السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذان مقالان للكاتب المبدع ( نجيب الزامل ) والذي يحمل هموم الشباب وفقه الله وجعل كل ما يطرحه في موازين حسناته ويجزاه عنا كل خير .
وتضامناً معه وسعياً للبحث عن ناجي فقد يطلع على المقالين هنا أحد يعرف ناجي فيخبره أن نجيب يبحث عنه ليحقق له ما تمناه بعد أن تفاعل الجميع مع رسالة ناجي ..
[align=center] أبكيتني يا ناجي، وأحييتَ ما مات في قلبي (1 من 2)[/align]
.. ليس من عادتي نشر رسائل قرائي، خصوصا إذا كان فيها ثناءٌ شديد، ولكن هذه الرسالة بالذات قد تكون أهم رسالة تلقيتها في حياتي الكتابية، وربما ستبقى أهم رسالة، أسلوبها رائقٌ ورصين ومتقن، وفيها من حكمة الكبار، وخبرة من صارع الزمن وصارعه، ومجابهة أسطورية لليأس وهو يرى حياته تتسرب كما يتسرب الماءُ من قبضة اليد، ولا يرى إلا أنوارا تفيض حوله وكأنه أكمل مهمته في الحياة، ولما أراد أن يسجلها ليقول للدنيا إنه كان هنا، وإن له قصة تكتب بمآقي البصر لتكون عبرة لمن اعتبر، اختارني أنا. لم أغير كلمة واحدة إلا ما حذفت، وأعتبر ثناءه لي، وتركته كما كتبه فخورا مغتبطا، تتويجا لكل ما كتبتُ حتى الآن.. ولا أريد أكثر من ذلك. أترككم مع رسالة من رسائل العمر:
"الأستاذ الفاضل، وأحب أن أناديك بعمّي نجيب الزامل، أنا اسمي ناجي محمد من الرياض، عمري ثمانية عشر عاماً، وأنا معاق، ومصاب بمرض سرطان الدم، واخترت أن أكتب رسالة حياتي، ولكن احترت لمن؟ من يمكن أن أرسل له تلك الرسالة التي أعطيه فيها رحيق حياتي التي تذوي في بداياتها.. من غيرك؟!
لا تدري كم تبعث كلماتك فيّ الحياة من جديد، ولا تدري كيف أنك تكتب بقلمك الذهبي على روحي مباشرةً، وبلا أي حائل، وكيف تعينني كل يومٍ على مواجهة زمني الرديء بمجرد القراءة لك، ومن بعيد تحيي كل ما يذوي في دنياي من ورود. كل ما فيك رائع بحق .. مقالاتك رائعة، آراؤك رائعة، أفكارك رائعة، وثقافتك رائعة .. وقد كان واحداً من أهم أحلامي هو التشرّف بلقائك، إلا أن لساني الكليل منعني من طلب ذلك .. فإنني لا أستطيع أن أراكَ إلا يوماً أقدر على أن أقول لك فيه: شكراً يا أستاذي لأنك عظيم ! هل تسمح لي أن أقبّل يدك؟ ولعل ذلك اليوم يكون في حياةٍ غير التي نعيشها الآن يا عمّي نجيب !
كنتَ لأمدٍ طويلٍ كاتبي المفضّل، ذلك لأنك تُحيل الكلمات بين يديك تبراً، ولأنك يا عمّي كاتبٌ طبيب ، معنيٌّ بأمر جروح الوطن وأبنائه، أنتَ كاتبٌ مَجيدٌ .. ومُجيد، ولذلك أحبك، وقد عزمت في هذا الشهر ، لما دخلتُ مرحلتي الأخيرة من مرضي العضال ، اللوكيميا، أن أبث كل الشجون لك .. ولا أبقي في قلبي ولا جهازي شيئا،ً ولما كانت رسالتي تلك تحوي الكثير ، أردت اختصارها .. فأعدتُ كتابتها من جديد، فهل تعذرني يا عمّي نجيب؟ كنت أريد إخبارك بالكثير..
أحكي لك قضيتي التي حاربتُ من أجلها طويلاً في المنتديات الإلكترونية، المكان الوحيد الذي يسعني فيه أن أحارب، فصوتي لا يصل، أنا أخرس. وعزمت على نقل صوتي لك يا عمّي نجيب .. أوقن أنه سـيُسمع بلسانك، وهي آخر محاولة لي، كي لا أموت، فتموت بموتي القضية ..
ولدتُ إنساناً طبيعياً صحيحاً، وكانت لي آمال واسعة وطموحات عريضة، وأحلام بمستقبل مشرق.. حتى ذلك اليوم الذي أصبت فيه بحادث سير رهيب، قبل أربع سنوات .. تركني أخرس، ومشلولاً شللاً نصفياً .. والحمد لله الذي وهبني بفضل منه ورحمة عمراً جديداً، فقد كنت أنازع الموت، وأراه قاب قوسين أو أدنى .. إلا أن الله شاء لي أن أعيش، وله الشكر ما حييت.
