[c]
منذ البداية أدركت بأنني سأعايش كل مساحات الجنون
وجلَّ الصراعات المميتة..
وسأحتسي كؤوس الحنين إليك
منذ البداية أدركت بأن نحتي لن يروق لأحد..
لأنه سيظل نحتا لن يدرك معناه أحد..
النــحـت ..
[/c]
نفضت غطاءها بشدة ..وكأن كابوساً مزعجاً دعاها إلى هذه القفزة المفاجئة..في ليلة شتوية كهذه..
لكنها قفزات المبدع التي غالباً ما تبدأ من السرير وكأنه منبع الأفكار والجنون ..
قطعت كتلة كبيرة من الصلصال وثبتته على قاعدة ..ودارت حولها مراراً..تأملتة بكل اتجاه وكأنها ترسم في مخيلتها الوجه الأخير الذي سيكون عليه..
فتحت نافذتها لتداعب نسمات الشتاء الباردة شعرها الأسود المنسدل على أكتافها..وبات ضوء القمر منعكساً على قسمات وجهها وهي صامته ..ليعود ينبعث من ثنايا روحها المتعبة ..
تنفست بعمق ..
وتمتمت بحزن..
تُرى من تكون تلك الروح الغريبة القابعة في روحي.. ؟؟
من هو ذاك الغريب الذي يسكنني ..؟؟
يصارعني ..ليطفو على روحي …وفكري ..!!
لكن كيف له أن يختبئ بكل هذا الغموض في روحي دون أن أدري ؟؟
يقتات على صبري ..يحتسي أدمعي ..ويتنفس حزني ..ويبتسم لكل آآه أزفرها ..هل هو ضد لي ..
أم امتداد لروحي ..؟؟
سلسلة من الانفعالات العاصفة ..والتيارات المضادة لكل ما هو روتيني ومألوف..
نظرت إلى كتلة الصلصال التي لا ملامح فيها ولا روح ..وتذكرت كيف عارضها الجميع.. عندما قررت أن تتحول من إدارة أعمال إلى نحاته ..سنوات مرت وهي لم تملّ النحت..بالرغم من منحوتاتها المبهمة من الجميع ..لم تجد أحد يفهم ..أو يترجم تجاويفها..
الكل ينظر إليها على أنها تماثيل غبية ..لا شكل واضح له ..ولا صفة مميزة فيها..ولا عائد مادي يوازي عنائها ..وانزوائها عن الناس .. ولا حتى التكاليف التي تنفقها لشراء أدوات النحت..
لكن كعادتها ..استجمعت كل ما لديها من عِند وشجاعة وموارد مالية ..ورثتها عن أبيها ..
لتتمكن من حجز قاعة عرض لمنحوتاتها في لندن لمدة ثلاثة أيام..
ثلاثة أيام ستكون لها كل الحياة ..أو كل الموت ..كل النجاح ..أوكل الفشل ..
أيام مرت وهي تحادث تلك الكتلة من الصلصال ..تقاسيم النحت في مخيلتها ..لكنها صعبة لحظات المخاض التي يعايشها الكاتب ..أو الرسام ..أو النحات..جفت الكتلة الصلصالية وهي على حالها ولكن لم تجف مخيلتها من صورته التي طبعت على كل شبر منها ..
الأيام تتقلص ..ولم يبقى الكثير على افتتاح معرضها ..أرهقت كثيراً في ترتيب القاعة.. القاعة التي تنكر الكل لها ..لإحساسهم الأكيد بفشلها وفشل صاحبتها ..
تجرعت الكثير من توبيخهم وسخريتهم لها ..الشك في إمكاناتها الفنية كانت تزيدها صلابة وإقدام ..
مدت خطواتها إلى مكتبها المُكدس بالأوراق ..قلبت كتبها ..ورمت كثير من الأوراق التي لا حاجة
لها ..لكن ما أن وصلت يدها إلى كتاب قصتها المفضلة ..وإذا بيدها تتراجع ..وقلبها يرتجف..حاولت الهروب من الوقوف بين أوراق لان تزيدها إلا هماً ووجعاً..لأنها تذكرها بخيبتها معه ..
مرت الأيام دون أن أحاول أن أتوقف لأسأل قلبي ..
