السلام عليكم ورحمة اللة وبركاتة
باقة الأحلام
أسرعت خطاها لتدخل مقر عملها فهي قد تأخرت اليوم كثيراً بسبب توقف السيارة في الطريق ثم زحمة المرور التي لا تنتهي , ومثل كل يوم تشعر بالإحراج الكبير وهي تدخل البوابة حيث يجتمع جميع الموظفين يتناقشون في أمور مختلفة , وعندما تمر أمام تجمعهم يصعد الدم إلى وجهها ولا تكاد تتنفس هي هكذا دائما تخجل من المرور أمام أي تجمع لرجال, ولكن كان هناك شيء مختلف في نظراتهم لها وتهامسهم فيما بينهم فهي لم تتعود أن يلاحظها احد, حتى أن زميلاتها يسمونها المخفية وذلك لأنها تدخل وتخرج من غير إحداث أي جلبة وكأنها شبح .
ولكن ما شاهدته في عيون الموظفين وابتسامتهم السخيفة لها لم تشاهده طوال عملها في هذه المؤسسة , وما كادت تغادرهم حتى تنفست الصعداء وابتسمت وهي تركب الدرج وقالت في داخلها لقد مر الموقف بسلام ولم أتعثر أمامهم الحمد لله ولكن لماذا ينظرون إلي هكذا ؟ .
ولم تكد تضع قدمها على الدرجة الأولى حتى وجدت إحدى زميلاتها وهي تبتسم لها بخبث , ألقت عليها التحية وواصلت صعود الدرجات وهي بالكاد تتنفس حتى وصلت الطابق الثالث وهناك كانت المفاجأة حيث تجمعت كافة زميلاتها بالعمل أمام مكتبها حيث تعالت أصواتهن وضحكاتهن لتعم أرجاء المكان , لكن سرعان ما اختفت هذه الأصوات عند اقترابها من المكتب .
شعرت بخوف كبير من هذا التجمهر, وزاد شعورها بالدهشة فاليوم ليس كباقي الأيام كل شيء فيه مختلف , ألقت عليهن التحية ودخلت مباشرة لمكتبها فهي تكره هذه التجمعات, حتى وان كانت نسائية فهي من النوع قليل الكلام وقليل الظهور بالكاد تقول كلمة عند اجتماع زميلاتها معها وغالباً ما يكون هذا الاجتماع رغماً عنها بعد إلحاح زميلاتها عليها لتخرج من معتزلها , ولم تكد تخطو داخل مكتبها حتى تجمدت قدماها واتسعت عيناها وأطلقت صيحة دهشة مكتومة, وقد اتجه نظرها إلى المكتب حيث كانت هناك باقة كبيرة من الورود الحمراء نسقت بطريقة خلابة تحيط بها مجموعة من الزهور البيضاء الصغيرة لتزيد جمالها جمال وأحاطت بها مجوعة من الأوراق الخضراء تأسر الأنظار , وقد وضعت هذه الورود في سلة من القش تزينها أشرطة حمراء لامعة وقد تناثرت قطرات الندى على الورود بشكل ساحر والرائحة العطرة انتشرت في المكان استنشقتها بقوة وهي يكاد يغمى عليها من المفاجأة .
بقيت لعدة دقائق واقفة في مكانها وهي تنظر إلى الباقة , يا الله ما أروعها فهي لم ترى في حياتها باقة بهذا الجمال, ولكن شرودها لم يدم طويلاً , حيث تعالت ضحكات زميلاتها على شكلها المندهش وبعضهن يهمسن ويسألن من يا ترى يرسل باقة من الورود لها؟؟ فهي مخلوقة من كوكب ثاني على حسب قولهن ولا يوجد رجل طبيعي يمكن أن يعجب بفتاة مثلها ولا يوجد من قد تلفت انتباهه فتاة خفية , ولا يمكن أن ينجذب احدهم إليها , ولكن سرعان ما غادرت زميلاتها عند وصول المدير الذي صرخ عليهن بأن تلتزم كل واحدة منهن مكتبها, لكنها لم تنتبه لكل ذلك فهي في عالم آخر مليء بالورود والرياحين, حيث ارتفعت قصور أحلامها وهناك كان ينتظرها فارسها الذي أرسل لها هذه الورود !!!!