عدتُ لإكمال دراستي، وكنتُ في بداية مرحلتي الثانوية، وما زال حلمي القديم الذي يراودني منذ طفولتي، في أن أكون محامياً شهماً يحدو عزمي وأملي في ذلك الطريق الشائك الوعر. يحتاج المحامي لساناً قوياً، وأعلم أنني لا أملك ذلك .. إلا أنه طموحي الأزلي، ورغماً عني، تركتُ حلمي الأول.
وأصررتُ أن أكون طالباً في مدرسة خاصة عالية المستوى للأصحاء، لأنني لا أعتقد أنني أقل منهم، ولأن قلمي كان يعمل في أوراقي طوال الوقت، وهكذا أستطيع التفاهم مع الجميع بلا مشكلة .. رفضت أن أعتزل الناس، وخرجت للعالم محاولاً أن أكون ناجي الذي يحب حضور المحاضرات والندوات الثقافية، ناجي الذي يهوى الأمسيات الشعرية، ناجي الذي يعشق معارض الفنون، وناجي الذي يرغب في أن يتعرف على أصحاب جدد.
مع كل رضاي بهذا القضاء، وإيماني بأن الله تعالى لا يكتب لعباده إلا ما هو صالح لهم، إلا أن الإحساس بالعجز يا عمّي نجيب يكون أمراً مؤلماً وجارحاً أحيانا .. وناهشاً في اللحم، ناخراً في العظام، في أحيان أخرى، ولا سيما أن الأجواء المحيطة لم تزد على كونها أجواء محبطة ..تخرجتُ في الثانوية العامة أخيرا بمعدل 99.3 في المائة، واعتقدتُ أنها نسبة جيدة تتيح لي مجالاً واسعاً لأن أختار بنفسي ما أريد دراسته من تخصص، إلا أنني فوجئتُ بأن الجامعات في بلدي تستثني المعاقين من قائمة المستحقين للانتساب لها بأسباب أو بأخرى .. وكأنما هو فرض علينا أن نعيش أسراً أبدياً في إعاقة أجسادنا .. ثم نموت رهن القيود !
عملتُ حتى فترة قريبة في الرسم وبيع لوحاتي وإن كنتُ أتمزق في داخلي، فبيع اللوحات عندي هو أشبه ببيع الأبناء .. لكنني مضطرٌ لذلك، سعياً وراء مصدر الدخل المنشود، فقد أصبحتُ رجلاً .. وحرامٌ علي أن أكون عالةً على أحد ..مجتمعي يعاملني وكأنني عالة عليه، فهل من الأفضل لنا أن نموت يا عمّي نجيب، فـنريح الأصحاء من همّنا؟ هل أننا نزاحم الأصحاء بكراسينا المتحركة في هذه المساحة الضيقة؟ فهل تستحق منكَ هذه القضية وقفة؟ إنها غصة في حلقي، لعل بالبوح بها تفيد غيري من الذين ما زالوا يعانون .. أما أنا فارتحالي قريب. أحبك يا عمّي نجيب .. وكفى!
أخيرا: أسألك الدعاء، وتبرئة الذمة ..".
[align=center] الجزء الأول من المقال [/align]
[align=center]أبكيتني يا ناجي (2 من 2)[/align]
كان مقال السبت الماضي الذي نشر به رسالة ناجي محمد من الرياض، الفتى البالغ من العمر 18 ربيعا، والمصاب باللوكيميا، مثار ردود أفعال بالمئات من أقصى البلاد إلى أقصاها، رسائل، ومكالمات، من جدة, الدمام, الرياض, القصيم, الشمال والجنوب، والكل يريد أن يقدم شيئا لناجي.
أطباءٌ من جمعية السرطان في الداخل، وفي الخليج ومن مصر ولبنان والجزائر وفرنسا وأمريكا وكندا كلهم مدوا يدا واحدة من قلوبهم ليساعدوا ناجي بأي شكل من الأشكال.. على أن ناجي محمد لما أرسل لي رسالته قد كان هو الذي يساعدنا، هو الذي يحاول أن يقومنا، هو الذي يعرض حال القصور في بعض ميادين بلادنا ومجتمعنا، وهو كما قال، يكتب رسالته الأخيرة في الحياة، طلب مني أن أعده ألا يلقى ضعيفٌ ذُلاًّ في وطنه، وأن يقاس الإنسان برأسه وأفكاره، وليس بشكله وقوة عضلاته.. كان ناجي الشاب الصغير يريد أن يساعدنا وهو يصارع المرضَ العضال، والشللَ، وعدم النطق.. وساعدنا بالفعل، أيقظ مكامن الخير في الناس، وما رأيت سيلا من الخير غمرني مثل ما فعل الناس تجاوبا مع ناجي..
