المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رواية : الركض خلف السراب



عبدالله البقالي
17-11-2002, 07:03 PM
كنت مازلت نائما ذلك الصباح حين ايقظك ذلك الدق العنيف المتواصل على الباب والذي لم يتوقف الا بفتحه .انتابك الهلع و ارتسمت على محياك علامات التساؤل و القلق و الحيرة .
ازداد اندهاشك اكثر حين رأيت "يوشو" بقامته الطويله وجسمه النحيل وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة كادت ان تبارح وجهه . لم يترك لحيرتك ان تدوم اكثر . عانقك وزف اليك نبأ عشت لسماعه خمس سنوات . قال لك : " ابشر . لقد افرج عنك و آن لك ان تغادر منفاك الاجباري "
لم تصدق . انذهلت . بقيت مصعوقا . قفلت عائدا الى الداخل تاركا مبشرك بالباب وكانه صار شيئا من الماضي الذي ابتدا لحظة قرعه .
كنت تائها ، خبر عشت لسماعه خمس سنوات يفاجئك وانت في السرير . كنت تتوقع ان تركض وراءه وتركض في محطات لا تعدادا لها . وتتسلمه وانت تقطر عرقا و يأسا . لكنه يفاجئك وانت نائم ..
قفلت خارجا تجوب الازقة و الدروب . الناس الذين كانوا يمرون بك بدوا وكأنهم تحولوا الى اشباح . وكأن ما عادت لك بهم صلة.
الحزن . الفرح . الحضور. الغياب ...احاسيس كانت تتنافس من اجل السيطرة على ملامح وجهك الذي بات كسفينة مهجورة عند ساحل البحر .
المفاجأة كانت كبيرة . لم تتمالك نفسك ازاءها . افسحت المجال لصور معينة كي تغزو ذهنك . عدت للوراء كما كان يحلو لك ان تفعل طوال خمس سنوات . الى اليوم الذي التحقت فيه بمركز التدريب الذي يحمل اسم الشخص الذي كنت ترى ان مصيرك لن يختلف عن مصيره . مع فارق ان الاول احرق وانتهى في بضع دقائق في حين ستمضي عمرك انت تحترق على مهل .
قضيت هناك سنة كاملة كنت اثناءها تنظر الى ما حولك من شرفتين مختلفتين . الشرفة الخلفية كنت تطل منها على المسار الذي انبعثت منه . و الشرفة الامامية تطل منها على المتاهة التي ستقذف فيها بعد حين .
الشرفة الخلفية كانت الاكثر جاذيبة . تصغي السمع عبرها فيتناهى اليك صوت الجدة خافتا تسألك وانت عائد لتوك من المدرسة ." ماذا ستشتري لي حين تصبح موظفا ؟
السؤال كان له مفعول انفجار داخلك. بسرعة تعود بك الصور الى الوراء . تتذكر شكلك وانت في طريقك الى المدرسة اول مرة .الاكتشافات توالت بسرعة بعد ذلك . و بالقدر الذي كانت علاقتك تتشعب بالعالم ، بالقدر نفسه كان الاحساس بالدونية يتعمق داخلك .
فرحتك ازدادت يوم صارت لك محفظة . بها كتاب ولوحة وطبشورة . فتحت الكتاب . وكأي طفل تسحره الالوان نظرت بانبهار لكتابك الملئ بالصور و الرسوم . احتضنت الكتاب غير مصدق ان ذلك الكتاب هو لك وحدك . وحين اطمأنت . عاودت فتحه مستعرضا ما فيه من صور ورسوم .
في البدء كنت مجرد متفرج شغوق بمعرفة ما يجري في عالم بعيد لا يعنيه في شئ . لكنك حين الفت الصور و عاودت قراءتها . نبع تمردك من البوابة نفسها التي توارى خلفها اعجابك . لا تعرف كيف استنتجت ان حياتك هي محل سؤال . اهو ذلك الفارق المهول بين ما كنت تعيشه وبين ما كانت تنطق به الصور ؟ ..اهي تلك المعاملة الرقيقة التي كانت تفيض من الصور و التي افتقدت اليها عالم رجولي عنيف كان يلف حياتك ؟..
لم تكن لتصمد امام هول الفارق .كل شئ كنت تجده يصرخ فيك ويشهد بدونيتك .المنازل الراقية . السيارات الفخمة . الحدائق المترامية . الغرف الرحبة . الارائك . الستائر . المزهريات ...
اشياء كثيرة كانت تجعلك تغلق الكتاب وتنظر الى ما حولك . تتأمل الحصير المتآكل الجوانب . الاغطية المبعثرة بلا نظام . الكوة الضيقة القائمة عند منتصف الجدار و التي كانت مشروع نافذة . ..
لكن مع هذا كنت تستطيع ان تصمد مدفوعا في ذلك باعتقاد مفاده ان هذه مشيئة الله ، وصرامة تلجم كل من يتطلع الى اشياء الاخرين . غير انه في العمق كان ما يزال ثمة بقايا احساس متمرد . احساس كان يتحول الى حريق يدفعك كي تستغيث . لكن الناس الذين كانوا حولك و احاطوك كنت تجدهم رمادا ما كان ابمكانهم ان يفعلوا شيئا من اجلك .
ان تكون موظفا معناه ان تشق طريقا كمثل تلك الطرق التي كنت تبحث عنها خلف الصور حين كنت تفكر في الهروب الى ذلك العالم الحالم الذي كان يستدعيك ..
عوالم كانت تساؤلات الجدة تفتحها دون ان تدري . لذلك كنت تجيب بحماس وتصميم
- ساشتري لك كل شئ .. كل شئ .. فساتين ..احذية ..جوارب .. قمصان .. جلاليب ..
تضحك الجدة وتضحك بملء شدقيها . تسألها وهي لا زالت مستغرقة في ضحكها ..
- اتعرفين من اي نوع يا جدتي ؟
تتصنع الاندهاش . تفغر فمها وتجيب منصتة بكل حواسها .
- لا .
ترد بنفس الحماس و الانفعال
- من حديد يا جدتي .. من حديد ..
تعاودها نوبة الضحك . تنادي النسوة وتحكي لهن ما دار بينكما . تعيد طرح نفس الاسئلة . تسألك النسوة ما ان كن سيحظين بنصيب من هداياك . يزيدك ذلك حماسا وانت تجيب محدا نوع الهدايا بتحديد قيمة كل واحدة منهن ..
لم تكن تعرف لماذا كنت تصر على ان جميع مقتنايتك للجدة ستكون من حديد . وكانك كنت تتمناها ان تصمد لتعيش الحدث . او كأنك كنت تدرك بحدسك نهايتها المأساوية حين ماتت مختنقة بميبد الحشرات .

لكن هاهو ذلك اليوم الذي كان يلوح لك من بعيد قد حل الان . تنتقل الى الشرفة الامامية . تنظر اليه . تتفحصه . تبحث عن ذلك المغناطيس الذي جذبك بقوة اتجاه هذا اليوم وتجعلت خطاك تسرع هاربا من الصبا . فهل انخدعت حين فعلت ذلك ؟
ما عاد السؤال مهما الان و لا مفيذا . لكن بامكانك ان تتجنبه . سر قدما الى الامام . فهناك ن على بعد خطوات او اميال ستولح لك بوابة جديدة . اعبرها وبعدها سيلوح لك وهما جديدا تجري من اجله . انس المشوار الذي قطعته من الصبا الى هنا . وانت تجري اتجاه بوابة وهمك الجديد . احذر ان تقع عينيك على ركام ايامك المستهلكة ، فان انت فعلت فاعلكم ان ذلك سيفسد عليك عمرك المتبقى .
يتبعوانت تحمل اشياءك للمرة الاخيرة ، ناداك مدير المركز قائلا : أنت ... يامن كان يدعي ان هذا المركز هو امتداد لفضاء الجحيم ... ما رأيك انك ستذهب للعمل في مكان سيظهر لك بالملموس انك كنت في الجنة و ليس في الجحيم .؟
استدرت وقلت في لا مبالاه : لن استغرب ذلك ما دمت اعرف ان احاسيسي وحواسي قد تبلدت يوم وضعت نفسي في خدمتكم .
عدت للقرية منتظرا ان تلوح لك بوابة وهمك الجديد ، وفي انتظار ذلك كنت تسخر من الرفاق الذين كانوا قد تعرفوا على اماكن عملهم . تقول لقريب عين في ضواحي مدينة جنويبة بعيدة : " العقل الالكتروني كان رؤوفا جدا بك . لفد عز عليه ان يذهب شبابك سدى . ولذلك فهو حين قرر ان ينظر في امرك ، وضع شبابك اليافع في كفة مع تطلعك للحياة . ووضع في الكفةالاخرى اعداد افراد اسرتك الوفير . لذلك ابعدك عنهم مجنبا اياك دفع حساب فاتورة ثقيلة لست انت من ضخمت ارقامها .
تقول لآخر : حقا ان العقل الالكتروني ذكي للغاية . لقد اعتمد في قذفك الى تلك الربوع على مبرر في غاية النباهة لا يخطر على بال ، وهو انه اكتشف ثمة خاصية مشتركة بين اسمك واسم الاقليم الذي اختاره لك .وهو ان كلا الاسمين يتكونان من احرف كلها متنافرة .
كنت آخر من تعرف على مكان عمله .الرفاق لم يعلقوا بشئ بالرغم انه منذ امد وهم يستعدون لذلك .لا اشفاقا عليك ولا لأن المكان مناسب وانما لأن لا احد و لا انت سمعت باسم ذلك المكان من قبل . بحثت في الخرائط و سألت الناس . وفي الاخير بالصدفة عرفت . تشبثت بالرجل الذي حدثك عن المكان ، وحين راعك ما سمعت تشبثت بالرجل مطالبا اياه ان يصرح ان ما تفوه به لم يكن سوى مكيدة من الرفاق . لكن صرامة الرجل وجديته جعلتك تخجل من نفسك . وعدت للخريطة تبحث على ضوء المعطيات الجديدة . غرب "تندوف" شمال "الزاك" جنوب "كلميم" .
انهرت حين طالعك الاسم . "آسا" اسودت الافاق في وجهك وفقدت الحياة سحرها . رفاقك قالوا عنك هازئين " ان العقل الالكتروني يعرفك معرفة شخصية . لذلك فقد وضع في حسبانه حبك للمغامرة ، وشغفك بدراسة التاريخ والظواهر الاجتماعية . لذلك ارتأى ان يمنحك الفرصة . اذ وانت تقطع المغرب من اقصى شماله الى تخم عميق في الصحراء ، ستمر بالكثير من الوديان و الجيال والسهول . وستتعرف على كثير من المدن و القرى . و تتعرف على انواع مختلفة من العادات و التقاليد ، فيكون ذلك ميدانا خصبا تنمي فيه مواهبك ..
لم تغضب ولم تعلق . و لأنك لم تسمع ما قالوه لك اصلا . ولأنك كنت منشغلا بوضع ترتيبات لغزوة شيئ لك ان تكون قائدها . لكن بلا مشيئة ولا روح . لكن مشيئة من كانت ؟ مشيئة الله ام مشيئة العقل الالكتروني ؟.. لتكن ، المهم انت من سيخوض غمارها . لذلك امضيت الوقت في وضع ترتيبات لمكان وزمن لا تعرف عنهما اي شئ . غير انك كنت تصطدم بالظلمة والغشاوة فتنحجب عنك الرؤية . تثور . تنفعل .ثم تقرر ركب الخطب .
لا زلت تذكر ذلك الصباح ولا شك . وقبله لم تنم ليلته . كوابيس واشباح كانت تقتحم الاحلام وتسودها . روحك كانت تنزف . اياد كانت تمتد اليك وتنتزع منك روحك . تصرخ . تتمرغ . تبكي بكاء صامتا وا اقسى وقع البكاء الصامت . وحين علا صراخك كم فمك وغلت يداك . شرحت واخذت منك روحك عنوة ووضعت في قفص محكم الاغلاق وقذف بها خارج المكان و الزمن .
مفارقة عجيبة عشتها ذلك الصباح . في الوقت الذي كانت روحك تصادر كانت الغرفة المجاور لك تعرف قدوم كائن جديد . سمعت صراخ ذلك الكائن . لكنك لم تسأل ولم تهتم . كنت منشغلا بتشييع روحك .
لممت اشياءك بعد تردد طال . القيت نظرة اخيرة على فناء البيت المكشوف للسماء والذي كان لا يزال قابعا تحت اجنحة الظلمة .
وقفت عند عتبة الباب وفي مقلتيك دمعات ساخنة . استدرت . لاح طيف امك على بعد امتار. اقتربت اكثر . استطعت ان تتبين شفتيها تتمتمان . اي دعاء كانت تدعو به ؟ واية سور من السور القصيرة التي تحفظها كانت تقرأ ؟
لم تعرف . لكن الذي ادركته هو أن اصداء نحيبك الداخلي كان يصلها . لذلك لم تفلح في مقاومة دموعها . انهرت . ليس بفعل تاثير احاسيس اللحظة ، ولا لأنك مقدم على فراق الاسرة والاهل و الرفاق ومسارح الذكريات وانما لأول مرة منذ زمن بعيد ترى هذا الربان الذي قاد فلكه في مواجهة اعتى الاعاصير ينهاراخيرا ويبكي . صحيح ان كل اغانيها التي غنتها وهي تطحن الحبوب في رحاها اليدوية الحجرية كانت كلها مفعمة بالحزن . لكنها لم تكن اغان . كانت خيوط ضوئية تؤقت نبضات الافئدة على ايقاع صعود وخفوت صوتها . شاشة تنتصب ليعرض عليها مشهد وحيد . عش واهن في مسار اعصار . ينتابك الخوف . تنظر الى الجهة التي اختفى فيها الاب آخر مرة راكبا حصانه . لكن صورةالاب سرعان ما كانت تنمحي . بل يمسحها هو لانشغاله بأمور اسرة اخرى لم يكن ما يربطكم بها سوى الخط الذي
كان يرسمه مسار سفره . تغير وجهة نظرك . ينتابك احساس صاعق . شعور من ليس له اب في عالم رجولي . تعود لتنظر اليها . هي كل شئ . هي الوجود والحياة هي الامن و الامل . تقترب منها اكثر . وكانها كانت تدرك ما كان يدور في الاذهان . لذلك بسرعة كان الصوت الحالم يختفي . تلبس قناعها وتصرخ في الجميع بنيرة تملؤها الشدة والشراسة .
لكنها في تلك اللحظة كانت تبكي . تمنيت لو لم تفعل ذلك . وكمثلما كان يحدث في القدم . استجمعت قواها وقالت محاولة دفعك للتماسك .
" لا تقلق . يوما ما ستعود وسينتهي كل شئ "
اختصرت كل مآسيك التي يمكن ان تعيشها في كلمتين . حاولت ان تمثل . ان تبدو رابط الجأش وانت تودعها . اختفيت تحت سدائل الظلمة ومضيت . منفردا ستواجه كل الاحتمالات ، وحذار ان تعود
منهزما .
تسال نفسك وأنت تقطع المسار الفاصل بين الماضي و المستقبل . من انت ؟ وماذا كنت قبله ؟
تصل الى جواب وحيد : "انت مثلما كنت ، كائن اتى الى هذا العالم دون ان يعرف هل كانت تلك رغبته ام لا . حرباء تستمد الوانها من الوان الامكنة كي تستمر . لكن ما لونها الاصلي ؟ نسته او تناسته ما دام ارتداؤه يهدد بقاءها . وأنت افعل الشئ نفسه واحذر كل شئ وافعل كل شئ .واصغ السمع جيدا للأشياء التي لا تنطق فقد تجد روحك عبر ذلك طريقها الى جسدك ..

