بسم الله الرحمن الرحيمعودة ثالثة ليوسف المغلوب على أمره 0000 ومع السقاية والصواع والمتاع
ويوسف عليه السلام يقرأ بيوسُف، ويوسَف، ويوسِف،
ويقرأ في غير القرآن الكريم بيؤسُف، ويؤسَف، ويؤسِف،
وقلنا إن اشتقاق اسم يوسف عليه السلام جاء من الأسف،
والأسف هو الغضب والحزن على شيء قد فات ولا سبيل لرده أو منعه.
فمن ذلك تكون ترجمة اسم يوسف عليه السلام: هو المغلوب على أمره، والذي ليس أمره بيده.
والأسف على نوعين :
: أَسَفٌ على ما فات، ولم يكن هناك سبيل لتغيير ما حدث، أو منعه، أو استرداده.
كما في قوله تعالى: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) يوسف.
: وأسفٌ على عدم الاستجابة للمعطيات والبراهين والآيات؛ أو الثبات على الهدى؛
كما في قوله تعالى:
- : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) الكهف.
- : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ ... (150) الأعراف ... كلما عرضت لهم فتنة وقعوا فيها.
- : (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) الزخرف.
أي أغضبونا؛ لأنهم لم يستجيبوا للإيمان ويتحولوا عن الكفر، على كثرة الآيات التي أرسلت إليهم، ولا سبيل لهم للخروج من كفرهم وضلالهم، وذلك من تسلط فرعون عليهم، وتحكمه فيهم، فكان أن غضب الله عليه وعليهم فأغرقهم جميعًا.
هذه زيادة توضيح للمادة التي كان منها اسم يوسف عليه السلام.
فكل اسم يسمى به أحد الناس ابتداء، يكون له سبب جعل صاحبه يتميز به على بقية الناس، ثم يتداوله الناس اقتداء أو تشبيهًا، وكذلك الأشياء .... فمراعاة سبب التسمية ملاحظ في القرآن، ومنهج قائم فيه.
ونأخذ مثالاً على ذلك من سورة يوسف عليه السلام؛ وهو تسمية أداة الكيل بالسقاية، ثم الصواع، ثم المتاع.
قال تعالى: (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) يوسف.
سمى أداة الكيل سقاية، والسقاية من مادة "سقي" وهي إحضار الشراب للشارب في مكانه الذي يكون فيه، لذلك كانت أداة الكيل يؤتى بها لإفراغ ما فيها في أوعية أخوة يوسف، وهي مثبتة على ظهور دوابهم، فسهل دسها وإخفاؤها في وعاء أخيه، ورجوع الفتيان بدونها دون أن يلحظ أخوة يوسف ذلك.... ثم تغير اسمها إلى صواع.
: (قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) يوسف.
سمى الأداة في هذه الآية بالصواع، والصواع من مادة "صوع" وهي للتفريق،
ومن يملك هذه الأداة؟ .... الملك.
وعلى من يفرق الملك؟ .... على الرعية.
وماذا يعني ضياعها ؟ .... تعطيل شئون الرعية.
وماذا يسمى هذا الفعل؟ .... إفساد في الأرض لكثرة المتضررين منه؟
وما المكافأة لم يأت به؟ .... حمل بعير .... وهو ثمن أكثر من ثمن الأداة.
حمل بعير فقط ؟ .... لا .... وتغطية على فاعله حتى لا يصل خبره إلى الملك، والزعم خلاف ما وقع، لئلا ينال الفاعل عقابًا شديدًا منه.... وحتى لا يرفعوا شكوى للملك مدعين أنهم ظلموا.
فما أثر اتهامهم بسرقة الصواع ؟ .... نفوا عن أنفسهم الإفساد في الأرض أولاً قبل نفي السرقة، لأن الإفساد في الأرض أعظم من السرقة نفسها: (قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) يوسف.
