لما أفقت من نومي كانت الحرارة قد بلغت حدا لا يطاق وغمامة كثيفة من دخان أسود أخذت تتسرب إلى غرفتي، قفزت من سريري مثل المجنونة ، فتحت الباب باحثة عن منفذ للهرب لكن ألسنة النيران الممتدة عبر الباب مثل الأذرع التي تريد اختطافي جعلتني أضرب الباب بعنف، كان الفندق يحترق وكنت آخر من يعلم، أذرع الغرفة جيئة وذهابا، أولول مثل المجنونة، أركض من ركن إلى ركن، لا أعرف كيف أتصرف في وسط هذا الحريق الذي يزيد استعارا، ألسنة النيران تمتد إلى الطابق السابع، محدثة صوتا أشبه بالدوي ....
أسمع صوت الزجاج الذي يتحطم بفعل الحرارة فيخيل إلي أن الفندق يتهاوى، النيران تحاصرني وتضرب علي طوقا من كل الجهات، ها أنا وجها لوجه مع الموت، يمد إلي ذراعيه، أسال نفسي، تراه كيف يكون الموت؟؟ أيأتيننا بوجه بشري، أو بوجه غير الوجوه التي ألفناها في الحياة؟ لم أعد أرى شيئا من كثافة الدخان الذي بدأ يغزو الغرفة بجنون، أشعر بالاختناق ، تنتابني نوبة من سعال حاد لم أعد أستطيع التنفس كأن يدا تريد كتم أنفاسي، أصوات النيران التي تزأر أقوى من أصوات البشر الذين يصرخون في الشارع، بل أقوى من صفارات إنذار سيارات الإسعاف، أنفاسي تضيق وكلما ضاقت اشتدت ضربات قلبي، إنه الموت فاغر فاه يريد ابتلاعي، أبتهل إلى الله أتوسله رحمة، أقف في وسط الغرفة ذليلة كسيرة أستجدي الله رحمته ولطفه، اليوم أتذكر الله وقدرته، في وقت المحن وعندما يكاد الموت يعانق أرواحنا ننسى كل شيء إلا الله، شعرت بالخجل وأنا بقميص نوم شفاف وقصير مفتوح في أعلى الصدر ويتوقف امتداده عند منتصف الفخذين .
لم أعد أقدر على الوقوف، نبض قلبي يتسارع، نوبات السعال الحاد تهجم علي؛ حتى خيل إلي أن قفصي الصدري يقتلع، جسدي يتصبب عرقا مثل السيل المنهمر يلتصق بقميص النوم الشفاف مبرزا تفاصيله وتضاريسه التي تغزل بها كثير من الرجال، ها هو هذا القد الممشوق قاب قوسين أو أدني من أن يصير رمادا، لا أعرف كيف يشعر الذين تفصل اللحظات والثواني بينهم وبين الموت وها هي اللحظات والدقائق تفصلني عن الموت ولم أعد أقوى حتى على حمل نفسي، تراها سكرات الموت..؟ أكاد أتهاوى من خوفي ومن ضعفي وانعدام حيلتي، زجاج النافذة يتحطم ويتناثر في أرجاء الغرفة، أحمل نفسي إلى وسط الغرفة، أترنح يمينا وشمالا مثل التائهة في صحراء أو مثل ثملة أثقلها السكر، حلقي جف من الظمأ، تمتد إلي يد الشخص الذي دخل من النافذة محطما زجاجها ويناولني ماء، أشرب بغير انتظام يتسرب الماء من فمي، أبلل جسدي، أنظر إلى الرجل محاولة أن أتبين تفاصيل وجهه فلا أستطيع إلى ذلك سبيلا، ينزع من على وجهه قناع التنفس يضعه على وجهي، أتنفس هواء نقيا، أريد أكثر أريد المزيد، أشعر أن رئتي تطلبان المزيد، أشهق وأزفر، يهمس صوت الرجل الذي لم أتبين منه إلا خيالا طالبا مني ستر جسدي، ويحه أيعتقد أني أستحي منه والموت يمد إلي ذراعيه، لم أشعر بالحياء، فالموقف أكبر من أن يجعلني أحس بالخجل، فتحت حقيبتي وتناولت أول قطعة من لباس صادفتها أناملي ولبستها على عجل .
أتوسل الرجل الذي لم أتبين ملامحه بعد إنقاذي وقبل أن أنزع قناع التنفس كي أتكلم معه وأطلب منه ذلك وجدته يمد إلي يده بحنان ويلتقطني بلطف مثل طفلة صغيرة ليحملني على ظهره ويشدني إليه بأحزمة متينة، يقفز من النافذة متمسكا بحبل، يقفز من طابق إلى طابق مثل الرجل العنكبوت، أصرخ في رعب لكنه يطلب مني السكون وعدم الحراك كي لا أفقده توازنه، في كلامه ثقة كبيرة بالنفس، كلامه فيه حياة وعذوبة، وسط الموت يضحك وفي ضحكته رنة جميلة تشبه الموسيقى الحالمة .
