في مجلس بدا وكأنه لا يضم نساء, مرت لحظات ليتنفس هدوءاً كاد أن يكون صمتاً لولا صوت العجوز .. محاولة فاشلة كالعادة لاستيعاب ما تقول عندما تبدأ في الحديث مع طيف لا يحس به سواها..
ولا شيء يعلن تسليمهن بفشل المحاولة سوى سؤال هو آخر سبيل لإشباع فضولهن:
ماذا تقولين يا خالة "منيرة"؟
تصمت فجأة تدور عليهن بعينين ترتعشان قلقاً وخوفاً قديما.. على شفتيها ابتسامة باردة لا أحد حاول أن يفهم معناها.. تبقى صامتة في انتظار لأن يستأنفن نسج شبكة معقدة من القصص والأحاديث الفارغة فينشغلن عنها كما كن دائماً, لا شيء أعاقهن عن ذلك سوى طفل الخامسة الذي وقف أمامها يحدق فيها.. لتنهره أمه: "ولد! مع أقرانك هيا".
انفض المجلس وعادت "منيرة" إلى غرفتها.. رائحة تخمر الفرش تفوح منها, ولا أحد يحتملها غيرها و شخص آخر يشاركها دفع ثمن ذنب لم يقترفاه.. هناك لاشيء في مكانه الصحيح.. غرفة خالية من أي شيء سوى أثواب معدودة كومتها مفرقة على الأرض؛ بجانبها خزانة ملابس فارغة تقشرت صبغتها بعد أن غسلت بالماء مراراً؛ قطعة مرآة مكسورة ملقاة بإهمال في مكانها الدائم قريباً من الخزانة فهي لا تستخدمها أبداً.
في الزاوية الأخرى من الغرفة سرير حديدي جلب لها خصيصاً كي يقاوم الماء عندما تراودها نفسها بغسله..
علاقتها مع الماء غريبة, تعشق الاسترخاء تحت الماء المتدفق من الصنبور المفتوح عن آخره..
هي تشبه السلحفاة!
لا تستطيع أن تعيش بعيداً عن الماء, لاشيء يمكن أن يمنعها عن ترطيب جسدها من وقت لآخر, وتضطرب كثيراً عندما تجف ما ترتديه من ملابس..
و لو سئلت عن أمنيتها الوحيدة, لأجابت أن ينفد الماء, ولو قيل لها لماذا؟!
لن تجيب, بل ستكتفي بالنظر إلى السائل والابتسام كعادتها عندما تصل الأسئلة اللزجة إلى حدود ذاكرتها, ومستنقع من الآلام القديمة, والمخاوف المتجددة منذ أكثر من خمسين عاماً.. عندما كانت وردة تحت العشرين تسكن بيت الطين في المزرعة, حملت ابنتها البكر من مهدها لتضعها بجانب حوض كانت ستعده لتغسلها به, وما هي إلا دقائق استغرقتها في جلب ماء دافئ, حتى عادت مسرعة على أثر صرخة ابنتها, حملتها, احتضنتها, عرت ثديها في محاولة فاشلة لإرضاعها, لازالت تصرخ, حتى تسمرت عينا "منيرة" على شيء تحت قدميها, فقدت الوعي بما حولها ماعدا تلك العقرب السوداء التي تدب مبتعدة عنهما, الصمت وحده أعاد لها وعيها بجثة ابنتها..
بعد أيام معدودة ظن الجميع أن "منيرة" قد دفنت آثار الحادث مع ابنتها ولم تبقِ لحاضرها منه شيئاً, عادت لمزاولة حياتها مع زوجها, حملت منه مرة أخرى, لاشي كان يعكر صفو حياتهما سوى الاضطراب الذي يصيب شخصية "منيرة" من وقت لآخر , شخصوه مساً.. لم تكن تعي منهم سوى عصا الخيزران التي تلسع جسدها من كل مكان, وصياحهم: "أخرج وأنت رجيم, أخرج"
تصرخ, تئن .. ولا فائدة ..
لا أحد يستجيب, ولا أحد يحاول أن يفهم.
تقاربت أزمان النوبات حد الديمومة, ألقوها في غياهب مظلمة باردة حد الصقيع, مرت أشهر ثقيلة زادت حملها أيدٍ آثمة اقتلعت شرياناً آخر من قلبها, ذلك الرضيع الذي أنجبته, رمى زوجها عليها اليمين و أرسلها لدارٍ تبقي عليها حية.
كان يكفيهم أن تكون بعيدة عنهم لينسوا, لا أحد كان يزورها .. لا أحد.. سوى ابنها بعد واحد وعشرين عاماً من الوحدة؛ الألم؛ ومصاحبة الجنون.
يدخل ابنها الغرفة حاملاً العشاء مبتسماً, وفي محاولة لإعلان وجوده سألها:
هل تحدثينني حفظكِ الله ؟
-لا يا ولدي, هذه أختك تقول ألا ننتظرها على العشاء قد تبطئ المجيء.
.....
الشمـــــس