انظر إلى دلالة كلمة صواع ... كيف أرهبتهم!
فهل تصلح سقاية محل صواع في هذا الموضع؟ أو تصلح صواع محل سقاية؟
وانظر كيف ضخم ذنبهم بتسمية أداة الكيل بالصواع ونسبتها للملك 00 لينتزع منهم الحكم باستعباد أخيه، ليبقيه عنده، دون أن يشكو العزيز للملك، وهم لا يشعرون بهذه المكيدة التي دبرها يوسف عليه السلام لهم: (قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) يوسف.
ثم يتغير اسم أداة الكيل مرة ثانية إلى ... المتاع.
لما صدم أخوة يوسف استخراج الأداة من رحل أخيهم، وقد حكموا باستعباده من قبل أن تصل الأمور إلى هذا الحد، فأوقعهم هذا الحدث في مشكلة كبيرة مع أبيهم، أما التضحية بأخيهم فأمر دون الأول، فقد اتهموا أخيهم بالسرقة، وقد تُعلل سرقته في نظرهم للتخلص من أخوته، واستبقائه عند العزيز بعيدًا عنهم، وسالمًا من آثار المجاعة في ديار أبيه ... ولعلهم أيضًا لاحظوا اهتمام العزيز به، وتفضيله عليهم، وقد قال لهم من قبل:(أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) يوسف، فالبقاء عند العزيز مكسب ونعمة .... وقارنوا حالهم الحاضر مع حالهم مع يوسف من قبل... هم يذهبون للرعي، ويوسف جالس في حضن أبيه، قد استحوذ على محبته، فاتهموا يوسف الذي يأسر القلوب بمحبته أيضًا بالسرقة: (قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَانًا وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) يوسف. لعل في هذا الفهم خير من إسرائيليات الله أعلم بصحتها.
فما الحل عندهم للرجوع بأخيهم حتى لا يفجع أبوهم بمصاب فقْد الابن العزيز الآخر ... وقد رأوا ما أصابه من فعلتهم الأولى ... بل إن عشرات الملايين دمعت عيونهم متأثرة بفاجعة فقدان يوسف على يعقوب، وكأن المصاب الذي أصابه أصابهم، وكأن الحدث حي ماثل أمامه لم تبرد حرارته في النفوس: (قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) يوسف.
أرادوا أن يبادلوه بأي أخ له منهم، وكأنه بضاعة، فكان رد العزيز عليهم: (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّـآ إِذًا لَّظَالِمُونَ (79) يوسف.
لماذا سمى الأداة ... متاعًا؟ المتاع: هو الشيء الخاص الذي لا يشارك صاحبه فيه غيره، ولا ينتقل من يد إلى أخرى تملكه... خلاف البضاعة التي يتغير ملاكها، وتنتقل من يد إلى أيد أخرى ... فكيف يعف عن السارق، ويبدله ببريء يوقع عليه جزاء السرقة وفعل لم يفعله؟! ... هذا من الظلم، ويصبح من يفعل ذلك من الظالمين00 فتعوذ بالله من فعل ذلك.
انظر تسميات المكيال الثلاث (سقاية – صواع - متاع) لا تصلح واحدة مكان أخرى، ولا تسد مسدها، مع أنها أسماء لشيء واحد.
إننا نكتفي في استخدامنا للأسماء إذا دلت على ذات الشيء المراد نفسه، ونكون مسرورين بذلك ... لكن القرآن المعجز في لغته يراعي فوق ذلك .... يراعي سبب تسمية المسميات بأسمائها، ويضعها في المكان المناسب لها 000 فمن يقدر على فعل ذلك في كل بيانه سوى الله سبحانه وتعالى ؟!
اللهم يسر لنا القرآن الكريم ... تلاوة ... وحفظًا ... وفقًا ... وعلمًا ... وعملاً ... برحمتك يا أرحم الراحمين.
أبو مسلم/ عبد المجيد العرابلي