[ALIGN=CENTER][/ALIGN]
أحبتي الدرر ،،
ها أنا أعود من جديد لأكمل ما قد بدأته معكم من كتابة ما جاء من لمسات بيانية في القرآن الكريم وفقاً لكتاب ( لمسات بيانية ) ، متمنية للجميع الفائدة والمتعة في رحاب كتاب الله ، واليوم سيكون موضوعنا عن بعض تلك اللمسات من سورتي ( المؤمنون والزمر ) ، ولنبدأ بسم الله:
من سورة المؤمنون :
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
من سورة الزمر:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
نرى في هذين النصين آيتين فيهما شيء من التلاقي في التعبير وشيء من الاختلاف ، وهما قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
وهاهنا ثلاثة أسئلة وهي:
1) لم قال الله تعالى في آية ( المؤمنون ): ( لميتون ) باللام، وقال في الزمر: ( ميتون ) من دون لام؟
2) ولِمَ أكد الموت في آية( المؤمنون ) بأن واللام، وأكد البعث بإنّ وحدها مع أن الموت لا شك فيه، وليس ثمة منكر له، بخلاف البعث، فإن هناك منكرين له كثيرين؟
3) لِمَ ختم آية ( المؤمنون ) بالبعث فقال: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) ، وختم آية الزمر بالاختصام فقال: ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون )؟
جواب السؤال الأول :
لقد أكد الله تعالى الموت في أية ( المؤمنون ) بإن واللام في حين أكده في الزمر بإن وحدها، ذلك أن سورة ( المؤمنون ) تكرر فيها ذكر الموت كثيراً، وتعددت صوره وأحواله، بخلاف سورة الزمر . فقد ذكر في سورة ( المؤمنون ) قوم نوح، وقال: ( إنهم مغرقون )، أي: سيموتون بالغرق. وقال بعدها: ( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون )، ثم قال: ( إ هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين )، وقال بعدها : ( فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاءً فبعداً للقوم الظالمين )، وقال بعدها: ( فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقومٍ لا يؤمنون)، وقال بعد ذلك: ( فكذبوهما فكانوا من المهلكين )، ثم قال بعدها: ( وهو الذي يحيى ويميت وله اختلاف الليل والنهار)، ثم قال: ( قالوا أءِذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءِنا لمبعوثون )، وقال بعدها: ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون )، في حين لم يرد ذكر الموت في سورة الزمر إلا مرتين إحداهما في الآية المذكورة وهي قوله: ( إنك ميت وإنهم ميتون )، والأخرى قوله: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) .
لقد تردد ذكر الموت في سورة ( المؤمنون ) عشر مرات، في حين لم يرد ذكر الموت في سورة ( الزمر) إلا مرتين، فاقتضى ذلك تأكيد الموت في سورة ( المؤمنون ) أكثر مما في ( الزمر ) .
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إنه لما أكثر من الكلام على الموت في ( المؤمنون )، أكثر من تأكيده في الآية فجعله بحرفين، ولما قلل الكلام عليه في ( الزمر )، قلل من حروف التوكيد، فكان كل تعبير مناسباً لموطنه.
أما بالنسبة إلى السؤال الثاني:
فنقول: إن النظرة الأولى قد توحي بأنه كان ينبغي تأكيد البعث أكثر من تأكيد
الموت، ذلك لأن الموت لا شك فيه، وأنه لا ينكره أحد، أما البعث فمنكروه كثير، فلماذا إذن أكد الموت أكثر مما أكد البعث؟ لماذا أكد الموت بإن واللام فقال: ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون)، وأكد البعث بإن وحدها، فقال: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) ؟
لقد أثير هذا السؤال قديماً، فقد جاء في ( البحر المحيط ): " فإن قلت: الموت مقطوع به عند كل أحد، والبعث قد أنكرته طوائف، واستبعدته وإن كان مقطوعاً به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيء السمع به، فوجب القطع به، فما بال جملة الموت مؤكدة بإن واللام ولم تؤكد جملة البعث ( إلا ) بإن؟".
إن هناك أكثر من سبب يدعو إلى هذا التعبير منها:
1) إن ما ذكره قبل هذه الآية من خلق الإنسان من طين وإحكامه وتطويره من قطرة ماء إلى أن يصير إنساناً عاقلاً منتشراً في الأرض، أكبر دليل على أن إعادته ممكنة وليس في ذلك أدنى ريب، فلا يحتاج بعد هذه الأدلة إلى كبير توكيد.
