المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لمسات بيانية في نصوص من التنزيل



الأمــل
13-12-2002, 11:38 PM
أحبتي الدرر ،،،،،
ساق الله بين يدي كتاباً أعتبره هديةً من الله تعالى لي ،، لما فيه من بيان لأسرار تعبيرات القرآن الكريم ،وهو كتاب ( لمسات بيانية في نصوص من التنزيل ) للأستاذ الدكتور فاضل صالح السامرائي فنحن كثيراً ما نقرأ القرآن ، ونعلم أنه معجزة الله الخالدة وأن فيه من الأسرار والعجائب اللغوية والعلمية الكثير.... الكثير، ولكن نادرا ما نقف عندها نتأملها...نتفكر فيها...لِمَ قال الله تعالى هذه الكلمة دون غيرها؟....لما قدّم هذه اللفظة وأخّر تلك؟.....وغيرها من التساؤلات التي وجدت لها إجابات في هذا الكتاب القيّم.
لقد قرأت بعض ما في هذا الكتاب ، وأحببت هنا أن تشاركونني الفائدة بعد أن حاولت تلخيص ما قرأت ،، وإن شاء الله سيكون لهذا الموضوع سلسلة متصلة تحكي في كل مرة عن سر من أسرار بعض آيات القرآن الكريم ...
ونبدأ من سورة الفاتحة وقوله تعالى : ( الحمد لله )
لماذا ...( الحمد لله) ...؟معنى (الحمد) : الثناء على الجميل من نعمة أو غيرها مع المحبة والإجلال. فالحمد : أن تذكر محاسن الغير، سواء كان ذلك الثناء على صفةٍ من صفاته الذاتية كالعلم والصبر والرحمة والشجاعة ، أم على عطائه وتفضّله على الآخرين . ولا يكون ( الحمد ) إلا للحيّ العاقل.

من معنى الحمد نعلم أن الله تعالى لم يختر كلمة المدح مثلاً وذلك :
1) لأن المدح يكون للعاقل وغير العاقل فنحن نمدح الذهب ..السيارة... القصر ...ولكن لا نحمدها .
2) ولأن المدح قد يكون قبل الإحسان، وقد يكون بعد، أما الحمد فإنه لا يكون إلا بعد الإحسان ، ولا يحمد من ليس في صفاته ما يستحق الحمد ، ولا يحمد من لم يفعل جميلاً. أما المدح فقد يكون قبل ذلك ، فقد تمدح إنساناً ولم يفعل شيئاً من المحاسن والجميل.
3) وهناك فرق بين الحمد والمدح ، وهو أن في الحمد تعظيماً وإجلالا ومحبة ما ليس في المدح.

لم الحمدلله ...وليس الشكر؟
1)الحمد يعمُّ ما إذا وصل ذلك الإنعام إليك أو إلى غيرك، أما الشكر فهو مختص بالإنعام الواصل إليك فقط.فأنت تشكر الشخص الذي أسدى إليك نعمة أو معروفا ، أما الحمد فإنه لا يختص بذاك ، فأنت تحمده على إنعامه لك أو لغيرك.
2) الشكر لا يكون إلا على النعمة ، ولا يكون على صفاته الذاتية ، فأنت لا تشكر الشخص على علمه ، أو على قدرته وقد تحمده علىذاك . جاء في لسان العرب ( والحمد والشكر متقاربان والحمد أعمهما ، لأنك تحمد الإنسان على صفاته الذاتية ، وعلى عطائه ، ولا تشكره على صفاته.
3) وكان اختيار الحمد أولى من الشكر ، لأنه أعم ، فأنك تثني عليه بنعمه الواصلة إليك ، وإلى الخلق أجمعين ، وتثني عليه بصفاته الحسنى الذاتية ، وإن لم يتعلق منها بك .

أحبتي حتى لا أطيل عليكم أقف عن هذه النقطة ، ولي عودة أخرى أكمل فيها موضوع
لماذا (الحمدلله ) ؟

تقبلوا فائق احترامي ومودتي
الأمــــــــــل

عــــزيــــز
14-12-2002, 08:33 AM
اختي .. الامل

الحقيقة موضوع اكثر من رائع..
جزاك الله الف خير عليه..

تحياتي لك..

ابوفهد
14-12-2002, 11:01 AM
مرحبا بالاخت الامل

اسعد الله ايامك بكل خير

جزاك الله كل خير على التنويه عن هذا الكتاب

وسوف احاول الحصول عليه ان شاء الله

كما ارجو المولى عز وجل ان يثيبك على

عرضك سلسلة لما يتحدث عنه الكاتب

واتمنى ان تستمري بها الى النهاية

مع تمنياتي لك بالتوفيق

تحياتي

أبو أكرم
14-12-2002, 02:11 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ،

أما بعد فإن إعجاز الله بائن في الخليقة كلها ، وأعجز معجزة على وجه الأرض وهي المعجزة الخالدة القرآن الكريم ...

وجزا الله الأخوة في كلامهم الطيب خير الجزاء ..


أخوكم أبو أكرم :SMIL: ......

إشراقة أمل
14-12-2002, 06:07 PM
أختي الأمل...
جزاك الرحمن خير ما جزى به عباده الصالحون ونفع بك

الأمــل
14-12-2002, 10:16 PM
أخوتي الدرر
عزيز.........بارك الله فيك وفي مرورك
أبو فهد......شكرا على تشجيعك.. ولو أن الكتب تعبر عبر الأسلاك لكان الكتاب عندك قبل ان يرتد إليك طرفك.
أبو اكرم ....جزاك الله كل خير.
الأمل ....( أختي التوام ) بارك الله فيك وأثابك على دعائكِ

وجزاكم الله خيرا على كل شيء


أختكم

الأمــــــــــل

القلب الابيض
15-12-2002, 03:53 PM
جزاك الله اختي الامل كل خير على مجهودك
خالص احترامي
القلب الابيض

الأمــل
15-12-2002, 09:59 PM
لماذا ..( الحمدلله) ؟ (2)
مرحبا أحبتي ها أنا أعود مرة ثانية أكمل حديثي عن سر قوله تعالى : (الحمدلله)...بعد أن عرفنا أن كلمة الحمد أولى من المدح والشكر ، ،،
وهنا نتناول ...لماذا قال الله تعالى : (الحمدلله ) ولم يقل :أحمد الله أو نحمد الله؟؟؟

ويمكن تلخيص ذلك في عدة نقاط:

1) أن قولنا (أحمد الله ) أو ( نحمد الله ) مختص بفاعل معين ، ففاعل ( أحمد) هو المتكلم (أنا ) ، وفاعل ( نحمد ) هم المتكلمون (نحن) ، في حين أن عبارة : (الحمدلله ) مطلقة لا تختص بفاعل معين وهذا أولى. فإنك إذا قلت : ( أحمد لله ) أخبرت عن حمدك أنتَ وحدك ، ولم تُفد أن غيرك حمده ، وإذا قلت : (نحمد) أخبرت عن المتكلمين ولم تُفد أن غيركم حمده ، في حين أن عبارة (الحمدلله) لا تختص بفاعل معين فهو المحمود على وجه الإطلاق ، منك ومن غيرك.

2) أنك إذا قلت : أحمد فلانا ، فلا يعني أنه يستحق الحمد فقد تثني على شخص لا يستحق الثناء ، وقد يهجو شخصُ شخصاً ، وهو لا يستحق الهجو ، ذلك أن الشخص قد يضع المدح في غير موضعه ، ويفعل أفعالاً لا ينبغي أن يفعلها ، فأنت إذا قلت : أحمدالله ، أخبرت عن فعلك ، ولا يعني ذلك أن من تحمده يستحق الحمد في حين أنك إذا قلت ( الحمدلله ) أفاد ذلك استحقاق الله للحمد وليس ذلك مرتبط بفاعل معين.

3) أن قولك: ( أحمدالله ) أو ( نحمد الله ) ، مرتبط بزمن معين ، لأن الفعل له دلالة زمنية معينة ، فالفعل المضارع يدل على الحال ، أو الاستقبال ، ومعنى ذلك أن الحمد لا يحدث في غير هذا الزمان الذي تحمده فيه . و لاشك أن الزمن الذي يستطيع الشخص أو الأشخاص الحمد فيه محدود ، وهكذا بكل فعل يقوم به الشخص محدود الزمن فإن أقصى ما يستطيع أن يفعله ، أن يكون مرتبطاُ بعمره ، ولا يكون قبل ذلك ولا بعده ، فيكون الحمد اقل مما ينبغي ، وَحمْدُ الله لا ينبغي أن ينقطع ولا أن يُحَد بفاعل ، أو بزمان ، في حين أن عبارة ( الحمدلله ) مطلقة غير مقيدة بزمن معين ، ولا بفاعل معين ، فالحمد فيها مستمر غير منقطع.
جاء في تفسير (الرازي) : ( إنه لو قال : ( أحمد الله ) ، أفاد ذلك كون ذلك القائل قادرا على حمده ، أما لما قال : ( الحمدلله ) فقد أفاد ذلك أنه كان محمودا قبل حمد الحامدين ، وقبل شكر الشاكرين . فهؤلاء حمدوا أو لم يحمدوا وسواء شكروا أو لم يشكروا فهو تعالى محمود من الأزل إلى الأبد بحمده القديم وكلامه القديم).

4) جملة ( أحمد الله ) فعلية ، و جملة (الحمدلله) اسمية ، والجملة الفعلية دالة على الحدوث والتجدد في حين أن الجملة الإسمية دالة على الثبوت ، كما هو معلوم ، وهو أقوى وأدوم من الفعلية .فاختيار الجملة الإسمية أولى من الجملة الفعلية ههنا ، إذ هو أدل على ثبات الحمد واستمراره.

5) أن قولنا : ( الحمدلله ) معناه : أن الحمد والثناء حقٌ لله وملكه فإنه تعالى هو المستحق للحمد بسبب كثرة أياديه وأنواع آلائه على العباد . فقولنا : ( الحمدلله ) مهناه : إن الحمد لله حقٌ يستحقه لذاته ولو قال: ( أحمد الله ) لم يدل ذلك على كونه مستحقا للحمد لذاته .ومعلوم أن اللفظ الدال على كونه مستحقاً للحمد أولى من اللفظ الدال على أن شخصاًواحداً حمده.

6) أن (الحمد لله ) عبارة عن صفة القلب ، وهي اعتقاد كون المحمود متفضلا منعماً مستحقاً للتعظيم والإجلال ، فإذا تَلَفَّظ الإنسان بقوله : ( أحمد الله ) مع أن قلبه غافلا عن معنى التعظيم اللائق بجلال الله ، كان كاذباً لأنه أخبر عن نفسه بكونه حامداً مع أنه ليس كذلك. أما إذا قال : ( الحمدلله ) سواء كان غافلاً أو مستحضراً لمعنى التعظيم ، فإنه يكون صادقا لأن معناه : أن الحمد حقٌ لله ، وملكه ، وهذا المعنى حاصل سواء كان العبد مشتغلاً بمعنى التعظيم أو لم يكن. فثبت أن قوله ( الحمدلله ) أولى من أحمد الله . ونظيره قولنا : ( لا إله إلا الله ) فإنه لا يدخله التكذيب بخلاف قولنا : ( أشهد أن لا إله إلا الله ) لأنه قد يكون كاذباً في قوله (أشهد) ، ولهذا قال تعالى في تكذيب المنافقين : ( والله يشهد أن المنافقين لكاذبون) المنافقون.

