السلام عليكم جميعا..
يقول الشاعر:
وكما تبلى جسوم في الثرى فكذا يبلى عليهن الحزن
يشبه الشاعر في هذا البيت حال الحزن على فقد "الجسوم", بحال "الجسوم" المفقودة نفسها , فكما أن "الجسوم" مع الوقت تبلى وتزول وتتحلل في التراب, فكذلك الحزن عليها.
وفي تعبير الشاعر بلفظ: "تبلى, يبلى" – من البِلى بكسر الباء- إشارة جميلة, وهي أن ِبلى الشيء لا يكون دفعة واحدة, بل لا بد أن يأخذ وقتا, كالجثة في التراب, لا تبلى مرة واحدة, بل تأخذ فترة من الزمن, حتى تتحلل وتعود ترابا, إلى أصلها التي خلقت منه.
فإذا كان هذا هو الحال مع الأمور المادية (الجسوم), فكذلك هو الحال مع الأمور المعنوية, مثل الحزن على فقد الأحبة, فإنه يبدأ قويا شديدا, ثم ما يلبث أن يضعف شيئا فشيئا, حتى لا يبقى منه إلا أثر لا يكاد يذكر.
فكأن الشاعر في هذا البيت يسلي قارئه أن لا عليك, فكما سيبلى في الثرى جسم من قد حزنت على فقده, فكذلك حزنك عليه سيبلى, ولو بعد حين.
وهذا الأمر من رحمة الله بعباده, أن جعل الوقت كفيلا بمحو أحزان الناس وأتراحهم, وإلا لتكدر صفو حياتهم, ولصعب عليهم العيش وثقل. وقد قيل: إن الإنسان من النسيان.
ومما قد يصح الاستئناس به في هذا المقام ما أخرجه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر, فقال لها: اتقي الله واصبري, فقالت: إليك عني, فإنك لم تصب بمصيبتي, ولم تعرفه, فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم, فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فلم تجد بوابين, فقالت: لم أعرفك, فقال عليه الصلاة والسلام:"إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
وقد نقل ابن حجر – رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث عن الخطابي –رحمه الله- قوله:"المعنى: أن الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ما كان عند مفاجأة المصيبة, بخلاف ما بعد ذلك, فإنه على الأيام يسلو- أي: يُكشف-".
فقد علم الشارع الحكيم طبيعة النفس البشرية, وأن حزنها مع الأيام يخف ويضعف, فرتب ثواب الصبر على أول حدوث المصيبة, لا على ما كان بعد ذلك.
وعندما يعلم المرء هذه الطبيعة, فإنه لا بد أن يدرك أنه مهما كان الحزن على فقد حبيب شديدا, فإنه لا بد يوما أن يضعف ويضمحل, مما يخفف عليه ما يجده عند "الصدمة الأولى".
وكما أن العلم بالتعلم, والحلم بالتحلم, فكذلك الصبر بالتصبر, ومن يتصبر يصبره الله.
وقد قالت أم سلمة عندما فقدت زوجها أبا سلمة – رضي الله عنهما- :"اللهم أجرني في مصيبتي, وأخلف لي خيرا منها", وهي لا تظن أن هناك خيرا من أبي سلمة, فأخلفها الله بمن هو خير من أبي سلمة, بل بمن هو خير من الناس أجمعين, رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله أن يأجرنا في مصابنا في فقد أحبتنا, وأن يبدلنا خيرا منهم.
شكرا, والسلام عليكم.