يتبع

فهد الاحمد
19-11-2002, 03:10 AM
هلا اخوي البقالي .....

ارجوا ... انك .. تقول .. منهو الكاتب .. وماهي جنسيته ...

ونبذه عن الكتاب الله يحييك ......

وتحياتي لك .........

أرسطوالعرب
19-11-2002, 05:20 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
(*مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد*)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته....

أخي الفاضل فهد الأحمد....

يبدو أنك لم تتعرف جيداً على الأستاذ عبدالله البقالي...

الكاتب والناقد الكبير من المغرب الشقيق....

الكاتب هو صاحب المعرف....

وسأكون شاكراً لك إن إعتذرت لوالدي...البقالي
---------
أولى أبواب الفضيلة...تقييم الجهل ثم تقويمه
----------
ثـامـر الـحـربـي

فهد الاحمد
19-11-2002, 07:05 PM
السلام عليكم ..

يا هلا بأرسطو العرب .. واعذرني على عدم معرفتي بالكاتب ..

لأن خبرتي ضعيفه جدا بالكتاب العرب الغير خليجيين ...

وانا اهتمامي اكثر بالكتاب الخليجيين ...

وانا مقصر في عدم تطلعي .... وهذا تقصير مني طبعا ...

وولا يهمك ... انت الآن فتحت لي باب اني اتعرف اكثر واتوسع في الاهتمام بالمثقفين عموما ..... وشكرا

وتحياتي لك وللكاتب البقالي ..... واعذرني على التقصير مره ثانيه وشكرا ....

عبدالله البقالي
20-11-2002, 02:01 AM
الاخ الكريم فهد الاحمد

شكرا لك لتفضلك بالسؤال ولا ارى داعيا للاعتذار . واشكر بالمثل العزيز

ارسطو الذي ناب عني في الاجابة عن تساؤلاتك . وتشرفت بمعرفتك .

عبدالله البقالي
24-11-2002, 10:31 PM
المدينة لم تكن جذابة كما كنت تجدها وانت في غدوك او رواحك اليها . بدوت غريبا عنها . نزلت في محطة " ابي الجنود" . جلت ببصرك تطالع الوجوه لعله يقع على وجه مألوف يخفف عنك تلك الوطاة التي كنت تشعر بها . القيت نظرة على سبورة مواعيد الذهاب الى الدار البيضاء . عز عليك ان تنطلق في الرحلة الحقيقية التي ستقودك الى منفاك دون ان يكون شخص ما في وداعك . طفت الازقة المفضية الى المحطة لعلك تصادف شخص . اي شخص مهما كانت علاقتك بك به بسيطة . كان البحث بلا جدوى . عدت ادراجك الى المحطة ، لكن كان يجب ان يكون في وداعك شخص ما حتى لو كان العقل الالكتروني نفسه.
خاب مسعاك . صعدت الناقلة مستسلما لقدرك . وبعدها اسدلت الستار وغصت بعمق في الطريق المؤدية الى المستقبل .
لم تدرك كم من زمن استغرقت الرحلة الى البيضاء . كان زمن اخر غير محدد لمعالم هو الذي يصبغ تلك اللحظات . اثناءه كان كل ما مضى يتراءى كالنجوم المتلالئة في اواخر الليل في وداع وتواعد على لقاء في ليل جديد اخر . لكن هل كنت انت حقا تنتظر اشراقة جديدة تنتهي بليل جديد ؟..
الحافلة تلفظك الان في محطة بالبيضاء . هذه المدينة التي تشبه السماء في امتدادها و البحر في عمقها . كل خطوة كنت تخطوها فيها كانت تجعلك تحس كحشرة تقتات من جثة ثور ميت . وكل خطوة كنت تخطوها فيها كانت تجعلك تشعر انك كقزم امام اقدام عملاق متجبر . لكنك مع ذلك صرت تتطلع للوجوه باحثا في ملامحها عن اثر مواسات منها لك .
جلست على كرسي هو الاقرب الى الناقلة التي ستحملك طواعية الى حيث تكره الذهاب . المحطة هائجة . قادمون وراحلون في ركض مستمر . الاصوات تختلط بزفير المحركات والمنبهات التي تصاعد من كل جانب . الوحوه تظهر وتختفي من اثر الدخان الذي تنفثه المحركات . وأنت كنت تتامل الجمل الاخضر الذي اخرج لسانه وفتح قوائمه الى اقساها دلالة علىالسرعة .
لم تعرف ما الذي شدك الى ذلك الرسم , بل لماذا شبهت نفسك به . ربما لانه بدا لك أنه يجري دونما رغبة ودونما غاية . وربما لأن المطلوب منه هو ان يركض ويركض في محطات ومشاوير لا تعداد لها .
كانت الشمس تغيب عندما اقلعت الناقلة ، وبعدها غاصت في الظلمة و المجهول . لكنك كنت داخلها . تشخص ببصرك الى ما وراء النافذة . يرتد بصرك خيبة فتنعكس ملامح وجهك على الزجاج .
تستعجل انطفاء الضوء لتخلو الى نفسك وتذوب في تلك اللوحة المشكلة من توقدك الداخلي الذي كان يتحول الىتموجات تمضي في كل السبل . تمضي الخيوط الى ما لا نهاية . تنهار حدود الزمن . الماضي يتعايش مع المستقبل . و الحاضر لا يعني اكثر من مقعد يحمل جثة شخص مهموم ، غارق في رصد انعكاسات قرار اتخذه انسان آلي تهم حياته .
لكن بالرغم من ذلك فالليل كان جميلا . اجمل من حلم سعيد مقبل على تعس غارق في النوم ، خصوصا اذا كنت في ناقلة تلتهم المسافات لتفرغك في الصباح في مكان ما . تنتصر مؤقتا على الامكنة ,ويصير الوجود كله مركزا حول ذاتك التي تصير في الصباح ملغية . وبعدها ماذا تفعل ؟ بل ما عساك تفعل ؟ ستضطر الى ان تحرق شيئا ما لتفصل ما مضى عن ما سيمضي مثلما احرق ذلك القائد سفن جنده ليجعل لحياتهم ممر وحيد ينتهي اليها ان ارادوا العيش .
لكن بالرغم من ذلك فالليل جميل . لكن كيف يرى الجمل الاخضر الليل وهو يركض ؟ .. ربما لم يسال نفسه . وربما جنبها عناء السؤال . لكن لو كنت مكانه ماذا كنت ستفعل ؟ .. اكيد انك كنت ستركض انما الى الخلف . لكن لماذا يرتبط الماضي دوما بالقداسة و الكمال ؟... الجمل الاخضر لا يهتم بالماضي ، لذلك فهو يركض في اتجاه واحد لا يحيد عنه وكانه هارب من شئ ما قد يكون هو الماضي نفسه.
المحطات تتوالى . الركوب و النزول مستمر . سحنات الركاب بدات تتغير . صرت تسمع لهجات غير مالوفة . و انت صار في امكان اي راكب ان يقرأ تعريفك بوضوح على وجهك . بياض بشرتك . شعرك الاشقر . الغربة التي تفصح عنها نظراتك . التعب الذي كان باديا عليك بسب المسافة الطويلة التي كنت قد قطعتها .
راكب مسن ينظر اليك و يسألك : الى اين ؟
لم تتردد في القول : الى حيث شاء العقل الالكتروني .
يرد عليك الرجل : ومن يكون العقل الالكتروني ؟
ترد بعد لحظة تفكير : قطعة هي مزيج من حديد ولدائن لها مفعول الدومينو.
يستغرب الرجل و يسال : وهي التي امرتك بسلك هذا المشوار وانت اطعتها ؟
تهز كتفيك وتجيب : لم يكن امامي خيار آخر .
يبدا الرجل في البسملة و الحوقلة فتسأله : ما بك ؟
يرد عليك : لا افهم كيف ان الله جعل قيمة الانسان فوق قيمة الملائكة في حين يصر الانسان نفسه ان يكون اقل قيمة من القطعة الحديدية التي حدثتني عنها .

احد الاشخاص ينبهك الى انك في محطة "تالبورجت" لكنك توضح له انك تود النزول في مدينة "اكادير" يرد الرجل عليك : هي ذي اكادير.
تلم اشياءك وانت شبه نائم .تنزل من الباب الامامي . تنعشك برودة الصباح . تستدير لتلقي نظرة على الجمل الاخضر الذي بدا انه لا زال مصرا على الركض . وكمثل من غمز بعينيه , بدا وكانه يقول لك : لا تقلق ، سنلتقي كثيرا .
تناولت فطورا من غير شهية . بدات تتامل المكان الممتزج بالظلمة . حاولت ان تتصور ما حدث هنا قبل عقدين من الزمن . بحثت عن اثر لذلك الحدث الذي هز المدينة . رأيت فقط الواجهات الفخمة . و الشقق الراقية و الشوارع الواسعة الانيقة بشكل بدا ان ما حدث من قبل ليس سوى مجرد حكاية من حكايات الليل. صرخة لم تستطع تحديد مكانها تطالعك محتجة : كيف تنسى انك حين تسير في اكادير انما تسير على الجثث و الاطراف الادمية وتقول في الاخير ان الامر مثل حكاية ليل ؟
لكنك تشبثت برايك و انت تحتج : و أنا ؟ من احس بالزلزال الذي هزني حين طالعني موقع آسا في الخريطة ؟ .. لا تقلقوا .. كلنا سواء .. كلنا ضحايا لكن لزلازل مختفلة . افضت ببعضنا الى قبور داخل المكان و البعض الاخر الى قبور داخل الزمن .