أكتفي بهذا القدر هنا..... لنكمل سر ( الحمدلله ) في وقفات أخرى قادمة بإذن الله


أجمل الأمنيات وأرقها
الأمــــــــــل


أخي القلب الأبيض جزاك الله خير على مرورك

الأمــل
16-12-2002, 10:06 AM
:293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293::293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293: :293:

تحياتي

الأمــــــــــل

الأمــل
18-12-2002, 09:16 AM
:109:

الأمــل
18-12-2002, 09:22 AM
أهلا أحبتي الدرر،،،

فلنكمل حديثنا عن سر قوله تعالى : ( الحمد لله ) ، وهنا سنتناول مسألتين هما:
1) لماذا جاء الحمد ( معرفاً ) وليس نكرة.؟
2) لماذا قال تعالى: ( الحمدلله ) ولم يقل ( لله الحمد ) في هذا المقام ( سورة الفاتحة )؟

1) لماذا جاء الحمد ( معرفاً ) وليس نكرة.؟
جاء ( الحمد ) هنا معرفا وليس نكرة، لأن التعريف هنا يفيد ما لا يفيده التنكير ، وذلك أن (الـ ) قد تكون لتعريف العهد ، فيكون المعنى : أن الحمدَ المعروف بينكم هو لله . وقد تكون لتعريف الجنس على سبيل الاستغراق ، فيدل على استغراق الأحمدة كلها ، ورجّح بعضهم المعنى الأول ، وبعضهم رجّح الثاني ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم لك الحمد كله )..والراجح فيما يبدو للمؤلف أن المعنيين مرادان ، فعلى ذلك يكون المعنى : أن الحمد المعروف بينكم ، هو لله على سبيل الاستغراق والإحاطة ، فلا يخرج عنه شيء من أفراد الحمد ولا أجناسه. لذا كان التعريف أكثر دلالة على المعنى المقصود من التنكير الذي لا يفيد ذلك المعنى.)

2)لماذا قال تعالى: ( الحمدلله ) ولم يقل ( لله الحمد ) في هذا المقام؟

ويمكن تلخيص الأسباب بإبراز معنى ( لله الحمد ) فيبرز المعنى المراد من ( الحمدلله ):
أن عبارة ( لله الحمد ) فيها اختصاص ، أو إزالة شك عمّن ادعى أن الحمد لغير الله أو ادّعى أن هناك ذاتا مشتركة معه في الحمد ، فقدمت الجار والمجرور لإزالة الشك أو لقصد الاختصاص ، في حين أن المقام ليس مقام إزالة شك ، ولا أن هناك من ادعى أن الحمد لغير الله فتقدم الجار والمجرور لقصد الاختصاص.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ، إن الحمد في الدنيا ليس مختصا لله وحدة ، وإن كان هو سببه كله فالناس قد يحمد بعضهم بعضا ( فالأستاذ يستحق الحمد من التلميذ ، والسلطان العادل يستحق الحمد من الرعية ) وفي الحديث : ( من لم يحمد الناس ، لم يحمد الله ).
وجاء في تفسير الرازي ذكر الفرق بين قوله : ( الحمدلله ) ، وقوله : ( أياك نعبد ) ، لماذا قدّم (الله) في العبادة فقال : ( أياك نعبد ) ولم يقدمه في ( الحمد ) فقال: ( إن قوله (الحمد) يحتمل أن يكون لله ولغير الله ، فإذا قلت ( لله ) فقد تقيّد الحمد بأن يكون لله . أما لو تقدم قوله (نعبد) احتمل أن يكون لله واحتمل أن يكون لغير الله ، وذلك كفر.
والخلاصة : ( أن الحمد لما جاز لغير الله في ظاهر الأمر ، كما جاز لله لا جَرَمَ حسن تقديم الحمد أما ههنا ، فالعبادة لما لم تجز لغير الله ، لا جرم قدّم قوله : ( إياك ) على نعبد )
سؤال: قد تقول ولكن الله قدّم الحمد في آيات أخرى ، مثل : ( فلله الحمد ربِّ السماوات ورب الأرض رب العالمين ) الجاثية، فقدّم مستحق الحمد (الله) ، لماذا؟؟؟؟
الجواب: ومن ينكر التقديم والتأخير ؟. وإنما يكون ذلك بحسب المقام ، فإذا اقتضى المقام التقديم قدِّم وإلا فلا.
وفي آية الجاثية ، اقتضى المقام التقديم ، أي تقديم الذات المستحقة للحمد ، وتخصيصه بها ، فقد ذكرت سورة الجاثية أصنافاً من الكفار ، وفصلت في ذكر عقائدهم ، ومواقفهم من آيات الله ورسله . فقد ذكرت السورة أنهم اتخذوا من دون الله أولياء ، واتخذوا الهوى إلهاً لهم ، ونسبوا الحياة والموت للدهر لا إلى الله...... . فلم يعترفوا لله بشيء من خصائص الربوبية والألوهية.
فقدّم الذات الإلهية وهو المستحق الحمد على جهة الحصر والقصر في (لله الحمد) ، فقصر الحمد لله فقط ، لأن المقام يقتضي ذلك بخلاف سورة الفاتحة التي ليس فيها شيء من ذاك ، وهي (سورة الفاتحة) توجيه للمؤمنين الذين يخصون الله بالعبادة ويطلبون منه الثبات على الهدى.
أقف هنا.... ولي عودة أخرى مع ( الحمد لله )....أتمنى أن أكون قد وفقت في عرض هذه المسائل لكم.


تقبلوا فائق احترامي وتقديري



الأمــــــــــــــــــــــــــ ــــــــل [/B][/QUOTE]

حابد
19-12-2002, 04:10 PM
في الحقيقه موضوع رائع اختنا الامل

نسال الله ان لا يحرمك الاجر


اخوكي حابد

الأمــل
19-12-2002, 10:58 PM
أخي حابد

بارك الله فيك....وجزاك الله خيرا.... ولك الأجر باذن الله

الأمــــــــــــــــــــــــــ ـــل

الأمــل
21-12-2002, 09:12 AM
أخوتي وأحبتي الدرر...هذه عودة أخرى مع كتاب الله الخالد في قوله تعالى : (الحمدلله )...

والموضوع اليوم ... لماذا (الحمدلله) وليس الحمد للخالق..للقادر...للحي؟

فقد جاء الحمد هنا باسم العلم (الله ) فقال: ( الحمدلله) ، ولم يأتِ بوصف آخر بدله ، ، فلم يقل مثلا : الحمد للخالق ، أو للرازق ، أو للحي ، أو للقادر ، وغيرها من أسماء الله وصفاته ، وذلك لأسباب:

1) أنه لو جاء بأي وصف بدل لفظ الجلالة (الله) ، لأفهم أن الحمد إنما استحقه بهذا الوصف دون غيره ، فلو قال : (الحمد للعليم ) لأفهم أن الحمد إنما استحقه بوصف العلم ، ولو قال : ( الحمد للقادر ) لأفهم أن الحمد إنما استحقه بوصف القدرة ، وهكذا بقية أسمائه الحسنى ، فجاء بالذات ليدل على أن الحمد إنما استحقه لذاته هو ، لا بوصف دون وصف ، فكان ذلك أولى.

2) إن اسم ( الله ) مناسب لقوله ( إياك نعبد ) ، فلفظ الجلالة (الله ) مناسب للعبودية ، لأن هذا اللفظ على أشهر الأقوال مأخوذ من لفظ (الإله) ، أي : المعبود. و( أَلِهَ ) معناه : (عبدَ ) فكان لفظ ( الله ) مناسباً للعبادة . فقد اقترنت العبادة أكثر ما اقترنت بلفظ ( الله ) في القرآن الكريم ، فقد اقترنت به أكثر من خمسين مرة ، وذلك نحو قوله : ( بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) الزمر ، وقوله : ( قل أفغير الله تأمروني أعبد ) الزمر، وقوله : ( أمرت أن أعبد الله ) الرعد.

3) أنه لو جاء بوصف غير اسم العلم ، لم يُفهم أن المقصود به الله صراحةً ، فلو قلت : ( الحمد للحي ) ، كان (الحي) مشتركاً بين الله وغيره ، وكذلك العليم والقادر والسميع . بل حتى بما لا يصح وصف غير الله به ، فقلت مثلاً : ( الحمد للبارئ ) ، أو للقيوم أو لفاطر السماوات والأرض ، أو غير ذلك ، لم يفهم أن المقصود به الله صراحةً ، فكان ذكر ( الله ) أولى من ذكر أي اسم آخر.

مما سبق كله من الموضوع رقم (1) إلى (4) تبين أن ( الحمد لله ) أولى من :
المدح لله أو الشكر لله .
وأولى من أحمد لله ، أو نحمد الله .
وأولى من لله الحمد.
وأولى من الحمد للحي أو للقادر أو للعليم أوللـ.....
أحبتي انتهى الحديث عن ( الحمد لله ) ولم ينتهِ السر فيها......

ولي وقفة مع ( ربِّ العالمين ) في المرة القادمة...بإذن الله

أرق وأجمل الأمنيات

الأمــــــــــــــــــــل

المتجدد
22-12-2002, 08:16 PM
جزاك الله بكل خير الاخت الامل


على ماتقدمينه لنا من فوائد ودروس جمه


بارك الله فيك ووفقك الى كل خير

الأمــل
24-12-2002, 12:44 PM
أحبتي الدرر اليوم موضوعنا عن ( ربِّ العالمين ) من سورة الفاتحة
لماذا قال الله تعالى : (ربِّ ) ؟ ولماذا ( العالمين ) بالذات؟

1. لماذا ( ربِّ ) ؟

قبل الخوض في تفاصيل لماذا ؟ ، لا بد من معرفة معنى الربُّ ..
فالربّ: المالك ، والسيد ، والمرّبي ، والقيّم ، والمنعم .

وربُّ العالمين : مالكهم وسيدهم ومربيهم ، والمنعم عليهم.
ومالك الشخص وسيده ومربيه أحق بالحمد وأولى به من غيره .
وبُدئ بالرب ، لأن له التصرف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من خير أو شر.

