أوراق من سيرة مظلمة : الجزء الثاني
القاطرة المجنونة
ما الذي يمكن أن يشعر به فتى بدوي وهو في طريقه لأول مره إلى المدينة ؟..أكيد أن الإحساس سيكون متقاربا بين مختلف الأشخاص إذا كان الأمر يتعلق بزيارة عابرة . لكن الصورة قد تتغير كليا إن كان ذلك يعني هجرة نهائية .
ذلك اليوم انتظرته طيلة السنوات التي انصرمت من عمري ، و يمكنني القول أني عشت كل ما قبله من زمن في انتظار حلوله .
إنهاء الدروس في المدرسة الابتدائية في القرية كان يحتم على من يرغب في المتابعة أن ينتقل إلى مكان آخر بعيدا عن الأسرة و مهد الطفولة . لذا كنت أحس و أنا أقطع المشوار الفاصل بين الماضي و المستقبل أن جدارا غير مرئي كان يرتفع ليفصل وإلى الأبد بين ما عشته و بين ما سأعيشه. لكني لم أدرك قيام فاصل آخر حال بين رؤية طفولية بريئة للوجود وأخرى صاغتها تقلبات عالم حابل بالتغير و المتاهات.
حب استطلاعي لمعرفة ما يجري في العالم البعيد و تشوقي للغوص في تفاصيله أغشى بصيرتي على حقيقة مفادها أن أجمل صفحة من حياتي كانت تطوى ، و أنه كان يتوجب علي أن أكون حزينا خصوصا وقد كنت مقبلا على ركوب قاطرة مجنونة ستمضي بي قدما على طريق الجحيم.
أذكر جيدا ماذا كنت ألبس في ذلك السفر الذي احتجت فيه لأمي لآخر مرة مثلما أذكر زيها هي الأخرى .
أصررت أن أجلس جهة النافذة ، كان يروق لي أن أرى الأشجار و الأعمدة وكل الأشياء تركض إلى الخلف و تتوارى .
وكنت أترنم بمقاطع لأغنية كانت تذاع في الصباحات التي صارت قديمة .
أمي رغم صلابتها التي كانت تصل حد الشدة كانت تبدو حزينة تلك اللحظة . ربما كان ذلك من اجلي .
هل كانت تدرك أننا كنا نقطع آخر مشوار لنا سويا ، وأنها بعد ذلك لن تلقاني و لن تجد أي أثر لبصماتها في حياتي ؟
لم احتج إلى وقت طويل لكي أتأقلم مع أجواء المدينة . ربما لأني كنت مهيأ لذلك الانتقال منذ زمن بعيد . لكني رغم ذلك أحسست بالفراغ غير أنه لم يصل بي حد التفكير في العودة إلى القرية التي صرت أجد شخوصها بسطاء أكثر مما كان يجب .
كنت على وشك أن أنسى علمانية مدرس اللغة الفرنسية و اشتراكية مدرس اللغة العربية حين وجدت نفسي في أجواء أخرى .
الحركات و الأفكار اليسارية كانت قد غزت كل البقاع ووصلت حدا من القوة أنها صارت تطرح و بكل جرأة كل أفكارها بما في ذلك التي تتضارب في العمق مع الحقائق الدينية .
سمعت من أناس لا يمكن و صفهم بالجنون أفكارا أذهلتني . بقيت مشدوها و أنا اسمع أن لا وجود لشيء اسمه "الله" . و أن هذا الأخير إن ثبت أن له وجود فأكيد أنه خلق هذا الكون ثم نسيه .
يصعب علي أن أستعيد ردة فعلي على ما سمعته . أذكر أن الخوف داهمني ، وأني أحسست بالإشفاق على أولئك الناس ، و أني تصورت أي عذاب ينتظرهم . غير أني لم أستطع أن أهرب بعيدا . وردة فعلي كانت مجرد إحساس يعقب عادة الصدمات الأولى وبداية مرحلة تراكم طويل .
