فقد غطى موضوع من يبلغ سنة الرسول بعد موته، أما الباب الثالث، فقد كشف المخططات التي رمت إلى نسف الإسلام وتدمير سنة الرسول بعد موته، وفي الباب الرابع، كشفت حالة سنة الرسول بعد موته مباشرة، وكيف.

</SPAN>الصفحة 9 نقضت أول عروة من عرى الإسلام وهي نظام الحكم، ومن الذين نقضوها ولماذا؟! أما الباب الخامس فقد استعرضت فيه الإجراءات الحكومية ضد سنة الرسول وفي الباب السادس عالجت كارثة استبدال سنة الرسول بسنة الخلفاء، وفي الباب السابع، بينت ما أصاب سنة الرسول بعد مائة عام ونيف على منع كتابتها وروايتها، أما الباب الثامن فقد قسمته لفصلين، بحثت في الأول أهل بيت النبوة في سنة الرسول، وفي الثاني دور أهل بيت النبوة في حفظ سنة الرسول.

ومن خلال هذه الأبواب الثمانية ومنافذها، أجبت على عنوان الكتاب (أين سنة الرسول وماذا فعلوا بها!!؟) وقد كررت ذكر حادثتين، وقعتا أثناء مرض النبي وهما موقف القوم من جيش أسامة، وموقفهم من رسول الله يوم أراد أن يكتب وصيته وتوجيهاته النهائية، وكان قصدي من تكرار هاتين الحادثتين إبراز شناعتهما، وأثرهما الماحق على سنة الرسول وعلى دين الإسلام، لقد قصمتا ظهر الدين حقا!!

أنا لا أدعي الكمال، حتى أنني كعادتي لم أقرأ ما كتبت، لكنني على يقين بأن هذا الكتاب هو الأول في موضوعه من حيث الشمول على الأقل وهو الأحدث في منهجيته وأسلوب عرضه، وغني عن البيان بأنني لا أطمع بجائزة من أحد على هذا الكتاب، إنما أردت أن أضعه تحت تصرف أولياء أهل بيت النبوة ليزدادوا يقينا بسلامة خط أهل بيت النبوة، كذلك فإني أضع ما فيه من حقائق موضوعية تحت تصرف الحائرين الذين وصلوا إلى مرحلة الشك، ولا يدرون أي خط ينبغي أن يسلكوه!!

وإن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله والحمد لله رب العالمين.



أحمد حسين يعقوب.


</SPAN>الصفحة 10 </SPAN>الصفحة 11 الباب الأول
مكانة سنة الرسول في دين الإسلام



</SPAN>الصفحة 12 </SPAN>الصفحة 13 الفصل الأول



معنى سنة الرسول

تعني سنة الرسول: كل ما صدر عن الرسول بالذات من قول، أو فعل أو تقرير، إطلاقا. فأقوال الرسول هي السنة اللفظية أو القولية، وتعرف بحديث النبي، وأفعال الرسول هي سيرته أو سنته العملية، وتشمل سنة الرسول أيضا تقريره، ومعنى التقرير أن يرى الرسول عملا من مسلم أو أكثر، فلا ينهى عنه، فيكون سكوت الرسول بهذه الحالة إقرارا منه بصحة ذلك الفعل. ولا خلاف بين اثنين من أتباع الملة حول مضمون وحدود هذا المعنى.



التلازم والتكامل بين القرآن الكريم وسنة الرسول

التلازم والتكامل بين القرآن وسنة الرسول ثمرة طبيعة لحالتي التلازم والتكامل بين القرآن الكريم وبين الرسول بالذات، فمن غير المتصور عقلا وشرعا بأن ينزل الله تعالى كتابا سماويا أو تعليمات إلهية إلا على رسول، أو أن يرسل رسالة لبني البشر بدون رسول، فالكتاب والرسول وجهان متكاملان لأمر واحد، وإذا أردنا أن نلخص دين الإسلام تلخيصا دقيقا، فلا نعدو القول بأنه يتكون من مقطعين رئيسيين: أولهما كتاب الله المنزل، وثانيهما نبي الله المرسل، فلا غنى للكتاب عن النبي، ولا غنى للنبي عن الكتاب، فالكتاب لا يفهم فهما يقينيا بدون نبي، والنبي لا برهان له ولا حجة إن لم يكن معه كتاب ضاق مضمونه أو اتسع. ثم إن الإيمان والإسلام لا يتحققان إلا بالاثنين معا، كتاب الله المنزل، ونبيه المرسل، فالإيمان.

