أحرف خجلى تتعثر بين أقلامكم المبدعة..
تأمل أن تنال نصيبا من آرائكم فلا تضنوا بها ..
قصة قصيرة ها هي بين أيديكم ..
[ALIGN=CENTER]وريقات التوت ..[/ALIGN]
*عندما ترحل الأحلام , وتتناثر وريقات التوت القرمزية , لحظتها .. تحطمت تلك الشجرة وتهشمت أغصانها , وسحقت ثمارها أقدام دنسة , ولدت أنا وماتت شجرة التوت ...
* تـفتقت وردة عمري على شظايا من قنابـل لا تذر شـيئا أمامها , وسماء تـغشـاهــا (حمائم فولاذية) ! هذا ما أخبرتني به أمي في طفولتي , لعب صغيرة متكسرة هي كل ما كنت أحصل عليه , وأوحال الهور الرطبة أقصى ما تصبو له روحي الصغيرة ..
* كنت أعشق الحديث عـن قريتي بالرغم من أنها لم تكن الأفضل بين القرى , وتَكـشَّـف لي أن أولئك البشر ينظرون إليها من خلال نافذة ضيقة تحجب كل الجماليات الرائعة , و الأرواح العظيمة التي تسكن هنا , وتُغلَق هذه النـافذة التعـسة على صور بشـعـة خالية من الجـمـال الروحـي .. هـكـذا نـظـروا لقريتي ..
* بعد سنوات قصيرة من دخولي عالم الأجساد الأحمق , وجدت نفسي بين أمي و اخوتي في إحدى الحافلات التي تلاصَق بها الركاب بشكل أثار اشمئزازي وأشعرني بالاختناق .. قبلها كانت أمي تحزم الحقائب ونشيجها الحزين يخترق صمتنا الواجم , لم أدرِ لم هذا البكاء وهذه الدموع ,مشاعر متناقضة عاشت بداخلي فَرِحة لأننا سنخرج من القرية لأول مرة في حياتنا وخائفة من ذلك المجهول الذي ينتظرنا غصة خنقتني وأنا أنظر إلى قريتنا من خلال نافذة الحافلة وأطلال المنازل تتهادى من بعيد بكبرياء وشموخ لا مثيل لهما , دفنت وجهي على صدر أمي وأغمضت عينيّ وكلي أمل أن نعود لمنزلنا قريبا ..
* أذكر جيدا بيتنا الطيني والحمامات البيضاء تسكن فوق سطحه , وحل الهور الذي لطالما تعانق وساقيّ الناعمتين , ماؤه البرود الذي ينساب بين يديّ بسلاسة , نخيل المزارع ورائحتها المألوفة , كل ذلك كان مرسوماً في مخيلتي ويأبى أن يندرج تحت مسمى النسيان..
* أعوام مـضـت في بلد الغــربة بدا لي أن العــودة إلى القرية أو حتى التــفكــير بذلك ضرب مــن الجنون وسابعٌ من المستحيلات , فقط ذلك اليوم تأكد لي أن القرية قابعة بين ثنايا أحشائي وحبها متغلغل وسط أضلعي ..
* لحظةٌ مرت كلمح البصر لكنها تتجسد أمامي كل حين , سيارة مجنونة تتخطى الطرقات بسرعة رهيبة .. قدماي تسيران مهرولتين صوب الرصيف .. أركض و أركض .. تطايرت كتبي بعشوائية و ارتطم جسدي الطري بسطح الشارع الإسفلتي وفقدت وعيي ..
*في تلك اللحظة المريعة تمثلت لي صورة مدهشة.. شجرة التوت أمام بصري تهتز بقوة ولكأنها تود أن تتحرك وترحل من مكانها المعتاد , أوراقها تذهب مع هبوب نسمات الرياح و تمر عند نافذة غرفتي .. اختفت الصورة وتغشّاني الظلام .
* الملاءات البيضاء مترامية من حولي , صوت بكاء مكتوم بجانبي , اخوتي الصغار يتسابقون حول سرائر المستشفى , فتحت عينيّ بصعوبة ..نظرت إلى أمي بخوف وقلت : وريقات شجرة التوت !
* تغيرت ملامح أمي وحانت منها إلتفاتة إلى وجهي الذي اصطبغ بسمرة محببة , أزاحت خصلات شعري الكستنائي عن عيني وأمسكت بكفي بحنان بالغ ..
* دارت في خلدي قصص كثيرة وأفكار عجيبة لربما تأثرت من كثرة مشاهدة الأفلام .. أردت أن أعرف سببا لما فعلته أمي وردة فعلها التي حاولت إخفاءها لكنني أبدا لم يخطر ببالي ما روته لي أمي الغالية..
* اعتدلت في سريري وتأهبت لسماع شيء مثير وغريب!! لا أدري لم كان هذا الشعور يسيطر عليَّ ؟ أرهفت أسماعي وانتظرت البداية ..
