هل عاد بدر؟



أخذت سوسن بتحريك الملعقة في شوربة "الدجاج بالذرة" محاولة أن تقلل من حرارتها, وكانت دوائر أخرى مشابهة لتلك التي نتجت عن تحريك الملعقة في الإناء, قد تحركت في ذهن سوسن. الملعقة كانت "باقة الزهور الصفراء", أما الدوائر فكانت عديدة, أكبرها "هل عاد بدر؟".
"يا الهي! ماذا أفعل لو عاد بدر؟ لماذا لا يتركني وشأني؟ ألم ينته ما قام بيننا؟ أيعقل أن يحاول اقتحام حياتي بعد كل ما قلته له؟ ألم تكن أسبابي التي ذكرتها مقنعة وهو الذي يقدس العقل؟ ولم تكن دوافعي منطقية وهو الذي يقدس الموضوعية؟..."
وهكذا توالت الأسئلة عليها, بينما أخذ حامد يقول وكأنه يحدث نفسه:"كيف لي أن أحتسيها وملحها ناقص والذرة سيئة الجودة وقطع الدجاج كبيرة الحجم... أتسمى هذه شوربة دجاج بالذرة؟"
لم تكن سوسن تكترث لما تقول, إنها تفكر في أمور أهم من تذمره وانتقاده الدائم للطعام المعد.
بعدما انتهيا من احتساء الشوربة, طلبا من الخادمة زينب إحضار الطبق الرئيسي. كان طبق اليوم يابانياً, فلا يستعصي أي لون من ألوان الطبخ ولا أي جنسية من جنسيات المطابخ على الطباخ ومساعده, ولم تعني الأدوات والأجهزة الموجودة في المطبخ إلا مضاعفة إمكانياتهما.
كان ترياكي دجاج مقدم مع "النودلز" والخضار المسلوقة. أخذت سوسن تقلب الأكل بالشوكة على غير عادتها, محاولة التقليل من حرارة الوجبة الساخنة, بينما شرع حامد بالتقاط العصوين الخشبيين وبدأ بالأكل بشراهة.
لطالما كان حامد يعشق الطعام الياباني, ويعشق الحضارة اليابانية. هي تذكر جيداً الهوس الذي أصابه حين قضيا جزءاً من شهر العسل في اليابان وباقيه في الصين الشعبية وسنغافورة.
انتقلت سوسن من تقليب الخضار والنودلز إلى تأمل العصوين بيد زوجها, وتذكرت حين حاولت تناول السوشي بعصوين مشابهين في اليابان, وحين تذوقته تمنت لو لم تفعل ذلك!
أنطلقت ضحكة من سوسن تخللت سكوتهما, ثم بدأت تتناول الطبق في شرود ذهني واضح.
رمقها حامد من دون أن تلحظ, كان أفضل ما يمكن وصف حاله حينها الخزن والأسى لأجلها. أخذ يحدث نفسه:"يبدو أن باقة الزهور هي التي استحوذت على تفكيرها.."
حاولت سوسن أن تشغل ذهنها بأمر آخر, فقد أنهكها التفكير في الأمر ذاته دون أن تستخلص نتيجة حقيقية.
سرعان ما توارى إلى ذهنها هوس زوجها بكل ما هو ياباني مجدداً. "كل أجهزتنا الإلكترونية لا تحمل علامة شركات يابانية فقط, بل هو يحرص على أن تكون يابانية الصنع أيضاً..." أخذت تحدث نفسها.
"بل إنه لا يقرأ الروايات كما ذكر لي, وحين وجد رباعية (بحر الخصوبة) ليوكيو ميشيما في معرض الكتاب في دورته لهذا العام لم يتردد في اقتنائها وقراءتها. كان هوسه كافياً, بينما كل محاولاتي لدفعه إلى قراءة روايات أحبها لم تجد نفعاً..."
"هو عكس بدر الذي كان يشجعني دوماً على قراءة روائع الأدب الروائي, بل هو الذي صنع مني مدمنة على ذلك..."
سرعان ما عادت إلى استيائها مجدداً, حتى محاولتها للخروج من دائرة التفكير بعودة بدر أعادتها إليه.
أنهى كلاً منهما طعامه ثم غسلا أيديهم.
توجها بعد ذلك إلى غرفة المعيشة وجلسا هناك يشاهدا التلفاز.
كان موعد النشرة الاقتصادية, وحين انتهت تم بث إعلان لشركة اسمها "ري-بلد".
لم تكترث للإعلان إلا عندما قال لها حامد:"انظري إلى هذا الإعلان جيداً.."
أخذت تشاهد الإعلان باهتمام, إلا أنها لم تجد أمراً مميزاً يعنيها.
ما إن انتهى الإعلان حتى قال:"عزيزتي, هذه شركة للحلول الإدارية تعد ظاهرة ملفتة في عالم الأعلام, ليس فقط لجودة الحلول التي تقدمها وفعاليتها, ولكن لأنها احتلت موقع جيد في السوق خلال فترة وجيزة لم تتجاوز العامين أو العام والنصف رغم أنها شركة فتية.."
كان الانزعاج بادياً على محياها, فكلامه لم يقودها إلا إلى شيء واحد, إلى بدر.
فبدر قد درس هندسة الحلول الإدارية, بينما كان تخصصها لغة إنجليزية.
أخذتها الذاكرة بعيداً, بعيداً إلى تلك الأيام الجامعية, بالأخص إلى مادة اللغة العربية التي جمعتهما. إنها تذكر جيداً حين سأل الدكتور:"من هو أول عربي يحصل على جائزة نوبل للآداب؟"
كان الطلبة ينظرون في بعضهم بعض, إلى أن شد انتباههم الطالب الذي قال:"نجيب محفوظ!"
التفت إلى ذاك الطالب, ذاك الذي فاجأها محياه الجذاب. لم تكن وسامته فقط التي دفعتها إلى تأمله في كل مرة يجيب على سؤال أو يطرح تساؤل, بل ذاك السحر الذي تشعه شخصيته الفريدة.
كانت تريد أن تتقرب إليه, فحين انتهت الحصة ذهبت إليه وقالت:"لو سمحت..."
نظر إليها, ليست هي التي أخذها بسحره فقط, فهي لم تكن تقل عنه سحراً.
***

أتمنى أن يحوز هذا الجزء على استحسانكم...
كعادتي, بانتظار تعليقاتكم وانتقاداتكم...

ولكم مني جزيل الشكر, وأزكى تحية,,,