جاء في ( روح المعاني ): " ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له، اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد، وبشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالةٍ من طين، ثم نقله من طور إلى طور، حتى أنشأه خلقاً آخر يستغرق العجائب، ويستجمع الغرائب، فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عز وجل".
وجاء في ( البحر المحيط ): " ولم تؤكد جملة البعث إلا بإن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع، ولا يقبل إنكاراً وأنه حتم لا بد من كيانه، فلم يحتج إلى توكيد ثان".
2) إن الإعادة أسهل من الابتداء في منطق العقل، فإن الذي يصنع كل يوم آلاف النماذج لهو أقدر على إعادتها إذا حطمها أو أتلفها، ولذا أكدالخلق الأول تأكيدين، وأكد البعث تأكيداً واحداً فقال: ( ولقد خلقنا الإنسان.....)فأكده باللام وقد. وقال تعالى: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) فأكده بإن وحدها، ذلك لأن الإعادة كما ذكرنا أهون من الابتداء في منطق العقل، وإن لم يكن على الله شيء أهون من شيء، قال تعالى: ( وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) / الروم: 27 .
3) إن ما ذكره الله من خلق الإنسان وتطويره حتى صار مخلوقاً على أحسن هيئة، حتى قال رب العزة تعقيباً على خلقه: ( فتبارك الله أحسن الخالقين) إن ذلك ربما يوحى أنه خلقه للخلود، واعده للبقاء في هذه الدنيا. وأن الموت كأنه خلاف لما أعده له، ألا ترى إلى قوله تعالى: ( بعد ذلك )، ثم قوله : ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون )، أي: إنكم بعد كل ذلك من التدبير والإحكام والإحسان في الخلق والتطوير، وبعد ما ذكر من الأمور العجيبة ستموتون مما يفيد استبعاد تقدير الموت عليه، ولذا اقتضى ذلك تأكيد الموت.
وجاء في ( روح المعاني ): " ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه، بالغ سبحانه –عز وجل- في تأكيد الجملة الدالة على موته، مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه، أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده، وسمع أن الله – جل جلاله – أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت، وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث".
4) إن الإنسان كثيراً ما يغفل عن الموت فينشغل بالحياة وتلهيه أمورها عما هو أولى، ويعمل أعمال من لا يرجو الموت ولا يأمله، فلا يتعظ كما قال تعالى: ( ألهاكم التكاثر () حتى زرتم المقابر )/التكاثر، وكما قال: ( وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ) الشعراء/129. فكأنه نسي حقيقة الموت الذي سيطوله، ولا بد، فهو كأنه منكر له في أعماله، وإن لم يكن له منكرا له في عقله ولسانه، فنزل منزلة المنكر له غير المقر به لأن أعماله أعمال أعمال المنكرين له والعبرة بالأعمال لا بالأقوال. فأكده له تأكيد المنكرين له لعله يرعوي ويتطامن.
جاء في ( روح المعاني ): " وقيل إنما بولغ في القرينة الأولى، لتمادي المخاطبين في الغفلة، فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك، و أخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها. وربما يقال: إن شدة كراهة الموت طبعاً التي لا يكاد يسلم منها أحد، نزلت منزلة شدة الإنكار، فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه. وأما البعث فمن حيث أنه مظنة للشدائد تكرهه، فلما لم يكن حاله كحال الموت، ولا كحال الحياة، بل بين بين، أكدت الجملة الدالة عليه تأكيداً واحداً".
5) إن الىية لم ترد في سياق المنكرين للبعث، بل هي في سياق المؤمنين العالمين بمقتضى إيمانهم الوارثين للفردوس، فلا يقتضي ذلك تأكيد البعث كتأكيد المنكرين له.
وقد تقول: أفيقتضي هذا السيقاق تأكيد الموت؟
فيجيب المؤلف قائلاً: نعم، فغن المؤمن قد تَعرِض له غفلة ينسى فيها الموت في زحمة عمله، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " أكثروا من ذكر هادم اللذات". وقال: " كفى بالموت واعظاً". فهو يحتاج من يذكره بالموت.
6) لقد أكد الموت هذا التأكيد للدلالة على أن الإنسان ، لا يتمكن من الخلود في الدنيا مهما حاول، ومهما بذل من جهد في سبيل ذلك، فإن الإنسان لا بد أن يموت، ولا سبيل إلى الخلود ههنا. فهذا إخبار بأن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى ما يُخلّده، وأن محاولاته ستبوء بالفشل مهما حاول.
