القصة القصيرة جداً... الأدب معلباً
--------------------------------------- بقلم ماهر منصور .




[align=right]
خلافاً للأجناس الأدبية الأخرى، لم تستطع القصة القصيرة جداً، أو ما اصطلح على تسميته بـ (ق. ق. ج)، أن تحمل ملامحها الخاصة وتحتفظ بخصائص فنية وتقنية تمنحها استقلالها وتفردها عن سواها، على نحو أجمع فيه كثير من النقاد والمطلعين على رفض أن ينضوي هذا الشكل من الكتابة القصصية تحت لافتة جنس أدبي جديد، الأمر الذي أثار سجالاً كبيراً بين مؤيدي هذا الشكل والمناوئين له دار في معظمه حول موضوع تجنيس القصة القصيرة جداً بوصفها فناً أدبياً مستقلاً أم عدها لوناً تابعاً لا أكثر.

هذا الشكل من القص الذي سعى أصحابه إلى إرساء عناصر وشروط لكتابته كالتكثيف والتشويق والمفارقة... سرعان ما سقط في هوة التجريب وعبثية أنصاف المواهب، وضبابية المصطلح في أذهان الكثيرين، على نحو غاب فيه ما اتفق عليه بداية على أنه عناصر للقصة القصيرة جداً. فبدت نصوصها أشبه ما تكون بالحكم والأمثال والأقوال المأثورة، والخطب الصحفية اللاذعة، والنكات في بعض الأحيان... وإشكالية عدم وضوح هذا النوع من القص بدت ظاهرة للعيان في آراء أشد المتحمسين له، إلى درجة عدم استقرار المصطلح عند الكتاب أنفسهم، كما يقول الناقد الدكتور نضال الصالح، (فمنهم من يطلق تعبير (العقد النصي الجمعي) ومنهم ما سماه (الميثاق النوعي) ومنهم (قصص قصيرة جداً) ومنهم (لوحات قصصية) ومنهم (مقطوعات قصيرة) ومنهم من أطلق تعبير(ومضات) و(بورتريهات) إلى آخر ما هنالك من أسماء عديدة أخرى)، وقد شهدنا جميعاً تراجعاً في رأي الناقد أحمد جاسم الحسين، الذي يعد (الأب الروحي) الذي تبنى مشروع تكريس ملتقى لهذا النوع من القص، حول قضية تجنيس هذا النوع ، إذ تخلى بعد عامين من انطلاقة الملتقى عن كلمة جنس مستبدلاً إياها بكلمة لون.

ولعل في عدم القدرة على استخلاص تعريف أكثر وضوحاً ودقة لهذا النوع من القص جاء انعكاساً لحالة الالتباس التي انتابت الكثيرين من كتابها، ورغبة الدارسين والنقاد في تحاشي وضع نظريات جاهزة لمثل هذا اللون من فنون القص، وقد اتفقوا جميعاً على مشروعية وجوده، ولكنهم اختلفوا حول أشكال تقديمه والترويج له بوصفه ظاهرة أدبية جديدة وبديلة، فدعا بعضهم إلى التفاعل مع هذا النوع القصصي، واكتشاف جوانبه الجمالية وبيان بواطن الضعف فيه، بينما رأى بعض آخر، وهو صاحب الاتجاه السائد، أن هذا اللون الأدبي عجز عن تقديم ما يدل على قيمة إبداعية مهمة تؤهله ليكون جنساً أدبياً خاصاً، بل أيضاً ساهم في تمرير أدب رديء، وكتابات متواضعة أعياها الاستسهال تحت اسم الجنس الأدبي الجديد الباحث عن ملامحه الخاصة وخصائصه الفنية والتقنية... الأمر الذي أفرز نصوصاً ساذجة لا تتعدى حدود السرد العادي الذي يقترب أحياناً من فن المقالة أو الخاطرة وربما يلامس أحياناً القصة القصيرة...نصوص لا ينظمها سوى عقد واحد هو شكل النص القصير، وسعى كتابه لإقحام عنصر المفارقة فيه لخلق بعد درامي على نحو بدت بعض هذه النصوص أشبه بالحكم والأقوال المأثورة.

وبتجاوزنا لإشكالية تجنيس هذا النوع من الكتابة القصصية أو عده لوناً أدبياً وحسب تطرح الضجة والجدل الكبيران اللذان أثارهما أصحاب هذا الاتجاه من الكتابة عدة إشارات استفهام حول مبررات تكريس ملتقى له، وحشد عدد كبير من الكتاب والنقاد على نحو يوحي بريادة أصحابه في إبداع هذا اللون الأدبي، رغم ما أجمع عليه الكثيرون من الدارسين والمطلعين بأن هذا الشكل من الكتابة القصصية ليس جديداً على الأدب والتراث العربي، بل هو موجود في الكثير من الأعمال الإبداعية، وبالتالي هو ليس ظاهرة مستحدثة، أو جديدة على الأدب في سورية، فهذا الشكل من القص يبدو واضحاً للعيان في كثير من النتاج الإبداعي على مدار ثلاثة عقود مضت إلى جانب القصة القصيرة أو الطويلة دون أن يطرحه مبدعوه على أنه شكل إبداعي بديل لأشكال الكتابة القصصية الأخرى.

و يبقى الاحتفاء بهذا الشكل القصصي بتخصيص مهرجانات وأمسيات خاصة به دون الفنون الإبداعية الأخرى مسألة تثير أسئلة الغايات الشخصية دون العامة، أسئلة تزداد وضوحاً مع عجز القصة القصيرة جداً عن تقديم جوانب جمالية إبداعية تحمل ملامحها الخاصة على نحو يخلق مبرراً مقبولاً لهذا الاحتفاء.

ولعلنا لا نبالغ إذا ذهبنا إلى القول إن هذا الاحتفاء المجاني بهذا الشكل من القص فتح الأبواب مشرعة أمام تجارب متواضعة وهزيلة لا تمتلك كماً معرفياً وفنياً كافياً، وأصاب هذا النوع بحالة من الاستسهال والاستخفاف بعقل المتلقي على نحو أفرزت فيه نصوصاً تافهة...إلا أننا برغم ذلك لا يمكن لنا أن نغفل في السياق ذاته عن نصوص رأى فيها الدكتور نضال الصالح في محاضرة تحت عنوان (القصة القصيرة جداً في سورية.. الواقع والآفاق) أنها (توفر لنفسها أحياناً ما يجعلها لصيقة بفن القصة وغيره من الفنون لكفاءة بعض القصاصين في بناء جملة تستوفي في معظم الأحيان جماليات السرد القصصي، وإيحاءاته غير المباشرة بالنسبة للمسكوت عنه في النص، وإطلاقه من أسر التجنيس الضيق).


بالعموم لا يمكن لنا تجاهل الفعالية الإبداعية التي خلقتها بعض نصوص ما اصطلح عليه بالقصة القصيرة جداً، إلا أننا لا نميل إلى تأطير هذا النوع من الكتابة بجنس خاص به، وخصوصاً أنه لم يحمل تميزه المتفرد، وليس بالظاهرة الجديدة في المشهد الإبداعي السوري، ومن الجدير التعامل به بعيداً عن التسميات بوصفه يندرج ضمن ما يكتب تحت لافتة كبيرة هي الإبداع وفي هذا صون لسوية النتاج الأدبي وخدمة له.


[/align]