[ALIGN=CENTER][ALIGN=CENTER]
العرب وتأصيل المسرح
محمد عزّام
كثيرة هي الجهود التي دعت إلى إيجاد مسرح عربي أصيل نابع من الجذور العربية ولكن الباحث الدكتور خالد عبد اللطيف رمضان هو وحده الذي جمع هذه الجهود التأصيلية في كتابه النقدي الهام (العرب وتأصيل المسرح)- رابطة الأدباء في الكويت 2000 حتى ليمكن القول إن هذا الكتاب وكتاب الدكتور علي عقلة عرسان (الظواهر المسرحية عند العرب) يشكلان البحث الأهم الذي يستقطب جهود المسرحيين العرب في سبيل تأصيل المسرح.
وإذا كانت هذه الجهود التأصيلية قد برزت في الستينيات من القرن العشرين فذلك لأن معظم الأقطار العربية قد نالت استقلالها في هذه الفترة، مما دعا إلى نبذ الثقافة المستوردة، وإظهار ما في التراث من قيم وأشكال إيجابية يمكن أن تساير العصر والتطور.
وإذا كانت بذور هذه الجهود قد نمت منذ مرحلة الرواد لدى القباني، والنقاش، وصنّوع، فإنها قد استكملت نضجها في مرحلة المؤسسين لدى: يوسف إدريس، وتوفيق الحكيم، وعلي الراعي، وسعد الله ونوس، وعبد الكريم برشيد، ممن بذلوا جهوداً كبيرة لإيجاد مسرح عربي، له خصوصيته وتميزه وتفرده عن المسرح الغربي، حيث يستند إلى تراث الأمة الغني، وفنونها الشعبية، لإكسابه الهوية القومية، بعد تغريب حوالي مئة عام.
وقد خرجت هذه الدعوة من نطاق الأفراد إلى نطاق الجماعات المسرحية التي تأسست بغية تأصيل المسرح العربي، تنظيراً وتطبيقاً، مثل: جماعة (المسرح الاحتفالي) في المغرب، وجماعة (مسرح الحكواتي) في لبنان، وجماعة مسرح (فوانيس) في الأردن، وجماعة مسرح (السرادق) في مصر. وأصدرت هذه الجماعات بيانات مسرحية توضح رؤيتها للشكل التي ترى فيه المسرح العربي الأصيل.
ويرى الباحث رمضان أن مقالات يوسف إدريس الثلاثة التي نشرها في مجلة (الكاتب) القاهرية عام 1964 هي أول المحاولات التأصيلية لمسرح عربي. وقد أعاد نشرها في كتاب تحت عنوان (نحو مسرح عربي) يستمد أصوله من تراث الأمة وفنونها الشعبية وأشكال الفرجة المعروفة مثل (السامر) الشعبي. وفيها يرى أن المسرح العالمي هو خصم أساء إلينا، وأن خلاصنا هو في نبذه، واعتماد مسرحنا المتمثل في (السامر) الشعبي المتجذر في أريافنا ومدننا.
ثم وضع توفيق الحكيم كتابه (قالبنا المسرحي) عام 1967 دعا فيه أيضاً إلى شكل مسرحي له خصوصيتنا، ويعبر عن هويتنا العربية، ويستمد من التراث العربي والشعبي، ويوظف الأشكال المسرحية العربية المعروفة: الحكواتي، والمقّلد، والمدّاح وكلها موجود في تراثنا الشعبي.
كذلك أسهم علي الراعي في التأصيل في كتابه (الكوميديا المرتجلة) التي يمكن أن تُقدم في أماكن غير معدّة، أو مجّهزة مثل: مسرح الشارع، والمسرح الحي.
ثم جاء سعد الله ونوّس فأصدر (بيانات لمسرح عربي جديد) دعا فيه أيضاً إلى إيجاد مسرح عربي له خصوصيته، ويستند إلى التراث العربي، وإلى أشكال الفرجة الشعبية.
وقد تفرّعت عن هذه الدعوات الفردية دعوات جماعية نهضت في كل قطر عربي، فتبنّتها جماعة مسرحية: فمسرح (الحكواتي) في لبنان يرى أن العمل المسرحي ينبغي أن يكون جماعياً منذ التخطيط لتقديم العرض المسرحي وحتى إخراج العرض للجمهور، مروراً بمواكبة الصياغة النصية. ومسرح (فوانيس) في الأردن أصدر بيانه التأسيسي عام 1984 بالإشتراك مع المسرح الاحتفالي المغربي، دعا فيه إلى البحث عن صيغ جديدة أو إعادة تركيب الصيغ القديمة بعد تدميره، من أجل الوصول إلى صيغ جديدة على شحذ الجمهور وتنشيط خياله. وجماعة (السرادق) في مصر ظهرت أوائل الثمانينات من القرن العشرين، ورفضت التبعية للمسرح الغربي، من أجل إيجاد أشكال مسرحية عربية مستمدة من التراث. والمسرح (الاحتفالي) المغربي نادى منذ منتصف السبعينات، بالاستقلال المسرحي والخروج عن دائرة التبعية الغربية.