سقط مني القناع فجأة ونحن نتداول استعماله مرة بمرة، صرخت جزعة، لكن الرجل الذي يلتصق صدري بظهره ولم أعد أرى منه إلا قفاه، يمدني بجرعات من أمل، كان يضحك من الموت ويتحداه في عجب حتى شعرت بصغر الموت أمام ضحكاته الحالمة التي تصل إلى القلب وتعانق سويداءه، كنا نتدلى من الحبل مثل عرجون تمر أثقله النضج، كان يقول لي إننا لن نموت لو فكرنا في الحياة، ولو فكرنا في الموت سنموت، كان راسخ القناعة بالنجاة، أما أنا فتتأرجح مشاعري المضطربة بين إعجاب برجل لا أعرف له شكلا ولا اسما ولا عنوانا، يعبث ويضحك من الموت وبين موت يريد نزعي من الحياة. ولم يتوقف كلامه عند الموت والحياة والرجاء والأمل بل رحل بي إلى حقب التاريخ الآفل وطلب مني أن أغمض عيني وأضع رأسي على ظهره وأنصت وأتخيل، ليسرد علي بعدها عن قارة أطلنطس التي اختفت في عرض المحيط، وكتب عنها أفلاطون وعن تقاليد شعبها وحضارته، بل رحت أتخيل نفسي أطوف شوارعها وأدخل معابدها وأرى وأتبضع من أسواقها، وأجول في حدائقها الساحرة وعمرانها البديع، كانت حضارة لم تعرف لها الأرض مثيلا، وقبل أن أصحو من حلم أطلنطس طار بي إلى حضارة "الأنكى والمايا" عند الهنود الحمر وأدخلني معابدهم وغطست في أنهارهم المليئة بالذهب والأحجار الكريمة، وتجولت في غاباتهم الحالمة، لم يكن الرجل عاديا كان حلما، كان ساحرا، أنساني الموت الذي يطاردني ويتربص بي، بدا لي كفارس قادم من أعماق التاريخ الغابر، بدا لي حكاية جميلة وهبتها الحياة لي دون نساء الدنيا، شعرت بمشاعر غريبة وأنا أضم صدري إلى ظهره، احتضنه في حنان غريب وتمنيت أن تتسرب روحي إلى روحه لنصبح روحا واحدة، تمنيت أن أكون نبض قلبه الذي أحس بخفقه وأنا أضع راحة يدي على صدره وأتشبث به بكل قوة، هذا الرجل الحلم الذي بدد أحاسيس الخوف عندي وصنع منها مشاعر أخرى غريبة لم أشعر بها طيلة حياتي رغم تجارب الحب التي مررت بها، إلا أن هذه المرة الشعور يختلف، يختلف بمقدار دقات قلبه التي ترقص على راحة يدي وبمقدار الخطر الذي يواجهه من أجل إنقاذي وبمقدار الحكايات التي يحكيها لي وضحكاته الجميلة، كل شيء فيه يختلف، كل شيء فيه مميز حتى خفق قلبه، كنت أتمنى أن أنظر إلى وجهه وأطبع على جبينه قبلة وأخرى على خده وأخرى على أنامله، امتدت أناملي دون شعور مني إلى جبينه، تحسسته واسعا جميلا ومسحت على وجهه بلطف أرسم له صورة في خيالي، أتحسس شاربه الخفيف. لحيته المعقوفة الصغيرة، تضاريس وجهه كانت تغسلها الدماء التي تنزف من جبينه وأنفه جراء الزجاج المتحطم واصطدامه بالأسوار، لقد تحسست دمه بيدي، نظرت إلى يدي كانت حمراء، لم أشعر بالخوف من الدم بل تخيلت يدي الحمراء وردة حمراء بلون الدم القاني، شعرت بإشفاق غريب عليه بل لم يكن إشفاقا، لا أعرف كيف أسمي هذا الشعور فقد كان إحساسا غريبا مزيجا بمشاعر الأم التي تخاف على طفلها الوحيد والأخت والحبيبة والصديقة والإنسان، كانت مشاعر مختلفة تتضارب في داخلي جعلت قلبي ينبض بعنف حتى تخيلت أنه سيخترق ظهر الرجل ويستقر مع قلبه في صدر واحد، هل تراه الحب يدق قلبي وأنا معلقة بين السماء والأرض .. أتأرجح بين الموت والحياة ؟ هل تراه الحب يطرق باب قلبي؟
كنت أريد أن أساله عن معنى الحب عنده، هل هو وليد لحظة آنية، أم تراكم لأحداث جميلة أم هو غير هذا كله ؟ في الوقت الذي نسيت فيه أني أمام خطر داهم وكانت روحي في عالم آخر لا تعبأ بالخطر ولا بالموت. كانت الأيادي تفك الأحزمة التي تربطني بظهر الرجل وتختطفني اختطافا، وراح الرجل يبتعد عني، تمنيت لو يستدير لأرى وجهه، تمنيت أن أقبل يده، أن أمسح دمه، حاولت أن أصرخ وأنادي عليه لكن الذين من حولي حملوني إلى سيارة الإسعاف، فتحوا بابها، وضعوني في الخلف، ومن سريرها رحت أتأمل الرجل وأنظر إلى قفاه وهو يبتعد عني، كان يمشي بهدوء وثقة، انطلقت بي سيارة الإسعاف بصفيرها الحاد مرت بجانبه، خفق قلبي، تسربت روحي من بين جنبي، وفي الوقت الذي استقمت محاولة رؤيته كان قد اختفى بين الجموع في الشارع، وكان مثل حلم جميل يتسرب من بين أنامل تتوق للمسة حب، لقد أنقذني وخطف قلبي .