وهنا لِمَ اختار الله تعالى ( رب ) ، ولم يختر اسماً أو وصفاً آخر من أسمائه وصفاته؟؟؟؟ كما فعل تعالى في مواطن أخرى من الكتاب العزيز ، فقد قال في موطن : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض )/ الأنعام ، وفي موطن آخر : ( الحمد لله فاطر السماوات والأرض ) /فاطر
وقال في موطن ثالث : ( الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض )/سبأ.
والجواب : أن كل اختيار يناسب سياق السورة التي ورد فيها ، فقد ذكر الله تعالى في سورة فاطر أنه فطر السماوات والأرض ، وابتدأها وأحدث ذواتها من العدم الصرف ، ثم ذكر أنه خلقها ، أي : قدّرها وصوّرها على غير مثال سابق. والخلْق في اللغة قد يكون بمعنى الإنشاء ، وابراز العين من العدم الصرف إلى الوجود ، وهذا لا يكون إلا لله [وقد] يكون بمعنى التقدير والتصوير ، لذلك يسمى صانع الأديم ونحوه الخالق ، لأنه يقدر . قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام : ( أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير )/ آل عمران. أي: أصوّر وأصنع.
فالله هو الموجد للسماوات والأرض ، وهو المصوّر المقدّر لها على غير مثال سابق ، وهو مالكها ومالك ما فيها .
جاء في تفسير الرازي : أنه تعالى لم يقل : الحمد لله خالق العالمين ، بل (الحمد لله رب العالمين ) والسبب فيه أن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد والمحدث حال حدوثها ( خلقها) ، لكنهم اختلفوا في أنها حال بقائها ، هل تبقى محتاجة إلى المُبقي أم لا ؟
فقال قوم : الشيء حال بقائه يستغني عن السبب ، والمربي هو القائم ببقاء الشيء وإصلاح حاله حال بقائه. فقوله : ( رب العالمين ) تنبيه على أن جميع العالمين ، مفتقره إليه حال بقائها ، والمقصود أن افتقارها إلى الموجد في حال حدوثها ، أمر متفق عليه. أما افتقارها إلى المبقي والمربي حال بقائها هو الذي وقف فيه الخلاف ، فخصه سبحانه بالذكر ، تنبيها على أن كل ما سوى الله فإنه لا يستغنى عنه لا في حال حدوثه ولا في حال بقائه...

هذا إلى جانب أن قوله تعالى : (رب العالمين ) مناسب لقوله فيما بعد : ( اهدنا الصراط المستقيم ) ، لأن المهمة الأولى للمربي هي الهداية ، ولذلك اقترنت الهداية بلفظ الرب في القرآن كثيراً . من ذلك قوله : ( قل إنني هداني ربي إلى صراطٍ مستقيم)/الأنعام ، (إن معي ربي سيهدين )/الشعراء. (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل)/ القصص. وغيرها.

انتهى الحديث عن ( ربِّ ) ولنكمل الحديث في المرة القادمة عن (العالمين ) ... بإذن الله

أجمل وأرق أمنياتي

الأمــــل

الأمــل
29-12-2002, 09:29 AM
أسعد الله أيامكم بالخيرات،،،،

أحبتي الدرر.... فلنكمل اليوم الحديث عن قوله تعالى: ( ربّ العالمين )؟ حيث تحدثنا في المرة السابقة عن سر اختيار الله تعالى للفظ (الرب ) دون غيره ، واليوم نتحدث عن ( العالمين ) ...

فماذا يقصد بـ (العالمين)؟

(العالمين ) : جمع عالَم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى .
وقد اختلف في دلالة الجمع هذه :
:star: حيث رجّح بعض العلماء أن ( العالمين ) تفيد ذوي العلم خاصة ، أو المكلفين من الخلق بدليل قوله تعالى : ( ليكون للعالمين نذيرا )/ الفرقان. وقوله : ( إن في ذلك لآيات للعالمين )/الروم .ولا يكون نذيراً للبهائم والجمادات . وقال بعضهم : إن العالمين هم الأنس بدليل قوله تعالى : (أتأتون الذكران من العالمين)/الشعراء. وقوله : ( واتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين)/المائدة.

:star: والبعض يرى أن جمع العالم ليشمل كل جنس مما سُمي به ، فإن للعالمين آحاداً كل منها يسمى عالماً ، فهناك عالم الإنسان ، وعالم الحيوان ، وعالم الحشرات ، وكل صنف وكل جنس يسمى عالما أيضا.

:star: وآخرون يرون أن كل قرن وكل جيل يسمى عالماً أيضا ، فأهل كل زمان عالم فجمعه ، ليشمل كل الأجيال ، وأهل كل الأزمنة.

:star: وقيل: جمعه لاحتمال أن ينصرف الذهن بلفظ ( العالَم ) إلى هذا العالم المحسوس " لأن العالم وإن كان موضوعاً للقدر المشترك ، إلا أنه شاع استعماله بمعنى المجموع كالوجود في الوجود الخارجي ، وقد غلب استعماله في العرف بهذا المعنى المحسوس ، لإلفِ النفس بالمحسوسات فجمع ليفيد الشمول قطعا" روح المعاني 1/78-79.

والظاهر أنه يصح إطلاق لفظ ( العالمين ) للجيل الواحد ، أو الأجيال بدليل قوله تعالى : ( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين)/البقرة.. فإن هذا التفضيل مخصوص بزمانهم، وقوله تعالى في مريم : ( وطهرك واصطفاك على نساء العالمين )/آل عمران. وذلك في زمانها خاصة ، وقوله تعالى : ( أتأتون الذكران من العالمين )/الشعراء. وذلك خاص بالذكور من أهل زمانهم . وقال تعالى : ( أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين )/الأعراف. وهذا يشمل جميع الإنس من زمن آدم إلى زمانهم.

وقد تشمل عموم المكلفين ، أو العقلاء على مر الأجيال ، وذلك نحو قوله تعالى : ( وما الله يريد ظلماً للعالمين)/آل عمران.
وقد خص هذه اللفظة بعض أهل العلم بالمكلفين خاصة ، ورُدّ بقوله تعالى : ( قال فرعون وما رب العالمين ، قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين )/الشعراء. ففسر رب العالمين بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما وهو عام شامل لكل ما في الوجود.

رأي المؤلف في الآية السابقة : يبدو أن هذا الاستدلال فيه نظر ، فهو لم يشرح كلمة (العالمين) ، بل بيّن صفة ( رب العالمين ) ، وقد يبين بتعبيرات مختلفة كلها صادقة علية ، فقد تقول : ما رب هذه الدار؟ فيقال لك : تاجر ، أو فقيه ، أو موظف . فليست كلمة (تاجر) أو (فقيه) أو (موظف) تفسيراً لـ (هذه الدار) ، وإنما هي بيان لحقيقة رب الدار.
ولو أجاب موسى ، عليه السلام ، عن سؤال فرعون بقوله: ربٌّ قادر على كل شيء ، حيٌّ لا يموت ، لا يعجزه شيء ، يجازي المحسن بالجنة ، والمسيء بالنار، لكان صواباً ، ومعلوم أن هذا ليس تفسيراً للعالمين ، بل هو بيانٌ لصفة ربّ العالمين.

:star::star::star::star: : إن (العالَم) يُجمع على العوالم وعلى العالمين ، والذي يبدو للمؤلف : أن العوالم يطلق على جميع العوالم من المكلفين ، وغيرهم من جمادات وحيوانات وغير ذلك ، وإن (العالمين) لا تطلق إلا على ذوي العلم خاصة ، أو على ما اجتمع فيه العقلاء وغيرهم ، فيغلب العقلاء .( تفسير البيضاوي، فتح القدير). ولا يُطلق (العالمون) على غير العقلاء وحدهم ، فلا يقال للحشرات والطيور (عالمين ) بل عالم أو عوالم ، ولكن يقال للبشر أو لجماعة من البشر أو لجيل من البشر ، أو للمكلفين من خلق الله من الأنس والجن على مر العصور (عالمين) كما ورد ذلك في القرآن الكريم ، ذلك أن الجمع بالياء والنون خاص بالعقلاء.

:star::star::star: فعلى هذا يكون قوله تعالى : ( الحمد لله ربَّ العالمين ) إما أن يعني : رب البشر أو المكلفين أو رب الخلق كلهم ، وغلّب العقلاء منهم . ولهذا التخصيص أو التغلب سببه ذلك أن الكلام في سورة الفاتحة خاص بالمكلفين ، فالعبادة والاستعانة وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم ، وتصنيف الخلق إلى مُنْعَمٍ عليهم ، ومغضوب عليهم ، وضالين ، هو خاص بالمكلفين . فكان هذا الاختيار انسب شيء ، ولو قال : رب العالم أو رب العوالم ، لم يحسن هذا الحسن لأنه يشمل غير المكلفين.

:star::star::star:هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ، فإن فيه رداً على المغضوب عليهم ، ومنهم اليهود الذين يدعون أن الله رب بني إسرائيل خاصة ، وليس رب الخلق الآخرين من البشر فردّ عليهم بقوله : إنه رب العالمين جميعاً ، من سائر البشر المكلفين ، فحسن اختيار ( رب العالمين )من كل وجه.

انتهى الحديث بالنسبة لـ (رب العالمين ) أتمنى لكم الفائدة ... ووفقكم الله لما يحب ويرضى...

موضوعنا القادم بإذن الله سيكون عن ( الرحمن الرحيم ) و ( مالك يوم الدين).


أجمل وأرق تحياتي
الأمـــــل :110: :110:

الأمــل
29-12-2002, 09:29 AM
خطأ مطبعي....سامحونا

الأمــل
31-12-2002, 10:49 AM
أجمل تحية للدرر،،،،

موضوعنا اليوم سيكون عن الآية ( الرحمن الرحيم) .

(الرحمن الرحيم)...

ما (الرحمن) وما( الرحيم)؟

( الرحمن) : فعْلان من الرحمة ، و( الرحيم ) : فعيل منها.

:star: وصيغة (فعلان) تُفيد الدلالة على الحدوث والتجدد ، وذلك نحو عطشان وجوعان وغضبان ، ولا تفيد الدلالة على الثبوت ، وتفيد أيضا الامتلاء بالوصف.

جاء في(تفسير القيم) : " ألا ترى أنهم يقولون غضبان ، للممتلئ غضباً ، وندمان وحيران وسكران ولهفان ، لمن مُلِئَ بذلك".

:star: وصيغة (فعيل ) : تدل على الثبوت في الصفة نحو طويل وجميل وقبيح أو التحول في الوصف إلى ما يقرب من الثبوت ، نحو خطيب وبليغ وكريم.

فجاء بالوصفين للدلالة على أن صفته الثابتة والمتجددة ، هي الرحمة للاحتياط في الوصف ، فإنه لو وصف نفسه تعالى بأنه (رحيم) فقط لوقع في النفس أن هذا وصفه الثابت ، ولكن قد يأتي وقت لا يرحم فيه كالكريم والخطيب ، ولو قال : ( رحمن ) فقط لظُنّ أن هذا وصفٌ غير ثابت ، كالغضبان والعطشان وهذا الوصف يتحول فيذهب الغضب ويزول العطش ، وكذلك الرحمة فجمع بينهما ليدل على أن وصفه الثابت والمتجدد هو الرحمة ، فرحمته دائمة لا تنقطع وهو من أحسن الجمع بين الوصفين ، ولا يؤدي الوصف بأحدهما ما يؤدي اجتماعهما.