* رفعت أمي رأسها للأعلى وتطلَّعت إلى البعيد كأنها تحاول استعادة جزء مخبوء في تجويفات الذاكرة , خرج صوتها مبحوحا تشوبه تلك اللكنة العراقية الجميلة التي لم تتخل عنها والدتي بالرغم من هجرتنا لسنوات طوال قالت لي: كنا أسرة متحابة متعاونة , لم يكن الفقر وقلة المادة يؤرقنا , ولكن ما نغصّ علينا هو أننا - أنا ووالدكِ- كنا نحلم بطفل كأي زوجين وهو حلم طال أمد انتظاره حتى لاحت بوادر اليأس لنا , خبت همتنا وبدا الفتور والملل يسود علاقتنا , ولكن.. و في يوم ربيعي دافئ جاءنا خبر من المستشفى بحملي , لن تصدقي مقدار فرحتنا , كنا أسعد إنسانيين في عالم الوجود ..
* أطلَقَت زفرة خافتة تبعتها دمعة هاربة من عيني والدتي ثم تابعت : طابت لنا الحياة وحلّ السعد رفيقا لأرواحنا الهائمة في سماء المحبة , واحتضن بيتنا المتواضع أياماً ملؤها البهجة ..
* وحدها شجرة التوت كانت تعارض الفرحـة , لا أدري ما لسبب في ذبولها وتساقط وريقاتها البديعة , كنت أذوب أسىً لمرآها تفنى , داومت على سـقياها ولو كان بيدي لرويتـها من دمائي , ونميتها بضـياء عينيّ , أصدقكِ القول يا ابنتي لقد أحببت شجرة التوت وددت لو أنكِ ترينها وتحبينها مثلي لكنها لم تبقَ..
* قاطعت أمي متسائلة بفضول: أماه .. هل ماتت شجرة التوت ؟! نظرت إلي بعينين ملؤهما الغضب والقهر: لم تمت .. بل قُتلت ! علت وجهي إمارات الذهول في حين أكملت أمي : لا يأخذنكِ العجب نعم قتلت شجرتي ففي يوم ولادتك وحين عدت من المستشفى وجدتها محطمة الجذع , مهشمة الأغصان , وقد تناثرت وريقـاتـها القرمـزية من حـولها وتبعثـرت ثمارهـا في أرجاء حديقة المنزل ..
* وقفتُ مشدوهة أمامها لبضع لحظات لم أتمالك نفسي وانفجرت بالبكاء, قد تستغربين بكائي عليها قد تقولين أنها مجرد شجرة توت لكنها تعني لي الكثير .. الكثير.
* زرعتها بيدي الصغيرتين , وكنا نتناوب على ريها أنا وأخوالكِ , نجتمع حولها في أيام الشتاء الباردة وعلى وهج النار تسرد لنا جدتي حكاياتها الممتعة , تحلق أحلامنا و تمر بجانب شجرة التوت, تسجل حضورا أمامها , كنا نرسم مستقبلنا معها , ونخطط لواقعنا بها , عشنا معها وعاشت معنا .. وعندما رحلت رحل معها الكثيرين أيضا ..
* سكتت لبرهة ثم استرسلت وهي تحاول كبت غصتها : غارة جوية على القرية , وفيما كانت خيوط الفجر تتشابك وخيوط الظلام , دكّت الصواريخ تلك البيوت المتراصة بحب وعشق لا متناهي , شوهت المعالم الهادئة , ونالت من بقايانا المتهالكة , غيرت حياتنا وسلبت منا الكثير من الأحبة قتلتهم ودمرت آمالٌ مبنية على ضفاف الهور ..
* أسندت رأسي إلى حافة السرير وخنقتني العبرة ..كلمات متقطعة خرجت من بين شفتي . تأملت أمي بصمت , لم أجرؤ على النطق احتراما لحزنها ضمتني إلى صدرها ومسحت بكفها دموعي الخجولة , أبعدتها عني بلطف وأمسكت ورقة وقلما ثم كتبت: حين نبذني رحم أمي الدافئ وألقى بي في عتمة الديجور بحياة قاسية لا تفرق بين طفل ريان العود وكهل متداعي حانت نهايته , تعلمت أن أبكي بصمت وأحلم بصمت وأتألم بصمت ,عرفت أن الحب والأمان مفقود منذ دهور , حتى شجرة التوت لم تعش حياتها , صامدة أبية خاضت معركة غير متكافئة , لقد رحلت من عالمنا , لكنها حتما لن ترحل من قلوبنا.. ( أعشقكِ يا وريقات التوت القرمزية ) كانت هذه الجملة آخر ما خطته أناملي في ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه حقيقة العالم ...
تمت بحمد الله
3/3/1424 هـ .. 4/5/2003 م
تحية روحية ..
أختكم
محراب الروح