وهكذا أحاط الناقد رمضان بالجهود التأصيلية المسرحية في الوطن العربي، تاريخاً وتنظيراً في القسم الأول من كتابه النقدي الهام. أمافي القسم الثاني من كتابه فقد عالج قضايا المسرح العربي السياسية والاجتماعية والثقافية. كما رصد بناء الحدث، والصراع المسرحي، واللغة الدرامية، والشخصية المسرحية، من خلال مسرحيات هي: مأساة الحلاج، وعلي جناح التبريزي وتابعه قفّة، والفرافير، والزنج، وحفلة على الخازوق، والملك هو الملك. فرأى أن مسرحية (حفلة على الخازوق) 1975 لمحفوظ عبد الرحمن تناقش الفساد المستشري، ولا تُعفي الحاكم من مسؤوليته حتى ولو ادّعى علمه بما يحدث، وأن مسرحية (ديوان الزنج) 1983 لعز الدين المدني، و(الملك هو الملك) 1977 لسعد الله ونوّس، و(مأساة الحلاج) لصلاح عبد الصبور توظّف كلها التراث العربي، وتجعل شخصياته قناعاً يتحدث الكاتب من خلاله عن معاناة عصره الراهن.
وفي بناء الحدث الدرامي ناقش الباحث الأحداث المسرحية في مسرحية (علي جناح التبريزي وتابعه قفّة) لألفريد فرج المستمدة من التراث (ألف ليلة وليلة) ومن الحداثة (السيد بونتيلا وتابعه ماتي) لبريخت. وعرض (الوهم) الذي استطاع البطل بواسطته أن يغيّر حياته وحياة غيره من الناس. كما عرض مسرحية (حفلة على الخازوق) لمحفوظ عبد الرحمن حيث يبحث فيها مدير السجن عن كبش فداء يتّهمه بمحاولة قتل الوالي ليجد لديه الحظوة. فيقبض على (حسن المراكبي) الذي كان قريباً من قصر الوالي ليقصّ عليه (الحلم) الذي رأى فيه الجراد يلتهم البلاد. فيقبض عليه مدير السجن ويضعه كبش فداء. فتحاول حبيبته (هند) تخليصه من المدير الذي يغويه جمالها فيطمع بها، فتعده في دارها يوم الخميس القادم. ثم تذهب لمقابلة (المحتسب) لتشكو له ظلم مدير السجن، فيطمع بها أيضاً، ويطلب منها موعداً فتعده يوم الخميس،
وتذهب لمقابلة (الوزير) لتشكو له ظلم المحتسب، فيطمع بها أيضاً، وتعده في دارها. وتبيّت النية للإيقاع برجال السلطة فتطلب من النجار أن يصنع لها أربعة صناديق خشبية، فيطمع بها النجار، وتعده أيضاً. وفي الموعد المحدد يحضر الوزير فتضعه في الصندوق الأسفل بحجة حضور زوجها الغائب، ثم يحضر المحتسب فتضعه في الصندوق الذي فوقه، وعندما يحضر مدير السجن تضعه في الصندوق الثالث، وتضع النجار في الصندوق الرابع فوقهم جميعاً. وعندما يطبق الصمت على الرجال في الصناديق يصرخ النجّار لكي يتبوّل. ولا يجد بدأ من التبوّل على رجال الحكومة تحته. فينكشف أمرهم، ويعرفون بعضهم بعضاً، فيعاقبهم الوالي على فعلتهم.
وفي الصراع المسرحي يرى الباحث أنه انعكاس للواقع العربي، ومعبّر عن العلاقات بين القوى السياسية والاجتماعية. ويحلل مسرحيات: الفرافير، وعلي جناح التبريزي، والملك هو الملك، ومأساة الحلاج من زاوية هذا العصر المسرحي.
وفي اللغة الدرامية يرى الباحث أن عنصر الحوار هو وسيلة التفاعل وأداة التواصل بين الشخصيات، فيعرض مقتطفات من لغة مسرحية (مأساة الحلاج). ثم يعرض لقضية الحوار بين الفصحى والعامية، و(اللغة الثالثة)...
وفي الشخصيات المسرحية يستمد الباحث أمثلته من المسرحيات الست التي عرضها. ويرى أن بعض الشعراء وعلى رأسهم صلاح عبد الصبور قد نجح في وضع أسس المسرحية الشعرية، وجعل الشعر العربي المعروف بغنائيته، شعراً درامياً قادراً على خلق المواقف الدرامية. كما نجح بعض كتّاب المسرح النثري في الوصول إلى لغة مسرحية غنية بدراميتها، لا تثقلها الخطابية ولا السردية، وفجّر من خلالها المواقف التراجيدية والكوميدية، فأثبت بذلك أن اللغة العربية تملك من الإمكانات ما يؤهلها لأن تكون لغة حوار مسرحي تتسم بالكثافة والعمق والتركيز. وفي مجال الشخصية استطاع المسرحيون العرب خلق البطل التراجيدي العربي، مثلما استطاعوا التعبير عن المتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد وظف المسرحيون العرب الشخصيات التراثية والتاريخية التي طرحت رؤى معاصرة لقضايا تهّم الإنسان العربي وتشكل هاجسه اليومي وسط تحديات كبيرة، واستمدوا من التراث العربي: الرسمي والشعبي شخصيات تعبّر عن الواقع المعاصر. وبذلك استطاع الباحث أن يدعم دعوة المؤصلين بمسرحيات مستمدة من التراث، تؤكد أن (المسرح العربي التأصيلي) يمكن أن يقف على قدميه، شكلاً ومضموناً، بعد أن رضخ للتبعية الغربية أكثر من مائة عام
وتقبلو خالص تحياتي.[/ALIGN][/ALIGN]