لم يكن لي من ملجأ سوى عالمي القديم . لكن مخلفاته التي ركامها داخلي صرت أجدها متهالكة وغير قادرة على تحصيني و السير معي طويلا . كنت أتوقف عند أشياء أخرى افتقدتها في عالمي الجديد . استعيد العلاقة المطبوعة بالروحانية التي أقرأها في الوجوه القديمة . أسترجع الدفء الذي كانت تمنحني إياه جدتي في جلساتها وهي تحكي حكاياتها الغرائبية . أتوقف عند هدوء ووقار الكهول . الطمأنينة التي كانت عليهم في سلوكهم وهم على أبواب المساجد أو قادمين من المصلى . أحاسيس كانت تجعلني أتساءل على ضوء ما سمعت.. أكل أولئك انخدعوا ؟..هل هذا الاكتشاف المتأخر قادر على أن يمنح إحساس مماثلا أو يزيد عن ما عاشه الناس في كل الدهور التي مرت ؟.. وعدم وجود رب أليس يعني أنه لن يكون هناك بعث و بالتالي المصير هو الفقد و الذوبان في عدم مطلق ؟ ..
عز علي أن أتصور أني سأتحول إلى لا شيء . أردت أن أطرد كل هذه الأفكار التي كانت تحاصرني و تتحول إلى ألسنة لهب على إيقاع تساؤلاتي . وحده مدرس مادت التاريخ من كنت أجد تذكره مفيدا لأنه كان الأقدر على دفعي للصمود ...آه كم كنت في حاجة في تلك اللحظات إلى وجود شخص مثله إلى جانبي ...كم كنت في حاجة إلى كلمة منه .
في طريقي إلى المحطة الموالية كنت أسمع صفير قاطرة قادمة من بعيد ، وكلما اقتربت أكثر كلما تباعد صدى الأصوات القديمة
تناهى إلي في ذلك الخضم ما هو أهم من السابق .الأفكار الجديدة أفادت أن "الله" هو مجرد فكرة ابتدعتها الفئات المسيطرة اجتماعيا لصرف أنظار الفئات المحرومة بعيدا عن مصالحها . إذ باعتقاد هذه الفئات بوجود عدالة في عالم آخر سيصرف ذلك نظرها عن المطالبة بتحقيقها في الدنيا ، وبذلك ستهدأ وتحمل مطالبها إلى يوم لن يأتي أبدا . وبذلك ستنفرد هي بخيرات الدنيا.
حقدي الأعمى على الفئات العليا الذي كان قد ترسب منذ طفولتي البئيسة جعلني أتبنى الفكرة هذه المرة من غير تردد .
وأذكر أني صرت بعد ذلك أبحث عن تجليات للفكرة على ارض الواقع . أنظر للتعساء الذين يشقون من اجل إطعام سادتهم ويبقون هم جياع .أنظر لأولئك الفيلة التي هي بتلك الضخامة كيف لا تفكر في أن تدوس مروضها الذي هو في حجم حشرة . وعن الشيء الذي يبطأ بصيرتهم وقوتهم و ما الذي يجعلهم يتجهون بشكاياتهم إلى جهة مجهولة .
اهتزت قناعاتي .. سحرت .. لم ينبهني سوى صفير القاطرة التي كانت في الانتظار .
تعرفت على "داروين" . أخطر شيء يمكن أن يترتب عن المعرفة هو بلا أدنى شك حين يصير الوسيط الناقل لها أكثر أهمية من قيمة المعرفة نفسها.
حكاية التحول أو التطور كانت زلزلا حقيقيا في تفكيري .لا أعرف كيف أخذت الفكرة على أنها بديهية مسلم بها لا تناقش . أشياء خطيرة تسارعت في ذهني على إيقاع سرعة القاطرة التي كانت قد أقلعت بعد أن انفتحت أبواب الإلحاد على مصراعيها في وجهي .