ووقوعها بعد كلمة ( الرب) أحسن موقع ، فإن هذا الرب الذي لا ربّ غيره ، والسيد الذي لا سيد سواه رحيمٌ بعباده ، فتنبسط نفوسُ العباد ، ويقوى أملهم برحمته ، وفيه إشارة إلى أن المربي ينبغي أن يتحلى بالرحمة ، وأنه لا ينبغي أن يقسو على مَنْ يربيهم ويرشدهم . كما أن فيه إشارة إلى الرحمة ينبغي أن تكون صفة الرب بكل ما تحتمل من معانٍ. فالمالك ينبغي أن يكون رحيما بما يملك وبمن يملك ، والمربي ينبغي أن يكون رحيماً ، والسيد ينبغي أن يكون رحيماً ، والمصلح ينبغي أن يكون رحيماً والقيّم ينبغي أن يكون رحيماً. فالرحمة ينبغي أن تكون وصف الرب بكل معانيها ، وقد وصف الله رسوله ، وهو المربي الأعظم والمصلح الأعظم بالرحمة فقال: ( لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ).

انتهى الحديث عن (الرحمن الرحيم) ..... والموضع القادم -بإذن الله تعالى- سيكون عن ( مالك يوم الدين) ، أسأل الله أن ينفعنا بالقرآن الكريم ... ويرحمنا برحمته التي وسعت كل شيء.

أجمل تحياتي
الأمـــــــ ــــــل

الأمــل
31-12-2002, 10:50 AM
أجمل تحية للدرر،،،،

موضوعنا اليوم سيكون عن الآية ( الرحمن الرحيم) .

(الرحمن الرحيم)...

ما (الرحمن) وما( الرحيم)؟

( الرحمن) : فعْلان من الرحمة ، و( الرحيم ) : فعيل منها.

:star: وصيغة (فعلان) تُفيد الدلالة على الحدوث والتجدد ، وذلك نحو عطشان وجوعان وغضبان ، ولا تفيد الدلالة على الثبوت ، وتفيد أيضا الامتلاء بالوصف.

جاء في(تفسير القيم) : " ألا ترى أنهم يقولون غضبان ، للممتلئ غضباً ، وندمان وحيران وسكران ولهفان ، لمن مُلِئَ بذلك".

:star: وصيغة (فعيل ) : تدل على الثبوت في الصفة نحو طويل وجميل وقبيح أو التحول في الوصف إلى ما يقرب من الثبوت ، نحو خطيب وبليغ وكريم.

فجاء بالوصفين للدلالة على أن صفته الثابتة والمتجددة ، هي الرحمة للاحتياط في الوصف ، فإنه لو وصف نفسه تعالى بأنه (رحيم) فقط لوقع في النفس أن هذا وصفه الثابت ، ولكن قد يأتي وقت لا يرحم فيه كالكريم والخطيب ، ولو قال : ( رحمن ) فقط لظُنّ أن هذا وصفٌ غير ثابت ، كالغضبان والعطشان وهذا الوصف يتحول فيذهب الغضب ويزول العطش ، وكذلك الرحمة فجمع بينهما ليدل على أن وصفه الثابت والمتجدد هو الرحمة ، فرحمته دائمة لا تنقطع وهو من أحسن الجمع بين الوصفين ، ولا يؤدي الوصف بأحدهما ما يؤدي اجتماعهما.

ووقوعها بعد كلمة ( الرب) أحسن موقع ، فإن هذا الرب الذي لا ربّ غيره ، والسيد الذي لا سيد سواه رحيمٌ بعباده ، فتنبسط نفوسُ العباد ، ويقوى أملهم برحمته ، وفيه إشارة إلى أن المربي ينبغي أن يتحلى بالرحمة ، وأنه لا ينبغي أن يقسو على مَنْ يربيهم ويرشدهم . كما أن فيه إشارة إلى الرحمة ينبغي أن تكون صفة الرب بكل ما تحتمل من معانٍ. فالمالك ينبغي أن يكون رحيما بما يملك وبمن يملك ، والمربي ينبغي أن يكون رحيماً ، والسيد ينبغي أن يكون رحيماً ، والمصلح ينبغي أن يكون رحيماً والقيّم ينبغي أن يكون رحيماً. فالرحمة ينبغي أن تكون وصف الرب بكل معانيها ، وقد وصف الله رسوله ، وهو المربي الأعظم والمصلح الأعظم بالرحمة فقال: ( لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ).

انتهى الحديث عن (الرحمن الرحيم) ..... والموضع القادم -بإذن الله تعالى- سيكون عن ( مالك يوم الدين) ، أسأل الله أن ينفعنا بالقرآن الكريم ... ويرحمنا برحمته التي وسعت كل شيء.

أجمل تحياتي
الأمـــــــــــــل

ألفيصل
01-01-2003, 04:02 PM
اختي الكريمة الأمل

موضوع شيق نتمنى استمراره .


لك مني الشكر والتقدير واجرك على الله


مع تحياتي

الأمــل
02-01-2003, 10:44 PM
اخي الفيصل ~~~ بارك الله فيك

ساستمر بإذن الله ...

خدمةً لكتاب الله....

وخدمةً للدرر... وزوّاره..

إن أمد الله في عمري ولم يمنعني مانع قاهر..


لك أجلّ التقدير والاحترام

الأمــــــــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ــــــل

الأمــل
02-01-2003, 10:58 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif


دمتم بخير أحبتي الدرر...

الآية (مالك يوم الدين) هي موضوعنا لهذا اليوم، حيث سنتناول معناها
والقراءة الثانية لها ( مَلِك يوم الدين ).والفرق بين القراءتين في المعنى.

( مالك يوم الدين)

المعنى: مالك يوم الجزاء . وقرئ ( مَلِك) أيضا وهي قراءة متواترة واختلف في الأَوْلَى منهما ، فرجح بعضهم قراءة : (مالك) ورجح بعضهم قراءة (مَلِك).

والحق أنْ لا تفاضل ولا ترجيح بين القراءتين ، فكلتا القراءتين متواترة عن رسول الله  وقد نزل بها جبريل من عند الرحمن ، غير أنّ لكل قراءة معنى كما هو معلوم وكل قراءة تستدعي أموراً ربما لا تستدعيها القراءة الأخرى.

فالمالك قد يكون مَلِكاً ، وقد لا يكون .

والملك قد يكون مالِكاً وقد لا يكون .

وتصرف المالِك غير تصرف الملك ، ومما ذكر من الفروق بينهما:

1) أن المالكية (مالك) سبب لأطلاق التصرف ، فالمالك يتصرف فيما يملك ما لا يتصرفه الملك من بيع أو هبة ، أو إيجار وغير ذلك ، وليس للملك أن يبيع رعاياه.

2) " أن الملك ملك للرعية والمالك مالِك العبيد ، والعبد أدْوَن حالاً من الرعية فوجب القهر في المالكية أكثر منه في الملكية ، فوجب أن يكون المالك أعلى حالاً من الملك".والخلقُ عيال الله وعباده وليسوا رعاياه.

3) " إن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك ، باختيار أنفسهم ، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه ، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية".

4) " إن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية ، قال : ( كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته) .ولا يجب على الرعية خدمة الملك .أما المملوك ، فإنه يجب عليه خدمة الملك .أما المملوك ، فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر ، إلا بإذن مولاه".

5) إن قراءة ( مالك) أرجى من قراءة (الملك) لأن اقصى ما يُرجى من الملك العدل والإنصاف وأن ينجو الإنسان منه رأسا برأس .أما المالك فالعبد يطلب منه الكسوة والطعام والرحمة والتربية ، فكأنه تعالى يقول : أنا مالككم فعليّ طعامكم وثيابكم وثوابكم وجنتكم.

6) قيل : إن (مالك) أمدحُ لأنه يحسن أن يضاف إلى من لا يضاف الملك إليه نحو مالك الإنس والطير والحيوان ، ومالك الجمادات فهو أوسع لشمول العقلاء وغيرهم ولا يقال : هنا ملك.

7) المالك أكثرُ سلطةً وتصرفاً فيما يملك من الملِك في الرعية ، ذلك أنّ الملكية تبقى في يد المالك إذا تصرف فيما يملك بجور أو اعتداء أو سرف . ولا يستطيع أحد انتزاع المملوك من مالكه.

8) إن المالك أرفق بما يملك من المَلِك ، ذلك أن المالك ينظر في أمر ما يملك ، ويتعاهد أمره ، ويصلح خَلَلَهُ ، فمن كان منهم مريضاً عالجه ، ومن كان ضعيفاً أعانه ، وإن كان جائعاً أطعمه ، وإن وقع في بلاء خلّصه . وإن المالك يدافع عما يملك ويحميه ، ويحفظه من الاعتداء عليه ، وذلك ما لا يفعله الملك .

فالقراءة بـ (مالك ) مناسبة للرحمة في قوله تعالى : ( الرحمن الرحيم ) ومناسبة ليوم الدين ، والخلق أحوج ما يكونون آنذاك إلى مالك أمرهم ، يرعاهم ويرحمهم . فالقراءة بـ ( مالك ) كما يقول صاحب ( روح المعاني ) : " أرفق بالمذنبين مثلي وأنسب بما قبله ، وإضافة إلى يوم الدين ليكسرحرارته".

وقيل : إن الملك لا يكون إلا أعظم الناس وأعلاهم ، ولا يكون إلا واحداً ، في حين أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً فيكون الملك أشرف من المالك.

رأي المؤلف: يبدو له إنما أنزلت القراءتان لتجمعا بين معنيي المالك والملك ، فيكون مالكاً مَلِكاً ، وذلك نظير قوله تعالى : ( مالك الملك) . فالملك إنما هو للمَلِك لا للمالك ، كما قال تعالى على لسان فرعون : ( أليْس لي مُلْكُ مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي )/الزخرف.
فجمع بين المالك والملِك ، وأفاد أن المُلك إنما هو مِلْكٌ له ولا يتأتى ذلك في قراءة واحدة.

وقد تقول : لِمَ خصّ الملك بيوم القيامة ، ولم يذكر الدنيا؟

الجواب: هو موضوعنا في المرة القادمة – بإذن الله -.


تقبلوا وافر احترامي وتقديري

الأمـــــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ـــــل

الأمــل
04-01-2003, 10:14 AM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif


دمتم بخير أحبتي الدرر...

توقفنا في المرة السابقة عند السؤال:


:star: (لِم خص الملك بيوم الدين ، ولم يذكر الدنيا؟)..

والجواب :

أنه تعالى قال قبلها : ( رب العالمين ) وهو يشمل الدنيا . وأن (يوم الدين ) يعني يوم الجزاء ، ولاشك أن مالك يوم الجزاء ، هو مالك ما قبله من أيام العمل ، وإلا فكيف يجزي على ما ليس ملكاً له ؟

:star: وقد تقول : وَلِمَ قال : (يوم الدين ) ولم يقل ( يوم القيامة)؟.

والجواب :

* أنه قال ذلك" مراعاة للفاصلة وترجيحاً للعموم ، فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور ، إلى السرمد الدائم ، بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها ، على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين " روح المعاني.

ثم إن الدين له معانٍ ، كالجزاء والحساب والطاعة والقهر ، فيجمعها في المعنى ، فذلك اليوم هو يوم الدين كله ، فهو يوم الحساب ، وهو يوم الجزاء ، وهو يوم الطاعة والخضوع لله ،وهو يوم يعز فيه أهل طاعته ، ويقهر أهل معصيته ، وهو يوم الدين ، أي : يوم إعلاء الدين ، وإظهار شأنه كما يقال : ( اليوم يومك)، أي: أنت صاحبه والظاهر فيه ، و( اليوم يوم المُجدين) إلى غير ذلك من المعاني التي تحتملها كلمة الدين ، ولا يؤدي نحو هذه المعاني : يوم القيامة.