ولكن ناجي لم يكن يريد منا شيئا، ولم يكن يريد من الدنيا شيئا، من كل قلبه الحي ومن وجدانه الذي بقي منيرا ثابتا رغم عِلـَّة البدن وضمور العضل أراد منا أشياءً بالفعل.. ولكنه أرادها لنا، ولم يردها له، وكأنه يقول رضيت أن أترك تجربتي لكم في الدنيا لتتعظوا، وتصححوا أخطاء مجتمعكم. ووصاني أن أقف مع من أصابهم ضمورٌ جسدي وبقيت عقولهم فائرة بالذكاء حتى لا تلتهمهم سوء المعاملة، وضلال التقدير، وقسوة الإهمال. وكأنه يهمس في روحي: "أنا أرحل مقيدا في الدنيا ليس بعجزي، ولكن بعجز الناس أن يروا قوتي.. وسأذهب إلى مكان تنطلق بها كل قواي معانقة الخلود..".
أريد أن تتعلم أجيالنا الطالعة من صبيٍّ منهم، صار له حادث في سنوات عمره الزاهية، وكان ولدا عاديا ذكيا نشطا ثم تأتي سيارة وتنهي كل ذلك وتتركه بلا قدرة على أهم ما نعبر به مسالك الحاضر والمستقبل، القدرة على المشي والقدرة على الكلام، ولكنه لم يستسلم، ولم يقبل أن يقال إنه معوق، أو يلتحق بمدارس خاصة، بل ذهب مع الأولاد العاديين في المدارس الحكومية العادية حتى أنهى الثانوية متفوقا على أقرانه المكتملين بدنا وعضلا.. إنه، وبربِّي، درسٌ على المثايرة، والإيمان بتعويض الله، والشجاعة ومصارعة الإحباط، والتفوق على بواعث اليأس.
وأهم ما في ناجي رغم إصابته، رغم من تعدى عليه وسلبه جمال شبابه، ونضارة عافيته، أنه كبُر قلبه بالحب حتى كاد يقتات عليه كيانُه طاقة ووقودا.. ولم تنمُ داخله ذرةٌ إحباط أو كُرهٍ أو انتقامٍ أو شكوى أو سؤال واحدة، بل بقي مرفوع الرأس، يغرف من معين الرجولة والثبات وهو في سن صغيرة..عمل ناجي في شركة وطـُرد، ثم راح وهو الموهوب برسم اللوحات ويبيعها ومع كل لوحة يبيعها يودعها باكيا وكأنه يبيع أحد أبنائه.
الصغير ناجي هو معلمي الكبير، هو منارتي الهادية، وأفكاري مثل قارب خشبي صغير تتلاعب به أمواج الظلام وتلمس الأخطاء ونفض اليد من الأمل .. والمنارة بشعلتها الصغيرة قادتني إلى بر التفاؤل والأمل. علمني ناجي أن أطالع مصادر الفجر، وألا أغرق في الظلمة المنسحبة.. علمني أن قوة الإنسان بلا حدود، متى آمن بأن الله معه وهو يقدر له، وقدرة الله بلا حدود.
والعجيب أن ناجي تفوق في الثانوية إلى حدود الدرجة الكاملة وبدل أن تتيح له الجامعات مكانا سنيا، وتعتز بالتحاق شابٍّ مثله بها، رُفض كما أخبرنا لأنهم حسبوه معوقا، وأقولها صراحة في رمضان وأمام الله إن من رفض ناجي محمد المتفوق المشلول الذي لا ينطق.. هو المعوق!
قابلت مدير جامعة من جامعاتنا، ووعدني بأن يزودني بمعلومات عن هذا الموضوع، وألا يسمح له بأن يتكرر في جامعته، ومن يدري فقد يغير ناجي محمد وهو يباري الموت الصيغة الجامعية في بلادنا وينفخ فيها روحا جديدة مليئة بالحياة.
حتى كتابة المقال، حاولت الاتصال مرة أخرى بناجي محمد عبر بريده الإلكتروني، ولكن محاولاتي راحت هباءً، وأرجو ألا يكون قد حصل له ما يحزنني فقد كنت أود أن أطل عليه وأقبل جبينه..
أرجوك يا ناجي، أو من يعرفه، إن قرأ المقالَ أن يتصل بي عبر الجريدة أو من بريدي الإلكتروني، وإن كان مسجلا في أحد مستشفيات العاصمة أرجو تفضلهم بإبلاغي..
ناجي محمد، لا تتركني.. ما زلت أحتاج إليك.
[align=center] الجزء الثاني من المقال[/align]
[align=center] دمتم بخير [/align]