أن يكون الإنسان من شيء آخر غير التراب ، وغير نزوله من السماء فهذا يعني أن آدم وحواء و الشيطان و الملائكة و النجوم و السماوات و الأرض كلها مجرد حكايات في كتب هي من تأليف مؤلف لا علاقة لها بأية قوة
هكذا كان استنتاجي و أنا أزج بنفسي أو تزج بي نفسي في طريق الجحيم على إيقاع سرعة القاطرة التي كانت قد رفعت من الوثيرة لتصل إلى مستوى خرافي وتتوقف في محطة أخرى .
تعرفت على قانون الجدل ، قوام الماركسية و عمودها الأساسي الذي انبنت عليه طروحاتها في تفسير التاريخ .
الحلقة الأولى تبدأ بالمجتمع المشاعي و آخر حلقة في التطور تنتهي في المجتمع الشيوعي . كل شيء يحدده من يمتلك وسائل الإنتاج . وكل طبقة تخلق معها الطبقة النقيضة التي ستكون سبب فنائها . الحلقات متماسكة وعوامل التطور كلها تنهل من مصدر واحد هو انبعاثها من أرض الواقع . لا مجال و لا مكان لتدخل قوة غيبية في تحويل مسار التاريخ . كل شيء محسوب و معروف و بالتالي لا مكان للمعجزات . الطوفان و انحصار البحر وغيرها من المعجزات هي مجرد خيالات ..
القاطرة كانت قد أقلعت من جديد بعد أن صارت محركاتها تعمل بمصدر طاقة من الداخل . صفيرها صار حدا أكثر مما كان . الركاب الذين كانوا داخلها ما كانوا يسمعون شيئا .ربما لأن مسامعهم و أبصارهم كانت قد تعطلت و صارت مأخوذة بأشياء أخرى .
أستطيع الآن و أنا أنظر إلى تلك الصور من هذا العلو الشاهق أن استعيد أحاسيسي مثلما انتابتني و أنا أزج بنفسي في تلك الدروب المظلمة .
تلك الظلمة التي ازدادت قتامة مع تعرفي على أفكار "جوليان هكسلي". الأفكار التي دكت آخر معقل في تفكيري الذي كانت ما تزال فيه بعض الخلايا الحية ..
بعدها لم تتوقف القاطرة ثانية . سكتها كانت فارغة بل إنها ما عادت تحتاج في الأخير إلى سكة . صارت تمضي في كل اتجاه . في عبورها كانت تأتي على كل شيء . الأخضر و اليابس ولا تخلف وراءها غير الرماد و القحول.
الطفل البريء الذي كنته كان قد مات داخلي . بأصابعي ضغطت على حلقه . لم تصلني توسلاته لأني ما عدت أسمع . لم ألحظ عيونه وهي تجحظ و تنطق بالرجاء لأني كنت لا أحس .
مرحلة التراكم كانت قد انتهت . و مرحلة التحول المريعة كانت ملامحها قد بدأت تلوح في الأفق بعد أن تحولت إلى ملحد لا أثر في قلبه لأي شعور بالأيمان
.............................. .............................. ... يتبع
أوراق من سيرة مظلمة : الجزء الثالث
أبـــــو لهـــب
هل كان أبو لهب يعيش صراعا مع ذاته قبل أن يعيش صراعا مع الآخر ؟.. من أين كان يستمد ذلك العداء الذي هو بلا مثيل ؟.. ولمن كان يدين في حربه ؟.. لطموحه الشخصي أم لعشقه للوثنية ؟
عن أي شيء كانت قهقهاته التي كانت تملأ الأمكنة تعبر ؟ هل الذي كان أمامه كان يستدعي فعلا الضحك أم انه فقط كان يحاول طرد الخوف الذي كان يحاصره ؟.
حين كان يمشي كيف كانت تبدو خطاه ؟ ..هل كانت قصيرة قصر نظره ؟ .. هل كانت واسعة و سريعة تعبر عن ثقة و إقدام خانه في النهاية ؟ وهل كنت أنا فيما سأحكيه مجرد جسد لروحه التي سافرت عبر العصور لتستوطنه ؟
كنت قد صرت شيوعيا أو هكذا أعتقد . الأديان بالنسبة لي كانت مجرد غطاء يخفي مصالح النخبة الاجتماعية ومهدئ يسكن أوجاع الفقر و الحرمان الذي كان يسكن جسد الفئة العريضة .وعلى العكس من الكثيرين الذي كانوا قد التحقوا بالتيار فقد كنت أدرك ما معنى أن تكون ماركسيا . الآخرون كانوا يتحدثون عن الدين كأفيون لكنهم في النهاية كانوا يصومون رمضان .