</SPAN>الصفحة 14 بأحدهما لا يغني عن الإيمان بالآخر، وقد أخذ التكامل والتلازم بين كتاب الله المنزل ونبيه المرسل، بعدا خاصا في دين الإسلام، لأن رسول الإسلام هو خاتم النبيين، فلا نبي بعده، ولأن القرآن هو آخر الكتب السماوية، وعلاوة على أن القرآن معجزة إلهية بيانية أساسها الكلمة الطيبة الصادقة، فإنه هو الدستور الإلهي الذي شخص الأصول والمبادئ والمقدمات الأساسية للشريعة الإلهية النهائية التي ارتضاها الله تعالى للجنس البشري طوال عصور التكليف الممتدة من زمن خاتم النبيين حتى قيام الساعة، لقد أجمل هذا القرآن كل ما يتغير، وفصل ما لا يتغير، وأشار إشارات إلى أحكام وفرائض وأخبار وضروريات، ومصطلحات دون تفصيل، وعهد الله إلى رسوله ببيانها وتفصيلها على ضوء توجيهات الوحي الإلهي، فمصطلحات الصلاة مثلا وهي عماد الدين، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، ونظام الحكم... الخ كلها موجودة في القرآن الكريم، ولكن دون تفصيل لأن بيانها وتفصيلها متروك لسنة الرسول. ثم إن القرآن الكريم كمعجزة بيانية ذو وجوه متعددة، تؤدي بالضرورة إلى تصورات وأفهام متعددة، فتأتي سنة لتحدد الوجه والفهم الذي يتلاءم مع المقصود الإلهي.

إن المهمة الأساسية للرسول الأعظم ولسنته المطهرة منصبة بالدرجة الأولى والأخيرة على بيان ما أنزل الله بيانا قائما على الجزم واليقين لا على الفرض والتخمين، لأن الرسول الأعظم معد ومؤهل إلهيا لهذه المهمة، ومحاط بالعناية والتسديد الإلهي، ومعصوم عن الوقوع بالزلل، وهو قادر من خلال هذا التأهيل الإلهي أن يفهم المقصود الإلهي من كل آية من آيات القرآن، ومن كل كلمة من كلماته وقد سهل هذا المهمة أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة، إنما نزل منجما، وعلى مكث، مما أتاح الفرصة أمام الرسول لينقل من خلال السنة المطهرة بفروعها الثلاثة نصوص القرآن الكريم من النظر إلى التطبيق، ومن الكلمة إلى الحركة، ومن خلال سنة الرسول تحقق التكامل والتلازم والإحكام بين كتاب الله المنزل ونبيه المرسل، وتيقن المؤمنون.

</SPAN>الصفحة 15 والعارفون باستحالة بيان القرآن بدون رسول، واستحالة فهم دين الإسلام والالتزام به بدون الرسول وسنته، فالرسول من خلال سنته بفروعها الثلاثة يؤدي مهمة البيان التي اختاره الله لتأديتها، قال تعالى مخاطبا نبيه: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (1) ومن خلال البيان النبوي المتمثل بسنة الرسول، والالتزام بهذا البيان ينقطع دابر الخلاف والاختلاف في المجتمع البشري المؤمن، قال تعالى مخاطبا رسوله: (وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون 64) (2) فالرسول الأعظم هو المرجع البشري الأعلى في مجال بيان القرآن، وفهم المقاصد الإلهية من كل كلمة من كلماته، فسنة الرسول هي القول الفصل في كل أمر من الأمور المتعلقة بالقرآن الكريم، وسنة الرسول هي ثمرة وحي وإلهام إلهي، وهي من عند الله، والفرق بين القرآن والسنة أن القرآن هو كلام الله المنزل على رسوله باللفظ والمعنى كقرآن، بينما السنة هداية إلهية لغاية بيان القرآن للمكلفين، فالرسول يتبع ما يوحى إليه وينفذ ما يؤمر به، إنه عبد مأمور لله تعالى، ومخصص لتبليغ دين الإسلام المكون من ركنين لا ثالث لهما كتاب الله المنزل ونبيه المرسل بذاته وبسنته القولية والفعلية والتقريرية، والقرآن والنبي وسنته وجهان لأمر واحد، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، ولا تتحقق الغاية الشرعية من أحدهما إلا بالآخر، إن التلازم والتكامل بين القرآن وسنة الرسول إحكام إلهي اقتضته طبيعة الأمور وجوهرها.

ومن هنا يتبين لنا فساد مقولة أولئك الذين قالوا لرسول الله وهو على فراش المرض، عندما أراد أن يكتب وصيته: (حسبنا كتاب الله)، أي يكفينا كتاب الله، ويغنينا عن الرسول وسنته!!! لقد أيقن أعداء الله ورسوله بأن

____________

(1) سورة النحل، الآية 44.

(2) سورة النحل، الآية 64.

الصفحة 16 دمار الإسلام وتفريغه من مضامينه الخالدة مستحيل ما دام التلازم والتكامل والإحكام موجودا ما بين كتاب الله وسنة رسوله، ولا يتحقق هذا الدمار إلا بدمار سنة الرسول، أو تحييدها، أو إبعادها عن مسرح التأثير على الأحداث، أو بفك الارتباط المتين بين كتاب الله المنزل ونبيه المرسل.

وهذا هو المنطلق الذي انطلقوا منه يوم قالوا لرسول الله لا حاجة لنا بكتابك ولا بوصيتك: (حسبنا كتاب الله) وهذا هو السر بمنعهم لرواية وكتابة سنة الرسول، وجعل شعار (حسبنا كتاب الله) محور الثقافة التاريخية.



