الناجي من الموس (قصة تجريبية).
وعندما ارتجّ خرطوم المياه الحارّة وخرجت منه دفقات سريعة متقطّعة، هرع الرجل إلى إيقاف الماء المتدفّق، وقال إنه استغرق في التفكير فطال بذلك وقت استحمامه حتى حدث هذا الخلل في سخّان الماء، وإذن فنحن في طقس بارد. ونظراً لانشغاله بالتفكير في مخاوفه من نتيجة اللقاء المنتظر، فقد سحب في البداية موسى الحلاقة ليستاك بها! ولم يفلح في تحديد هويّتها إلا عندما كاد أن يتوّجها بالمعجون ويزج بها في فمه! هذا جزء من أجزاء الاحتمالات التي لا يجد أيّ شخص متوتّر نفسه بمنأىً عنها. واحتمالات الخطأ لا ترد على شخصيّات القصص وحدهم، بل هي على كتّابها واردة أيضا؛ فالكاتب عندما كتب النص السابق وقع في فخّ معرفيّ؛ فقال إنّ البطل لم يكن يملك سمع أفعى، وأحوجه هذا الإطلاق اللفظي التخميني إلى تولّد شكّ ملتبس في نفسه، والشكّ في مدلولات الألفاظ شرط أساسيّ من شروط أي كاتب. وهكذا أسرع إلى الموسوعات ليستبدل بالكلمة الأولى كلمة أخرى أصدق دلالة، فقال: له سمع خفّاش. وبهذا يمكننا أن نتصوّر أن النصين ترابطا، وليس لأن بطلهما واحد كما يظهر. بل يهمّ أن يقال إن الرجل الذي نعرض الآن ما يجري له قد يكون ذات الشخص السابق في قصة الظلام، لنقل إنها إمكانية مفتوحة، وإلى الآن لا توجد نيّة مسبقة لجعل الشخوص متعددين ولا لتوحيد النصوص على شخص بعينه؛ وجعلهم متعدّين قد يعني عجز الكاتب عن وصل الأفكار المتباينة في خيط سردٍ موحّد، والعكس قد يعني محاولة شكلية ذرائعيّة لإفراد ما هو متعدد في أساسه على أمل أن يكوّن نصا يمكن الاعتزاز بوحدته وطوله! ونظرا لقصر المساحة المتاحة ليبدوَ النص شديد القصَر فإن المحادثة بين الناجي من الموس وبين صديقه لن تتضمّن جلسة طويلة في مساحة الوصف، بل يُفترض بها أن تتعرض للمكان والموصوفات بإلماحات مكثّفة وسريعة، أو أن تجنح إلى تهميش للمكان بتغيير الظرف، كأن يكون الحوار مكالمةً. وعلى أيّ حال، ومهما يَقُلِ النقدُ فإنّ المواعيد المطوّلة والجلسات المعقّدة يتمّ الإعداد لها مسبقا باتصال كهذا. كان الناجي من ورطة التسوك بالموسى قد اتصل هاتفيّا بصديقه وهو نائم، وأجابه الثاني وهو في حالةٍ ما بين يقظة ونوم، وما داما قد التقيا الآن فإننا لن نختار مكانا عامّا لا يليق بخصوصيّة الموضوع، خاصة أنّ الناجي من الموسى يعاني فوبيا مختلطة بين مخاوفه الصحية وأخرى تتعلق بمستقبله المغلق، المؤكّد أنّ صديقه كان يضغط على نفسه لئلاّ يشعر بالسآمة، ولكن استمرار الرجل الجالس معه في الحديث بهذه السوداويّة حرّك فيه شفقة، ولكنه إشفاق مجرّد، تعاطف صادق، لكنه خالٍ من النية في المشورة أو المساعدة. استمرّ الرجل يروي مخاوفه المتواترة تواتر حبات المسبحة، المرض المعشعش في أمعائه، بوادر فقدانه للحضور الاجتماعي مع اهتزاز وضعه العائليّ، والخلافات التي يفكّر معها في الخروج إلى بلد غربيّ مدّعيا أنه لاجئ سياسيّ، لكنه يخشى أنهم إذا قبلوه لاجئا فلن يملك الفرصة ليعود إلى هنا لاحقاً. كان واضحا لصديقه أنّ هذا الشخص الماثل أمامه يستحقّ الشفقة، ولكنّه يجنح عن المعقول ويتلذّذ بتعريض نفسه لاحتمالات لا إمكانيّة لحدوثها. وودّ لو يستطيع أنْ يجيب على مخاوفه بطريقة تبسيط الكسور، بأن يقول له مثلا: "مخاوفك تافهة يا أخي، دعنا نتحدث في موضوع آخر ما دمنا قد التقينا".
وما دام لا يستطيع استعمال هذه الطريقة، مراعاة لحق الصحبة والصداقة، فإنه سكت واكتفى بالسماع، وهو يقول في نفسه:
- متى تنتهي أيها الفاقد حتى أتفرغ لمشاغلي.
هنا ينتهي السرد، مؤكدا تجاهله للأوصاف المكانية والمناخيّة والأشياء المحسوسة التي لم يعرضها سريعا بالكثافة المطلوبة. وإلى الآن، حتى بعد انفضاض اللقاء بوقت طويل، ما يزال الصديق المستشار يعتقد أنّ المخاوف التي سمعها بالتفصيل تتهاطل من أشداق صاحبه لا تعدو كونها احتمالات واهيَة لغرض الفضفضة، ولا إمكانيات لحدوثها، في حين أن الناجي من الموس في تلك الحادثة المحددة بهذه التسمية لا يزال يفكّر فيها بجدية منقطعة النظير.