إنها والله لموعظة بليغة للغاية لمن كان له قلب أو ألقى الله وهو شهيد، اللهم ارزقنا
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ! ما أعظمها وما أبلغها من موعظة... !
رحم الله الإمام ابن القيم رحمة واسعة ونفعنا بمعين علومه الغزيرة وفهومه الثاقبة !
---------------------------
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمهُ اللهُ في "الفوائد":
«لا تَتِمُّ الرَّغْبَةُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، ولا يستقيمُ الزهدُ فِي الدنيا إلا بَعْدَ نَظَرَيْنِ صحيحينِ:

النَّظَرُ فِي الدنيا، وسرعةِ زوالِـها وفنائِها واضْمِحْلَالِـها ونَقْصِهَا وخِسَّتِهَا، وَأَلَـمِ الْمُزَاحَـمَةِ عليها، والْـحِرْصِ عليها، وما في ذلكَ مِنْ الْغَصَصِ وَالنَّغَصِ وَالْأَنْكَادِ، وَآخِرُ ذلكَ الزَّوَالُ وَالِانْقِطَاعُ، معَ ما يَعْقُبُ من الْـحَسْرَةِ وَالْأَسَفِ؛ فَطَالِبُهَا لَا يَنْفَكُّ مِنْ هَمٍّ قَبْلَ حُصُولِـها، وَهَمٍّ حَالَ الظَّفَرِ بِـهَا، وَغَمٍّ وَحُزْنٍ بعدَ فَوَاتِـهَا، فهذا أَحَدُ النَّظَرَيْنِ.

النَّظَرُ الثاني: النظرُ في الآخرةِ وإِقْبَالِـهَا وَمَـجِيئِهَا وَلَا بُدَّ، وَدَوَامِهَا وبَقَائِهَا، وشَرَفِ مَا فِيهَا من الْـخَيْرَاتِ وَالْمَسَرَّاتِ، وَالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَهُ وبَيْنَ مَا هُنَا، فَهِيَ كَمَا قالَ سُبْحَانَهُ ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾؛ فَهِيَ خيراتٌ كاملةٌ دائمةٌ، وهذه خيالاتٌ ناقصةٌ منقطعةٌ مضمحلةٌ.

فإذا تَـمَّ له هَذَانِ النَّظَرَانِ؛ آثَرَ ما يقتضي العقلُ إِيثَارَهُ، وَزَهِدَ فيما يقتضي الزُّهْدُ فيه.

فكلُّ أَحَدٍ مطبوعٌ على أَنْ لَا يَتْرُكَ النفعَ العاجلَ واللذةَ الـحاضرةَ الى النفعِ الآجلِ واللذةِ الغائبةِ الـمنتظرةِ إِلَّا إذا تَبَيَّنَ لهُ فضلُ الآجِلِ على العاجلِ، وقويتْ رغبتُهُ في الأعلى الأفضل.

فإذا آثَرَ الفانيَ الناقصَ كانَ ذلكَ إما لِعَدَمِ تَبَيُّنِ الفضلِ لَهُ، وأمَّا لعدمِ رغبتِهِ في الأَفْضَل، وكلُّ واحدٍ من الأمرينِ يَدُلُّ على ضعفِ الإيمانِ وضعفِ العقلِ والبصيرةِ، فإنَّ الراغبَ في الدنيا الـحريصَ عليها الـمُؤْثِرَ لـها: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بأنَّ ما هناك أشرفُ وأفضلُ وأَبْقَى، وَإِمَّا أنْ لَا يُصَدِّقَ.

فإنْ لـمْ يُصَدِّقْ بذلكَ كانَ عَادِماً للأيـمانِ رَأْساً، وَإِنْ صَدَّقَ بذلكَ ولـمْ يُؤْثِرْهُ؛ كانَ فَاسِدَ العقلِ، سَيِّءَ الِاخْتِيَارِ لِنَفْسِهِ.