* *(يوم الدين ) أنسب لقوله : (رب العالمين ) لشمول العالمين على المكلفين ، وأنسب لأصناف المكلفين التي ذكرتهم السورة من منعم عليهم ، ومغضوب عليهم وضالين ، لأن من معنى (الدين) الجزاء والحساب والطاعة والقهر ، وهذه كلها إنما تكون لهؤلاء فهو أنسب من يوم القيامة الذي لا يُفهم من معناه اللغوي ما يفهم من يوم الدين ولشموله على أشياء لا تتعلق بالجزاء.فيوم الدين أنسب من يوم القيامة من كل ناحية .


:star: وقد تقول : لِمَ أضاف الملك إلى اليوم ، واليوم لا يملك وإنما يُملك ما فيه؟

والجواب:

أن ذلك لقصد العموم ، فملك اليوم هو ملك ما فيه ومن فيه . فمالكه مالك لما اشتمل عليه من أمور مادية ومعنوية ، فملكية اليوم هو ملكية لكل ما يجري ويحدث في ذلك اليوم ولكل ما في ذلك اليوم ، ولكل مَنْ في ذلك اليوم ، فهو إضافة عامة شاملة لا تقوم مقامها إضافة ، ونظيره في كلام الناس : ( خليفة العصر والزمان).

جاء في (روح المعاني): "وتخصيص (اليوم) بالإضافة مع أنه تعالى مالك وملك جميع الأشياء في كل الأوقات ، إما للتعظيم وإما لأن المُلك والمِلك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس ، بحسب الظاهر، يزولان ، وينسلخ الخلق عنها انسلاخاً ظاهراً في الآخرة : ( وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا)/مريم .وينفرد سبحانه في ذلك اليوم انفراداً لا خفاء فيه.ولذلك قال سبحانه : ( يوم لا تملك نفسٌ لنفسٍ شيئا والأمر يومئذٍ لله )/الانفطار.و (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار)/غافر.

انتهى الحديث عن (مالك يوم الدين) .. وموضعنا القادم – بإذن الله- سيكون عن الآية ( إيّاك نعبد وإيّاك نستعين).


فائق احترامي وتقديري

الأمـــــــــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ـــــــل

الأمــل
06-01-2003, 10:12 AM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif


دمتم بخير أحبتي الدرر ،،،،،،

موضوعنا اليوم عن الآية ( إياك نعبد وإياك نستعين)

وأول سؤال يتبادر إلى الذهن هو : لم قدّم المفعول به (إيّاك) على الفعل ( نعبد ) والفعل ( نستعين ) ؟

الجواب :

قدم مفعولي (نعبد) و(نستعين) لقصد الاختصاص ، والمعنى : نخصك بالعبادة ونخصك بالاستعانة ، فلا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك إذ لا تصح العبادة إلا لله ، ولا تجوز الاستعانة إلا به ، وهو نظير قوله تعال : ( بل الله فاعبد )/الزمر. وقوله : ( ربنا عليك توكلنا )/الممتحنة.

ولو قيل : نعبدك ونستعينك ، لم يُفِد نفي عبادتهم لغيره ، ولا الاستعانة بغيره ، وذلك نظير قولك : ( أكرمتك ) و ( إيّاك أكرمت) . فقولك : ( أكرمتك ) يفيد أن المتكلم أكرم المخاطب ، ولا يفيد أنه خصّه بالإكرام بخلاق قوله: (إياك أكرمت ) فإنه يفيد أنه خصّه بالإكرام فلم يكرم غير ه.


سؤال: لم كرر تعالى كلمة ( إيّاك ) في فعل الاستعانة ، ولم يكتفِ بالقول : (إياك نعبد ونستعين)؟

الجواب:

:star: لأن التكرار في فعل الاستعانة يفيد التخصيص على حصر الاستعانة به (الله) ، فإنه لو قال :( إياك نعبد ونستعين ) لأفاد أنه يخصه بالعبادة ، ولم يُفِد أنه يخصه بالاستعانة نصّاً ، بل لم يعيّن الذات التي يستعين بها أيضا.

:star: كما أنه لو اقتصر على ضمير واحد فقال : ( إياك نعبد ونستعين ) لربما أُفهم أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بين العبادة والاستعانة ، فلا يعبد من دون استعانة ولا يستعين من دون عبادة ، وهو غير صحيح ، ونظيره أن تقول : ( إيّاك أعطي وأحذر ) فإن هذا قد يُفهِم أن الحذر يكون مع العطاء ولا يكون عطاء على وجه الاستقلال ، أو الحذر على وجه الاستقلال ، وربما أُفهم أيضا الاستقلال في العطاء والحذر . فإن قال : ( إيّاك أُعطي وإيّاك أحذر ) أفاد أنه يخصه بالعطاء ، وأنه يخصه بالحذر على كل وجه سواء اجتمع العطاء والحذر أو لم يجتمعا.
جاء في روح المعاني: " في سر تكرارا (إيّاك) فقيل : للتخصيص على طلب العون منه تعالى ، فإنه لو قال سبحانه: ( إياك نعبد ونستعين ) لأحتمل أن يكون إخباراً بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب".

:star: إن في التكرار من الاهتمام والقوة ما ليس في الحذف ، فقولك : ( إيّاك أحفظ وإيّاك أرعى ) أقوى من (إيّاك أحفظ وأرعى ) . جاء في ( التفسير القيم ) : " ففي إعادة الضمير من قوة الاقتضاء لذلك ما ليس في حذفه ، فإذا قلت لملك مثلاً : إيّاك أحب وإيّاك أخاف ، كان فيه من اختصاص الحب والخوف بذاته والاهتمام بذكره ، ما ليس في قولك: إيّاك أحب وأخاف". فاقتضى التكرار من كل وجه.

سؤال: لماذا أطلق الله تعالى فعل الاستعانة بقوله : ( وإياك نستعين ) ولم يقيده بشيء كأن يقال : نستعيد على كذا ، أو على كذا ، فلم يقل مثلاً : نستعين على العبادة أو الطاعة ، أو ما إلى ذلك ؟

الجواب :

وذلك لأنه تعالى أراد بإطلاق الاستعانة الشمول ، لتشمل كل شيء يريده الإنسان ، ولا يخصها بشيء ، فهو يستعين بالله على العبادة ، وعلى طلب الرزق ، وعلى النصر على الأعداء ، وعلى أن ييسر له أموره ، وعلى أن يقضي له حوائجه ، فتشمل كل أمور الدنيا والآخرة .وقيل : لو خص الاستعانة بالعبادة والطاعة ، لبقي حكم الاستعانة في غيرها مجهولاً.
جاء في (روح المعاني ) : " في سر إطلاق الاستعانة فقيل : ليتناول كل مستعان فيه ، فالحذف هنا مثله في قولهم : (فلان يعطي ) في الدلالة على العموم . وأيضا لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ، لبقي حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب "

أتوقف هنا ، لنكمل الحديث عن (إياك نعبد وإياك نستعين ) في المرة القادمة – إن شاء الله-.

وافر احترامي وتقديري
الأمـــــــــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ــــــــل

ألفيصل
08-01-2003, 02:52 PM
تسجيل حضور ..


اختي الكريمة نفعنا الله واياك بما تكتبين وجعله شاهداً لك لا عليك .

لك مني الشكر واجرك على الله وحده .


مع تحياتي

الأمــل
10-01-2003, 10:18 PM
أخي الفيصل..

بارك الله في حضورك... ونفعنا الله بالقرآن الكريم

أشكرك على تعقيبك الكريم ...

وانتظر المزيد في هذا الموضوع -بأذن الله-

أجمل تحياتي

الأمـــــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ـــــل

الأمــل
10-01-2003, 11:08 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif
دمتم بخير أحبتي الدرر،،،

نكمل اليوم حديثنا عن الآية ( إياك نعبد وإيّاك نستعين)..


سؤال: لماذا قال سبحانه (نعبد) و(نستعين) بصيغة الجمع ولم يقل (أعبد) و(أستعين) بصيغة الإفراد؟


الجواب:

:star: إشارة إلى أهمية الجماعة في الإسلام ، فالدين الإسلامي ليس دينا فردياً ، بل هو دين جماعي ، وكثير من مظاهر الجماعية واضح فيه كصلاة الجماعة وهي تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ، وليست المساجد إلا مظهراً من مظاهر الجماعية ، وهذه السورة التي تتردد في كل ركعة من ركعات الصلاة فيها إشارة إلى أهمية الجماعة ، بكلمة نعبد ونستعين واهدنا . والحج أكبر مظهر جماعي والزكاة والصدقات من أكبر مظاهر التكافل الاجتماعي .

جاء في (تفسير الرازي) : " إن المراد من هذه النون نون الجمع ، وهو تنبيه على أن الأولى بالإنسان أن يؤدي الصلاة بالجماعة.....".


:star: إن المؤمنين أخوة ، فلو قال : ( إيّاك أعبد ) لكان قد ذكر عبادة نفسه ولم يذكر عبادة غيره ، أما لما قال : (إياك نعبد ) كان قد ذكر عبادة جميع المؤمنين ، شرقا وغربا ،فكأنه سعى في إصلاح مهمات المسلمين".

وجاء في (فتح القدير) : "والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه ، وعن جنسه من العباد . وقيل : إن المقام لمّا كان عظيماً لم يستقل به الواحد استقصارا لنفسه واستصغارا لها، فالمجيء بالنون لقصد التواضع لا لتعظيم النفس".


سؤال: لماذا قرنت العبادة بالاستعانة ؟

الجواب :

ليدل على أن الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله وتوفيقه ، ولا ينهض بها إلا بالتوكل عليه ، فهو إقرار بالعجز عن حمل هذه الأمانة الثقيلة ، إذا لم يعنه الله على ذلك ، فالاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه وهما داءان قتّالان "وليجمع بين ما يتقرب به العباد إلى ربهم وبين ما يطلبونه ويحتاجون إليه من جهته".


سؤال: لماذا قُدِّمت العبادة على الاستعانة؟

الجواب:

:star: لأن العبادة علّة خلق الإنس والجن ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)/ الذاريات.وأنها الغاية من خلقهم ، وأن الاستعانة إنما هي وسيلة للقيام بها ، فكانت العبادة أولى بالتقديم لأن الغاية مقدمة على الوسيلة .

في (روح المعاني) :" إن العبادة واجبة حتما لا مناص للعباد من الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم ".

وجاء في ( التفسير القيم ) : " إن تقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل ، إذ العباددة غاية العباد التي خُلِقوا لها والاستعانة وسيلة إليها".


:star: إن العبادة قسم الرب وحقه ، وأن الاستعانة مراد العبد ، ومن الطبيعي أن يقدم العبد ما يستوجب رضا الرب ويستدعي إجابته قبل أن يطلب شيئا وهو التذلل لله والخضوع بين يديه بالعبادة ، فكان القيام بالعبادة مظنة استجابة طلب الاستعانة .

