(17)
أفواه .. أفواه .. أفواه
تحول الكون حولى إلى أفواه كثيرة تتكلم دون انقطاع
أفواه .. أفواه
شفاه تعلوها الشوارب .. وشفاه تصطبغ بالأحمر
شفاه غليظة .. وشفاه رقيقة
شفاه كبيرة .. وشفاه صغيرة
وكلها تطلق الكلمات فى أذنىّ كالطلقات
حتى شعرت أن كلا منهما تزن عدة أطنان من فرط ما سمعته
لقد مارسوا سياسة (الزن ع الودان) باحترافية شديدة
والحق أننى أشفقت على أذناى المسكينتان
وقررت الاستسلام
كفى أرجوكم .. أريد بعض الصمت
بعضه فقط
هكذا تجدونى قد جلست فى حديقة بيتنا
أمام عرش الأمير
أداعب زهرة بنفسج بأنامل مرتعشة
والطيور قد كفت عن التغريد ووقفت تتابع سيدها فى صمت وقد قام من فوق عرشه وتوجه لى بخطى ثابتة وما لبثت القيثارة أن بدأت العزف
- لماذا؟
رفعت له عينين متسائلتين
- لماذا ترفضينى بهذا الإصرار؟
- من أنا لأرفضك يا أمير
- بم تسمى ما حدث إذن؟
- فقط أنا أحاول حمايتك
- حمايتى من ماذا؟
- من نفسك
- لا أفهم
- ألن تكف عن توريط نفسك بقرارت انفعالية دونما تفكير؟
- عما تتحدثين؟
- عن حقيقة ما فعلت
- هل تظنين أن ........
قمت من مكانى وقاطعته وأنا ابتعد بعض خطوات عنه لأتمكن من التنفس بصورة طبيعية
- بل أنا متأكدة من ذلك
تنهد فى صبر قبل أن يقول
- هيام .. قد لا تعرفيننى جيدا .. لكنى لست فتى مراهق يلقى بقلبه عن قدمى أول فتاة يقابلها .. أنا رجل ناضج بما يكفى لأحكم على مشاعرى وأعرف الحقيقى منها والزائف
قلت فى قسوة مقصودة
- عجبا .. لم لم تهديك عقلانيتك تلك قبل أن تقدم على تبديد كل شىء؟
عضضت شفتى بعدها ندما وأغمضت عينى حتى لا تفر الدموع منها
وحين فتحتها كان الأمير أمامى يبتسم بحنان ويقول
- أعرف أنكِ أخر من يستمتع بجرح الآخرين .. لم تحاولى ارتداء قناع القسوة؟ .. إنه لا يناسبكِ أبدا
- أنا آسفة حقا
- وأنا أحبك
- كفى أرجوك
- لم لا تصدقينى؟
- لأنى لست حمقاء
- أنا لا أخدعكِ
- بل تفعل
جذبته لنواجه سويا المرآة القديمة التى تحتل الحائط
وبيد مرتعشة وعينين لا تريان من فرط الدموع أشرت نحونا فى المرآة
كانت الشمس وكان الجمال حيث هو .. وكانت الظلمة وكان القبح حيث أنا
- انظر بنفسك .. هل ترانا جيدا .. هل ترى كم هى مخزية المقارنة بيننا؟
بل أن الضرير يمكنه بسهولة تبين ذلك .. أنتِ لم تُخلق لمثلى .. ومثلى لم تٌخلق لك .. لم تصر على تغيير قانون الكون الأزلى
جذبنى بعيدا عن المرآة وهو ينظر لى بثبات ويقول
- أنا لا أرى ما تصرين على رؤيته .. بل أرى أمامى روحا شفافة وقلب طيب وسريرة نقية وملامح ................
- قبيحة
- كفى عن هذا أرجوكِ .. لم أر فى حياتى أحد يصر على تعذيب نفسه بتلك الطريقة
- لأنى أرى الحقيقة
- بل لم تريها قط
وابتعد عنى متوجها نحو أحد المقاعد وجذب من فوقه لوحة اسطوانية صغيرة لم ألحظها من قبل وفردها أمام عينى وانطلقت شهقتى
لم أتمكن من النطق للحظات قبل أن أقول
- من هذه؟
- إنها أنتِ
- لا .. لا يمكن .. إنها جميلة .. أعنى ربما تشبهنى لكن .. لا إنها لا تشبهنى .. إنها جميلة
- هى أنتِ
- ليست أنا
- إنها هيام كما أراها
- هيام ليست جميلة
- بل هى كذلك .. لكنى لا تريد أن ترى الحقيقة
أخذت اللوحة وتأملتها .. هى ملامحى لكنها أكثر رقة .. والعينان تلمعان بسعادة وتشعان بريقا يضىء الوجه كله .. ياللروعة ..
- هل حقا ترانى هكذا؟
- نعم
- مستحيل
- صدقينى
- ليتنى أستطيع
- امنحينى الفرصة
- لأى شىء
- لترين نفسكِ بعيونى
- وهل يمكننى ذلك؟
- نعم
- كيف؟
- سأمنحكِ إياهما
- تمنحنى ماذا؟
- عيناى
- هل تمزح؟!
- أنتِ عندى أغلى منهما
- كفى أرجوك يا أمير
- هل تستسلمين الآن؟
- نعم
- سنتزوج يا هيام
- ألن تندم؟!
- سأندم فقط لو أضعتكِ منى
- هذا كثيرا جدا
- هذا بعض ما تستحقى
أطرقت برأسى لحظات كى أستوعب هذا كله ثم سألته وأنا أغالب خجلى ودموعى
- هل نحدد موعد الخطبة؟
- لا خطبة
- ماذا؟
- أنتِ متقلبة كالبحر يا حبيبتى ولن أمنحكِ الفرصة للهرب مجددا
- ماذا تعنى؟
- سأتزوجكِ الأسبوع القادم
- ماذا؟!! لن أتمكن من تجهيز شىء
- لا أريد سواكِ .. كل شىء سيكون معدا لاستقبالكِ
- أنا .. أنا لا أعرف ماذا أقول
- قولى نعم
- ..............
- قوليها
- ..... نــ ..... نعم
وهنا انطلقت زغرودة جميلة من أمى وتدافعت صيحات الفرح من خالد وخلود حيث انشقت الأرض عنهما فجأة و تعلقا بنا وهما يضحكان بمرح وأخذنا ندور بهما أنا والأمير وقد عادت الطيور للتغريد وحلقت فوقنا فى دوائر وتمايلت الزهور معنا وهبت النسمات تحمل شذاها ولاحت منى التفاتة نحو المرآة ولدهشتى طالعنى وجه جديد علىّ .. وجه تعرفته للتو من لوحة اسطوانية صغيرة رسمتها أنامل أميرى النبيل