وهذه الآية، قَطعٌ لأطماع الإنسان في الخلود في الدنيا.
7) إن الموت يستدعي التأمل والنظر، ذلك أن الإنسان يموت ويُمات، وقد خلقه الله كذلك، وكان بمقدوره تعالى أن يخلقه على غير هذه الحالة، فلا يموت ولا يُمات. ولو قدر ذلك لكان هذا أكبر نقمة على البشرية أو من أكبر النقم. تصور جيشاً هائلاً من المجرمين الموغلين في الإجرام، يعجز الخلق عن إهلاكهم، كيف سيفعلون بالناس الآخرين؟ إننا مع أسباب الموت والإماتة الكثيرة نعاني ما نعاني من المجرمين، فكيف إذا كان هؤلاء أحياء خالدين، لا يمكن التخلص منهم؟ كيف لو اجتمع المجرمون من كل العصور، وأخذوا يعيثون ما يعيثون في المجتمعات؟ كيف ترى أصحاب العاهات والآلام الشديدة والمعذبين الذين يتمنون الموت في كل لحظة، ليريحهم مما هم فيه ولا يحصل متمناهم هذا؟ أليس الموت نعمة لهؤلاء؟ أليس الموت نعمة لأصحاب النار مثلاً؟ ألا ترى قولهم: ( يا مالك ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون ) الزخرف/ 77.
ثم انظر أية كارثة تحيق بالبشرية من تكاثر مستمر بلا موت؟ إنه أكبر وأخطر من أي سرطان عُرف أو يعرف.
ثم انظر كيف يعيش الناس عند ذاك، وما مقدار ما يكفيهم من الغذاء والكساء، وأماكن السكن، أية أرض ستتسع لهم؟ وغير ذلك، وغيره من الأمور التي يطول تعدادها.
أرأيت كيف أن الموت من أعظم نعم الله على البشرية في هذه الأرض؟ ألا ترى أن ذلك به حاجة إلى التنويه والنظر في أمره وتأمُل نعمة الله فيه، كنعمة الخلق والإيجاد، ولذا أكدهما تأكيداً متناظراً، فقد أكد كلاً من الخلق والموت تأكيدين وأكد البعث تأكيداً واحداً.
فنحن لا نرى نعمة ممقوتة كهذه النعمة، ونعمة مخوفة كهذه النعمة، ونعمة محزنة مبكية مؤسية كهذه النعمة.
إن توكيد الموت لم يجيء من حيث إنكار وقوعه، فإنه لا ينكر أحد وقوعه، وإنما جاء من ناحية إنكار عدم العمل بمقتضى هذه المعرفة، وعدم تقدير هذه النعمة حق قدرها على البشرية لا على الفرد الواحد بعينه.
8) ذهب أكثر النحاة إلى أن اللام الداخلة على الفعل المضارعـ تُخلصه للحال زيادةً على إفادة التوكيد، فإذا قلت: ( إنه ليكتب ) فمعناه: إنه يكتب الآن. أما إذا دخلت على الاسم فلا تخلصه للحال، بل تكون للتوكيد فقط، قيل: ولذا أكد الموت باللام ولم يؤكد البعث بها.
جاء في ( البحر المحيط ) : " وكنتُ سُئِلْتُ: لِمَ دخلت اللام في قوله: ( لميتون )، ولم تدخل في ( تبعثون ) ؟ فأجبتُ: بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالباً، فلا تجامع يوم القيامة، لأن إعمال ( تبعثون ) في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال، فتنافي الحال.
وإنما قلت(المؤلف): ( غالباً ) لأنه قد جاءت قليلاً مع الظرف المستقبل، كقوله تعالى: ( وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة )
على أنه يحتمل تأويل هذه الآية، وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال، بأن يقدر عامل في يوم القيامة"
ويبدو للمؤلف: أن هذا هو الغالب، وليس هو قاعدة مطردة والله أعلم.
مما تقدم يتضح أن تأكيد الموت بإن واللام، وتأكيد البعث بإن وحدها له أكثر من سبب يدعو إليه. هذا علاوة على جو السورة التي وردت فيها الآية، واقتضى تأكيد الموت هذا التأكيد بخلاف ما في ( الزمر ). فاقتضى ذلك من كل وجه هذا التعبير.
وأما بالنسبة إلى السؤال الثالث:
وهو السؤال عن سبب ختم آية ( المؤمنون ) بالبعث، وختم آية الزمر بالاختصام فنقول:
إن نهاية كل آية تناسب سياق الآية الذي وردت فيه وتناسب جو السورة التي هي فيها.