الناقلة التي ستقلك الى مدينة "كلميم" تتوقف الان حيث تركتك الاولى . ومن الوهلة الاولى بدا الامر مختلفا كليا عن رحلة الامس ما عدا شئ واحد . انه الجمل الاخضر ، لكنه كان اكثر ضخامة ولا يبدو عليه انه يهتم بمن يروح او يجيئ .
صعدت الادراج . اخترت مكانا . اثارك لباس الركاب شبه الموحد . اللون الازرق . الكوفية السوداء. القامات الطويلة المستقيمة . اللحى الحادة المهندسة باتقان . البشرة السمراء . رائحة النيلة التي كانت تعبق المكان .تركزت حولك العيون الواسعة التي كانت تتحرك بخفة ونشاط لترصد اي شئ يستحق الرصد . وتتبادل البلاغات في صمت ،ثم تتحرك الشفاه من تحت الكوفية لتلو الاستنتاجات .
صرت ابتداء من هذه اللحظة "اشليح مولانا" الكلمة الوحيدة التي استطعت التقاطها ، ولأنك سمعتها قبل مجيئك . نفس الشخص الذي لقنها لك أوصاك ان تودع الاشجار حين تبلغ "انزكان" وصرت تودعها غير مصدق ان هناك عالم ليس فيه اشجار .
لكن ماذا يعني ان تعيش في عالم ليس فيه اشجار ؟ ..ومتى ستتوقف هذه السلسلة الطويلة التي يتغير فيها كل شئ سوى الوداع ؟ قبل اليوم ودعت الام و الاسرة و الرفاق ومسارح الذكريات . اليوم تودع الاشجار . شئ واحد لم يودعك هو العقل الالكتروني . وشئ واحد لم تودعه هو الجمل الاخضر . تتساءل . أي شئ ستودعه في المحطة المقبلة ؟ واي شئ سيتبقى لك كي تودعه في المحطة التي ستليها ؟





التعب كان باديا عليك . و الانهاك كان قد اخذ مأخذه منك ، ولهذا لم تشرئب بعنقك و لم تتطلع -كما يحدث عادة - الى وجه المدينة التي ابتدات بعبور ذلك القوس المنتصب على شكل باب مجسدا التسمية التي تطلق على المدينة " باب الصحراء"
قطعت الناقلة خطا مستقيما يجزئ المدينة الى شطرين غير متساويين . الغربي وقد بدا اكثر انتظاما وحداثة ، و الجزء الشرقي الجنوبي الذي كانت بصمة البداوة لا تزال مطبوعة عليه بوضوح .
أحسست بالانقباض و انت تنظر الى البيوت و البنايات . ربما بسبب الطلاء الذي طليت به ، و الذي ذكرك باللون الذي تطلى به السجون عادة .
المدينة لا تبدو كبيرة ، بل اقل من المتوسط ، ولذلك بدت لك اكبر من سمعتها . واكثر من هذا فقد كنت قبل ايام قد قرأت عنها استطلاعا يصفها فيه صاحبه بجوهرة مذابة بلهيب الشمس . لكنك ارتأيت ان الامر اذا كان يقتضي الذوبان او الانصهار ، فالأكيد ان الشمس لم يكن لها اي دور .
توقفت الناقلة عند منتصف المدينة . الجو كان حارا تشكلت معه شبه سحابة تعلو الامكنة رغم ان الوقت كان صباحا . الازقة كانت فارغة ، و الناس القليلون الذين كانوا يعبرونها كانوا يمشون وهم غارقين في اعماقهم .
خطوت خطوات كي يسري الدم في اوصالك . استوقفك منظر شيخ طاعن في السن كان يمسك بخطام جمله ، يابس بذلة محلية حاول من خلالها ان يظهر بمظهر رجل من القرون الماضية . عيناه كانت مثبتة على ابعد نقطة من المسار الذي قطعته بك الناقلة قبل حين . ماذا ينتظر ؟ ..ربما أولئك الباحثين عن تاكيد لتحضرهم من خلال البحث عن اقدم صور للانسان .
استقلت سيارة اجرة وطلبت من سائقها ان يذهب بك الى نيابة التعليم . البناية كانت من الطراز الحديث نم على ان الالف و مائتي كيلومتر التي قطعتها لحد تلك اللحظة بات لا يعني اي شئ ، وان انت وجدتها على غير ذلك فذلك مشكلك الخاص .
رجل يتحدث بلهجة محلية لم تفقه منها شيئا تحدث اليك بطريقة فضة . وحين تبين له انك لم تفقه شيئا تحدث اليك بلغة اخرى سائلا اياك عن سبب الزيارة .
الموظف طمانك على انك كنت محظوظا حين عينت في "آسا" ولم يقذف بك الى "عين لحمار" أو "عوينة تركز".
وجدت كلامه مثيرا للضحك و السخط في آن واحد . اذ كيف بعد ان تقطع اكثر من الف ومائتي كيلومتر ناهيك عن المسافة المتبقية يقال لك انك كنت محظوظا ؟ .. اي شئ يحتلف عن اسا او عين لحمار او عوينة تركز او الجحيم ان شئت ؟
أردت ان تدمره . ايس وحده . كل الذين يجلسون على الكراسي خلف المكاتب . كل الذين يقبعون في الغرف المكيفة . كل الذين يتحصنون خلف صفوف ادمية حولوها الى جدران دفاعية لاتقاء غضب وشر من كانوا ضحايا قراراتهم الخاطئة . كل الذين لا يدركون ان تلك الجرة من القلم التي يخطونها مبتسمين وهم في حديث ودي مع زائر بلا موعد تتحول الى اخاديد فوارة تتدفق دما من الروح و الجسد .
لكنك لم تفعل . و لأن مشكلك الاضافي انك لن تعرف ابدا الوجه الذي يجب ان تصرخ فيه ..

عدت ادراجك من حيث اتيت . متوزعا محتارا بين اسر يختفي خلف صور الرزانة و التعقل ، وضياع ينقمص وجه الحرية . اسد جريح الكبرياء بعد معركة خاسرة ، محتار بين ان يعمق جراحه بمخالبه حتى الموت . وبين ان يجعل للمعركة شطرا ثانيا تكون آلام جراحه الحالية المحرار الذي يحدد المدى الذي يجب ان يبلغه حجم الثأر .
لكن في انتظار ذلك يجب ان تتعلم . كيف تصغي السمع للاشياء التي لا تنطق . كيف يلمس هذا الذي لا يرى . كيف يطير و يتمدد . كيف يستقر في البواطن ليضغط الاحشاء و يسودج الاحلام ..
سرت دون ان تدري الى اين . وقبالتك تمدد فراغ مهول كان يستدعيك بالحاح للضياع ..

لا حت لك فكرة ان تصنع واحة تستريح فيها و تستعيد توازن مركبك المقبل على اعصار عنيف . فكرت في ان تصنع جوا دافئا بلقاء قريب او صديق . ولذلك ركبت الناقلة من جديد اتجاه مدينة "طانطان"
رحلة لم تعرف كم استغرقت من الوقت . وربما انك لم تشا ان تهتم بذلك خصوصا بعد ان صار الوقت خصما .
هو عمرك . لكن كي تعيش ، كي تحصل على اجر يجب ان تعطي للاخر سنواتك ، لكن ماذا تاخذ ؟ هل ما تأخذه هو مقابل لما اهدرته من طاقة ام تعويضا لسنواتك المسروقة ؟
النصب الذي لاح عند باب المدينة كان هو هذه المرة هو من تطوع للاجابة . النصب هو على شكل جملين يتبادلان القبلة . وتحتهما تمر الطريق الى المدينة . تساءلت . ماذا اراد مبدع هذا النصب ان يقوله ؟ .. لا شك انه اراد القول أن الداخل الى هنا يحتاج الى صبر يوازي صبر جملين ...

هو الصبر . مشجاب لكل المستعصيات . ثلاجة لكل الفصول . ..

يتبع







--------------------------------------------------------------------------------

التوقيع

عبدالله البقالي
02-12-2002, 10:50 PM
لم تبد في الرحلة فائدة . عدت من حيث اتيت . حجزت غرفة في في فندق ونمت بعمق وكانك كنت تهئ نفسك للفصل القادم .

في الصباح سمعت وقع خطوات قادمة . استدرت لترى صاحب الفندق الذي بادرك بالتحية :
- عيد مبارك سعيد .
انذهلت وقلت : أي عيد ؟
لم تسمع الجواب ، بركان نشيط استيقظ فجأة من خموله وبدا يرمي بحممه وه داخلك . وظلمة الكون كلها اجتمعت في حجم صغير لا يصدق وبداتى تتكاثف حول عينيك . و الجرح الذي حسبته سيندمل مع مرور الوقت تحول الان الى اخاديد فوارة ينزف دما من روحك وجوارحك .
تغمض عينيك . تمرر يديك على حقيقة تنمو وتترعرع مع كل خطوة تخطوها الى الامام . تسأل نفسك :
هل كنت تدرك هذا المعنى للعيد قبل اليوم ؟ بل ماذا كنت تعرف عن العيد ؟
الثوب الجديد . القروش القليلة التي كانت تجعل اليوم استثنائيا . متابهة الكبار وهم قادمون من المصلى منشدين نشيد العيد . تبادل الزيارات . فك الخصومات . و اهم من هذا كله اللحم المهيأ بطرق شتى و الذي يؤدي الافراط في تناوله الى الاسهال ... لكن كيف تراه الان و انت تنظر اليه بعد بالعدسة التي صنعتها من الغربة التي تزداد قتامة مع كل خطوة تخطوها الىالامام ؟
تصل الى احتمال او جواب وحيد . العيد هو ان تنتفض ضد هذا الاحساس . هو ان تئن فتجد الاحضان تنفتح لتتلقفك . هو ان تشكر فتتسع الاحداق سائلة عن ما دهاك . لكن في انتظار ذلك يجب ان تتعلم .
تعمد الى فرار جديد . الى الثلاجة او مشجب المستعصيات . عدت للشرفة ثانية . بدات تتابع الاطفال الذين كانوا يجوبون الشوارع الفارغة من الكبار . شخص يقترب منك . تستدير . يسألك بدون مقدمات : لست من هنا ؟
تلقي عليه نظرة وتجيب :
- الامر كذلك
- ماذا تفعله في فندق في يوم كهذا قد لا تجد فيه ما تاكله ؟
- انا مسافر في طريقي الى آسا
تسمر الرجل في مكانه وقفل عائدا اليك وقد تغير شكله : أقلت آسا ؟ لأي شئ انت ذاهب الى هناك ؟
أفهمته انك في طريقك الى هناك للمرة الاولى . وانك ستشتغل في حقل التدريس .
رد عليك الرجل : أهو انتقال تأديبي ؟ لا شك أنك قمت بعمل فظيع كي يبعثوا بك الىهناك .
عبارات الرجل جعلت الصوت يحتبس عند مخارج الحروف . ما عدت تشعر بالغربة . ما عدت تشعر بالجوع . تمسكت بالقضبان وقلت للرجل : اذن انت تعرفها ..
لم يأبه الرجل بسؤالك ومد خطاه الى الامام . وحين اصررت على ان يخبرك عنها قال لك مزجا بك في مزيد منالخوف و الرهبة : ستعرفها كما عرفتها ..

عدت الى غرفتك . منظر وحيد ظل يداعب المخيلة . انه طريق العودة . العالم الذي طالبما اتهمته بأنه قديم متهالك لا ينفع في شئ بدا اكثر رحابة و اتساعا . و الوجوه حتى تلك التي كنت تشمئز منها بدت اكثر حنان ولطفا .
طريق العودة سالكة . جنباتها مزهرة . و الحياة في اقاصيها حبلى بالحياة و الامن . شئ واحد يعكر كل هذه الصورة . نظرة امك التي تخترق المسافات وتستقر على وجهك ترهب الاحساس الذي يراودك . والجمل الاخضر الذي ستسمع صفيره بمجرد ان تحجز تذكرة العودة .
لم تستطع النوم . لم يهدا بالك . لم تستقر على قرار . ريشات خالك وحدها ظلت تملك القدرة على الحركة . تحاول ان ترسم ذلك الشئ الغامض الذي يترقبك على بعد اميال . حسمت ترددك ولممت اشياءك واتجهت الى المحطة .
سمعت عاملا بالمحطة ينادي باعلى صوته المسافرين المتجهين الى آسا . اتجهت صوبه وسالته عن السيارة . دلك عليها .
سيارة تعود لعقود خلت . شكلها كشكل سهم من الامام . لها ما يشبه اجنحة من الخلف . وصوت محركها حاد بحيث يوحي انها اصغر من حجمها . بداخلها رجل مسن . ينظر اليك باستصغار وفي الوقت نفسه يحاول ان ينفذ الى ما وراءك . يسألك بترفع : مدرس ؟ اليس كذلك ؟
تجيب بالايجاب فيعقب دون ان ينظر اليك : مسكين ..ا
لم تعرف ما ان كان تعقيبه كان يفيد تعاطفا منه معك ام كان لشئ اخر .

انطلقت السيارة بعد ان استوفت عدد الركاب . وبعد لحظات كانت تتخذ الوجهة الجنوبية الشرقية . ملامح البداوة تبدا وانت لكم تغادر المدينة بعد . و الطريق التي تمتد مخترقة الكثبان الرملية بدت تشبه الطريق التي شقها موسى وسط البحر ، مع فارق ان الاولى افضت الى النجاة من البطش ، في حين كانت طريقك تفضي الة عمق متاهة لا تردي منتهاها . ولا شئ كان يثبت ان الواجهة الاخرى من الطريق التي تسلكها الان فيها حياة لولا القوافل العسكرية التي كانت تقطع الطريق وهي ماضية في الاتجاه المعاكس .
سيارة عسكرية تتقدم قافلة وتطلب من السائق ان يخلي الطريق كليا للقافلة القدامة . القافلة كانت طويلة جدا وهو ما دفع الركاب لمغاردة السيارة للاستراحة من التعب و الحر الخانق .
صف طويل من شاحنات ضخمة تحمل على ظهورها دبابات وقد اختير لكل واحدة اسما . : نضال - جهاد - ...
انتابتك احاسيس غريبة وانت تتامل ذلك الصف . اثارك شاب يافع العمر كان جالسا فوق ظهر دبابة ، هو بدوره كان ينظر اليك و يتأملك .. كم ربيعا عاش هذا الفتى ؟
تقهقر تاثير احاسيسك . ومن غير تفكير نظرت الى الفتى وحركت رأسك بطريقت اردت ان تقول من خلالها : أرأيت ما فعلته بنفسك يا فتى ؟
خطابك وصل بشكل جيد الى الفتى الذي رد بأن لم انامله مثلما تكون وهي تحمل لقمةالى الفم وهز كتفيه في الوقت نفسه وكانه اراد القول : انها لقمة العيش ... ثم لم يكن امامي اختيارا اخر .
اذهلك الفتى والحديث معه ، وكبر حجمه وكبر في نظرك . وكيف لا واستمرارية حياته تتوقف على قدرته وبراعته في مراوغة ومغالطة الموت .

