المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أبــــواب - قصـة قصيـرة



رانيا مامون
31-07-2003, 08:35 PM
استيقظ باكراً على غير عادته. منشرحاً ونشطاً غادر فراشه. توجه إلى الحنفية ليغسل وجهه ويغِّير ريقه بمعجون أسنان بروح النعناع، وجد الماء مقطوعاً .. يا إلهى.. متى حضر هؤلاء ..؟ ألا ينامون أبداً ..؟ تذّكر أنه لم يدفع مستحقات هيئة المياه بداية الشهر. وكيف له أن يفعل وهو إذا دفعها لابد أن يؤجل شيئاً آخر، كان يستغنى عن الكهرباء شهراً والمياه شهراً والهاتف شهراً، ويتحمل مضايقات صاحب الدكان واستفزازات مالك البيت وأقسم لو أن الحكومة تسمح له بالسكن فى الشارع لاستغنى عن البيت شهراً أيضاً وبذا يدخل فى قائمة المستغنى عنهم أو ما يسميه "القائمة الهامشية" ...
حاول أن لا يجعل هذا الأمر البسيط المتكرر أن يحظى بشرف تعكير مزاجه الصباحى الجميل .. تجاوزه؛ فهم دائماً ما يضعون احتياطى وعندما ينتهى بعد اليومين الأولين من انقطاع الماء؛ خرطوم الماء طويل بحيث يصل إلى بيت أكثر من جار فى الحي ..
- يا ولد ..أملا الجردل دا سريع، عاوز استحمى وأطلع ..
حمل الباب خلفه، رغم أنه لا يغطى كل فتحة الباب .. مع انسياب الماء البارد على جسده أحس بالنشاط وتمنى أن يتجاوز اليوم ساعتيه القادمتين ويرميهما أو يعود إليهما مرة أخرى، ليس مهم؛ المهم عنده هو أن يغمض عينيه ويفتحهما فيجد الساعة التاسعة موعد استلامه لعمله ..
منذ اليوم لن ينتظر اعانات اخوته المغتربون المتقطعة .. لن يغير خط سيره تهربا ًمن صاحب الدكان أو الجزار أو جاره الذى يقاسمه معاشه .. لن يسير برنامجهم الغذائى على نهج (يوم فى ويوم مافى ويوم كسرة بموية) .. لن ينام ابناءه دون عشاء ولو كان كوب صغير من اللبن ..
- لا ..لا ..لا .. أمشى يا ولد.. يا محمد تعال تعال الولد دا رمىالباب .. يا على امسك الولد دا الباب وقع ليهو فى كراعو ..
وما كان الباب سوى شريحة من الزنك لا تغطى كل فتحة الباب ولكنها تستر مَنْ وراءها. أرتدى ملابسه قبل أن يزيل الصابون عن كل جسده وأقسم أنه سيغير هذه الشريحة من الزنك الصدىء التى يطلقون عليها مجازاً باباً ..
شرب الشاى، كالعادة سكر خفيف. توكل على الله وبسمل وأراد الخروج، ولكن الباب؛ ما باله الباب حاول أن يفتحه وحاول أكثر واكثر ولم يطاوعه .. الباب ذو الضلفتين أحدهما أقصر من الأخرى
- تباً لهذا الباب الأعرج
قال بنحق وواصل :
- يا محمد مية مرة قلت لكيم ما تقفلوا الباب الملعون دا شديد كدا .. أهو رزعة الباب دى خلتو يبقى كدا ..
عندما نجحت محاولاته أخيراً بعد رزمة من الكلمات الغاضبة؛ فتح الباب، سمع صريره نصف سكان الحى و"انكمش" كم القميص فى يده اليمنى ولكن؛ لا بأس، فهو اليوم لا يريد لأى شىء أن ينال من مزاجه. حاول فرده بديه الأخرى وواصل سيره ..
استقل الحافلة واقفاً، ليس أمامه خيار آخر لا يريد أن يتأخر على مواعيد العمل..