التأكيد الإلهي على مكانة الرسول، وأهمية سنة الرسول

الله تعالى هو الذي أوجد التكامل والتلازم بين كتاب الله المنزل، ونبيه المرسل، وهو الذي فرض الإيمان بالاثنين معا، وهو الذي خص رسوله بهذه المرتبة العالية حتى صار الإيمان بالرسول جزءا لا يتجزأ من الإيمان بالله، والله جلت قدرته هو الذي أبرز أهمية سنة الرسول بفروعها الثلاثة حتى صارت جزءا لا يتجزأ من دين الإسلام، وفصلا جوهريا متداخلا تداخلا عضويا مع الشريعة الإلهية المكونة حصرا من كتاب الله وسنة رسوله.

فهو جلت قدرته الذي اختار نبيه للرسالة، فأعده، وأهله وعصمه، وكلفه بالإمامة والولاية، وأمر المسلمين والمؤمنين أن يأتمروا بأمره وأن ينتهوا بنهيه: (... وما ءاتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) (1) فأمر الرسول كأمر الله، ونهي الرسول كنهي الله.

وقال تعالى مخاطبا المكلفين: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه) (2) فالإيمان بالله والرسول لا ينفصلان عن

____________

(1) سورة الحشر، الآية 7.

(2) سورة الأعراف، الآية 158.

الصفحة 17 بعضهما، والله يشهد وكفى بالله شهيدا بأن الرسول مؤمن بالله وبكلماته، لذلك فإن الله قد أمر عباده باتباع الرسول (فاتبعوه) لأنه هو النموذج المتحرك للإنسان المؤمن الكامل (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) (1).

ثم إن الله تعالى قد أزال الشك نهائيا وأوجد اليقين عندما بين لعباده حقيقة رسول الله، وطبيعة ما يصدر عن ذلك الرسول: بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى 3 إن هو إلا وحي يوحى 4) (2) وقد ترسخت هذه الحقيقة وشهد الله تعالى بثبوتها، وإطلاقها يوم أمر الله رسوله بأن يعلن أمام العالمين، بأنه صلى الله عليه وآله وسلم يتبع ما يوحى إليه من ربه في كل ما يصدر عنه من أقوال أو أفعال أو تقريرات، وتوثيقا من الله لنبيه وتصديقا تولى الله تعالى بنفسه ومن خلال كتابه المبارك نشر هذا الاعلان النبوي فقال جلت قدرته مخاطبا رسوله: (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) (3) وأعلن الله باسم الرسول قائلا: (إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين) (4) وتصديقا من الله لرسوله ثبت الله هذا الاعلان في كتابه الكريم.

وتأكيدا من الله تعالى لعمق التكامل بين الكتاب المنزل والنبي المرسل وعمق الصلة بين الله ورسوله أمر الله رسوله بأن يعلن للمؤمنين والمسلمين خاصة ولأبناء الجنس البشري عامة هذا الاعلان الذي يعبر بدقة عن مضامينه الوارفة فقال تعالى مخاطبا رسوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) (5) فاتباع الرسول هو الطريق إلى محبة الله، وهو الطريق إلى المغفرة.



____________

(1) سورة الأحزاب، الآية 21.

(2) سورة النجم، الآيتان 3 - 4.

(3) سورة الأعراف، الآية 203.

(4) سورة الأحقاف، الآية 9.

(5) سورة آل عمران، الآية 31.

الصفحة 18 وإحكاما لحلقة التكامل والتلازم بين الله ورسوله، وبين الكتاب المنزل والنبي المرسل، وبين شريعة الإسلام ونبي الإسلام، وتمكينا من الله لرسوله للقيام بأعباء الرسالة، ولسد الطريق أمام أولئك الذين يفرقون بين الله ورسوله، أعلن الله سبحانه وتعالى قراره ومشيئته بقوله: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا 80) (1) فطاعة الرسول تماما كطاعة الله، ومعصية الرسول تماما كمعصية الله، والله جلت قدرته هو الذي قرن الطاعنين معا فقال: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون 132) (2) (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين 92) (3) وتكرر هذا الأمر الإلهي مرات متعددة في القرآن الكريم. لقد حصل اليقين عن طريق العقل والشرع بأن طاعة الله لا تتحقق إلا بطاعة الرسول فمن يعصي الرسول هو عاص لله، ومن يطع الرسول هو مطيع لله، والتفريق بين الطاعتين محاولة مكشوفة للتفريق بين الله ورسوله، والالتفاف على مقاصد الشرعية الإلهية، وإيجاد ممر للمروق والفساد والخروج من دائرة الشرعية الإلهية.

فالرسول هو حامل الرسالة الإلهية، وهو وحده الذي يتلقى التوجيهات الإلهية وهو المبلغ عن الله، والأمين على ما أوحاه الله والعارف بالمقاصد الشرعية، ثم إنه هو الإمام والقائد والمرجع والولي، فمن غير الجائز أن يعصى الرسول تحت أي شعار لأن معصية الرسول تعيق حركته وقيامه بأعباء التكاليف الإلهية الملقاة على عاتقه لذلك اقتضت حكمة الله أن يطاع الرسول إطاعة تامة وهذا حق لكل الرسل قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (4) ورسول الله وخاتم النبيين أولى بالطاعة

____________

(1) سورة النساء، الآية 80.