حاجز امني يستوقف السيارة عند جبل " امزلوك" الصخري . دركي اسمر يلقي نظرة على وجوه العابرين . ابتسم وهو ينظر اليك قائلا : مدرس ؟ اليس كذلك ؟ لا تقلق .. سنلتقي كثيرا .
السيارة توالي انحدارها بعد ان تجتاز الحاجز الامني لتقطع طريقا مستويا لا اثر للحياة فيه غير بعذ النباتات القصيرة ذات منظر يدل على شراستها ، وبعض الحياوانت الصغيرة التي تمر بسرعة . وخيام متباعدة جدا هنا وهنا . تسأل نفسك ماذا يجد الناس في الاستقرار في ارض مثل هذه . اكيد ان ذلك حوار قديم جدا بدا مع ظهور الانسان على الارض . حوار تتواصل فصوله هنا بكل حدة . ومن ثم فتواجد الانسان في ارض كهذه لا يعني سوى شيئا واحدا وهو انه يحب ركوب التحدي .

آسا تظهر الان فجاة كوعاء تشكل حافته الجبال الدائرية التي هي بلا قمم . ثم تبدا على شكل سهم يبتدئ غربا ويتسع عند الوسط و يضيق كل ما اتجهت شرقا اتجاه شارع "الزاك" يعبرها شارع متاكل الجوانب يقسمها الى شطرين . تتوزع على جنباته متاجر وتتفرع عنه طرقات غير مرصفة تنتهي الى الاحياءالتي تشكل أسا .
لكن اسا الحقيقية تقبع هناك في الواجهة الاخرى ما بعد الواحة . في القصر . لكن القصر او اسا القديمة صارت خاصة الان بالسكان السود البؤساء الذين و الواحة القابعة في الاسفل ما عادت مجرد فاصل جغرافي بل فاصل في التايخ و المكاسب ايضا .
هكذا ترقد اسا على قصص ثلاث مائة وستين وليا صالحا . وبقايا اثار اقدام النبي على احدى الصخور . اما كيف وصل النبي الى هناك فذلك ما لا تجيب عنه الحكاية .

غادرت السيارة وانت تنظر الىما ينتصب امامك كمثل من اقتيد معصب العين من مكان بعيد ، وحين فتح عينيه وجد مكانا لا يعرف عنه اي شئ . كل الانظار اتجهت اليك ، والبعض كان يضحك منك ، في حين كانت نظرات اخرى فيها الكثير من الاشفاق عليك .
تذكرت "امسترونج" وهو يخطو خطواته الاولى على سطح القمر . وجدت نفسك تشبهه مع فارق ان الاول كان في فضاء منعدم الجاذبية لذلك بدا وكانه يسبح ، في حين كنت انت مشلول القدرة و العزيمة لذلك بدوت و كأنك تغرق .
اثارك وجه اوحى لك بشئ ما . اتجهت صوبه . انه البشير . نادل بمقهى . ابيض البشرة ن اشقر الشعر . انسدت في وجهه ابواب الرزق فتاه على وجه البسيطة . وقف للقائك مادا يده قائلا : اكيد انت من الشمال .
ذبتما في عناق حار طويل . شد على يديك وهو يقول : انا من الناظور .
كنت انت المتحدث . لأنك كنت في حاجة الى من يسمعك بعد تلك الايام الصامتة الطويلة .تحدثت عن كل شئ وهو مصغ بامعان وبعدها قال :
- ان كان من شئ ندمت عليه فهو بلا شك اني غادرت المدرسة باكرا . ومن هذه الوجهة فانت افضل مني تعلما ، لكن فيما يخص شؤون الحياة فقد عشت كل شئ . وجربت وذقت ما لم يذقه انسان . لحد استنتجت معه ان ابشع صور التخلق هي حين تتحول لقمة العيش الى جبهة يحاصرك الاخر عبرها . وانطلاقا مما قلته فهل تستمح لي بأن اقدم لك اول نصيحة ؟
تغيرت نظرتك للرجل . سألت نفسك باستنكار : اي عالم احمق هذا الذي اتيت اليه و الذي يصير فيه من هو مثل البشير واعظا يرتئي للناس ما يجب فعله ؟
قلت بتهكم رافضا وصية البشير بشكل ضمني : وما في وسع نصيحتك ان تفيدني اذا كان الاسوء قد حدث ؟
ابتسم البشير وقال : هذا بالضبط ما اردت ان انبهك اليه .
تغيرت نظرتك للرجل ... يتبعاحسست بأن شيئا غير محمود العواقب يحوم حولك . وتحول البشير الى ما يشبه منقذ . فقلت وكأنك تستغيث به : هيا ، افصح . ما هذا الذي تريد ان تنبهني اليه ؟
أجاب البشير بهدوء : لا ترهن عمرك بفعل ناتج عن ظرف عابر في حياتك .
تنفست الصعداء بعدما بدا ان ما انتابك قبل حين لم يكن مصدره سوى هواجس البشير . اجبت وكأنك كنت تريد استصغار شأن خصم كان يحاول ان يلغيك : أهذه نصيحتك ؟ ..
رد البشير بشكل واثق بدا من خلاله مصرا على حشرك في ظل اجواء ضاغطة : بل هو جزء منها .
صمت لحظة وقد عاودك الاحساس الذي انتابك قبل حين ، او كأنك كنت تحاول ممنع حبال من الالتفاف حول رقبتك : قبل هذا اخبرني ايها البشير . ماذا في وسع نصيحتك ان تفيدني ؟
رد البشير وكأنه يتلو مقاطع من حوار مكتوب : ستمكنك من تتلمس طريق العودة سالما او بأقل الخسائر .
نقلت بصرك الى الطريق التي افضت بك الى حيث انت . هالك الزمن الذي ستدفنه هناك . ومن جديد احسست ان الاغلال قد اطبقت على يديك ورجليك . نظرت فجأة الى البشير وسألته .
- أقلت العودة ..؟ عودة من اين و الى اين ؟ ..واقساط عمري التي سأدفنها هنا ، وشرائط عمري التي سأقتطعها والقي بها هنا هل يمكنني ان استعيدها يوم سأرحل من هنا ؟ .. واذا كان ذلك مستحيلا ماذا سأعتبرها ؟ ثمنا لتذكر العودة ؟ و الشرخ الذي سيظل ماثلا داخل يجزئ عمري ، بأي شئ سأرأب صدعه ؟ ...
ساد لحظة صمت طويل كان البشير فيها ينفش شاربه و ينظر الى البعيد . لم تعرف فيما كان يفكر فيه .لكنه كان يبدو انه اكبر من تلك البساطة التي يبدو عليها . كما خيل اليك ان عينيه الصغيرتين تستطيع ان تستعيد لحظة نشأة الكون حين ينظر الى الخلف . وانه يرى اشياء لا تراها العيون الاخرى حين يرفع رأسه للأعالي .
استدار جهتك اخيرا و قال كمن يصدر امرا :
- يجب ان تنسى كل ادوات الاستفهام التي حفظتها في المدرسة . لماذا وكيف هي عدو مثل احساسك اتجاه الزمن . واعلم ان المنطق و التعقل هنا هو اقصر طريق يفضي الى الجنون . هنا يجب ان تلغي كل شئ . سر حيث يسيرون ، وافعل ما يفعلون . ...

الاصابة كانت قوية بحجم زلزال . لم يتصاعد منك اي اعتراض . ربما صدق الرجل وطريقته في الحديث كان اكثر تأثيرا مما قاله . تعمق احساسك بالضياع و الخوف من المستقبل . بل ماذا صار المستقبل تلك اللحظة ؟ ..فخاخ وكمائن ... طريق يفضي الى عالم مهجور نبذته الحياة . مستودع او مختبر لزرع الا عطاب و العاهات الداخلية .
انتابتك رغبة في ان تنتفض . تتمرد . لكنك لم تعرف ضد من يجب ان توجه ثورتك او تمردك . احسست برغبة في ان ترسم مسارا اخر ومن ثم قلت للبشير :
- أتعرف لماذا انا هنا ؟ .... انا لست سائحا او معتوها كره الحياة وجاء للانزواء في هذا الركن الضائع من العالم ليمضي ايامه كما اتفق . أنا هنا لأساهم في بناء اجيال . تصور ان هذا البناء حضر فيه كل شئ وغاب عنه المنتطق ؟ ...
سيدي ان عملت بنصيحتك فسأكون قد اجرمت .
هممت بالانصراف فجاء صوت البشير حادا صاعقا قائلا : انتظر ... فهمت الان لماذا بعثوا بك الى هنا . عنيد انت اذن . كلمة اخيرة . .. احذر الشرارة التي تحملها داخلك ، فان انت لم تحسن الاستضاءة بها فستتحول الى لهيب حارق ستكون انت اول ضحاياه .

يتبع

bakkali2
11-12-2002, 08:46 PM
نحن ننتطر البقية يا استاذ .

ارجو ان لا تكون قد نسيت هذا .

همسة
14-12-2002, 07:06 AM
و ما زلنا ننتـظر!

عبدالله البقالي
16-12-2002, 09:05 PM
شكرا على تواجدك هنا .



اتمنى ان تجدي في القادم ما يمكن ان يسرك او فيه فائدة .

عبدالله البقالي
16-12-2002, 09:07 PM
اتمنى ان تجدي فيما هو ىت بعض ما تتوقعينه فعلا .





تحياتي الاخوية .

فهد الاحمد
16-12-2002, 09:22 PM
اشكرك جزيل الشكر ايها القلم الذهبي .. على ابداعاتك ....

وكم اتمنى ونتمنى نحن الاعضاء في هذا المنتدى ان تشارك في درة المجتمع ودرة الاستراحه ... اللتي تناقش قضايانا الاجتماعيه ...

ونكون ممتنين اذا شاركت معنا ... لأننا نريد من قلمك الذهبي ان يشرفينا في تلك المواضيع المهمه .....

واشكرك جزيل الشكر ......... وتحياتي لك .... فهد الاحمد

عبدالله البقالي
16-12-2002, 09:24 PM
تهالكت . صرت تتابع البشير وهو يبتعد ليلبي رغبات زبائن كانوا قد ارتادوا مقهاه البدائي . الحرارة كانت مفرطة رغم ان اليوم لم يكن قد توسط بعد .و الذباب كان متواجدا بكثافة ويمنع الناس من الخلو الى ذواتهم . لكن ما كان يدور في ذهنك كان اقوى من مما كان يجري حولك .
عيناك رغم ذلك لم تفارق البشير . تساءلت وانت تنظر اليه . ماذا كان يمثل لك تلك اللحظة ؟ هل كان خصما شأنه شأن الزمن و العقل الالكتروني ؟ ام منارا يكشف الممرات في متاهة تشابكت خيوطها ؟