على هذا الأساس انطلقت في حملة مسعورة همت كل ما له علاقة بالدين . سخرت من القرآن وهزئت من الأحاديث وتهكمت على كل الأسماء التي طالما افتخرت بها وضحكت ممن يعتقد بالبعث . إلا أن تفكيري تركز على محاربة أفكار النخبة .
كنت لا زلت هادئا ومعتقدا بجدوى اختياري حتى ذلك الوقت . لكن حملة الاعتقالات التي طالت كل القيادات قلبت كل شيء ،وتركت فراغا مهولا لم يمتلئ قط . و الأمل الذي كان يلوح قريبا قد بات بعيدا بعد أن شق طريق المستحيل.
القيادات التي ظهرت من بعد كانت ضعيفة .وإحساسها بالضعف جعلها تكتفي فقط باحتراف تفصيل ما مضى من التاريخ مع ضبابية شديدة كلما تطرقت للحاضر و المستقبل . و للحفاظ على تواجدها اختارت المواجهة لكن بعيدا عن الجبهة الرئيسية المؤجلة .
النقاشات التي صارت هي كل شيء لم تنتج غير تباين وجهات النظر التي لم تفرخ بدورها غير فصائل منشقة .
والنجمية و البطولة صارت أن تتزايد الفصائل في المواقف وإبداء ما يكفي من الدهاء و القوة لمحاصرة المنافسين الذين تحولوا إلى خصوم ..
بدا كل شيء يتفسخ في لحظة . ونجوم النقاشات اهتدوا إلى شيء آخر و انغمسوا في تحويل الوافدات على التنظيمات إلى منحلات و حتى عاهرات تحت غطاء الدعوة إلى التحرر ومحاربة الموروث وصولا إلى شيوعية الجنس .
بدأت أحس إحساس خنزير بري فاجأه طلوع الصباح وهو بعيد عن الغابة فاحتار و لم يعرف أي طريق يسلك .
صرت أدرك أن مبررات ولوج ذلك العالم بدأت تتداعى وتتساقط . و الجسور التي كان يمكن أن تعيدني من حيث أتيت كنت قد دمرتها . كما أن القاطرة التي حملتني حيث كنت لم تكن مجدية ما دام أنها لا تسير إلا في اتجاه وحيد .
كنت أعي إن النصر لا يمكن أن يتحقق إلا بزحف جماعي . ولأن الجماعة كانت تتفتت فقد شققت طريقا منحرفا داخل الانحراف الكبير.
اقتنعت أن اشتعال الجبهة التي ارقني خمودها هو حساب خاطئ . وانه قبل ذلك يجب المرور بمعارك أخرى . وان مهاجمة الأفكار التي تصنع الخنوعين يجب أن تحتل الأولوية في أي عمل .
هل روح أبي لهب كانت قد وصلتني أخيرا ؟ هل كان قلبي قد ختم عليه ؟ ..
ما سأحكيه حدث في رمضان و بالضبط في نهار ليلة القدر . الوقت كان عصرا . لا يمكن أن أقول انه قد غرر بي . لقد كنت صاحب الفكرة . كنت وبضع شباب . اشترينا قنينة الكحول الخاصة بالمواقد . شربناها . وخرجنا للشارع فاقدي الوعي .و أمعانا في التحدي اتجهنا إلى باب المسجد.
إن تحدثت في البدء عن خطوات أبي لهب وقهقهاته فلأني كنت أحس إنها هي نفسها التي خطها في سيرته ، لقد كنت أقلدها بشكل دقيق كان سيدهش أبا لهب نفسه . وان كان من شيء احمد الله عليه الآن هو أن الناس كانوا اكبر من طيشي و حماقاتي ..