:star: أن العبادة أكثر مناسبة للجزاء أعني قوله : (مالك يوم الدين ) والاستعانة أنسب لطلب الهداية ، فوضع كل تعبير مع ما يناسبه .جاء في (روح المعاني ) : " إنها – أي العبادة – أشد مناسبة بذكر الجزاء ،والاستعانة أقوى التئاما بطلب الهداية".

:star: أن (إيّاك نعبد ) متعلق بألوهيته واسمه ( الله ) . و(إيّاك نستعين ) متعلق بربوبيته واسمه الرب ، فقدّم (إيّاك نعبد ) على (وإيّاك نستعين) كما تقدم اسم الله على الرب في أول السورة ".

وبما أن (إيّاك نعبد ) هو قسم الله "فكان مع الشطر الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به . و(وإيّاك نستعين ) قسم العبد فكان مع الشطر الذي له وهو ( اهدنا الصراط المستقيم ) إلى آخر السورة ".

وهذا التعبير هو نظير قوله تعالى : ( فاعبده وتوكل عليه )/ هود.

:star: هذا إلى جانب أن في تأخير فعل الاستعانة توافقاً مع خواتيم الآي في السورة . فاقتضى تقديم العبادة من كل وجه .


سؤال: لماذا قال الله تعالى (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين) بصيغة المخاطب ، ولم يقل إيّاه نعبد وإياه نستعين بصيغة الغائب؟

الجواب:

:star: أن هذا يسمى إلتفاتاً في علم البلاغة ، والالتفات قد يكون عدولا من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب ،ومن ذلك قوله تعالى: ( هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين )/يونس.

:star: وللالتفات فائدة عامة وفوائدها يقتضيها المقام ، أما الفائدة العامة فهي "أن الكلام إذا نُقِل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع ، وإيقاظاً للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد".

ومن فوائده التي اقتضاها المقام " أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلّق العلم بمعلوم عظيم الشأن ، حقيق بالثناء ، وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم المتمييز بتلك الصفات ، فقيل : إيّاك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة ، لا نعبد غيرك ، ولا نستعينه ، ليكون الخطاب أدلّ على أن العبادة له ، لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به"(الكشاف).

:star: أنه لمّا وُصف بأنه رب العالمين علم أنه حاضر في كل مكان وزمان وليس غائباً ذلك لأنه رب العالمين جميعاً فلا يغيب عنهم ،ولا يغيبون عنه ، فلما علم حضوره نودي بنداء الحاضر المخاطب .

" ونظير هذا أنك تذكر شخصاً متصفاً بأوصاف جليلة مخبراً عنه إخبار الغائب ويكون ذلك الشخص حاضراً معك ، فتقول له : "إيّاك أقصد ، فيكون في هذا الخطاب من التلطّف على بلوغ المقصود ما لا يكون في لفظ (إياه)"(البحر المحيط).

:star: أنه " ذكر ذلك توطئةً للدعاء في قوله :اهدنا"(البحر المحيط).

:star: إن الطلب من الحاضر أقوى من الطلب من الغائب.

:star: أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء ، والثناء في الغيبة أولى، ومن هنا إلى الآخر دعاء ، وهو في الحضور أولى.

:star: " إنه لمّا كان الحمد لا يتفاوت غيبةً وحضوراً ، بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم ، وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر ، الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم ، عليه السلام : ( فلما أفل قال لا أحب الأفلين )/الأنعام.لا جرم عبّر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكلٍ منهما ما يليق من النسق المستطاب" ( روح المعاني).

وقيل غير ذلك، والله تعالى أعلم.

انتهى الحديث عن قوله تعالى : ( إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ) ولنكمل حديثنا في المرة القادمة – إن شاء الله - عن الآية ( اهدنا الصراط المستقيم).


أتمنى للجميع الفائدة ، ونفعنا الله بالقرآن الكريم .


فائق احترامي

الأمـــــــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ــــــل

ملك العالم
12-01-2003, 01:12 AM
موضوع جداً راااااائع

وجزاك الله خير الجزاء

:)

ارق تحيه .,.,. ملك العـــــــ الوافي ــــــــــالم

الأمــل
13-01-2003, 09:55 AM
أخي ملك العالم

بارك الله فيك

أشكرك على تعقيبك

والأروع في الموضوع

أن يستفيد الجميع

:SMIL:

لك كل الشكر والتقدير

أختك الأمـــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ــل

الأمــل
14-01-2003, 11:52 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

دمتم بخير أحبتي الدرر،،،

موضوعنا اليوم هو الآية ( اهدنا الصراط المستقيم ) وأول مسألة تواجهنا هنا هي مسألة التعدية بالنسبة للفعل (هدى).وقبل أن ندخل في التفاصيل لا بد من تعريف معنى الهداية.