لم تتوصل الى شئ . غير ان الخوف كان طاغيا على احساسك . و الوساوس كانت تتعاظم . طفقت تنظر الىالشارع الذي كانت تعبره الشاحنات العسكرية و تتجه ببصرك الى المحطة . تنظر اليها باحساس متورط في قضية مبهمة ، لذلك كنت تفكر فيما يمكن ان تفعله للخروج بأخف الاحكام .
البشير يسحبك من شرودك مقدما اليك شحصا كان قد اتى برفقته : ها مدرس جديد .
شخص في ريعان الشباب . متوسط الطول . اسمر البشرة . فحم الشعر كليل صحراوي . يخفي عينيه بنظارة شمسية سوداء . ابتسم ليكشف عن اسنان ناصعة البياض .
وقفت . احتضنته وذبتما في عناق حار طويل . جلستما . قدم نفسه .
البدراوي من العاصمة . تحدث عن صدمته . عن الاحلام التي تخلى عنها او تخلت عنه . غير انك لم تتابع ما قاله الى النهاية . كنت منشغلا بأشياء اخرى . حاجتك الى البشير التي بدات تتلاشى . لكن اهم من ذلك كنت تبحث عن ذلك السر الذي صنع الحرارة في هذا اللقاء ، اذ كيف يلتقي انسان اخر بتلك الحرارة في حين لم يسبق لأحدكما ان التقى الاخر .
البدراوي لم يمض في الحديث الى نهايته . و البشير تحول الى ما يشبه منارا يرسل اشارات لسفن تائهة ويدلها على مرفئ امن . المجلس تنامى بسرعة . وفي كل لحظة كان ينضاف وجه جديد غريب سرعان ما كان يعاوده الاحساس بالامن . وتحول المتحلقون الى ما يشبه وفود في محفل دولي .
الكم كان مهما يبعث الارتياح ويطمئن في كونك لن تعدما رفيقا تثق فيه في هذه الرحلة الغريبة .
صوت البشير يرتفع من بعيد مخاطبا الجمع : ها معلم اخر جديد .
معلم جديد كان له معنى مهما تلك اللحظة . انه كان يعني كائنا ليس له علاقات سابقة في ذلك المحيط . وانه مثل جل الجالسين في اطار تاسيس علاقات . وان الافضلية في ذلك ستمنح حتما لاشخاص لهم نفس الاحساس ،فلا اكثر ثقة لدى انسان غريب في اخر غريب مثله . ومن ثم كان اي شخص يقدم بتلك الصفة ينظر اليه بألفة واستعداد لبناء مشروع رفاقي مشترك .
لكن الامر كان مختلفا كليا مع "امبارك" الذي كان يقطع الخطى باتجاه المجلس . كل شئ فيه كان يثبت انه محتلف عن الاخرين . نظراته المرعبة التي تشبه نظرات مفتش شرطة . شعره الاجعد . سمرته الداكنة . بطنه المتدلى . وساعداه اللتان تشبهان ساعدا سائق شاحنة ضخمة .
بفتور سلم على الجمع . تامل وجوه الحاضرين الذين كانوا ينظرون اليه في صمت . أما حين تحدث فقد دفع بالامر الى حدود لا تطاق . قال امبارك وهو ينظر الىالوجوه الشابة التي ربما كانت هي من اوحى له ليقول ما قاله : يجب ان نؤسس فرعا لحزب يساري هنا .
كلامه كان له مفعول قنبلة شديدة الانشطار .البعض اعاد الكأس التي كان في طريق رشفها الى الطاولة . والاخرون انتزعوا من اعماقهم . وهناك من ظل ينظر اليه في ذهول .
من اي طينة هذا الرجل ؟ ولماذا لم يكن للواقع اي حضور في تفكيره ؟ وكيف اعتبر ان الحاضر لا يختلف في شئ عن الماضي ؟ ولماذا لم يدرك ان هناك شيئا ما يجب تركه جانبا الى اشعار اخر ؟
هل كان امبارك يعي حقيقة ما تفوه به ؟ الم يكن في مقترحه انما حاول فقط ان يعطي مجرد انطباع عنه في كونه انسان تقدمي لا اكثر ؟ لكن ألم يكن فيما ذهب اليه مصيبا ماذام ان الامر كان يقتضي فعلا موقفا ثالثا في عالم الناس فيه منقسمون الى قسمين . اما مع المخزن واما ضده ؟

كل النظرات كانت تنطق بحقيقة مفادها ان مرافقة امبارك كفيلة باثارة مشاكل لا حصر لها . وانه من المستحب ، بل من الواجب ان يوضع امبارك في مكان بعيد .
فاتح القادم من احدى مدن الاطلس قام من مكانه وهو يبتسم وقال مخاطبا الجميع : ايها الاخوة ، سيكون لدينا ما يكفي من الوقت لنتحدث في مختلف المواضيع . اما الان فعلينا ان نبحث عن سكن .
اريد ان يرافقني شخص او شخصان فمن يتطوع ؟

كنت تلك اللحظة اشبه بمن غاصت قدمه في ارض موحلة ، وحين كان يحاول تخليص القدم الموغلة وقعت القدم الاخرى فلم يجد سوى ان ينظر حواليه متطلعا لنجدة لا يمكن ان تنبعث الا من الغيب . غير ان السماء كانت تبدو بعيدة ، ولذلك فالتطلع اليها كان يبدو غير مجد .
نظرت للخلف . الى حيث تبدو طريق العودة مهينة ومغرية . سألت نفسك : أيهما الافضل ؟ حياة
متسكع منبوذ حر أم اسير مهان كبلته لقمة العيش وشروط الاندماج ؟
فاتح يدفعك الى تأجيل البحث عن جواب من خلال حثه لك على مرافقته في البحث عن مسكن . وفي الطريق تحدث راسما تفاصيل الزمن القادم . الزمن الذي يجب ان يبدا بابعاد امبارك و السياسة و الانغلاق في التعامل و الاقتصار على الوافدين الجدد .
كان فاتح نحيلا . متوسط الطول . اسمر . شعر مجعد . يلمع الذكاء في عينيه . كثير المبادرات . في حديثه رقة . من الوهلة الاولى حاول ان يكون قائد المجموعة . حضر قبل وقت طويل ، وطاف كل منازل آسا الصالحة للايجار . ولهذا السبب لاحظت انك كنت تسير رفقته دون ان تسالا احد
عن شئ . ومن بعيد اشار الى منزل يبدو هو الافضل وقال : انه الافضل من كل الدور هنا . اعرفت لمن هو ؟
استغربت ذلك وقلت : لماذا هو فارغ اذا كان هو الافضل ؟

- كيف اعرف ذلك وانا قبل حين لم اكن اعرف حتى اسا نفسها .
- انه لشخصية مهمة هنا . وقد حظي بزيارة مقاتلي جبهة " البوليزاريو" في اقتحامهم الاخير لأسا
لكن لحسن حظ الرجل انه لم يكن متواجدا تلك اللحظة .
انتابك هلع هائل . وتحول الهواء في قصبتك الهوائية الى كتل منفصلة كل واحدة عن الاخرى .احسست ان قواك تفرغ منك لتنساب على الارض . صرت في حاجة الى قوة خارقة تستطيع من خلالها ان تثبت رجليك . انتابتك رغبة هائلة في ان تولي الادبار . ان تفر بعمرك بعيدا عن الاسر او الموت . نظرت بتوسل الى محدثك وانت تتمنى ان يحرضك على الانصراف لتعود من حيث اتيت . قلت بانكسار شديد
- اتجاه اي مصير نسير ؟
خاب رجاؤك حين اتاك صوت مرافقك ساخرا .
- اعتراضك كان يمكن ان يكون سديدا لو اننا كنا حقا من نختار مصائرنا . لكن ماذا نفعل ان كانت هي التي تفصلنا على قدها ؟
توارت مؤقتا التطلعات التي كانت تدفع بك الى النظر للخلف . الا انها لن تختف كليا ، وخلف مواقع مبهمة ظلت متحصنة تناور وتدفع الاسئلة الى الواجهة . ومن الاعماق تصاعد احتجاج صاعق يصرخ فيك
" حياتك ليست بخسة لهذا الحد كي تنتهي على هذا النحو . "
قلت لمرافقك : لم اتوا الى تلك الدار ؟
قال فاتح ساخرا : لكي "يعزموه الى تندوف" .
- الا ترى انه في حال تكرار الزيارة قد نكون نحن من سيعزم نيابة عنه ؟
ضحك فاتح وقال : انت لا تعرف الصحراء . يجب ان تعلم ان الامور تسير هنا بسرعة مذهلة . فاخبار اليوم الاول من الاسبوع تصير قديمة عند نهايته .
توقفت عن السير فقال فاتح : مابك ؟
قلت من غير تفكير : هل الحياة اكثر من فرصة ؟ وهل الاستفادة منها تشترط سلك نهج وحيد ؟
لم يفقه فاتح قصدك فقال سائلا : ما بك؟
- اسمع .المرء عندما يرى الموت بعينيه الجاحظتين كامن هناك عند منعرج ما قريب ويصر بملء ارادته ان يتجه صوبه فلا يجوز له بعد ذلك ان يحمل الاقدار مسؤولية نهايته .
ابتسم فاتح وقال : انت تتحدث عن غني في سوق ممتاز و ليس عن الحياة . اما ان شئت ان تنظر للمسألة بنفس المنطق فامض الى النهاية
واسال نفسك قبل ذلك هل في كل ما عشته الى الان كنت
تملك اختيارك ام ان انغلاق الابواب في وجهك كان دوما يدفع بك صوب الباب الوحيد الذي كان يظل مفتوحا ؟
لم تشا ان تعلق . استمرار الجدل لم يكن يولد غير الضيق و الخوف من المستقبل . حاولت ان تقنع
نفسك . ان تطمس اسئلتك . لكن الى متى سيدوم ذلك ؟ و الى متى سيصمد هذا المنطق امام قرائن تثبت انه هو نفسه قد يتحول الى خصم في قضية اخرى تخصك لوحدك سيجعلك في النهاية قد تخسر كل شئ بما في ذلك صوابك ...

يتبع

أرسطوالعرب
22-12-2002, 02:54 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
(*مايلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد*)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته....
......ما زلت أقرأ..

وما زال سؤال يطرح نفسه أمامي رغم كل محاولاتي لإخفائه

هل سيطول إنتظارنا لعناق مواضيعنا ردود أبي البقالي....؟

أم ما زلنا دون مستوى هامة ردودك كي يحق لنا العناق :)

....... ملاحظة..
((*كنت تلك اللحظة اشبه بمن غاصت قدمه في ارض موحلة ، وحين كان يحاول تخليص القدم الموغلة وقعت القدم الاخرى فلم يجد سوى ان ينظر حواليه متطلعا لنجدة لا يمكن ان تنبعث الا من الغيب . غير ان السماء كانت تبدو بعيدة ، ولذلك فالتطلع اليها كان يبدو غير مجد *))

ألا تجد أن هذه الأسطر بحاجة لإعادة نظر...؟

(ولذلك فالتطلع اليها كان يبدو غير مجد)
فالتبرير هُنا لكاتب الرواية وليس لأحد المروي عنهم..

فالوصف الذي قد يُنسب للمروي إنتهى بالنقطة عند هذا الحد(....متطلعا لنجدة لا يمكن ان تنبعث الا من الغيب . ) وما تلى هذه النقطة هي مساحة كاتب الرواية

إن كنت تجدها صحيحة فأعتقد أنه درس تُقدمه لي..
:)
ابنك
---------
أولى أبواب الفضيلة...تقييم الجهل ثم تقويمه
----------
ثـامـر الـحـربـيhttp://www.mahroom.net/avatar.php?userid=3451&dateline=1034101628

عبدالله البقالي
22-12-2002, 10:04 PM
ابني اريسطو

اعوذ بالله من الانسان المتكبر ومن كل ما قد ياتي به ومنه .


هذا كان دائما ما احرص عليه في حياتي . وانا ان كنت لم اقدم على وضع تعليقات فهذا يرجع الى امور اخرى كثيرة ، لا شك انك ادرى بها مني .
فالتعليق يفترض ان المعلق قد استوعب ما كتبه الاخر بشكل جيد . وهذا بدروه يحتاج الى وقت وقراءة متمعنة لأعمال الاخرين . لأن في ذلك مسؤولية اجدها جسيمة . فعمل كهذا يمكن ان يقضي على تطلع وقتل موهبة ويمكن ان يكون المسؤول عن استمرار خطا كان يتوجب تقويمه .
لهذا فهذا العمل فيه الكثير من المسؤولية . ويحتاج الى عناء وحب للعمل . و الكثير من الوقت . و الابتعاد كليا عن الارتجال او العمل على ارضاء الاخر كيفما تيسر .
اضافة الى كل هذا فطبائع الناس قد تغيرت . و ما عاد الكثير يريد سماع الحقيقة . بل يطلب منك ان تجامله فقط . وان انت وجهت نقدا صريحا غضب منك واتهمك بكراهيته ، او انك دون مستوى العمل .
من اجل تجنب هذا ، ونظرا لكوني لا اجد الوقت الكافي لانجاز هذا العمل . فهذا فقط يفسر احجامي عن التعليقات . و الابتعاد عنها . ويمكن ان تلاحظ انه في بعض المواقع لم اعد ارد حتى على التدخلات التي تهم نصوصي .
بخصوص ملاحظتك عن العمل " يبدو ذلك غير مجد " فأرجو ان توضح لي فهمك للموضوع اولا قبل ان ارد عليك .
تقبل تحياتي واحترامي لك .

أرسطوالعرب
25-12-2002, 12:23 AM
عذراً أبي على تأخري.....

لن أضيع هذا النص دون شقاوتي في التحليل...:)

وبما أنك تريد توضيح ما فهمته من موضوعك....فأرجو منك أن تأذن لي بتأخير توضيحي حتى يكتمل النص تماماً....

حينها سيشرفني كثيراً أن أقدم لك تحليلي....الذي حتماً سأفخر به ما حييت....

لأن هذا العمل دون غيره من كل ما قرأت......خصب جداً للتحليل....

بإنتظار التتمة...

(أتسمح لي بعرض هذا النص على بعض الأصدقاء من الكتاب خارج إطار العقل الإلكتروني؟)

ثـامـر الـحـربـيhttp://www.mahroom.net/avatar.php?userid=3451&dateline=1034101628

عبدالله البقالي
25-12-2002, 08:27 PM
سرني هذا الحماس الذي عبرت عنه في ردك .