حين صحوت لم اذهب إلى المنزل . لم اقصد أي مكان يعرفني الناس فيه . أمسيت امشي و بت امشي وكأني كنت افر من تلك الواقعة التي ظلت تطاردني رغم مرور كل هذه السنين.
انتبهت و أنا أسير إلى أني ما عدت أستطيع الدفاع عن نفسي ، و أن السرعة القصوى لا يمكن أن تخلف غير الحطام . لكنه لم يكن حطام الآخر هذه المرة ، لقد كان حطامي أنا.. الصور كانت مريعة بين طفل يبكي في قسم التاريخ لكون المسلمين انهزموا في أحد و فتى اسكر في ليلة القدر نهارا ، كان فراغ مهول لا يستطيع أن يملأه حتى الخيال .بين روح يانعة مبتهلة لخالقها وبين أخرى جافة ميتة بالشرك و الكفر السؤال كان يفر من نفسه بسبب قتامة الجواب .
أكيد أن أمي قد بكت وأنها لزمت البيت لأيام لكونها لم تستطع أن تكشف وجهها للناس بسبب عملتي و مدرس التاريخ أكيد انه لم يصدق ما سمع ولم يجد غير أن يصرح انه لا يعرف تلميذا باسمي . و آخرون الذين يعرفونني لا بد أنهم اندهشوا و أكدوا أني تعرضت لعملية سطو كان ضحيتها ذاكرتي التي زيفت مخزوناتها..
المعركة الأشرس كانت قد انتقلت إلى داخلي . وبت لا اعرف أي جهة في صارت تحاصر الجهة الأخرى وصرت أجد نفسي أمام سؤال ملح لا يقبل التأجيل ..من أنا ؟
مجريات الأيام بعد ذلك كانت اشد سوادا ..حين حاولت الهروب لم أجد سوى بابا واحدا ظل مفتوحا في وجهي . انه المخدرات
.............................. .............................. ... يتبع
أوراق من سيرة مظلمة : الجزء الرابع والأخير
التــــــــــوبة
حل زمن الجزر..
كل مخلفات و رواسب و أصداف الدهور كانت هنا . الرفاق كانوا قد افرغوا الساحات بعد أن خفت أصواتهم . وفي العتمة تجمعوا حول شواهد ورموز و أكمات خلفتها الموجة المنحصرة التي مرت ذات يوم من هنا.
نشأت مجالس في الواجهة الخلفية التي تطل على الساحة . الجدران كانت مغطاة بأشياء توحي أن تواجدهم خارج الساحة ما هي إلا تلك الخطوة إلى الوراء التي تليها خطوات واسعة إلى الأمام.
الرموز الكبيرة كانت حاضرة . صور من مختلف المراحل التي رافقت ميلاد رهان تحول إلى وهم . من ماركس إلى لينين ، ومن كمونة باريس إلى هوشي منه مرورا بتشي غيفارا . ومن فتيات نلن النجمة الحمراء إلى سعيدة المنبهي .
الجو كان يلزمه بعض الدفء ، ولذلك كان لا بد من أشرطة موسيقية ثورية تزيد الطقوس حميمية لعالم النضال داخل الغرف ، ومن ثم كان لابد من أغاني الشيخ عيسى و سعيد المغربي وناس الغيوان
ولا بأس من بعض الأشعار و الزجل . ولإلغاء الإحساس بالزمن وإعطاء انطباع انك في زمن آخر كان لا بد من المخدرات التي ابتدأت كموضة وانتهت إلى ممارسة يومية و إدمان .
في هذا الخضم بدأت التدخين وتعرفت على المخدرات . في البدء كانت تمنحني تركيزا مذهلا استغلته في كتاباتي التي كانت قد قطعت شوطها الأول . لكن العكس هو الذي حصل في النهاية . إذ صارت أحاسيسي تتبلد و تفقدني الإحساس بوجود الآخر وأظل فاغرا فمي لساعات غير مدرك لما يجر حولي .