(2) سورة آل عمران، الآية 132.

(3) سورة المائدة، الآية 92.

(4) سورة النساء، الآية 64.

الصفحة 19 لأن المسؤوليات الملقاة على عاتقه، أضخم وأكبر من المسؤوليات التي ألقيت على عاتق أي رسول من قبله، فهو خاتم النبيين، ومعه الشريعة الإلهية بصورتها النهائية التي ارتضاها الله لعباده أجمعين. وهذا يعطي قيمة خاصة لكل ما يصدر عن الرسول من قول أو فعل أو تقرير، لأن سنة الرسول بفروعها الثلاثة لازمة من لوازم الإسلام والبيان خاصة وأن الرسول لم يبعث إلى العرب إنما أرسله الله رحمة للعالمين، وقد انتقل إلى جوار ربه، ولم يدخل في الإسلام غير العرب، فمن حق أبناء الجنس البشري أن يطلعوا على سنة رسول البشرية من مصادر موثوقة ولا يتحقق هذا إلا بصيانة السنة، وكتابتها ونقلها إلى أبناء الجنس البشري نقية بلا زيادة ولا نقصان، ومن هنا يتبين لنا فداحة الجرم الذي ارتكبه أولئك الذين منعوا رواية وكتابة السنة طوال مائة عام تحت شعار: (حسبنا كتاب الله).



شهادات على صحة ما ذهبنا إليه حول التكامل والتلازم بين القرآن وسنة الرسول

قلنا: إن القرآن والسنة وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن فهم القرآن فهما يقينيا أو تطبيقه دون وجود السنة المطهرة بفروعها الثلاثة القول والفعل والتقرير لأن المهمة الأساسية لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم تتمحور حول بيان ما أنزل الله من القرآن، والقرآن والسنة متكاملان، ولا غنى لأحدهما عن الآخر وتقريبا للذهن، وإبرازا للمقصود، فإن القرآن كالدستور في اللغة القانونية المعاصرة، والسنة كالقانون، فوجود الدستور لا يغني عن وجود القانون، ووجود القانون لا يغني عن وجود الدستور، لأن أي واحد منهما يشكل ركنا أساسيا من أركان المنظومة الحقوقية النافذة في المجتمع، وهذا حال القرآن والسنة لأنهما هما المنظومة الحقوقية النافذة في المجتمع الإسلامي فالقرآن يشتمل على المبادئ الرئيسية والقواعد الكلية حيث أجمل ما يتغير وترك للرسول الأعظم أمر تفصيل ذلك على ضوء توجيهات الوحي الإلهي، </SPAN>الصفحة 20 أما ما لا يتغير، فقد فصله القرآن تفصيلا دقيقا، ومع هذا يبقى للرسول دور مهم يتمثل بتوضيح وتطبيق هذه التفصيلات.

1 - قال حسان بن عطية: (كان جبريل ينزل على رسول الله بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه السنة كما يعلمه القرآن) (1).

2 - وقال أحمد بن حنبل: (السنة تفسر الكتاب وتبينه، والسنة عندنا آثار رسول الله، والسنة تفسير القرآن وهي دلائل القرآن) (2).

3 - قال عبد الرحمن بن مهدي: (الرجل إلى الحديث أحوج منه إلى الأكل والشرب، لأن الحديث يفسر القرآن) (3).

4 - وقال ابن حزم... (لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله، ووجدنا أن الله عز وجل يقوله فيه واصفا لرسوله: (وما ينطق عن الهوى 3 إن هو إلا وحي يوحى 4) (4) أفصح لنا بذلك بأن الوحي ينقسم إلى قسمين:

أحدهما: وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن.

والثاني: وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام، ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله، وهو المبين عن الله عز وجل مراده) (5).

5 - قال الشيخ أبو زهرة: (السنة هي أحد قسمي الوحي الإلهي الذي نزل به جبريل على النبي، والقسم الثاني هو القرآن الكريم) (6).



____________

(1) المراسيل لأبي داود السجستاني ج 2 ص 249.

(2) حجية السنة ص 332.

(3) المصدر السابق.

(4) سورة النجم، الآيتان 3 - 4.

(5) الإحكام في أصول الأحكام ج 1 ص 93.

(6) الحديث والمحدثون ص 11.

الصفحة 21 وقال: (وقد وكل الله إلى نبيه، أن يبلغ القرآن للناس، وأن يبين لهم بقوله وفعله ما يحتاج إلى البيان، والرسول إذ يبين للناس كتاب الله، لا يصدر عن نفسه، ولكنه يتبع ما يوحى إليه من ربه، فالسنة النبوية وظيفتها تفسير القرآن، والكشف عن أسراره، وتوضيح مراد الله تعالى من أوامره وأحكامه) (1).

6 - وقال الشيخ عبد الغني عبد الخالق: السنة مع الكتاب في مرتبة واحدة من حيث الاعتبار والاحتجاج بهما على الأحكام الشرعية ولا نزاع بأن الكتاب يمتاز عن السنة بأن لفظه منزل من عند الله، متعبد بتلاوته، معجز بخلافها، ولكن ذلك لا يوجب التفضيل بينهما من حيث الحجية) (2).