بصراحة هذا يحمس اكثر على الاستمرار في العمل . وبالنسبة للعمل ، فاعتبره عملك . وامنحه لمن شئت .


ساعمل على اضافة فصول جديدة . وسأنتظر ردودك .

عبدالله البقالي
28-12-2002, 09:49 PM
أكيد ان جل الذين وجدوا انفسهم امام الموت كانوا حتما يحاولون جعل مسار حياتهم اكثر طولا . وان
الموت لا يصير رهيبا ومروعا الا حين يختطف ارواحا مسار حياتها كان لا يزال طويلا .

هكذا احسست ، او هكذا جعلك المكان تحس وانت تتطلع اليه مدفوعا بشعور ان مجرد تواجدك في ذلك المكان فذلك يعني انك عمليا انتهيت .
العالم القديم والذي طالما اعلنت نفورك منه لم تكن تجده تلك اللحظة كذلك . كان يبدو وديعا حالما
آمنا . ووجوه من يقطنوه كانت تبدو لطيفة فياضة بالمحبة و الرأفة ، صرت تراه حضنا يظل مفتوحا لطفل مشاكس و الذي مهما بلغ عناده فانه لا يمتنع في النهاية عن تلقفه حين يلقي بنفسه
فيه .
هكذا كنت تراه وانت تنظر اليه من بعيد . لكن بينك الان وبينه مسافة . حاجز لا يزيده رعبك الا
ارتفاعا وسمكا . وضرباتك عليه يائسة وبلا جدوى . وصرخاتك مهما علت فانها لا تصل الى
الداخل . تنهار ملتصقا بالجدار . تستكين . تركن مترقبا انقضاض اللامتوقع عليك ... انتهى كل شئ
ومن الان فصاعدا فانت فقط ستعيش الزمن الفائض عن التقدير الذي كان محددا لك فيه ان تكون قد
تبخرت . لا مجال للخوف بعد الان . لا وقت تضيعه للتطلع الى الخلف . هكذا يجب ان تعيش الزمن
المتبقى .

فاتح يخرجك من شرودك وهو ينبهك : انظر ، لقد استعاضوا بالرشاش عن المفتاح .
انتابك الهلع من جديد . ها انت تشترك مع أولئك في التواجد في نفس المكان مع فارق زمني .
توصلت الان الى شئ مهم . كيف تدرك العنزة المعنى المعادي لها في الذئب في حين انها لم تعرفه
ولم تراه من قبل ، ولا احد حدثها عنه ؟.. تتذكر الكثير من رفاق الطفولة والدراسة الذين غاصوا في
هذه الرمال و ابتلعتهم الحرب . تسترجع صور ذلك الاسراف الشديد الذي كان يمارسه العائدون من الجبهة . تفهم الان لماذا كانوا يفعلون ذلك . وكيف لا وهم لا يعرفون الغد الا حين يصير امسا .
فتح باب المنزل . هو يبدو من الخارج كقلعة عسكرية . ومن الداخل تبدو غرفه كغرف دور المدن القديمة شاهقة العلو . وجدران سميكة كانها شيدت لحمل الزمن .
يسألك فاتح : ما رأيك ؟
قلت : اظنه الافضل
- اذن يبقى ان نذهب لنخبر الرفاق ...


كان المجلس قد توسع بشكل لافت . وامامه تجمعت كومة من الحقائب و الامتعة . وبدا ان وجوها اخرى بدت غير متجانسة قد انضمت اليه .ولهذا تلاشى الاحساس بالغربة الذي كان مخيما في البداية .
لم تكن قد جلست بعد حين توقفت امام المقهى سيارة عسكرية نزل منها شخص ضحم الجثة بلباس رياضي . شكله دل على انه انسان غير عادي . احد الاشخاص ممن كانوا في المجلس قاد لاستقباله وتكلف بتقديمه للجمع : القبطان مرزوق قائد الموقع العسكري .
تحدث الرجل بطريقة وان حاول من خلالها ان يبدو متواضعا الا انها في الوقت نفسه كانت تفيد انه يتطلب التعامل معه سلوكا خاصا .
جلس . طلب من البشير مشروبه المعتاد . شاي بلا سكر .وبعدها سأل كل وافد عن مكانه الاصلي ، وما ان كان من بينهم من يحسن لعبة كرة القدم . وختم دورته بأن حاول ان يصل الى استنتاج قائلا
- انتم محظوظون ما دمتم لم تاتوا الى آسا الا في هذا الوقت ولم تكونوا هنا قبل خمس سنوات .
احد الوافدين الذين كانوا قد انضم للجمع بعد ذهابك مع فاتح يرد معقبا :
- ان كان هذا حظا فما يا ترى يكون شكل النحس ؟
ابتسم الضابط بعد ان تفحص المتحدث وقال موجها الكلام للجميع : ساحكي لكم عن تجربة عايشتها ، بل كنت احد اطرافها ن وساترك لكم ان تحددوا ما ان كان هذا نحسا ام حظا .


كان الزمن النصف الثاني من منتصف السبعينيات. "كلميم" كانت مجرد دائرة تابعة لعمالة "طنطان"
كنت يومذاك بالمطار استعد لركوب الحوامة "الهليكبتر" للالتحاق بالمنطقة العسكريةالتي كنت اشرف عليها حين توصات ببرقية مفادها انه يتوجب علي حمل مدرس معي في الطائرة الىالمكان الذي كنت ساقصده . اعتبرت الامر عاديا وبحثت عن الرجل .
كان شابا في مقتبل العمر . لم يبدو عليه انه مدرك لما هو ذاهب اليه . و استطيع القول انه كان يفكر في المستقبل اكثر مما كان يفكر في الحاضر .
لدى وصولنا طالعه المشهد الاول من فصل طويل رهيب كان لا يبدو له نهاية . انهار الرجل ولم يجد سوى ان يبكي . القصف كان عنيفا ذلك المساء لحد اننا انتظرنا طويلا قبل النزول الى الارض . و الواقع اني لو كنت مكانه لفعلت الشئ نفسه .
الوقت كان وقت مد بالنسبة للمرتزقة الذين كانوا يحظون بدعم دولي كبير . لذلك فهجماتهم لم تكن لتنقطع او تتوقف . والمناوشات كانت تتم يوميا . تصوروا طوال اسبوع وهو يبكي . لكن بعد ذلك صار يالف الوضع تدريجيا . وكان عندما يبدا القصف يختبئ مع تلامذته في المكان المعد لذلك . وعندما يتوقف يعود لحجرته .
دام وضعه طويلا . وذات صباح . رايته يقطع الطريق الى المدرسة . والحقيقة اني كنت قد نسيته تماما لحد انه بدا لي وكاني اراه للمرة الاولى . صرت افكر في امره . بدا لي وجوده شاذا هناك .
صرت ارتب الامر . وجدت ان موت جندي او اسره او بتر عضو من جسده امر طبيعي جدا ما دام الجندي اختار ان يقوم بهذه الوظيفة طواعية ولم يجبره احدا . لكن هل وضع المدرس هذه المصائر القاتمة في حسبانه يوم اختار وظيفته ؟..
قمت من مكاني وقصدت المدرسة . ووجدت نفسي كأني اصدر امرا لكتيبة قلت له : في المرة القادمة وعندما تاتي الهلكبتر يتوجب ان اجدك مستعدا للرحيل من هنا .
كنت اعتقد ان الرجل سيسر لهذا القرار وسيشكرني كثيرا لكوني خلصته من وضع صعب . غير اني تفجأت بالرجل ينتفض ضدي ويصرخ في وجهي .
- لا اعرف ما ان كنت قد نسيت انك من ادارة الدفاع واني من وزارة التربية ؟
وقفت انظر غير مصدق هذا الوضع الذي لم اتوقعه ابدا واجبت .
- ماذا تقصد ؟
رد بهدوء : امرك لا يلزمني في شئ يا سيدي القبطان .
اعترف اني لم اواجه مثيلا لهذا الوضع من قبل . انتابتني الكثير من الافكار . ربما هو وضع من لم يتعود ان يناقش احد قراره . لكن الوقف دفع بي الى ان ارتاب في امر هذا المدرس . هدات نفسي وقلت : ماذا اصابك ؟ هل تدرك وضعيتك ؟ هل تعرف انه يمكن ان تموت في اية لحظة او تساق اسيرا حيث يمكن ان تقضي طول عمرك تطبخ الجير في افران تندوف ؟ ثم ما الذي تجده هنا ؟ هل تعرف ان الناس فس مثل وضعك هناك ينامون في هدوء وحياتهم يسودها الاطمئنان ؟ صحيح انهم
يصارعون الحياة من اجل العيش او من اجل تسديد فواتير الكراء او الماء او غيرها . لكن ما عدا هذا فحياتهم هادئة .
اعتقدت في البدء اني زحزحت قناعة الرجل خصوصا بعد صمته الطويل . لكنه قفز الى ما هو ابعد من الاول . قال الرجل:
- لا انكر انه كان لي مثل تفكيرك قبل ان اصل الى هنا . لكن عندما انفجرت القذيفة الاولى التي اتنهت الى مسمعي ن تغير كل شئ . يمكن ان لا تكون قد اصابت احدا . لكنها شتت كل عمران تفكيري القديم . ماذا كانت الحياة بالنسبة لي قبل هذه اللحظة ؟ ممر طويل ضيق محدد البداية و النهاية ..
الناس فيه او الاحياء يجرون داخله ، وكل ما يمكن ان يفعلوه يكل ما يحصولن عليه في هذه الدنيا هو ان يعملوا على ان يصلوا متاخرين الى خط نهايتهم . بهذا الشكل فهم مثل اي حيوان كل همه هو التناسل و الاكل . يوم وصلت الى هنا تغير كل شئ في نظري . صرت ادرك ان الانسان ميت لا محالة.
وتلك السنوات التي يحاول ان يربحها ليؤخر نهايته لن يكون لها اي معنى حين ترى هذا التاريخ الممتد الذي يقاس بملايين السنين . ومن ثم فالحياة الحقيقية هي اكبر من تلك التجسيدات الواهية ..
الحياة يا سيدي القبطان هي فرصة وحيدة تمنح للانسان كي يثبت جدارته . هي ان يترك بصمة تشهد على وجوده حين يختفي من مسرح الحياة .
نظرت مستغربا للرجل وقلت :
- وهل انت وجدت هذا الذي يمكن ان يميزك عن كل العباد .؟
- لا ، ولكن انا فقط حاولت ان اعطي معنى لحياتي .
- وما هو يا ترى هذا الاكتشاف الهائل الذي توصلت اليه ؟
- بالصدفة اهتديت اليه . انا مثلا اعرف اني ان ذهبت من هنا فلا احد سيقبل ان يعمل في مناخ كهذا .
ومعنى هذا ان كل هذا الوسط سيعاني من تبعات قراري . ولذلك فانا حين ارى الاطفال يعاندون الصعاب من اجل ان يخطوا حرفا او يتلفظون كلمة اجد ان حياتي بخسة مقابل ان يحدث هذا ..
ضحكت بصوت عال وقلت : الان اثبت لي انك مجنون ، وهذا يلزمني اكثر كي اعمل على ترحيلك من هنا .
تصوروا اني احتجت الى ثلاثة او اربعة جنود وادخلناه عنوة في الهلكبتر . وهكذا اتى وهو يبكي ومضى وهو يبكي . لكن صدقوني اني ظللت مسكونا بذلك الشاب .فانا اعرف ان الكثير من الموظفين عينوا في اماكن لم ترقهم . وان اسرهم بذلت ما في وسعها لانتشالهم من تلك الاماكن . وان أولئك الذين ظلوا هناك تعاملوا بفظاعة مع من كان يفترض ان يضعوا انفسهم في خدمتهم محملين اياهم مسؤولية تواجدهم حيث هم . لكن لو رأيتم تفاني ذلك الشاب في عمله .لو رأيتم حرصه الدقيق على الوقت . لقد كان يعرف ان لا احد سيزوره . لا المدير و لا المفتش ولا اي كان ومع ذلك كان في منتهى الالتزام . واعترف انه لو كان ذلك الحوار الذي دار بيننا لم يسمعه الجنود ن لكنت قد غيرت رأيي . انها طبيعة الرجل العسكري .
التفت القبطان الى الخيبري وقال : والان ؟ ما رأيك ؟
ضحك الخيبري وقال : انا اشاطرك الرأي ، واتفق معك تماما ان الرجل قد جن . ولو كنت مكانه لأقمت لك نصبا تذكاريا ...



