المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قبل فوات الأوان (قصة مؤثرة)



حازم
22-03-2003, 11:24 PM
نادية باكير

اليوم أيضاً تطالبني أم علي بإخبار أولادي عن ضيق الحال ، وإلزامهم بدفع مبالغ شهرية منتظمة لنا فهذا حقنا الشرعي ، فقد ربيناهم صغاراً ، وقترنا على أنفسنا لتدريسهم حتى صاروا أقوياء وأغنياء ، ونحن الآن بحاجة إلى مساعدتهم لنا ... آه لاتعرف أم علي إنّني أفضّل الموت جوعاً على أن أمد يدي إلى أولادي طالباً منهم المساعدة ، أما ربيتهم وعلمتهم ليعرفوا لي حقي دون أن أسألهم إياه . أحدهم مهندس والآخر محاسب ، بعملية حسابية بسيطة يمكنهم معرفة أن دخلي من المخازن لايكاد يكفي لشراء الطعام فكيف بالأدوية على كل حال الله يسامحهم ولايضرهم بسبب غضبي عليهم فالإنسان ينسى غيره في غمرة مشاكله ومتاعبه ابني علي لا يكاد دخله يكفيه .. فأولاده كلهم في مدارس خاصة بالإضافة إلى نفقات سيارته وسيارة زوجته وإيجار الدار الفاخرة التي سكنها للحاق بمستوى عائلة زوجته، وعادل الله يعينه ينفق كل ما يكسبه في علاج زوجته لعلّها تنجب له الطفل الذي يحلم به ، وفي نهاية كل عام يسافران في رحلة سياحية لنسيان الهموم كما يقول ، أما توفيق الله يرضى عليك يا توفيق بعدد نجوم السماء وقطرات الماء على الرغم من دخله المتدني ومصاريف بيته وأولاده يعطي والدته عشرين ديناراً في نهاية كل شهر، وكل عام يشتري لنا تنكة زيت زيتون ، وكلما حاولت الامتناع عن قبول عطاياه يتوسّل إلي أن لا أحرمه من البركة التي يجدها في ماله كلما تكرّمنا وقبلنا القليل الذي يقدمه لنا حسب قوله، الله يرضى عليك يا توفيق فلولا العشرون ديناراً التي تعطيها لوالدتك لما استطعت أن اشتري لها أدوية الضغط التي تحتاجها .
شاهدت مرةً برنامجاً عن حشرة تضع بيضها في الماء فيمّر هذا البيض بمراحل مختلفة حتى يفقس عن حشرة تطير فوق سطح الماء مطلقةً أنواراً ملونّة فتتزاوج وتسقط ميتةً في الماء ، ويسقط بيضُها معها لتبدأ دورة جديدة للحياة ، وقتها استغربت من قِصر حياة هذه الحشرة ، والآن أشعر أن حياتنا نحن البشر ليست أطول كثيراً من حياتها.
قبل أسبوع زرتُ أبا أحمد الاسكافيّ للمرة الخامسة ليُخيط لي الحذاء فسخر من حذائي قائلا ًبأنه كحذاء الطنبوري ، ونصحني بمطالبة أولادي بزيادة عطائهم لي... لو يعرف أبو أحمد أنّ توفيق هو الوحيد الذي يعطينا مبلغا نصرفه ثمن أدوية ، الله يرضى عليك يا توفيق .
- المدينة الصناعية ..
صرخ الصبي في الحافلة بأعلى صوته فأغلق أبو علي دفتر مذكراته ودسّه في جيب سترته وترّجل عن الحافلة وهو يتمتم بالأدعية لتفتح له أبواب الرزق ، لكنه لم يجد عملاً .. رجع إلى البيت .. توقفت الحافلة وترجل مسرعاً ومن بعيد شاهد سيارتا ولديه علي وعادل أمام باب داره فتوجس شراً وحث الخطى ليجد نفسه داخل بيته ، يسمع نشيج وعويل بناته . أحس بالدنيا تلف به ، توجه فوراً إلى مطبخ داره حيث خزانة الأدوية فتفقد علبة دواء الضغط الخاص بأم علي فوجدها فارغة تماماً.
في غرفة النوم كانت أم علي ممددة على الأرض وحولها أولادها في بكاء وعويل . دخل أبو علي الغرفة بهدوء وطبع على جبين زوجته المتوفاة قبلة دون أن تذرف عينه وقال : سامحيني .
التفت اليه المهندس علي قائلاً :
-أين كنت يا أبي طوال هذا الوقت ؟ كيف تركتها وحدها وأنت تعرف حالتها الصحية ؟
نظر أبو علي إلى ابنه بأسى وقال بهدوء غريب :
- كنت أبحث عن عمل لأوفر لها ثمن الدواء . وأشار إلى علبة الدواء التي في يده .
جحظت عينا المهندس علي دهشةً في حين خّر أبو علي مغشياً عليه .
انطلقت سيارة الإسعاف مولولةً تحمل جسد أبي علي إلى غرفة العناية الحثيثة في المشفى ، وهناك تجمع حوله الأطباء والمسعفون حتى انتظم نبض قلبه وتنفسه بفعل الأجهزة الطبية المساعدة ، ولكنهم أعلنوا أن الشيخ السبعيني قد دخل في حالة غيبوبة ولايوجد ما يمكن عمله سوى انتظار أمر الله ، عاد المحاسب عادل مع أخواته إلى منزل طفولتهم للقيام بواجب دفن الوالدة التي ترقد بين الخالات والجارات في انتظار رحلتها الأخيرة في الدنيا ، وبقي توفيق وعلي في المشفى بجانب والدهم الذي دخل في عالم مجهول لا يعرف أن كان سيعود منه إلى الدنيا أم يتخطاه إلى الآخرة .