7 - وقال محمد عجاج: كلما جاء من الرسول سوى القرآن من بيان الأحكام وتفصيل لما في الكتاب الكريم وتطبيق له هو الحديث النبوي أو السنة... وهي بوحي إلهي) (3).

(فكيف يؤدي الاشتغال بالحديث إلى إهمال القرآن وتركه) (4) (فهذا من أبده الكلام الباطل لوضوح أن حديث رسول الله وما نطق به ليس إلا حقا كما صرح هو به في روايات إذنه لعبد الله بن عمرو في كتابة الحديث) (5).

8 - (وليس الحديث الشريف إلا مفسرا للقرآن وشارحا لمراده) (6).

9 - وعقد الدارمي بابا نقل فيه عن ابن أبي كثير شيخ الأوزاعي قال فيه: (السنة قاضية على القرآن، وليس القرآن بقاض على السنة) (7).



____________

(1) الحديث والمحدثون ص 37 و 38.

(2) حجية السنة ص 485.

(3) أصول الحديث: محمد عجاج الخطيب ص 34.

(4) المرجع السابق ص 43.

(5) المرجع السابق ص 89.

(6) مقدمة التيجاني لكتاب الكفاية للخطيب ص 15.

(7) سنن الدارمي ج 1 ب 49 ح 594.

الصفحة 22 10 - ونقل عن مكحول قوله: (القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن) (1).

11 - وقال ابن برجان: (ما قاله النبي من شئ فهو من القرآن، وفيه أصله قرب أو بعد، فهمه من فهمه، وعمه عنه من عمه) (2).

12 - قال الزركشي: (إعلم أن القرآن والحديث أبدا متعاضدان على استيفاء الحق وإخراجه من مدار الحكمة، حتى أن كل واحد منهما يخصص عموم الآخر ويبين إجماله) (3).

13 - قيل لعمران بن الحصين: ما هذه الأحاديث التي تحدثونها وتركتم القرآن؟ لا تحدثوا لا تحدثوا إلا بالقرآن!!

فقال عمران في جوابه لذلك الآمر: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا، وصلاة العصر أربعا والمغرب ثلاثا!!!

أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا والطواف بالصفا والمروة!!! ثم قال: (اتبعوا ما حدثناكم وخذوا عنا وإلا والله ضللتم) (4).

14 - قال أيوب السجستاني: (إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: (دعنا من هذا وحدثنا عن القرآن فاعلم أنه ضال مضل) (5) (6).



____________

(1) الكفاية للخطيب ص 47.

(2) الإرشاد في تفسير القرآن.

(3) البرهان في علوم القرآن للزركشي ج 2 ص 128.

(4) الكفاية للخطيب ص 48، والمستدرك على الصحيحين للحاكم ج 1 ص 109.

(5) الكفاية ص 49.

(6) وقد نقلنا هذه المقتطفات عن كتاب تدوين السنة الشريفة من ص 347 و 353.



الصفحة 23 بعض تأكيدات الرسول على التلازم والتكامل بين كتاب الله وسنة رسوله



شعار حسبنا كتاب الله

لما أراد الرسول الأعظم أن يكتب وصيته وتوجيهاته النهائية وهو على فراش الموت، تدخل عمر بن الخطاب، فقال للحاضرين: (إن المرض قد اشتد برسول الله، أو أن الرسول يهجر - أي لا يعي ما يقول - وعندكم القرآن (حسبنا كتاب الله) (1) وسندا لهذا الشعار حالوا بين الرسول وبين كتابة ما أراد كتابته.

وبعد أن استولى أبو بكر على منصب الخلافة جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: (إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه) (2) والتزاما من الخليفة بما أمر المسلمين به قام بحرق الأحاديث التي سمعها من رسول الله بإذنه، وكتبها بخط يده (3).

ولما تولى عمر بن الخطاب الخلافة، ناشد الناس أن يأتوه بسنة الرسول المكتوبة عندهم لأنه يريد أن يجمعها في كتاب، كما ناشدهم أن يأتوه بالكتب المحفوظة لديهم حتى ينظر فيها ويقومها، فلما أتوه بها أمر بحرقها، وحرقت فعلا (4) ثم كتب إلى ولاته في كل البلاد الخاضعة لحكمه (أن من كان عنده شئ مكتوب من سنة الرسول فليمحه) (5).



____________

(1) راجع صحيح البخاري ج 7 ص 9 وج 4 ص 31، وصحيح مسلم ج 5 ص 75 وج 11 ص 95 بشرح النووي، وفي الفصول اللاحقة سنورد أربعين مرجعا على صحة هذه الواقعة.

(2) راجع تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 2 - 3، والأنوار الكاشفة ص 53 وتدوين السنة ص 423.

(3) تذكرة الحفاظ للذهبي ج 1 ص 5، وكنز العمال ج 10 ص 285، والاعتصام بحبل الله المتين ج 1 ص 30.

(4) الطبقات لابن سعد ج 5 ص 140.

(5) كنز العمال ج 1 ص 291.

الصفحة 24 وبرر الخليفة عمله هذا بالقول: (إني كنت أردت أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتبا، فأكبوا عليها، فتركوا كتاب الله!!