الهداية : هي الإرشاد والدلالة والتبيين والإلهام.(البحر المحيط).

~~~~~ مسألة التعدية بالنسبة للفعل ( هدى).~~~~~


من خلال آي القرآن الكريم تبين أن فعل الهداية ( هدى) :

:star: قد يُعدى بنفسه كما في قوله تعالى : ( إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً )/ الإنسان. وقوله : (ويهديك صراطاً مستقيماً)/الفتح.

:star: وقد يُعدى بحرف الجر (إلى) كقوله تعالى: ( وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم )/الشورى.وقوله أيضاً : ( وأهديك إلى ربك فتخشى )النازعات.

:star: وقد يُعدى بحرف الجر ( اللام) كقوله تعالى : ( الحمد لله الذي هدانا لهذا )/الأعراف.


السؤال: ما الفرق بين التعدية بالحرف والتعدية من دون حرف بالنسبة للفعل (هدى)؟؟


الجواب :

:star: أن التعدية بالحرف تقال إذا لم يكن فيه ذلك فيَصِل بالهداية إليه ، فتقول : (هديته إلى الطريق )و(هديته للطريق) لمن لا يكون في الطريق فتوصله إليه .

:star: وأن التعدية من دون حرف تقال لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه. فتقول : ( هديته الطريقَ) لمن كان فيه فتُبَصِّره به وتُبيِّنه له ، وتقوله أيضاً لمن لا يكون فيه فتوصله إليه.

قال تعالى على لسان إبراهيم – عليه السلام- ، قائلاً لأبيه: ( فاتبعني أهديك صراطاً مستقيماً)/مريم ، وأبوه ليس في الصراط ، بل هو بعيد عنه. وقال تعالى في المنافقين : ( ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً () وإذاً لأتيناهم من لدنا أجراً عظيماً () ولهديناهم صراطاً مستقيماً)/النساء ، والمنافقون ليسوا على الصراط.

وقال على لسان رسل الله : ( وما لنا ألاّ نتوكل على الله وقد هدانا سُبُلَنا )/إبراهيم. وهم في الصراط .وقال مخاطبا رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم : ( ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً)/الفتح ، وهو سالك للصراط.

جاء في تفسير (ابن كثير) : " وقد تُعدّى الهداية بنفسها كما هنا ( اهدنا الصراط المستقيم ) فتضمن معنى ألهمنا أو وفِّقنا أو ارزقنا أو أعطنا ( وهديناه النجدين ) أي : بيّنا له الخير والشر".

قال ابن بري : يُقال هديته إلىالطريق بمعنى عرّفته فيعدى إلى مفعولين ، ويقال : هديته إلى الطريق ، وللطريق على معنى لأرشدته إليها ، فيعدى بحرف الجر كأرشدت قال : ويقال : هديت له الطريق على معنى بيّنت له الطريق".(لسان العرب).

للهداية مراتب:

:star: ويبدو ان الهداية على مراتب ، فالبعيد الضال عن الطريق ، يحتاج إلى هادٍ يدله على الطريق ، ويوصله إليه ، فهنا نستعمل ( يهدي إلى ) أي : يوصل إلى ويُرشد إلى .

:star: والذي يصل إلى الطريق يحتاج إلى هادٍ يعرّفه بأحوال الطريق ومراحلها ، وما فيها من مخاوف وأماكن الهلكة والأمن ويعرّفه بما يحتاجه السالك في هذا الطريق ، وهنا نستعمل ( هداه الطريق ).

:star: أما اللام فإنها تستعمل في اللغة للتعليل ، أي: لبيان الغاية من الحدث ، وقد تستعمل لانتهاء الغاية أيضاً كأن تقول : ( جئت لطلب العلم ) ، أي إنّ طلب العلم غاية المجيء وعلته ، و(جئت للدار) بمعنى : جئت إليها .

وقد تستعمل اللام مع الهداية لبيان الغاية من الحدث ، فسالك السبيل يريد الوصول إلى غاية وليس الطريق غاية في نفسه ، فيُؤتى باللام عند هذه الغاية فيقال : ( هداه لكذا ) أي : أبلغه لها ، فكانت غاية سلوكه وسيره .

والإنسان محتاج إلى هذه الهدايات كلها ، فإن ضل احتاج من يهديه إلى الطريق ، وإن وصل احتاج من يُعرّفه بالطريق ، وإن سلك احتاج الوصول إلى الهدف ،وألاّ ينقطع في الطريق ، وإن قطع الطريق ، احتاج إلى من يبلغه غايته ، وأن ينيله مرامه ويهديه له .

وعند ذاك يقول كما قال أصحاب الجنة ، بعد أن قطعوا الطريق وبلغوا مرادهم ( الحمد لله الذي هدانا لهذا )/الأعراف. أي : وفقنا لهذا في خاتمة المطاف ، وهي خاتمة الهدايات .

ولذا لم نجد نجد استعمال ( هدى) معدى باللام في القرآن الكريم مع السبيل أو الصراط فلا تجد مثل (هداه لصراط مستقيم) أو ( هداه لسبيل مستبين ) لأن الصراط ليس هو الغاية ، بل هو طريق يوصل إلى الغاية فهو مطلوب لغيره فيقال : هداه إلى الصراط. قال تعالى : ( بل الله يمن عليكم أن هداكم للأيمان )/الحجرات. فجعل الإيمان غاية ، ذلك أن الإيمان من الأمن ، وهو استقرار النفس وطمأنينتها ، وأكثر ما يرهق الإنسان فَقْدُ أمنه النفسي فبلوغه غاية من أعظم الغايات.

وقال تعالى : ( قل الله يهدي للحق )/يونس ، وقال : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )/الإسراء . قال : ( الحمدلله الذي هدانا لهذا )/الأعراف. وقال : ( يهدي الله لنوره من يشاء )/النور. ولم يرد ذكر للسبيل أو نحوه مع اللام كما ترى بل هذه كلها غايات ، فالإيمان والحق والتي هي أقوم والنور والجنة ، كلها غايات مُراده مطلوبة ، وقد استعملت اللام معها .

والملاحظ أيضا أن هذه الهداية ، وهي الهداية للغاية والانتهاء إليها اختصها الله لنفسه أو لقرآنه ، فلم يستعمل ( هدى كذا ) إلاّ له سبحانه أو لكتابه فهو المبلغ للغايات بخلاف هداه كذا أوهداه إلى كذا ، فقد استعمله له ولغيره ، كما هو واضح في قوله تعالى: ( وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم )/الشورى. وقوله : ( فاتبعني أهدك صراطاً سوياً)/مريم.

أتوقف هنا لنكمل الأية في المرة القادمة -بإذن الله تعالى -


وافر احترامي وتقديري

الأمــــــــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ـــــــــل

الأمــل
17-01-2003, 11:18 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif


دمتم بخير أحبتي الدرر،،،،

موضوعنا اليوم تكملة للآية الكريمة ( اهدنا الصراط المستقيم ) حيث تناولنا سابقاً مسألة تعدية الفعل (هدى) وعرفنا أنه هنا في هذه الآية قد عُدِّي بنفسه ،ولم يُعدّى بالحرف وذلك ليجمع عدة معانٍ في آن واحد ، ذلك أن التعدية من دون حرف تقال لمن يكون فيه ولمن لا يكون فيه.

ولمّا كان هؤلاء من الموحدين الحامدين لله كان المعنى علاوةً على ما مر من طلب استمرار الهداية على الطريق المستقيم ، والتثبيت على الهدى والزيادة فيه كما قال تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم هدىً)/محمد. " فإن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهدى ورسوخه فيها ، وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها".

فيكون معنى ( اهدنا الصراط المستقيم) عرِّفنا الطريق الحق وردّنا إليه ردا جميلاً إذا ما ضللنا أو انحرفنا ، وثبّتنا على الهدى وزدنا هدى.
وجاء في ( روح المعاني ) : "وللمحققين في معنى ( اهدنا) وجوه:...

أحدها: أن معناه ثبّتنا على الدين كيلا تزلزلنا الشُّبه وفي القرآن ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا)/آل عمران. وفي الحديث : "اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلوبنا على دينك".

ثانيها: أعطنا زيادة الهدى ، كما قال تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم هدىً )/محمد.

ثالثها: أن الهداية الثواب ، كقوله تعالى : ( يهديهم ربهم بإيمانهم ) /يونس.

ورابعها: أن المراد دُلَّنا ع لى الحق في مستقبل عمرنا ، كما دَلَلْتنا عليه في ماضيه".

سؤال: لِمَ لم يُقّدم الله تعالى المفعول مع الهداية كما فعل مع العبادة والاستعانة؟ أي لم يقُل (إيّانا اهدِ ) كما قال : (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ).

الجواب:

:star: أنه لا يصح التقديم لأنه لا يصلح طلب التخصيص بالهداية دون سائر الناس فلا يصح أن تقول : ( اللهم اهدني ولا تهدِ أحداً سواي) ، أو : ( اللهم ارحمني ولا ترحم أحداً غيري) بل لك أن تسأل الهداية لنفسك ولا تقصرها عليك ، فلو قلت : ( إيانا اهدِ ) لكان المعنى : اهدنا ولا تهدِ أحداً سوانا ، وهذا لا يصح.

سؤال : لماذا قال الله تعالى ( اهدنا ) ولم يقل ( اهدني ) ؟

الجواب :

:star: أنه مناسبٌ للجمع في قوله تعالى : ( إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ) ، " لأنه لما أخبر المتكلم أنه هو ومن معه يعبدون الله ويستعينونه سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح ، لأنهم بالهداية غليه تصح منهم العبادة. ألا ترى أن من لم يهتد إلى السبيل الموصلة لمقصوده لا يصح له بلوغ مقصوده" (البحر المحيط).

وجاء في( تفسير الرازي ) :
كأن العبد يقول : سمعت رسولك يقول : ( الجماعة رحمة والفرقة عذاب ) فلما أردت تحميدك ذكرت حمد الجميع فقلت : ( الحمدلله )

ولما ذكرت العبادة ذكرت عبادة الجميع فقلت : ( إيّاك نعبد).

ولما ذكرت الاستعانة ذكرت استعانة الجميع فقلت : ( وإيّاك نستعين ) .

فلا جرم لما طلبت الهداية طلبتها للجميع فقلت : ( اهدنا الصراط المستقيم ) .

ولما طلبت الاقتداء بالصالحين طلبت الاقتداء بالجميع فقلت : ( صراط الذين انعنت عليهم ) .

ولما طلبت الفرار من المردودين فررت من الكل فقلت : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) .

:star: أن الدعاء كلما كان أعم كان إلى الإجابة أقرب.

:star: أن فيه أن تحب للآخرين ما تحب لنفسك فيغسل ما في النفس من دون الثرة ونوازع الانفراد بالخير ، ويشيع عند المسلم حب التعاون.

:star: إشاعة الروح الجماعية بين الأفراد.

:star: أن الاجتماع على الهدى ، تثبيت وقوة ، وأن كثرة السائرين على الطريق تورث الأُنْس وتُهوّن مشقة السير بخلاف الانفراد في السير فإنه يورث الوحشة وسيتجلب الملل.

سؤال : لما اختار الله تعالى كلمة ( صراط ) ولم يختر كلمة ( طريق )أو ( سبيل ) ؟

الجواب:
ذلك أن ( صراط )على وزن (فِعال ) من (صراط) وهو من الأوزان الدالة على الاشتمال كالرباط والشِّداد، فيشتمل على كل السالكين ، ولا يضيق بهم فهو واسع رحب بخلاف كلمة (طريق) فإنها (فعيل ) بمعنى (مفعول) من (طرق) بمعنى مطروق ، وهذا لا يدل في صيغة على الاشتمال ، فقد يضيق بالسالكين ولا يستوعبهم.

وكذلك كلمة ( السبيل ) فهي كأنها (فعيل ) بمعنى (مفعول) من أسبلَتِ الطريق إذا كثرت سابِلَتُها كالحكيم بمعنى المُحكم. والسابلة من الطرق المسلوكة يقال : سبيل سابلة ، أي مسلوكة .

سؤال: لماذا جاء ( الصراط ) معرفاً بتعريفين ( بالالف واللام والإضافة ، إلى جانب وصفه بالاستقامة؟

الجواب :

وذلك ليدل على أنه صراط واحد ، وليس ثمة صراط غيره ، فإنه ليس بين النقتطين أكثر من مستقيم واحد فالصراط المستقيم هو طريق الغسلام وهو دين الله ، ووصفه بالاستقامة ليدل على أنه اقصر الطرق وأقربها إلى المطلوب فلا يشق على السالك ، وما عداه من الطرق معوج ، ولا يوصل إلى المقصود فإنه لا يوصل أكثر من مستقيم واحد بين نقطتين.

إن المراد من السلوك على الصراط ، هو الوصول إلى الله تعالى كما قال تعلى : ( إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلاً)/الإنسان. وربنا على صراط مستقيم والذي يوصل إليه صراط مستقيم أيضاً كما قال تعالى : ( إنّ ربّي على صراطٍ مستقيم)/الحجر. فتعين السلوك على هذا الصراط للوصول إليه . والوصول إليه معناه الوصول إلى رضاه ، وإلا فكلنا مردودون إليه وملاقوه.

جاء في ( تفسير الرازي ) : " اعلم أن أهل الهندسة قالوا : الخط المستقيم هو أقصر خط يصل بين نقطتين . فالحاصل أن الخط المستقيم أقصر من جميع الخطوط المعوجّة ، فكان العبد يقول : ( اهدنا الصراط المستقيم ) لوجوه:

الأول: أنه أقرب الخطوط وأقصرها ، وأنا عاجز فلا يليق بضعفي إلا الطريق المستقيم.

الثاني : أن المستقيم واحد وما عداه معوجة ، وبعضها يشبه بعضاً في الاعوجاج فَيَشْتَبِه الطريق عليّ . أما المستقيم فلا يشابهه غيره ، فكان أبعد عن الخوف والآفات وأقرب إلى الأمان.

الثالث : الطريق المستقيم يوصل إلى المقصود ، والمعوج لا يصل إليه .

الرابع : المستقيم لا يتغير ، والمعوج يتغير "


والملاحظ أن القرآن لم يأتِ بكلمة الصراط ، إلا مفرده فلم يستعملها مجموعة بخلاف السبيل فإنه يفردها ويجمعها ، ذلك أن الصراط أوسع السبل ، وهو الذي تُفضي إليه السبل ، قال تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله )/الأنعام. فجعله صراطاً واحداً وهو صراطٌ مستقيم ثم قال : ( ولا تتبعوا السبل ) .
وقال : ( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام )/المائدة. فذكر السبل بالجمع ، وهي طرق الخير المتعددة في الإسلام.


وهنا أنتهى الحديث عن الآية ( اهدنا الصراط المستقيم ) وسيكون موضوعنا في المرة القادمة – بإذن الله - الآية ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) .