فإنّ آية ( المؤمنون ) وقعت في سياق بَدْء خَلْق الإنسان وتطوره إلى منتهاه، قال تعالى:
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
فأنت ترى أن ختام الآيات هذه بالبعث، هو الختم الطبيعي، وهو الحلقة النهائية في سلسلة الحياة وتطورها.
أما آية الزمر، فقد وقعت في سياق آخر يقتضي ختم الآية بالخصومة، قال تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
والشركاء المتشاكسون مظنة الوقوع في الخصام، فكان الختم بذلك أمراً طبيعياً يقتضيه السياق.
ثم إن جو سورة الزمر شائع فيه ذكر الخصومات والفصل بين المختلفين، لأن الخصومة تقتضي الحكم والقضاء.
أما جو سورة ( المؤمنون ) فشائع فيه ذكر الموت والبعث.
إن ذكر البعث والحياة الآخرة شائع في سورة ( المؤمنون ) .
فقد قال تعالى: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون )16.
وقال: ( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة )33.
وقال: ( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون(35) هيهات هيهات لما توعدون (36) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين(37)
وقال: ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجله أنهم إلى ربهم راجعون )60.
وقال: ( وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ) 74.
وقال: ( وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار) 80.
وقال: ( قالوا أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون (82) لقد وُعدنا نحن وءاباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) 83.
وذكر مشهداً من مشاهد أهل النار: ( الآيات من103 – 108 )، ثم قال: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).
فأنت ترى أن جو السورة يشيع فيه ذكر البعث واليوم الآخر، فناسب ختام الآية جو السورة، علاوة على السياق الذي وردت فيه.
أما سورة الزمر فقد شاع فيها ذكر الخصومات والقضاء والحكم، فقد بدأت السورة، بقوله تعالى: ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) و ( الحكيم )، صفةٌ قد تكون من الحكم، وهو الفصل في الأمور، أي: القضاء كما قال تعالى: ( إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)الأنعام/57. وقد تكون من الحكمة.
وقال بعدها: ( إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون)، وهو واضح في الحكم بين المختلفين. والخصومة إنما هي لون من ألوان الاختلاف.
وقال تعالى: ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون)الزمر/31.
وقال: ( أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون)الزمر/46.
وقال: (وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون)الزمر/69. والقضاء يقتضي اختلافاً وفصلاً.
وقال: ( وقُضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)الزمر/75.
فأنت ترى أن جو السورة شاع فيه الفصل والاختلاف والخصومات، فناسب ختام الآية جو السورة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لقد ناسب ختام كل آية مفتتح سورتها وخاتمتها.
فقد ناسب قوله تعالى: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) في المؤمنون، مفتتح السورة، وهو قوله تعالى: ( قد أفلح المؤمنون)، ومن لوازم الإيمان، الإيمان بالبعث، وناسب قوله في آخر السورة: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).
وناسب قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) في الزمر مفتتح السورة، وهو قوله تعالى: ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم )، وقوله: ( إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون)، فإن الخصومة تقتضي حكماً بين المتخاصمين. كما ناسب قوله تعالى في خاتمة السورة: ( وقُضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)، والقضاء إنما يكون بين المتخاصمين.
فانظر كيف ناسب ختام كل آية من الآيتين، مفتتح سورتها وخاتمتها، وناسب جو السورة الشائع فيها، وناسب السياق الذي وردت فيه. فقد اقتضى المقام خاتمة الآيتين من كل وجه.
ثم انظر بعد ذلك كيف قال: ( إنك ميت وإنهم ميتون )، فافرد النبي عنهم، وجعلهم فريقين، ذلك لأن الخصومة والفصل يقتضيان أكثر من طرف، في حين لم يقتضِ ذلك في آية المؤمنون، فقال: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) بجعلهم فريقاً واحداً، إذ كلهم يُبعثون وبخاصة أن الكلام على الإنسان على وجه العموم خلقه وتطوره وموته وبعثه. فانظر كيف ناسب كل تعبير موطنه؟
فما أحسن هذا الاختيار في النظم وما أبلغه وأجمله!
وهنا أنتهى الحديث عن ما جاء في سورتي المؤمنون والزمر، ولي عودة أخرى إن شاء الله لأكمال ما كان في كتابنا( لمسات بيانية).
أجمل وأعذب تحية
أختكم الأمـل