وإني والله لا ألبس كتاب الله بشئ) (1) ثم قال: (أمنية كأمنية أهل الكتاب رأي حتى لا ينشغل الناس بالسنة عن القرآن) (2).

وحرصا من الخليفة على القرآن الكريم، منع الناس من رواية أحاديث رسول الله، وهدد من يرويها، وضرب الرواة، وحبس بعضهم، وملأ قلوب الرواة بالرعب والارهاب حتى لا يرووا سنة رسول الله) (3).

وما فعل الخليفة ذلك إلا حرصا على القرآن وإعمالا لشعار (حسبنا كتاب الله) وشعار (بيننا وبينكم كتاب الله) كما سنوضح لاحقا!!!



حكم الرسول بهذين الشعارين

قال رسول الله: (يوشك الرجل متكئا في أريكته، يحدث بحديث من حديثي فيقول بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله) (4) أنت تلاحظ أن الرسول قد استعمل حرفيا الكلام الذي قاله أبو بكر يوم منع المسلمين من أن يحدثوا شيئا عن رسوله، فارجع إلى ما قاله أبو بكر في الصفحة السابقة!!



____________

(1) تقييد العلم ص 49 ورواه في دفاع عن السنة ص 21، راجع كنز العمال ج 1 ص 291، وتدوين القرآن ص 371.

(2) راجع المبحث اللاحق تحت عنوان موقف الخليفة عمر من سنة رسول الله.

(3) المصدر نفسه.

(4) مسند أحمد ج 4 ص 131، وأبو داود في سننه كتاب السنة باب 5، ولزوم السنة ج 4 ص 200 ح 4604، وسنن ابن ماجة ج 1 ص 6 باب 3 ح 12، وسنن الدارمي ج 1 ص 117 ح 592، وسنن البيهقي ج 3 ص 331، ودلائل النبوة ج 1 ص 25، والمستدرك على الصحيحين ج 1 ص 180 و 109، والترمذي كتاب العلم ج 2 ص 110، 111 وقال هو حديث صحيح، والحديث والمحدثون ص 11 و 24.

الصفحة 25 وقال الرسول: (لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) (1).

وقال الرسول: (أيحسب أحدكم متكئا على أريكته، قد يظن أن الله تعالى لم يحرم شيئا إلا ما في القرآن، ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن).

قال ابن حزم: (صدق النبي هي مثل القرآن ولا فرق في وجوب طاعة كل ذلك علينا، وقد صدق الله (من يطع الرسول فقد أطاع الله) وهي أيضا مثل القرآن في أن كل ذلك وحي من الله) (2).



____________

(1) سنن ابن ماجة ج 1 ص 6 - 7، والمستدرك للحاكم ج 1 ص 108 وقال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.

(2) الأحكام لابن حزم ج 1 ص 159، وراجع تدوين السنة الشريفة ص 352 وما فوق.



الصفحة 26 الفصل الثاني
اهتمام الرسول الأعظم بسنته المطهرة وأمره بكتابتها وتدوينها

رأينا في المبحث السابق مكانة الرسول ومكانة سنته عند الله تعالى، وموقعهما في الشريعة الإلهية وفي دين الإسلام، وتكاملهما مع القرآن الكريم تكاملا يصل إلى درجة التلازم التام، فمن غير الممكن عقلا وشرعا تصور كتاب إلهي ينزل إلى بني البشر بدون رسول، أو تصور رسول يرسله الله من غير حجة أو كتاب.

وقد تبين لنا أن مهمة الرسول الأساسية منصبة بالدرجة الأولى والأخيرة على بيان ما أنزل الله، لأن المقاصد الشرعية الواردة في القرآن الكريم لا تفهم فهما قائما على الجزم واليقين بغير بيان من رسول الله المختص والمؤهل إلهيا لذلك.

وقد اقتضت حكمة الله أن يكون للرسول دور بارز في البيان، ففي القرآن الكريم أمور وفرائض وأحكام وأخبار ومصطلحات عامة، فكلمة الصلاة مثلا وهي عماد الدين قد تكررت في القرآن مئات المرات، ولكن القرآن لم يبين لنا بالتفصيل عدد الصلوات الخمس، ولا مقدار كل صلاة، ولا عدد ركعاتها ولا سجداتها، ولا الكيفية التفصيلية لأدائها، وكذلك .

</SPAN>الصفحة 27 الزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، ونظام الحكم،... الخ.

هذه الأمور وأمثالها أحالها الله لرسوله ليتولى بيانها وتفصيلها على ضوء توجيهات الوحي الإلهي، وقد بينها الرسول وفصلها بالفصل حسب التوجيهات الإلهية خلال عصر الرسالة الأغر.

فعندما يهتم الرسول بسنته المطهرة فإنه لا يهتم بأمر خاص به كثوبه مثلا بل يهتم بأوامر إلهية تلقاها بالوحي، وأمر بتبليغها إلى المكلفين ليعملوا بها باعتبارها جزءا لا يتجزأ من دين الله، وفصلا مهما من فصول الشريعة الإلهية، ومقطعا من مقاطع الرسالة الإلهية التي أمره الله بإيصالها للناس.