مفعولها على قلبي ودماغي كان مدمرا . نقلت ثلاث مرات إلى غرفة الإنعاش . ولئن كانت حياتي قد استمرت بعد نوبتي الرابعة فلأن الله أراد ذلك فقط .
لا زلت أذكر تلك الوجوه التي كانت تحيط بي في تلك الساعة الرهيبة . كنت انظر إليها في يأس متوسلا إليها أن تفعل شيئا ما من اجل إنقاذ حياتي .لكن النظرات كانت صاعقة حين لم المس منها غير إشفاق كان يزيدني تعاسه .
ما كنت اصدق أني كنت سأبقى لأرى بزوغ الفجر . قلبي كان يخف بشدة . ورأسي كان فيه دوار رهيب . ودمائي كنت أحس أنها تمضي خارج جسمي ، وأنفاسي كانت تتلاحق بعسر شديد .
كان الموت يحلق في سمائي ، بل كان قد توغل داخلي . تأكدت أني راحل لا محالة . عز علي أن أغادر الدنيا في تلك الحالة . كان لي رجاء . أن يمهلني الله إلى غاية طلوع الفجر . كنت أتمنى أن أرى الشمس للمرة الأخيرة .
نعم كنت أتمنى أن يمهلني الموت لأرى الليل يسلم مفاتيح الحياة للنهار و بعد ذلك ليفعل ما شاء . ما أصعب أن يموت المرء في بداية الليل .. لكن الله منحني أكثر مما طلبت .
تجاوزت الأزمة بعد أربع ساعات . و الدرس كان بليغا ومليئا بالعبر . أقلعت عن المخدرات . ولحظة جنوحي إلى التوبة كانت قد بدأت في اليوم نفسه .
صرت أسأل نفسي . من أنا ؟...
ملحد ؟.. اقلب كل الوجوه لأجد أني لم أكن في أية لحظة ملحدا حتى في أوج تيهي و اندفاعي ..
كافر ؟.. ولا هذا أيضا .في كثير من الأوقات كنت أدعو الله وأنا مريض أو وأنا مقبل على شيء مهم ..
مؤمن ؟.. ما كنت أجد هذا أيضا . كثير من الأشياء قمت بها تدل على أن ذلك السلوك لم يكن سلوك إنسان يخشى الله ..
يعود السؤال ليهشم رأسي من أنا ؟.. كان يجب أن أكون شيئا ما . لكن أن أكون لا شيء . صعب أن يحس الإنسان انه لا شيء ..
بدأت الحيرة تحاصرني .. تستبد بي .. تؤرقني .. لو أني اهتديت إلى جواب لهان الأمر .
لم تغرب عني الحكاية الأخيرة . بل إنها صارت حاضرة بكل قوة داخلي .
بدا السور هائل يتنامى بيني و بين الرفاق الذين كانوا لا يزالون يعيشون أحلامهم الزائفة . بدأت أكتف أنهم ليسوا سوى ببغاوات يستوطن الفراغ قلوبهم . كل ما يعيشونه فراغ . كل أحالمهم فراغ . كل ما يسيرون اتجاهه فراغ .
سألت نفسي في أوج ثورتي على نفسي . ما هو الموروث ؟ وكيف يجب أن نفهم الموروث ؟ ..
لم أكن في حاجة إلى مناهجي القديمة كي احدد الجواب ولا إلى تلك الآلية التي تحدد فيها الاستنتاج .
قبل أن تحدد أدوات البحث . حددت الجواب بكل بساطة ..
الموروث هو قيمي التي تميزني عن الأخر . هي منظومات نشأت في علاقات متنوعة أعطت فها ورؤيا . أما كيف أفهم الموروث فلن أبحث بعيدا بقدر ما يجب أن أبحث عن كيف أفهم نفسي .
تبادر إلى ذهني سؤال و أنا ابحث عن أجوبتي أنه في منظومة الأفكار القديمة التي كنت اعتنقها قبل حين أنه لم يكن هناك مجال للشريعة و القوانين المنزلة . وبالتالي فباستثناء الملكية الفردية وجرائم السرقة و القتل ليس هناك شيء يسمى حلال و شيء حرام . وليس هناك إيمان بالأسرة في المدى البعيد
عند تحقيق الشيوعية . إلا يعد الزواج من الأخت مباحا ؟ ...