الدار على سعتها لم تستوعب جل الوافدين الذين كانوا يقضون ليلتهم الاولى في آسا . ومن الوهلىالاولى بدا واضحا الذين اختاروا البقاء في البيت عن أولئك الذين اعتبروا الدار مجرد محطة عبور .
الذين اختاروا البقاء وضعوا امتعتهم داخل الغرف . بينما فضل الاخرون البقاء في فناء البيت الذي تحول الى ما يشبه شارع هندي اثاناء الليل .
في الغرفة المواجهة لمدخل الدار استقر شابان قدما من ضواحي مراكش . "عبو" و "سهران" . عبو كان الاصغر عمرا من كل الوافدين لحد كان كتلميذ غادر المردرسة الابتدائية لتوه .وسهران كان شكلا اخر . نحيل وطويل وثرثار . مارس حرفا كثيرة قبل ان يلتحق بالوظيفة ، وهو يشترك مع عبو في اشياء كثيرة حتى في الغناء في الصباح الباكر بصوت مرتفع .
في الغرفة الثانية كان البدراوي الى جوار فاتح قبطان المجموعة . وفي الغرفة المتبقية عند الزاوية اليسرى من عمق الدار كنت انت و رشيد "الشاوني" الشاب الخجول ذو الوجه الطفولي .
فاتح كان مسرورا من التشكيلة التي فضلت البقاء في البيت . أما في فناء البيت فقد كانت جماعة كبيرة لا يبدو اعضاؤها متجانسين . فالخيبري المليئ دهاء و الذي ينظر برياء شديد الى كل ما يوجد حوله لم يكن له ما يربطه بامبارك او "خونا" او "بانجا " ذلك المهوس بالاناقة . وعلى العكس كان "عدلي" البيضاوي ودودا رغم الانطباع الذي ترسخ لدى الجميع في غترة معينة من كون البيضاويين شرسون بلا حدود .
الاحساس بالالفة كان طاغيا . والمعلم الذي رحل بالقوة كان الموضوع الوحيد الذي يشترك الجميع في مرجعيته . تعاليق الخيبري كان الاكثر حدة بشكل بدا وكان ان ما حدث صار رمزا لواقع لا يجد غير ان يمقته . ومن ثم فتصرف ذلك المدرس كان يبدو مفع بالغباء و البلادة . لكن عدلي ، ذلك الطيف الذي ستعمل اسرته على انتشاله بسرعة من آسا رد معلقا:
- ما يمكن ان نقوله الان ليس سوىمجرد كلام . و الاشياء كثيرا ما تختلف حين يكون المرء في اطار تجربة مريرة .
انتفض الخيبري وقام واقفا وهو يصيح في حركة مسرحية : ماذا تقولون يا ناس ...؟ شخص يقول لك : تعال ... انفذ بجلدك فترد انت بماذا ...؟ أنا استرخص حياتي مقابل ان يتعلم الاخرون ..؟ من يكون الاخرون ..؟ باي شئ سيفيدونني ..؟ هل سيعملون على تخليصي من الاسر ان سقت اسيرا الى تندوف ..؟ هل سيعملون على تحريري ..؟ هل سيمنحوني رجلا ان بتر لغم ساقي ..؟ هل سيمنحوني عمرا اخر ان اصابتني رصاصة ، لا فرق بين ان تكون من تسديدة قناص ماهر او اخرى طائشة ..؟
كلام الخيبري بدا متماسكا رصينا بحيث لا احد تكلم بعد . تلاشت تلك الالفة الناشئة . وتراجع الاحساس بالامن . وعاد كل واحد الىنفس الجو الذي كان يعيشه في الصباح .
صرت تنظر الى المكان وتستعرض السقف العالي الذي يشبه شقوف دور المدينة القديمة في فاس .
ثم تستعرض الشهور والايام التي تفصلك عن اول عطلة . كان ذلك اليوم يبدو كأنه لن يحل ابدا ..كما ان العالم الذي ارتبطت به كان يبدو بعيدا بعد النجوم . لكن ما ذا كان يتوجب فعله كي تمر الايام بل العمر بأقصى سرعة ...؟
ما كان يخفى عنك انه عمرك الذي لا يعوض . لكن مع ذلك كان يجب ان ينقضي بسرعة . ..ان تنزلق .. الشهور و السنوات مثلما تتسارع الارقام في عداد محطة البنزين .

غادر الساهرون مجلسهم بخطى متثاقلة بفعل تأثير التعب و النوم و الحشيش . دخلت الغرفة . كان الشاوني هناك منذ وقت طويل ،وقد اوقد شمعة بعد ان انقطع التيار الكهربائي في الساعة التاسعة مساء . كان منهمكا في كتابة رسالة . واكيد انه تحدث عن وقائع اليوم الاول وتعب الرحلة .
لم تشا ان تعكر عليه صفوه وتركيزه . تمددت في الفراش . بدات تحملق من جديد في الفضاء غير مركز على شئ . جاءك صوته مستفسرا ؟
- من اي جهة من الشمال انت ؟
اجبت دون ان تنظر اليه : من غفساي .
- وهل هي بعيدة عن شفشاون ؟
- في الحقيقة لا ، لكن انعدام طريق مباشر البها يجعلها كذلك .
سادت لحظة صمت طويلة ثم تكلم دون ان يكلف نفسه عناد التأكد من ان كنت قد نمت ام لا . ولذلك انتابك احساس في انه كان يحدث نفسه .

انا من الشاون كما اسلفت . لي اخوان احبهما الىنفسي مات . كان بطلا في سباق الدراجات . ابي مات بعد ذلك . التحقت بمعهد ديني وتابعت دراستي . حين كبرت تعرفت على "نزهة" شابة من تطوان
كانت تدرس الموسيقى .
ما كنت اعرف ان الحياة فاتنة ورائعة قبل ان اتعرف عليها . لكن بعد ذلك صارت كل واحدة تعني الاخرى . ..سبع سنوات من حب عنيف حارق كأي تيار ضغط عال يمكن ان يتحول في اي لحظة الى حريق مهول .
قررت ان اتزوجها بعد تخرجي . لكن العالم كله وقف في وجهي وكأن زواجي كام بمثابة اشارة للدنيا كي تنقض على نفسها . وحين صممت على تجاوز كل الصعاب . فاجاني اخي بموقف صاعق . افهم الجميع ان نزيهة لا تحبني بقدر ما تعمل على الانتقام منه لأنها كانت على علاقة به قبلي .
لقد كبلني . لم يكتف بأن يضع نفسه حاجزا في طريق مطلب هو من حقي ، بل بنى متراسا ضخما لبناته الاخلاق و الاعراف و الحياء وكل شئ .
ضربته كانت قوية موجعة ومؤلمة . نزيهة فعلت كل شئ من اجل ان اصل اليها .كم بكت وكم اقسمت بأنها لم تعرفه الا حين رأته في بيتنا اول مرة . انا صدقتها لكن المشكل انه كان يتوجب على الاخرين ان يصدقونها . وفي وقت كنت استعد لذلك ، فأجأني ذلك القرار اللعين واصرت آسا ان تكون لي هي الاخرى خصما ...

صخب الثورات
31-12-2002, 09:17 AM
"واعلم انك لا تزال في وحشة إلى وحشة , وفي غربة إلى غربة , وفي تنكر للعيش , تسخط الحال حتى تجد من تشكو إليه بثك , تفضي إليه بذات نفسك , متى رأيت عجبا لم تضحكك رؤيتك بقدر ما يضحكك إخبارك إياه . فمن اغلب عليك ممن كانت هذه حاله منك , موقعه من نصك))
"من رسالة في الجد والهزل" للجاحظ
------------
((خبر عشت لسماعه خمس سنوات يفاجئك و أنت في السرير .كنت تتوقع أن تركض وراءه , تركض في محطات لا تعداد لها .وتتسلمه وأنت تقطر عرقا ويأسا لكنه يفاجئك وأنت نائم))
------------
بعد "لحظات من الصفو العابر" و" رواح" محتوم اخذ بيدنا السيد البقالي و أدخلنا في ماراثون محموم راكضين باتجاه هدف لربما كان بطله الكاتب أو من عايشه لكننا في آخر الأمر و إلى حد لحظة كتابة هذه الكلمات ما زلنا نلهث دون أن نرى ماءا ولو على شكل سراب

كان قائده أو وسيلته جملا اخضر وأنا متأكدة سلفا أن كل واحد منا قد ركب جملا مشابها يوما ما باختلاف طفيف باللون ووجهة وهدف الرحلة...هو هو الجمل الذي ينظر إلينا ببله و يحسب كيلومترات عداده من أعمارنا دون أن نعلم إنما هو يهزأ بنا!
يا لهذا البشير أيها الفاضل البقالي....يا لهذا البشير و مقولته التي تحفر في العظم أخدودا و ليس أي عظم ...عظم الجمجمة ...لإدخال مقولته عنوة

((لا ترهن عمرك بفعل ناتج عن ظرف عابر في حياتك))
لله درك فدوى!!!!

حددتنا يا سيدي بين شرفتيك...
-المسار الذي انبعث منه
-المتاهة التي ستقذف فيها بعد حين
أحسست وأنا اقرأ نصك انك إنما تهبنا حفرة بثقب واحد وآخر مطمور ...منته...أدى ما عليه و تنصل عن دور آخر نحلم به , هو دور العودة من خلاله
سيدي: أنت في ركضك نحو السراب كنت تؤدي لنا جميعا أهداف لكن بأدوار مختلفة بعض الشيء لكن مفارقات الركض هي هي...اعتبارا من خط البداية الذي هو دموع ذلك القبطان وانتهاء بصحراء فاغرة فاها و تصرخ "هل من مزيد"...فوجدت نفسي أسألك واسأل نفسي :
((هل نحن محكومين بهدف ما حين نتحرك؟))

((أن بعض الشخصيات التي سأتناولها قد جنت فعلا ?
أخرى وضعت حدا لحياة ما وجدت جدوى تدفعها كي تستمر ?
أخرى التمست طريقا آخر غير تحافظ على توازنها العقلي
حين يصير الجنون قمة العقل ? حين يصير التعقل اقرب طريق يفضي إلى الجنون))

هل سيدي بهذا أنت تهبنا هذه الثلاث خيارات فقط بعد تجربة نتركها للأجيال؟
اعطنا المزيد فالحياة خانقة بما يكفي بحيث لا نغبن فيها خياراتها الأخرى...
هل يا ترى هذه الخيارات تنتسب في جهة ما إلى أولاد الرؤساء والحكام والمترفين والأباطرة حديثي الولادة؟
أم إنها من نصيب فقراء الله فقط ?

((أي معنى أن يكون لحياتك؟
ما هذه التي نسميها حياة؟
هل بمقدورك أن تبحث عن مكان يجعلك خارج الزمن؟))
عن التساؤل الأول والمعنى للحياة ليتني أستطيع أن أجيب بأكثر مما
قال المتنبي:

لتعلم مصر ومن في العراق
ومن بالعواصم أنى الفتى
و أني وفيت و أني أبيت
و أني عتوت على من عتا
و ما كل من قال قولا وفى
وما كل من سيم خسفا أبى
و من يك قلب كقلبي له
يشق إلى العز قلب الثوى
و لابد للقلب من آلة
ورأي يصدع صم الصفا
و كل طريق أتاه الفتى
على قدر الرجل فيه الخطا

عن السؤال الثاني اسمح لي بإجابة (أو سمها قناعة شخصية !)
لا نريد أن نقرأ الماضي أو نكتبه بطريقة روائية خاطئة لأننا سنعيش حاضرنا و مستقبلنا كأبطال روايات و قد نكون حقيقيين أو قد لا نكون وأذن هنا يرفع هذا السؤال عقيرته صارخا:
((ماذا قدمنا للأجيال؟)

خذ بالك سيدي لربما كان الجواب على هذا السؤال يمثل هدفا..... إذن.... لم يعد ركضنا وراء سراب!!

لا اعرف بالضبط أين قرأت : "افضل ما يفعله الإنسان أن يحيل أوسع تجربة ممكنة إلى وعي"
لكنني اعرف بالضبط أن هذه الكلمات اكبر شرح لما تقدمت به من رواية سيدي...هذا الوعي الذي نحرك عيوننا على أحرفه قد صقل في شخصية كل منا ولو بجزء يسير واعتقد انك لمست ذلك من خلال الردود التي تفضل بها الأحبة قبلي
كأنك بهذه الرحلة قد شحذت طباعك و تهيأت (رغما عنك!) لتكون إنسانا آخر يتأقلم مع ما هو راحل إليه. جعلت منا رفاق سفر بعضنا متململ و بعضنا مكتئب و بعض منا مرح والبعض الآخر سفه الوضع لينعم بصحبة جملك الأخضر دونك!