لقد حرص الرسول كل الحرص على تعميم سنته ونشرها بكل وسائل النشر المعروفة ومتابعة تنفيذها، والمحافظة عليها والالتزام بها، فالرسول هو الذي كان يؤم المسلمين في صلاتهم، ويأمرهم أن يصلوا كما كان يصلي، وقد حج الرسول واعتمر وأمر المسلمين أن يحجوا ويعتمروا كما كان يحج ويعتمر، وكان الرسول يرسل الجباة والعمال لجباية الزكاة والصدقات ثم يضعها حيث أمره الله أمام الجميع، وكان الرسول يقودهم في جبهات القتال، ويوزع الغنائم والأنفال وكان الرسول يمارس سلطاته كإمام وكقائد وكمرجع وكولي أمام الجميع، وشاهدوه وهو يبني دولة الإيمان، ويحدد مؤسساتها، وركز الرسول تركيزا خاصا على نظام الحكم، فعين خلفاءه الاثني عشر، ليضمن انتقالا سلميا للسلطة، واستقرارا لمؤسسة الرئاسة والمرجعية لأنها هي أساس النظام السياسي الإسلامي وأهل وأعد خليفته الأول، وأنهى إليه علمي النبوة والكتاب، وكلفه بأن ينهي علمي النبوة والكتاب إلى الخلفاء الشرعيين الأحد عشر الذين سماهم الرسول بأسمائهم، وتسعة منهم لم يولدوا بعد، لقد علم رسول الله المسلمين كيف يتعبدون، وكيف يتعاملون مع بعضهم، وحتى كيف يأكلون، وكيف يشربون وكيف يضاجعون نساءهم، بل وكيف يتبولون، وكيف يتغوطون، لقد أوجد .

</SPAN>الصفحة 28 الرسول الكريم من خلال سنته نمط حياة جديدة تحكمها قواعد جديدة، لقد هدم الرسول كافة القواعد والأنماط والبنى الجاهلية وأحل محلها قواعد وأنماطا وبنى إسلامية خالصة، لقد تولى الرسول الكريم من خلال سنته الطاهرة عملية ترجمة التوجيهات الإلهية من النظر إلى التطبيق ومن الكلمة إلى الحركة، لقد بين الرسول من خلال سنته كل شئ على الإطلاق.

فهل يعقل شرعا وعقلا أن يضع الرسول الأعظم هذا الكم الهائل من الأحكام والقواعد، وأن يعمم كل هذه الأمور من تلقاء نفسه وبدون أمر من الله!! فالرسول هو قال لنا: إن صلاة الصبح ركعتان، وإن صلاة الظهر أربع ركعات، هذا التحديد لم يرد في القرآن الكريم، لم يرد نصاب الزكاة ولا مقدار ما يؤخذ، في القرآن الكريم، ولا بين لنا كيف ينصب رئيس الدولة، ولا كيف تستمر الرئاسة العامة والمرجعية والرسول من خلال سنته المباركة هو الذي فصل ذلك، كيف نلائم بين هذه الحقائق الشرعية، وبين قول الذين قالوا: (حسبنا كتاب الله) كيف تتلاءم هذه الحقائق الشرعية مع ثقافة التاريخ السياسي الإسلامي القائمة على التنكر الكامل لسنة الرسول!! وفك الارتباط الشرعي بين كتاب الله المنزل ونبيه المرسل!! وبوقت يطول أو يقصر، ستزول الأصباغ، وتتمزق البراقع، ويكتشف السذج الغافلون المتبتلون في كهوف التاريخ ومغاراته، أن الذين يعبدونهم عمليا من دون الله فعلوا أفاعيل ألد أعداء الله ورسوله!!



الرسول الأعظم يأمر بتدوين سنته الطاهرة

كان الرسول الأعظم موقن بأنه بشر، وأنه ميت لا محالة، وأنه خاتم النبيين، وأن سنته بفروعها الثلاثة أحكام إلهية تلقاها من الله تعالى، وأن الناس في كل زمان بحاجة ماسة إلى هذه الأحكام، لأن القرآن والسنة هما الشريعة الإلهية التي ينبغي أن تسود وتحكم العالم البشري، لذلك كله حرص الرسول حرصا تاما على تعميم سنته ونشرها بكل وسائل النشر .

</SPAN>الصفحة 29 المعروفة كما حرص على تدوينها وتوثيقها، وأعطى أوامره وتوجيهاته بالعمل على تدوين سنته الطاهرة، وطلب من كل القادرين على الكتابة أن يكتبوا هذه السنة، ومن كل القادرين على النشر أن ينشروها.



التدوين الخاص لسنة الرسول

لأن الله تعالى قد اختار الإمام علي بن أبي طالب ليكون أول إمام وخليفة للرسول بعد موته، ولأن الله تعالى قد اختار أحد عشر إماما من أولاد الإمام علي وأحفاده ليتولوا أمر الإمامة والمرجعية بالتوالي من بعد وفاة الإمام علي، ولأن الإمام الشرعي هو القائم مقام النبي، وهو مرجع الأمة الأعلم والأفهم، فقد كلف رسول الله الإمام عليا ليكتب سنته الطاهرة، فالله علم رسوله القرآن والسنة، والرسول علم كل ذلك لعلي (1).