وأصبحت تقلب كافة الوجوه التي مرت عليها في حياتها, ربما يكون فلان أو فلان لكن لا اعتقد ذلك ربما فلان ........... هكذا استمرت في عالمها وهي تبتسم أخيرا جاء من تنتظره, وأنها فعلا فتاة طبيعية من الممكن أن تعجب احدهم وان كان طال الانتظار, فهي تخطت الثلاثين بخمسة أعوام ولم يطرق بابها يوماً . نظرت إلى الباقة فوجدت بطاقة صغيرة مثبتة فيها تقدمت نحوها بخطى ثقيلة ومدت أصابعها المرتعشة لتمسك البطاقة وتفتحها بهدوء فوجدت فيها هذه الكلمات
يقولون لا شيء أجمل من الورود أقول أنت يقولون لا شيء ارق من الورود أقول أنت يقولون لاشيء أندى من الورود أقول أنت صباحك معطر بالورود يا أحلى وردة ناظرتها عيوني
م ن
ما هذا ؟؟ أجمل وردة وأعطر!!! ..... م ن من هذا ؟ يا ترى من الذي يمكن أن يكتب لها مثل هذه الكلمات الرقيقة المليئة بالمشاعر الصادقة , احمرت وجنتاها خجلاً وهي تقرأ الكلمات من جديد وشعرت بإحساس غريب ينتابها لأول مرة , فهي ترى كل شيء جميل من حولها, ابتسمت بسعادة وهي تقول أخيرا هناك من يهتم بي ويراني الأجمل رغم أنني فتاة عادية لا املك إلا اليسير من الجمال, ولكنها ما لبث أن عقدت حاجبيها وهي تفكر بالحرفين اللذان يدلان على صاحب البطاقة!! من هو الذي يبدأ اسمه بحرف الميم ولقبه بحرف النون ؟ من يكون ؟
لم تشعر بالزمان ولا بالمكان وهي تعيش داخل أحلامها الوردية لم تشعر بهمسات وضحكات كل من يمر من أمام مكتبها , فالكل اليوم مر من أمام مكتبها حتى المدير نفسه وهو مستغرب من الحركة الدائمة في هذا الممر وقد علت محياه الدهشة هو أيضا فلم يحدث شيء كهذا من قبل في مؤسسته ولا يريده أن يحدث ثانية ولكنه آثر أن يؤجل ملاحظته لها بعد اجتماعه المهم .
وهي غارقة في أمواج أحلامها التي تنقلها بكل رفق إلى شاطئ السعادة حيث ينتظرها هناك فارسها , لكن طرقات متتالية على الباب أعادتها بقوة إلى ارض الواقع حتى أنها أحست بصدمة السقوط , فرفعت بصرها نحو الطارق فوجدته شاب صغير لم يتجاوز الخامسة عشر وقد تصبب العرق من جبينه وهو يبتسم ابتسامة مرتبكة وقال لها وهو يتلعثم : المعذرة على الإزعاج ولكن هناك خطأ فهذه الباقة ليست لك لقد أخطأت في العنوان فقد خلطت بين الرقم تسعة والرقم ستة, فهذه الباقة لفتاة في الطابق الثالث في العمارة رقم ستة ورقم مكتبها 22 مثل هذا المكتب .
تيار هائل من المشاعر المتضاربة جرفها, وعيونها تتبع الباقة التي أخذها العامل وغادر مكتبها, واخذ معه قلبها بعد أن استله من جذوره وأصبح صدرها خاوياً ينزف بشدة , وأنفاسها توقفت بعد أن انهارت قصور أحلامها عليها وغرق العالم من حولها في الظلام .
لكنها لم تبقى طويلاً في هذه الدوامة , فسرعان ما ارتسمت ابتسامة راحة على شفتيها ولمعت عيونها بالطمأنينة , فهي بعد الآن لن تفكر في من بعث لها هذه الورود ولا من يهتم بها ولن تغرق مجدداً في بحر الأحلام , ولن تنهار عليها قصور من الخيال لتكتم أنفاسها , فهي الآن تعرف جيداً انه لن تصلها باقة مثل هذه من احدهم يوما فهي الفتاة الخفية .
النهاية