وهَذَا تَقْسِيمٌ حَاضِرٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَنْفَكُّ العبدُ مِنْ أحدِ الْقِسْمَيْنِ مِنْهُ؛ فَإِيثَارُ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ: إِمَّا مِنْ فَسَادٍ فِي الإيـمانِ، وَإِمَّا مِنْ فَسَادٍ فِي العقلِ، وَمَا أكثرَ مَا يكونُ مِنْهِمُا.

ولِـهَذَا نَبَذَهَا رسولُ اللهِ r وَرَاءَ ظَهْرِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَصَرَفُوا عنها قُلُوبَـهُمْ، وَاطَّرَحُوهَا ولـم يَأْلَفُوهَا، وَهَجَرُوهَا وَلَـمْ يَـمِيلُوا إِلَيْهَا، وَعَدُّوهَا سِجْناً لَا جَنَّةً، فَزَهِدُوا فِيهَا حَقِيقَةَ الزُّهْدِ، وَلَوْ أَرَادُوهَا لَنَالُوا مِنْهَا كُلَّ مَـحْبُوبٍ، وَلَوَصَلُوا مِنْهَا إِلَى كُلِّ مَرْغُوبٍ؛ فقدْ عُرِضَتْ عليهِ مفاتيحُ كُنُوزِهَا فَرَدَّهَا، وَفَاضَتْ على أصحابِهِ فَآثَرُوا بـها ولـم يَبِيعُوا حَظَّهُمْ من الآخرةِ بـها، وعَلِمُوا أنَّـها مَعْبَرٌ وَمَـمَرٌّ لَا دَارُ مُقَامٍ وَمُسْتَقَرٍّ، وَأَنَّـهَا دَارُ عُبُورٍ لَا دَارُ سُرُورٍ، وَأنَّـها سَحَابَةُ صَيْفٍ تَنْقَشِعُ عَنْ قَلِيلٍ، وخَيَالُ طَيْفٍ مَا اسْتَتَمَّ الزِّيَارَةَ حَتَّى آذَنَ بِالرَّحِيلِ.

قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا :كَمَثَلِ رَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا».

وقال: «وَاللَّهِ مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ».

وقالَ خَالِقُهَا سبحانَهُ: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[يونس:24-25].

فَأَخْبَرَ عنْ خِسَّةِ الدنيا وَزَهَّدَ فيها، وَأَخْبَرَ عنْ دَارِ السَّلَامِ وَدَعَا إِلَيْهَا.

وقالَ تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا﴾[الكهف:45-46].

وقال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾[الحديد:20].

وقال تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[آل عمران:14-15].

وقال تعالى: ﴿وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ﴾[الرعد:26].

وقدْ تَوَعَّدَ سبحانَهُ أَعْظَمَ الْوَعِيدِ لِمَنْ رَضِيَ بِالـحياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنَّ بـها، وَغَفَلَ عَنْ آيَاتِهِ ولـمْ يَرْجُ لِقَاءَهُ، فقالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[يونس:7-8].

وَعَيَّرَ سبحانَهُ مَنْ رَضِيَ بِالدُّنْيَا مِن الْمؤمنينَ، فقالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾[التوبة:38].

وَعَلَى قَدْرِ رَغْبَةِ العبدِ في الدنيا وَرِضَاهُ بـها يَكُونُ تَثَاقُلُهُ عنْ طَاعَةِ اللهِ وطَلَبِ الْآخِرَةِ.

وَيَكْفِي فِي الزُّهْدِ في الدنيا قولُهُ تَعَالَى: ﴿أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء:205-207].

وقولُهُ: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾[يونس:45].

وقولُهُ: ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾[الأحقاف:35].

وقولُهُ تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾[النازعات:42-46].

وقولُهُ: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ﴾[الروم:55].

وقولُهُ: ﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[المؤمنون:112-114].

وقولُهُ: ﴿ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا﴾[طه:102-104].

واللهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ» اهـ كلام ابن القيم