أحضرت الممرضة كيساً به ملابس المريض الغائب عن الوعي وناولته لأولاده ، ثم ناولت علياً دفتر المذكرات الذي كان في جيب سترة والده .
انكبّ علي وتوفيق على والدهما يقبلانه والدموع تنهمر من أعينهم بصمت.
فجأة بدأ الأب يصرخ صراخاً مريراً ، فهب ولداه لدعوة الطبيب آملين أن يكون قد استفاق من غيبوبته .
قام الطبيب بفحص الوالد ومعاينة الاجهزة الموصلة به ، قال الطبيب :
-هذا الصراخ لا يعني أنه يتألم أو أنه سيفيق من غيبوبته قريباً ، فكما قد يصرخ النائم في نومه أو المريض تحت تأثير المخدر فكذلك والدكما وبقائكما هنا طوال الوقت لن يغير من الأمر شيئاً وأنا أنصح بأن تعودا إلى بيتكما لنيل قسط من الراحة ثم ترجعان إلى هنا غداً وسأبلغكما بالهاتف إذا طرأ أمراً جديداً ..
أجاب توفيق :
-لا بأس أيها الطبيب لسنا متعبين لاتقلق علينا هو وحده المتعب فينا
قال علي وقد لفه الشرود :
- مهما حصل لن أتزحزح من جانبه .
أجاب الطبيب :
- حسناً الأمر إليكما ولكن لا ترتبكا إذا بدأ بالصراخ ثانية .
سأل توفيق :
- وهل سيصرخ ثانية؟
أجاب الطبيب :
-محتمل جداً فلقد مرت علينا حالة مشابهة كان المريض يصرخ فيها كل ثلاث ساعات تقريباً.
سأل علي بلهفة :
- وهل استفاق ذلك المريض من الغيبوبة ؟
هز الطبيب رأسه(بأسى) : للأسف لا.
طلب علي إلى أخيه العودة إلى بيت العائلة ليقف إلى جانب أخيه وأخواته هناك فامتثل توفيق أمره على مضض .
جلس علي بجانب والده ممسكاً يده الخالية من الأنابيب الطبية ، يتصفح دفتر المذكرات فقرأ في إحدى الصفحات .
(.. بفضل الله التحق ابني علي بالجامعة لدراسة الهندسة صحيح قد ازدادت المصاريف ولا اعلم أن كنت سأتمكن من تدبير نفقاته في سنوات دراسته القادمة ولكن الله هو المعين عسى ان تمرّ هذه السنوات بخير ويتخرج علي من الجامعة ، ويحمل معي جزءاً من هذا الثقل الذي هد كاهلي فيكون ساعدي الأيمن في تبليغ أخوته وأخواته إلى بر الأمان.)
تابع علي قراءة مذكرات والده في صفحات تالية :
((.... علي مصمم على الزواج من زميلته بنت الأكابر على الرغم من تمنّع أهلها وشروطهم التعجيزية ، ليس باليد حيلة لقد ضاع أملي ولن أجد فيه السند الذي كنت احلم به ولكن لن اقف في طريق سعادته مهما كلفني الأمر ، وقد اضطر أخيراً إلى بيع قطعة الأرض الوحيدة التي بقيت لي ... لا حول ولا قوة إلا بالله ...))
غاص قلب علي بألم ، انتشله منه نوبة ثانية من صراخ أبي علي وآهاته ، فانخرط المهندس في بكاء مرير.
قضى علي ليلته يقرأ مذكرات والده ولأول مرة في حياته أحس بالتعب والشقاء والعذاب الذي عاناه والداه في تربيته وأخوته ولمس شعور والده بالذنب تجاه والدته وأخواته البنات لعدم قدرته على تدريس البنات في الجامعات حيث تزوجن ولم يكملن تعليمهن الجامعي ، بعد أن فقد أبو علي الأمل في مساعدة ولده المهندس له .
كان صراخ الوالد الموجع يقطع قراءة علي للمذكرات فيبكي وينشح مقبّلاً يد والده وطالباً منه الصفح والغفران .
ذكر توفيق والدعاء له يتردد كثيراً في مذكرات الوالد فيزيد ذلك من ندم علي وحسرته على ما فرط في حقوق والديه ويقول في نفسه (( يالحماقتي وأنانيتي .. أين غابت أخلاقي ؟ أين غاب عقلي ؟ أيّ وحش وضع أنا ؟ ماذا فعلت بأكثر الناس لي حباً وبي شفقة ... وأي وحش أنا ؟ وكيف أعيش مع نفسي بعد الآن؟ .. لقد منعني حبي لنفسي من تقديم القليل الذي قدمّه توفيق لوالدي فكسب بذلك رضاه ودعواته له ، هنيئاً لك يا توفيق برضى والدي عنك .. ليتك فقط نصحتني وذكرتني قبل فوات الأوان ..))
مرّت الليلة طويلة وحزينة قرأ فيها علي مذكرات والده كاملة وتمنى أن يدخل في غيبوبة يلتقي فيها والده ليطلب منه الصفح أو يصحو الوالد ولو لبرهة ليقول له :
- يا ولدي قد سامحتك

الأخيــــــــر
23-03-2003, 01:30 AM
:MAD2::rolleyes::rolleyes::rol leyes:
لاحول ولاقوة الا بالله العلي العظيم















هزلت