- يا ولد .. دخل الناس الفى الباب ديل عليك الله؛ ما ناقصين غرامات من الصباح
صرخ سائق العربة وبإنتهاء جملته الأخيرة أحس بأيدى تدفعه إلى الداخل وبدأت المعركة ..
- يا أخوانا لو سمحتوا؛ أدخلوا لينا جوا عليكم الله
هذا يلكم هذا وهذا يدوس على قدم ذاك والآخر الطويل منحنى وكأنه يصلى ..
- يا أخوانا أفتحوا الشباك دا .. الدنيا سخانة والسحاوى حايم الأيام دى
و.. و .. و أخيراً وصل محطته. اقتلع نفسه من بين الآخرين وقذف بها إلى الطريق ومع وصوله اكتشف أن باب الحافلة أراد الإستيلاء على جزء من قميصه فإنتزع نصيبه منه وواصل سيره بقميص مثقوب. تخظى تفكيره فى هذا الامر وأقنع نفسه: لن ينتبه أحد إلى هذا الثقب، سيحاول أن يداريه ويخفيه عن الأنظار سيشترى واحداً جديداً بعد أيام، فهو الآن غيره بالأمس عندما كان عاطلاً ..
دخل الشركة التى يمتلكها أحد رجال الأعمال، هؤلاء الذين يظهرون فجأة أغنياء ويُعتمون على تاريخهم فلا يُعلم سوى أنه فلان رجل الأعمال.. كيف ومتى ..؟ لا أحد يعلم ولكن؛ ماله وهذا .. ليس شأنه ما يهمه هو عمله ودون ذلك خارج عن دوائر اهتمامه .. سيجِّد فى عمله ويثبت كفاءته ويغيّر وضعه وربما فتح له هذا العمل أبوباً أخرى مع قبيلة رجال الأعمال الغنية
هذى ..
سيعيد الماء .. سيلغي نظام الإستغناء عن أحد مكونات القائمة الهامشية كل شهر.. ستبقى كل القائمة كل الشهور .. سيشترى بابا للحمام ويركبه ويصيِّن أرضية الحمام. بعد فترة أيضاً سيصلح الباب الأعرج ويقومه ولن يحتاجوا لشرب الشاى سكر خفيف حتى لو بدعوى الحفاظ على الصحة وسـ وسـ وسـ وغرق فى الحلم .
وصل مكتب رجل الأعمال فى الطابق الثاني، تأمل الباب الجميل الشكل المتين والجيد الصنع، لا بد أنه من أحد المصانع التى تصنع الأبواب والنوافذ وغيرها، أو ربما كان مستورداً، وعلى كل الأحوال فهو قطعاً لم يصنع فى أى ورشة من ورش المنطقة الصناعية. أعلاه لوحة أنيقة وفخمة محفور عليها " المدير" . تحسس الباب، كم هو بارد، أخذ نفساً عميقاً، أمسك مقبض الباب وقال فى نفسه: الآن ألج دنيا البشر، لكن .. مابه ؟ لمّ لا يفتح ..؟ هل هو أعرج أيضاً مثل باب بيته ؟ أم أنه يُحمل مثل باب حمامه ؟ أم أنه لص أقمشة مثل باب الحافلة ؟ أدار المقبض أكثر من مرة .. طرق وطرق مرة أخرى وأخرى ولا جدوى.
مرَّ ساعى البريد سأله :
- المدير موجود ..؟
- أنت عاوز المدير ..؟
قال بنفاذ صبر
- أيوة يعنى سألتك عشان شنو ..؟
- أنت عمر أحمد
- أيوة انا زاتى بشحمى ولحمى …
- معليش المدير طلب منى لما أنت تجى أقول ليك انو الظيفة دى أدوها لزول تانى واستلم الشغل خلاص .
- شنوووو ..؟ كيف الكلام دا ؟ وليه ..؟
- والله دا الحصل .
غضب .. ثار .. صرخ .. طالب بحقه .. قرع الباب وحاول اقتلاعه .. زاد الثقب فى القميص .. أولاده ما مصيرهم ..؟ لقد وضع كل أمله فى هذه الوظيفة .. هو يستحقها .. يستوفى شروطها .. لمَّ تعطى لآخر..؟ لمَّ ..؟