أكنت أنا المخطئة ..؟؟
أم كان هو ..؟؟
تصفحت قصتها ..ولمست صورته التي مرت عليها سنوات ..وتسألت ..
لماذا مازلت احتفظ بصورته ..؟؟
ربما بات زوجاً ..وأباً..وقد نسي كل ما كان ..
تذكرت صديقة لها حاورتها كثيرا ً ..وتذكرتها وهي تهمس لها ..
عزيزتي الرجل عندما يحب بصدق لا شيء ينسيه حبيبته ..قد يبتعد ..وقد يتزوج ..وقد ينجب ويمارس حياته كأي رجل ..لكن سيظل حبه الضائع.. جرح لا يندمل ولا تقوى نساء الدنيا كلها على مداواته ..
ليتك تعلم كم جاهدت لا أرغم قلبي على نسيانك..كم من رجل رفضته لا نه لا يشبهك ..؟؟
وكل محاولاتي فاشلة ..كل الجهات تقودني لك..شرقي وغربي أنت ..تعبت الرحيل والهروب منك وإليك..فمتى تكف عن ملاحقتي..؟
نعم مازلت على عشقي ..وشوقي ..وأوجاعي في بعدك ..وإن كذبت ..وكابرت في هذا..لم يبق مني الكثير ..ليتك تنظر إلي لترى ماذا أصبحت في بعدك..؟؟
أصبحت كمدينة إغريقية تآكلت معالمها ولم تبقى إلا أعمدة مهترئة ومتآكلة ..
تأملت ملامحه الحزينة والهادئة ..قربت صورته من عينيها ..ذرفت دمعة حارقة وهي تطبع قُبلهً على صورته ..
انعكست الكتلة الصلصالية على صورته ..علمت بأنها أبداً لان يتركها بسلام ..فلقد بات كالروح الهائمة التي تبحث عن جسد تسكنه وكانت هي هذا الجسد ..
اقتربت من كتلة الصلصال ووضعت صورته أمامها ..أخذت تشكل الكتلة ..شيئا فشيئا باتت للكتلة ملامح ..ملامح رجل عشقته ومازالت تعشقه ..وإن مرت السنين..سيبقى كالعنة تطاردها فتنقص عليها حياتها ..
كل ما في النحت يشبهه وينطق فيه ..لم تتوقف لتلتقط أنفاسها ..أو تبل ريقها الجاف بشربة ماء ..
تقوست يداها ..وتصلبت قامتها وهي تعمل ..لم تحسب للوقت حساب ..قاطعتها حبات المطر القوية كانت تضرب زجاج نافذتها بعنف وشراسة..
ابتسمت للنحت ..
وحدثته هامسة ..
أتدري ..؟
حبك كالمطر..فمن ذا يمنع القدر ..قدري أن تعترض طريقي ..وقدري أن أحبك وقدري أن أبتعد ..
كم من الساعات مرت ..وكم من الصراعات شهدها ذاك النحت ليكون كما أردت..
لا أحد سيدرك حقيقة مشاعري وأنا أنحت رجل لم تلمسه يداي يوما ..لكن روحي لمسته..
سأنحته بعين قلبي التي أدمنت رؤياه..سأنحته وشما على روحي ..ستموت روحي يوما ..ولكن
سيظل أسمك محفوراً عليها ..
وأخيراً انتهى نحتي ..انتهى ولم تنتهي صراعاتي معك ..وحنيني إليك ..ستتصدر القاعة..وسأحملك
بيدي ..لن أدع أحد يمسك..ولكن ليتك تتكرم وتجف قبل الموعد..فلم يبقى الكثير على ذلك..
بضع ساعات يا سيد قلبي ..
مجنونة ..؟؟
هكذا أبدو لك..؟؟
لا يهم ..كثيراً ما كنت تصفني بالجنون .. والآن دعنا نستقبل الريح حتى تجف..لا تخف المطر
قد توقف ولم تبقى سوى الريح لتتلقفني وتتلقفك..لابد لنا من ذلك ..
تسللت خيوط الشمس المشرقة والدافئة أرجاء غرفتي ..وحان موعد الافتتاح..
هيا يا نحتي العزيز لنستقبل الحياة .. ولندع البشر يشهد روعتك ..
[c]
,,,وقد يكون للقصة يوماً بقية,,,
[/c]