الجدار الجليدي كان قد تزحزح من مكانه . بدأت أحس أن الروح بدأت تسترجع حياتها . وشعرت أني أخيرا بدأت أفكر .
كان الوقت قبيل الفجر . لم أكن قد نمت بعد . كنت منشغلا بمسألة الموروث . هل كنت ابحث عن ترميم جسوري التي كنت من قبل قد دمرتها ؟
علا صوت المؤذن فجأة مكسرا الصمت المطبق على المكان . الصوت كان لشيخ طاعن في السن . نبرته كانت تفيد هذا ، و لذلك كان يصلني بإيقاع خاص تطبعه بصمة النوم . نقلت بصري لما حولي . لم يكن ممكنا أن ترى كل الأشياء . الظلمة كانت لا تزال ناشرة أجنحتها . رفعت رأسي إلى السماء . ضوء النجوم كان يتلألأ مودعا متواعدا على اللقاء في ليل جديد . وخيوط الضياء الأولى كانت قد شقت مسارا ت في كبد السماء التي كانت زرقتها قد انفتحت ..
بدا صوت المؤذن منسجما مع هذا الفضاء . إذ لا يمكن أن يقبل المرء أن يرتفع في وقت كهذا صوت غير صوت مؤذن ينادي للصلاة .
بدأت أردد مع المؤذن ألفاظ الأذان ....لا اله إلا الله ...
تسمرت في مكاني ولم اعرف ما الذي شل حركتي . ثم بدأت خطاي تسير من تلقاء نفسها كفراشة حين تنجذب إلى نور سراج وهاج لا تملك إزاءه أية مقاومة ...
هل كنت أعيش اللحظة التي سبق أن عشتها حين رفرف الموت في سمائي ؟.. هل كشفت أخيرا الشفرة التي تسمح بفك رموز أمنيتي ؟ ..
أحسست بجدار هائل تهاوى داخلي . و أنني في كل ما قطعته حتى تلك اللحظة منذ غادرت قريتي إنما كنت احمل القاطرة المجنونة التي ركبتها يوم كنت مغفلا لأعيدها إلى المحطة التي ركبتها منها ..
وقفت باب المسجد . النفس الأمارة بالسوء لم تتحرك هذه المرة وضعت خطوتي الأولى داخله فأحسست أن كل الماضي الأسود قد خلفت ورائي ، و توهمت أن الشيطان يحترق غيضا .
لم ينظر إليَّ احد كما كنت أتوقع دوما أو كما كانت تصور لي نفسي المريضة . لم تطالعني الوجوه بذلك الاستفسار الذي كنت أتخيله . المصلون كانوا غارقين في أعماقهم . توضأت و اتجهت إلى قاعة الصلاة ..
برهبة وقفت بين يدي الله و كأني كنت في يوم البعث منتظرا استلام كتابيه . سلمت.. كبرت .. ثم بدأت في القراءة ومن الوهلة الأولى أحسست أن الله اكبر من أن يضيق بطيش عبد ضعيف مثلي . وانه مختلف عن كل الكائنات و الموجودات بحيث لا يبخل برحمته وعفوه عن متهور تاب إلى رشده ..
حين سجدت ، تمنيت أن يتوقف الزمن هنا . انزاح عني كل القلق . أحسست أني في أمان .. الأمان الحقيقي الذي بحثت عنه طوال عمري ...
تضرعت للخالق أن يمنحني توبته ويعفو عني و عن كبائري . ودعوت لؤلئك الضالين أن يهديهم الصراط المستقيم و ينبههم إلى طريق التوبة و المغفرة ...
حين أنهيت صلاتي وخرجت من القاعة . كان الشيخ العجوز لا زال هناك . ناداني واحتضنني . لم يكن غريبا عني .. بكيت من التأثر وطمأنني بأن الله عفو غفور
.............................. .... انتهت وإلى لقاء في عمل جديد إن شاء الله