وقد وضح الإمام علي هذا التكليف لأصحابه بقوله لسليم بن قيس الهلالي: (كنت إذا سألت رسول الله أجابني، وإن فنيت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ولا سماء ولا أرض، ولا دنيا ولا آخرة، ولا جنة ولا نار، ولا سهل ولا جبل، ولا ضياء ولا ظلمة، إلا أقرأنيها وأملاها علي وكتبتها بيدي، وعلمني تأويلها وتفسيرها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها، وكيف نزلت، وأين نزلت وفيمن أنزلت إلى يوم القيامة ودعا الله أن يعطيني فهما وحفظا، فما نسيت آية من كتاب الله ولا على من أنزلت إلا أملاها علي (2).

وروى الإمام محمد بن علي الباقر عن آبائه: (أن رسول الله قد قال لعلي: أكتب ما أملي عليك، فقال علي: يا نبي الله أتخاف علي النسيان؟



____________

(1) بصائر الدرجات ص 290 - 291، والمعالم ج 2 ص 301 نقلا عن الإمام جعفر الصادق.

(2) بصائر الدرجات ص 168، وسليم بن قيس الهلالي العامري من أصحاب الإمام علي، راجع قاموس الرجال ج 4 ص 445. والمعالم ج 2 ص 304.

الصفحة 30 فقال الرسول: لست أخاف عليك النسيان، وقد دعوت الله أن يحفظك ولا ينسيك، ولكن أكتب لشركائك! قال علي: قلت ومن شركائي يا نبي الله؟

قال الرسول: الأئمة من ولدك، بهم تسقى أمتي الغيث، وبهم يستجاب دعاؤهم، وبهم يصرف الله عنهم البلاء، وبهم تنزل الرحمة من السماء، وأشار الرسول إلى الحسن، وقال هذا أولهم وأومى إلى الحسين، وقال:

الأئمة من ولده) (1).

(وما ترك الإمام علي شيئا من سنة الرسول إلا وقد كتبه) (2) حتى أرش الخدش أملاه رسول الله وكتبه علي بيده) (3).

(وأنجز الإمام علي مهمة تدوين السنة الطاهرة، وجمعت السنة في صحيفة طولها سبعون ذراعا) (4) بخط علي وإملاء الرسول، قال الإمام أبو جعفر الباقر: (إن عندي لصحيفة فيها تسعة عشر صحيفة قد حباها رسول الله) (5).

(وقد سمى الأئمة من أهل البيت كتاب الإمام علي الذي أملاه رسول الله والذي يشتمل على الأحكام (بالجامعة) وهو يشمل كل حلال وحرام وكل شئ يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش) (6).

ويبدو أن الإمام عليا قد كتب أيضا كتابين آخرين، أحدهما:



____________

(1) الأمالي للشيخ الصدوق ج 2 ص 56 - مطبعة النعمان - النجف سنة 1384 ه‍، والمعالم ج 2 ص 305.

(2) بصائر الدرجات ص 148.

(3) بصائر الدرجات ص 143 وص 145 وص 147.

(4) بصائر الدرجات ص 145 وص 159.

(5) بصائر الدرجات ص 144.

(6) بصائر الدرجات 151 - 152، وأصول الكافي ج 1 ص 239، والوافي ج 2 ص 135، ومعالم المدرستين ج 2 ص 310.

الصفحة 31 1 - كتاب الجفر، فيه أنباء الحوادث الكائنة.

2 - مصحف فاطمة فيه علم ما سيكون، والمصحف هو اسم الكتاب، وليس فيه آية واحدة من القرآن الكريم.

وقد أقر الأئمة الكرام بوجود هذه الكتب الثلاثة التي أملاها رسول الله وكتبها علي بخط يده.

وكان الأئمة الكرام يتوارثون هذه الكتب الثلاثة مع سلاح رسول الله وسيفه ودرعه، وخاتمه ولوائه.



توارث العلم والإمامة

لما حضرت الوفاة الإمام عليا أوصى إلى ابنه الحسن، وأشهد على الوصية الحسين ومحمدا وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتب والسلاح وقال لابنه الحسن: يا بني أمرني رسول الله أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلى رسول الله ودفع إلى كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك الحسين، ثم أقبل على ابنه الحسين فقال وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك هذا ثم أخذ بيد علي بن الحسين، ثم قال لعلي بن الحسين وأمرك رسول الله أن تدفعها إلى ابنك محمد بن علي واقرأه من رسول الله ومني السلام (1) ويبدو أن هنالك كتبا أخرى كانت مودعة عند أم المؤمنين أم سلمة، وأن الإمام الحسن قد تسلم هذه الكتب بعد عودته إلى المدينة، وقد آلت هذه الكتب جميعا، مع سلاح الرسول وخاتمه ولوائه إلى كل واحد من الأئمة الاثني عشر، وكان الأئمة كل في زمانه يرجعون إلى هذه الكتب التي أملاها رسول الله وكتبها الإمام علي بخط يده) (2).