لن يغادر هذا المكان ما لم يجد إجابات لأسئلته، ما لم يعرف السبب . فكر بوضعه، بيته، قائمته الهامشية، اخوته الذين يقطرون عليه إعاناتهم قطرة قطرة، بباب بيته الأعرج، بباب حمامه المحمول ..آآآآآهـ . أرهقه عبور كل هذا وأنهكه التفكير فى الغد، ارتمى قبالة باب المدير وبكى. بحرقة بكى، بقهر وإحساس بالظلم بكى .. ظل فى مكانه وبين لحظة وأخرى يرفع نظره إليه عسى أن يُفتح أو يطل منه أحد .. طال الإنتظار والباب موصد دونه .

مايو 2003



وأنا الآن بلا مهمة. أكبر كل يوم ولا أتقدم نحو شيء .. تماماُ كما فى شعر "كمال"
تحلق فوق النسور
وأنا أهرب ن جثتي لجثتي

عبدالله البقالي
02-08-2003, 09:33 PM
لم يحدث ان اضحكتني قصة مثلما حصل لي مع هذه ن لحد ان كل افراد الاسرة الى الى الغرفة التي كنت اقرأ فيها مستفسرين غن ما يضحكني بذلك الشكل . وكأني كنت اتابع احد افلام "شارلي"

نصك هذا اعادني الى اجواء مبادرة في السرح المغربي في بداية الثمانينيات حيث كانت هناك مبادرات لخلق اتجاه في المسرح سمي ب"البكاهية" والكلمة هي مزيج من البكاء و الفكاهة . اي تحويل المواضيع المبكية الى مواضيع فكاهية . عملا بالمثل القائل "كثرة الهموم تضحك"
من جهة اخرى لقد رصدت تحولا لك في الكتابة القصصية بهذا النص / حيث تم الانتقال من مواضيع الافكار الكبرى الى الاشياء اليومية . ولا اعرف ما ان كان ذلك مجرد محطة من جدل الفكر مغ الواقع ام ان الامر يغبر عن قطيعة نهائية . و بالمناسبة فهذا التحول قد غدا موجة عالمية حيث يتم رد الاعتبار للهاجس الحكائي على حساب هاجس المفاهيم .
رانيا . سننتظر اكثر لتتضح الملامح الجديدة .

رانيا مامون
04-08-2003, 03:03 PM
الأستاذ البقالى

دوماً قرأتك لى تختلف عن بقية القراءات ..
هذه القصة وبعض أخواتها هى فعلاً خروج إلى اليومى ورصد بعض الوقائع فى مسيرة الحياة اليومية .. أما عن قطيعة نهائية لمواضيع الفكر فلن يكون هذا؛ بما أننا نعيش فلابد لنا من أن نفكر ولابد لنا كذلك من تدوين ذاك الفكر .. ما حدث فى هذه القصة وغيرها مجرد تحول وتجربة لخوض مجالات أخرى ...

وأنا أنتظرك أيضاً فى قراءات أعمق

ومسرورة أن قصتى رسمت ابتسامة وضحكة على وجهك .. ': ولكم تسعدنى ضحكات الأصدقاء ..

تحياتى أخى
وكن بخير

الشمس
05-08-2003, 03:23 AM
و انكسرت الجرة واندلق العسل !

"نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا"
لهذا كان الباب موصد من دونه ..
وربما كتب لعمر خالد أن يشرب الشاي سكر خفيف طيلة حياته :)
...

"يلجأ أغلب الناس إلى القصة؛ للبحث عن كثير من الحقائق الاجتماعية والعواطف الإنسانية أكثر من لجوئهم إلى علم النفس" برناردي فوتو.

لفت انتباهي الحوار المكتوب باللهجة العامية وهذا مما يتناسب مع الهدف من النص وهو الاقتراب من حياة البسيط "عمر خالد".
الجدير بالذكر أن الحوار عندما يكتب بالعامية قد يربك العمل إذا استخدم من غير حاجة إليه.

ملاحظة أخرى ..
العبارات التي كانت على لسان الشخصية والتي تداخلت مع النص لماذا لم تضعيها بين علامتي تنصيص ؟


نص جميل يارانيا :)

رانيا مامون
26-08-2003, 12:54 PM
الجميلة روحاً

لا أدرى إن كنت تعرفين أن عينك الثاقبة وذهنك الحاضر فى القراءة ومن ثم فى كتابة المداخلة تعجبنى .. سجلى هذا الإعجاب ;)

حقيقة لا أدرى لمَّ لم أضع "المونولوج" بين علامتى تنصيص .. ربما السهو وعدم التركيز ، شاكرة لك من قلبى هذا السؤال ..
هذا النص هو من عمق الواقع الإجتماعى السودانى الذى يرزح تحت وطأته جُل الشعب السودانى وهو وإن كان يسلط الضوء على هذه الشريحة فهو أيضاً يفضح بشكل أو بآخر عدد من الشرائح الأخرى التى جعلت من الشعب سلماً وصعدت عليه ...

لك جميل جميل تحياتى
دُمتِ