كأني بك تستنطق الجاحظ حين يخاطب قارئه فينا:
((جعلت فداك .إنما أخرجك من شيء إلى شيء و أورد عليك الباب بعد الباب لان من شان الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل و أن كثرت محاسنه و جمت فوائده و إنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي وانك متى كنت للشيء متوقعا و له منتظرا كان أحظى لما يرد عليك و أشهى لما يهدى إليك و كل منتظر معظم و كل مأمول مكرم))

((يجب أن تنسى كل أدوات الاستفهام التي حفظتها في المدرسة))
لمَ يا سيدي غبنت حق طفولتنا في ارثها؟ إذ حملنا في أكياسنا أدوات الاستفهام كآخر زوادة و سلاح بوجه الزمن نسأله بها ما استغلق فهمه و شح علينا استيعابه فيأتي بشيرك فيجردنا منها..إذن كيف كنت سأسألك إن لم اكن استخدمت "كيف" ?!
الله يسامحك يا لبشير...لا تجردنا من أسلحة طفولتنا و لا تجعلنا نتنكر لها فهي الرصيد الأكثر نقاء و وفاءا في رحلة الانتقال والهروب من مسافات العمر المسماة خطأ أعمارنا

1. ((أن الأول احرق وانتهى في بضع دقائق في حين ستمضي عمرك أنت تحترق على مهل))

2.((أن ارمسترونج كان في فضاء منعدم الجاذبية لذلك بدا و كأنه يسبح في حين كنت أنت مشلول القدرة والعزيمة لذلك بدوت وكأنك تغرق))

3.((أن الأولى أفضت إلى النجاة من البطش , في حين كانت طريقك تفضي إلى عمق متاهة لا تدري منتهاها))

إذن سيدي ها نحن نعود للماضي ...ماضي غيرنا فنحاول جره إلى أيامنا التي ستصبح عما قريب هي الأخرى ماضيا أيضا..اعتقد هنا السر الكامن في الركض وراء السراب أن نترك إرثا ثقيلا من المقارنات لمن يخلفونا فنقول هاكم انظروا كيف تصدينا نحن!!!

((اعبرها و بعدها سيلوح لك وهما جديدا تجري من اجله))
اعتقد تناقشنا سيدي في أمر الهدفية فيما يخص هذه الفقرة بالذات فنحن في سعي دائب وراء هدفية متلونة كالحرباء في حياتنا و هي تلبس حلة مختلفة في كل مرحلة عمرية..ابتداءا من الصرخة الأولى والرفض الأول في الهجرة وانتهاء بقرارات العقل الإلكتروني الذي يركلنا كمن يركل شيئا قميئا يعيق عليه سيره المعتاد

((وأنت تجري اتجاه بوابة وهمك الجديد . أحذر أن تقع عينيك على ركام أيامك المستهلكة فأن أنت فعلت فاعلم أن ذلك سيفسد عليك عمرك المتبقي))
هل أن ما تبقى في العمر والذي تخشى عليه لا يمت بصلة لهذا الركام الذي أخذت تخشى النظر عليه
انظر فيه فلعلك وجدت شيئا براقا يعطيك دافعا جديدا للركض...وليس مشترطا حينها أن يكون هدف الركض سرابا!

((و عدت للخريطة تبحث على ضوء المعطيات الجديدة.
غرب تندوف
شمال الزاك
جنوب كلميم))

أين الشرق يا سيدي هل بترته بوصلتك هو الآخر؟جهة الشرق تعاتبك يا سيدي البقالي...و تعاتب هذا العقل الإلكتروني أيضا!

((انهرت.ليس بفعل تأثير أحاسيس اللحظة و لا لانك مقدم على فراق الأسرة و الأهل و الرفاق و مسارح الذكريات و إنما لاول مرة منذ زمن بعيد ترى هذا الربان الذي قاد فلكه في مواجهة اعتى الأعاصير ينهار أخيرا و يبكي))

سيدي اسمح لي أن أهديك معلومة بحرية : ربابنة السفن هم آخر من يتركون السفن المهددة بالغرق و لذلك لا يبكون ...هم منشغلون بتوفير فرص النجاة لركابهم..(أبناءهم)...و يرونهم يغادرون السفن إلا انهم فرحين بنجاتهم..لربما كان هذا السبب الذي جعل ربانك يذرف دمعة عنيدة

((كانت خيوط ضوئية تؤقت نبضات الأفئدة على إيقاع صعود و خفوت صوتها شاشة تنتصب ليعرض عليها مشهد و حيد . عش واهن في مسار إعصار))

يا الله كم رائع هذا الوصف...لم أجد وصفا عميقا للام كما فعلت في هذه العبارة...دمت سيدي!!

((ا تقلق . يوما ما ستعود و سينتهي كل شيء " .اختصرت كل مآسيك التي يمكن أن تعيشها في كلمتين))

(ذات مرة كتبت لي سيدة : ليس في الأمر من مأساة..كلنا نموت))
هكذا بكل بساطة اختصرت كل الآلام والأحزان والقهر و الاقامات الجبرية والسجون وكل شيء يهز الإنسان حتى نخاعه لتسفيه حقيقة الموت و بالتالي تمريرها كما تمرر لحظة رسوب طالب بإعطاء أحقية النجاح لاخر اجدر منه...هناك بشر يختصرون حزنك و ألمك ومشاعرك ويتوهمون انهم بهذا قد لفظوا لك بحكمة لن يولد لها أخ...قد يتوهمون انهم يهبونك عزيمة من نوع ما تجعلك اكثر قدرة على مواجهة و تحديات جديدة..? قد يكونون يتفوهون بها لتهوين الأمر عليهم هم أنفسهم..لكن التحصيل الحاصل هو انهم سلخوا جلد الحقيقة وطالبوها ان لا تنزف

((منفردا ستواجه كل الاحتمالات))

بالضبط كما هي لحظة الولادة و كما هي لحظة الموت...لكن عفوا بفارق بسيط في الولادة يشاركك ذلك القبطان الرائع بوضعك في محطتك الجديدة فرحا بك...ولحظة الموت...لن يرافقك أحد.. وقد تكون سيدي بهذه العبارة دون أن تدري جعلتنا نستعد لمواجهة كل الاحتمالات لوحدنا

((تسأل نفسك و أنت تقطع المسار الفاصل بين الماضي والمستقبل . من أنت؟ و ماذا كنت قبله؟))

و الحاضر , يا سيدي البقالي لمَ لم تطل الاتكاء عليه..هل لكي تتنصل من مسئوليته؟

((تنتصر مؤقتا على الأمكنة))

حين نغادر مكانا ما فنحن منتصرون عليه حتى ولو كان ذلك رغما عنا...انه تغيير إحداثيات لا غير إذن هو انتصار بالعرف العسكري حتى ولو كان هروبا للخطوط الخلفية. إعادة تنظيم القوات استعدادا لهجوم جديد..فهو انتصار إن نظرنا له بشكل تفاضلي لا تكاملي

((أكيد انك كنت ستركض إنما إلى الخلف. لكن لماذا يرتبط الماضي دوما بالقداسة والكمال؟))

الجواب: لانه بداية الاستكشافات الأولى و الاندهاشات الأولى التي تحلق فوق وجوهنا حتى لرؤية قطة تشرب الماء!

((لكن ماذا يعني أن تعيش في عالم ليس فيه أشجار؟))

و متى ستتوقف هذه السلسلة الطويلة التي يتغير فيها كل شيء سوى الوداع؟

الجواب: حين الموت .نقطة في نهاية السطر وإسدال الستار و بعض من البكاء!

((أردت أن تدمره .ليس وحده . كل اللذين يجلسون على الكراسي خلف المكاتب .كل اللذين يقبعون في الغرف المكيفة . كل اللذين يتحصنون خلف صفوف آدمية حولوها إلى جدران دفاعية لاتقاء غضب ? شر من كانوا ضحايا قراراتهم الخاطئة. كل اللذين لا يدركون أن تلك الجرة من القلم التي يخطونها مبتسمين ? هم في حديث ودي مع زائر بلا موعد تتحول إلى أخاديد فوارة تتدفق دما من الروح والجسد))

هؤلاء هم آفة الرحلة التي اسمها الحياة..تارة تجدهم بالصفوف الأمامية وتارة تجدهم عن يمينك يحسبون أنفاسك وتارة تجدهم يأمرونك بالنزول حيث لا تشتهي النزول من الرحلة .هؤلاء هم طاعون الأيام الأصفر ..هؤلاء هم المرئيون لدرجة الوضوح والغامضون والسريون لدرجة التلاشي ..أما أفعالهم...فذلك هو استباحة الأرواح في أجساد أصحابها بأي شكل يرتئونه هم..... المصيبة انهم موقنون تماما..إنما يفعلون ذلك لمصلحتك , لاكل العيش!!!!

((هو عمرك . لكن كي تعيش . كي تحصل على اجر يجب أن تعطي للآخر سنواتك .لكن ماذا تأخذ؟ هل ما تأخذه هو مقابل لما أهدرته من طاقة أم تعويضا لسنواتك المسروقة؟))

هو العمر معجونا بالصبر وما تأخذه فيما بعد حفنة من الحكايات التي يتناثر الغبار من حولها وأفواه صغار مفتوحة دهشة (غير مصدقة ) ...

((هو الصبر . مشجاب لكل المستعصيات . ثلاجة لكل الفصول))

هنا لا أوافقك سيدي..هو الصبر..محرقة لكل الأعصاب وانتظارا للذي لا يجيء..هو الصبر الذي من بعده تعتل الروح بآلامها دون أن تجد فترة هدنة معه فأن عرف مخابئك السرية أدمن الوصول إليك

((تسأل نفسك ماذا يجد الناس في الاستقرار في ارض مثل هذه أكيد أن ذلك حوار قديم جدا جدا بدا مع ظهور الإنسان على الأرض حوار تتواصل فصوله هنا بكل حدة ? من ثم تواجد الإنسان في ارض كهذه لا يعني سوى شيئا واحدا وهو انه يحب ركوب التحدي))

لطالما أحببت تفسير عشق الصحراء التي لم نفلح في رسمها كما أفلحت ريش الفنانين في رسم الأشجار و جداول الأنهار..قد أجد ضالتي هنا..سيدي للصحراء لغة لا يفهما إلا من اختلطت دماء حبله السري ساعة الولادة بحبات رملها..الصحراء لا يفهمها إلا من هب على وجهه هواء صيفها الحار الذي يقتحم العروق و يختلس ما فيها من دماء.فيشهق الصحراوي صارخا..."لله درك صحرائي ما أروعك"...
هل وفيت الصحراء حقها؟ لا أظن!!!

((كنت في حاجة إلى من يسمعك بعد تلك الأيام الصامتة الطويلة))

سيدي البقالي اسمح لي هنا أن استبدل كلمة "الأيام" بـ "السنوات"

((أن ابشع صور التخلق هي حين تتحول لقمة العيش إلى جبهة يحاصرك الآخر عبرها))

و الأكثر بشاعة حين تمتد تلك الجبهة لآلاف الكيلومترات فترى أن العدو لبس ألف وجه و يحاربك بألف سلاح و لم تعد تعرف مكمن الخطر في موقعك فيسلب منك حتى لحظة التوثب للدفاع عن نفسك

((عودة من أين والى أين؟
((و أقساط عمري التي سأقتطعها والقي بها هنا
هل يمكنني أن أستعيدها يوم سأرحل من هنا؟
و إذا كان ذلك مستحيلا ماذا سأعتبرها؟
ثمنا لتذكرة العودة؟
والشرخ الذي سيظل ماثلا داخل يجزيء عمري؟ بأي شيء سأرأب صدعه؟))

اعتبرها دفعة أولى من القسط السنوي لوجودك حيا...لا غير!

((هل الحياة اكثر من فرصة؟ ? هل الاستفادة منها تشترط سلك نهج وحيد؟))

بالطبع لا. المنهج الوحيد يفضي بنا إلى النهاية سريعا...و ليس دائما هناك مستفيدون من الحياة .الحياة فرصة ? بالطبع نعم...وان لم تكن ذهبية دائما...فقد تحقق فيها خيبات كما تحقق فيها نجاحات

((هل في كل ما عشته إلى الآن كنت تملك اختيارك أم أن انغلاق الأبواب في وجهك كان دوما يدفع بك صوب الباب الوحيد الذي كان يظل مفتوحا؟))

قد يكون هناك عدد لا محدود من الأبواب ونحن في مفترق طرق ولا نعرف ما يختبئ وراء الأبواب كما في قصص السندباد..فأن كان هذا الباب المفتوح يسر بما وراءه فليكن الولوج منه ولو كان مزروعا ألغاما أو لأكن اقل حدة فأقول أشواكا.

((أكيد أن جل اللذين وجدوا أنفسهم أمام الموت كانوا حتما يحاولون جعل مسار حياتهم اكثر طولا))

أوافقك تماما هنا...فللموت رائحة لا يستنشقها سوى ضيوفه ..فيحاولون ثنيه عن استضافتهم لان في رؤوسهم زوبعة من الفرص المسماة "الحياة"...ولكن عبثا ذلك منهم....((فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة و لا يستأخرون))

((كيف تدرك العنزة المعنى المعادي لها في الذئب في حين إنها لم تعرفه و لم تره من قبل؟ و لا أحد حدثها عنه؟))

اعتقد هنا أن مندل و قانونه الوراثي قد يجيب شيئا ما عن هذا التساؤل

ملاحظة :

أراك يا سيدي قد ضربت بعرض الحائط بنصيحة البشير واغترفت من أدوات الاستفهام ما ألبستنا إياه ثيابا و فرشت لنا أرضا بورود رائعة في الدرر على شكل "الركض خلف السراب"

اسمح لي سيدي بأن اشكر لك فضلك فيما أمتعتنا به لحد الآن بشعر لأبي عبد الله الخطيب....

إذ يقود الدهر أشتات المنى تنقل الخطو على ما يرسم
زمرا بين فرادى و ثنى مثلما يدعو الوقود الموسم

((لي عودة لما تبقى...امهلني لالتقط انفاسي من هذا الركض))
مودتي

رجاء جمعة سلمان