نفعنا الله وإياكم بالقرآن الكريم .


وافر احترامي وتقديري
الأمــــــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ـــــل

جياد
22-01-2003, 01:44 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...

خطيييييييييير خطييييييييييير ...

صدقا الكتاب خطيييير .. بإذن الله تعالى سأقتني منه نسخة في اقرب وقت ... إلى ذلك الحين نسخت ما نقلت أناملك أختي الأمل .. فجزاك الله خير ...

الأمــل
24-01-2003, 10:19 PM
أخي الفاضل جياد >> بارك الله فيك ونفعك بما نسخت .

خالص احترامي وتقديري.

الأمــل
24-01-2003, 10:32 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif


دمتم بخير أحبتي الدرر ،،،

تحدثنا في المرة السابقة عن الآية ( اهدنا الصراط المستقيم ) واليوم عن الآية ( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ). وهنا زيادة في توضيح هذا الصراط فذكر أنه صراط الذين أنعمت عليهم ، وسلموا من الغضب والضلال . وقد جمع الله أصناف المكلفين في هذه الآية وانتظمهم كلهم.

:star: فهم إما أهل سعادة ، وهم الذين أنعم الله عليهم .

:star: وإما أهل الشقاوة وهم صنفان:

*** صنف عرف الحق ، وخالفه فلم يعمل بمقتضاه وهم المغضوب عليهم.

*** وصنف لم يعرف الحق ، وهم الضالون ، لأن من لم يعلم الحق ضال، قال تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا () الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)/الكهف.

جاء في تفسير الرازي : " دلت هذه الآية على أن المكلفين ثلاث فرق :

أهل الطاعة وإليهم الإشارة بقوله ( أنعمت عليهم ) .

وأهل المعصية وإليهم الإشارة بقوله ( غير المغضوب ) .

وأهل الجهل في دين الله والكفر وإليهم الإشارة بقول : ( ولا الضالين ).


سؤال: ما الحكمة في أنه تعالى جعل المقبولين طائفة واحدة ، وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم والضالين ؟

الجواب :

أن الذين كملت نعم الله عليهم ، هم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، فهؤلاء هم المرادون بقول: ( أنعمت عليهم ) ،فإن اختل قيد العمل فهم الفسقة ، وهم المغضوب عليهم كما قال تعالى : ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه)/النساء .وإن اختل قيد العلم ، فهم الضالون لقوله تعالى : ( فماذا بعد الحق إلا الضلال )/يونس.

وجاء في (تفسير القيم): " من ذكر المنعم عليهم وتمييزهم عن طائفتي الغضب والضلال ، فانقسم الناس بحسب معرفة الحق والعمل به إلى هذه الأقسام الثلاثة . لأن العبد إما أن يكون عالماً بالحق أو جاهلاً به ، والعالم بالحق إما أن يكون عاملا بموجبه أو مخالفاً له. فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها البتة . فالعالم بالحق العامل به هم المنعم عليه...والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه .والجاهل بالحق هو الضال ، والمغضوب عليه ضال مغضوب عليه ، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به".

وجاء فيه أيضاً : " فإن مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين : فساد العلم ، وفساد القصد ، ويترتب عليها داءان قاتلان وهما الضلال والغضب".

فالضلال نتيجة فساد العلم ، والغضب نتيجة فساد القصد. وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها ، فهداية الصراط المستقيم يتضمن الشفاء من مرض الضلال...

والتحقق بـ ( إيّاك نعبد وإياك نستعين ) علماً ومعرفة وعملاً وحالاً يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد...

ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان ، إن لم يتداركهما تراميا به إلى التلف ولابد ، وهما : الرياء والكبر . فدواء الرياء بـ ( إيّاك نعبد ) ودواء الكبر بـ ( وإيّاك نستعين ) ...

فإذا عوفي من مرض الرياء بـ ( إيّاك نعبد ) ومن مرض الكبر بـ ( وإيّاك نستعين ) ومن مرض الجهل بـ ( اهدنا الصراط المستقيم ) عوفي من أمراضه وأسقامه ورفل في أثواب العافية ، وتمت عليه النعمة ، وكان من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم ، وهم أهل فساد القصد الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه ، والضالين ، وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه".


سؤال : في الآية ( صراط الذين أنعمت عليهم ) عبّر عن المنعم عليهم بالفعل الماضي( أنعمت) ، وفي الآية ( غير المغضوب عليهم ) عبّر عن المغضوب عليهم بالصورة الإسمية ، لماذا؟

الجواب :

:star: جعل الله تعالى فعل الإنعام ماضيا ليتعيّن زمانه ، وليبين أن المقصود صراط الذين ثبت إنعام الله عليهم وتحقق وهم الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون كما قال تعالى : ( أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)/ النساء.

ولو قال : ( صراط الذين تنعم عليهم ) لأغفل كل من مضى من رسل الله والصالحين ، لأن الفعل المضارع أكثر ما يدل على الحال . بل لم يدل على أنه أنعم على أحدٍ فيما مضى ونحو ذلك أن تقول : ( اعطني ما أعطيت أمثالي ) أو تقول : ( اعطني ما تعطي أمثالي ) فإن العبارة الأولى تفيد أنه أعطى قبله من أعطى ، أما الثانية ، فلا تفيد أنه أعطى أحداً من قبل ، بل قد يكون ذلك العطاء ابتداء ، ولا يحتمل أن يكون صراط الأولين غير صراط الآخرين ، ولم يفد التواصل بين زمر المؤمنين من لدن آدم عليه السلام ، إلى قيام الساعة ، ولم يفهم أن هذا الطريق ، إنما هو طريقٌ مسلوكٌ سلكه من قبلنا الرسل وأتباعهم ، ولكان صراط الذين ينعم عليهم ، أقل شأناً من صراط الذين أنعم عليهم ، لأن الذين أنعم عليهم ، فيهم أولو العزم من الرسل ، وفيهم الأنبياء وأتباعهم ، وأما من ينعم عليهم بعد ذلك ، فليس فيهم نبيٌ ولا رسول .

:star: ثم إن الإتيان بالفعل الماضي ، يدل على أنه كلما مر الزمن كثر عدد الذين أنعم الله عليهم ، لأن الحاضر يلتحق بالماضي ، وهكذا تتسع دائرة المنعم عليهم بمرور الزمن بخلاف قولنا : ( صراط الذين ينعم عليهم ) ، فقد يخص الوقت الذي طلب فيه الداعي الهداية ، ولربما كان عدد المهديين آنذلك قليلاً.


سؤال : أما قوله : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) بالاسم ، فليشمل سائر الأزمنة . وقد تقول : لِمَ لم يقل تعالى ( صراط المنعم عليهم ) ليشمل سائر الأزمنة أيضاً؟.

الجواب :

:star: أن كل تعبير في مكانه أمثل وأحسن . فلو قال : ( المنعم عليهم ) لم يبين المنعم الذي أنعم عليهم ، والنعمة إنما تقدر بقدر المنعِم ، فإن كان المنعِم صديقاً يختلف عما إذا كان أميراً أو سلطاناً ، وذلك من حيث مقدار النعمة ، ومن حيث التكريم لمن نالها .فإن كان المنعِم عظيماً عظمت نعمته ، وإن كان أدنى من ذلك كانت على قدر صاحبها ، وكذلك من حيث التكريم ، فالذي ينعم عليه السلطان غير الذي ينعم عليه أحد افراد الرعية ، فإن قولك : ( فلان أنعم عليه الخليفة ) فيه من التعظيم والتكريم ما ليس في قولك: فلان أنعم عليه رئيس البلدية أو المحافظ. ففي قوله : ( أنعمت عليهم ) من التكريم وعظم النعمة ما ليس في ( المنعم عليهم ).

:star: ومن ناحية أخرى إن الله سبحانه وتعالى ينسب الخير والفضل إلى نفسه ، ولا ينسب إلى نفسه الشر والسوء ، قال تعالى : ( وأنّا لا ندري أشرٌ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا)/الجن.فبنى الشر للمجهول ونسب الخير إلى ذاته الكريمة.

وقال : ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يئوساً)/الإسراء. فنسب النعمة إلى نفسه ولم ينسب إلى نفسه الشر ، فلم يقل : ( وإذا مسسناه بالشر ) كما قال صلى الله عليه وسلم : " والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك ".

والنعمة تفضّل وخير ، فهو ينسبها إلى نفسه وليس أحدٌ مولي نعمةً على الحقيقة إلا الله كما قال : ( وما بكم من نعمة فمن الله )/النحل.

ولذلك يبنسب النعم كلها إلى نفسه ، ولم يَرِد فِعل النعمة مسنداً إلى غير الله في القرآن الكريم قال : ( قد أنعم الله عليّ إذ لك أكن معهم شهيداً )/النساء . وقال : ( قال رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين )/القصص. وقال : ( إن هو عبدٌ أنعمنا عليه )/الزخرف.

ولم يسند فعل النعمة إلى غير الله ، إلا في قوله تعالى : ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك)/الأحزاب. فقد أسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعدد أن أسنده إلى الله أولاً ، وهي نعمةٌ خاصة أنعم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على زيد بن حارثة الذي ربّاه ، وجعله بمنزلة ابنه.

فنسبة النعمة والفضل إلى الله أمثل وأكمل.

أتوقف هنا ولنكمل الآية في المرة القادمة - بإذن الله -.


خالص احترامي

الأمـــــــ http://www.alhusam.com/vb/images/myicons/19.gif ـــــــل

المتجدد
25-01-2003, 11:35 PM
جزاك الله بكل خير اختي الكريمة وبارك فيك ونفع بك

الأمــل
31-01-2003, 03:06 PM
بارك الله فيك أخي المتجدد ونفعك بما تقرأ.

الأمــل
31-01-2003, 03:11 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

دمتم بخير أحبتي الدرر،،،

لنكمل موضوعنا اليوم عن ( غير المغضوب عليهم ) فنجد هنا أن الله تعالى قد بنى ( المغضوب ) للمفعول وذلك لـِ :

:star: ليعم الغضب عليهم : غضب الله ، وغضب الغاضبين لله ولا يختصص بغاضب معين ، فهم مغضوب عليهم من كل الجهات . بل إن هؤلاء سيغضب عليهم أخلص أصدقائهم وأقرب المقربين إليهم ، يوم ينقطع حبل كل مودة في الآخرة غر حبل المودة في الله ، وتنقطع كل العلائق غير العلائق في الله ، كما قال تعالى: ( ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً)/العنكبوت. فيغضب بعضهم على بعض ويتبرأ بعضهم من بعض حتى يتبرأ الإنسان من جلده وجوارحه التي تشهد عليه ، فهم مغضوب عليهم من كل شيء ومن كل أحد.

:star: وقيل : " إنما بناه للمفعول لأن من طُلب منه الهداية ونُسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطف وترفّق وتذلل لطلب الإحسان ، فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام وليكون المغضوب عليهم توطئة لختم السورة بالضالين لعطف موصول على موصول مثله لتوافق آخر الآي"(البحر المحيط).


سؤال: لماذا أضاف الله النعمة إليه وحذف فاعل الغضب ؟

الجواب:

وذلك لعدة أسباب منها:

:star: أن النعمة هي الخير ، والغضب من باب الانتقام ، والعدل والرحمة تغلب الغضب ، فأضاف إلى نفسه أكمل الأمرين وأسبقهما وأقواهما . وهذه طريقة القرآن في إسناد الخيرات والنعم إليه ، وحذف الفاعل في مقابلتهما كقول مؤمني الجن : ( وأنّا لا ندري أشرٌ أُريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً)/الجن.

:star: أن الله تعالى هو المتفرد به ، وإن أضيف بالنعم : ( وما بكم من نعمة فمن الله )/النحل . فأضيف إليه ما هو متفرد به ، وإن أضيف إلى غيره فلكونه طريقاً ومجرى للنعمة. وأما الغضب على أعدائه فلا يختص به تعالى ، بل ملائكته وأنبياؤه ورسله وأولياؤه ، يغضبون لغضبه . فكان في لفظه ( المغضوب عليهم) بموافقة أولياؤه له من الدلالة على تفردٍ بالإنعام وأن النعمة المطلقة منه وحده ، هو المتفرد بها ما ليس في لفظه ( المنعم عليهم ) .

:star: إن في حذف فاعل الغضب من الإشعار بإهانة المغضوب عليه ، وتحقيره وتصغير شأنه ما ليس في ذكر فاعل النعمة من إكرام المنعم عليه والإشادة بذكره ، ورفع قدره ما ليس في حذفه فإذا رأيت من قد أكرمه ملك وشرفه ورفع قدره فقلت : هذا الذي أكرمه السلطان ، وخلع عليه وأعطاه ما تمناه كل ابلغ في الثناء والتعظيم من قولك : هذا الذي أُكرم وخُلع عليه وشُرّف وأُعطي.

سؤال : لماذا جعل كلاً من ( المغضوب عليهم ) و ( الضالين ) اسماً؟

الجواب :

للدلالة على الثبوت ، فيكون الغضب عليهم دائماً ثابتاً لا يزول ، واتصافهم بالضلال على وجه الثبوت أيضاً ، فلا يُرجى لهم خيرٌ ولا هدى ، فلم يقل( صراط الذين غضب عليهم وضلوا ) فيجعل الغضب أو الضلال في زمن دون زمن ، بل إن هذا الوصف لازم لهم إلى يوم القيامة ثابت لا يزول فهم مغضوب عليهم في الدنيا والآخرة ، وضالون في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى واضل سبيلاً)/الإسراء.


سؤال : لِمَ ذكر الله تعالى ( لا ) بين غير المغضوب عليهم والضالين ، ولم يقل ( غير المغضوب عليهم والضالين )؟


الجواب :

:star: لئلا يفهم أن المباينة لمن جمع الغضب والضلال دون من لم يجمعها ، فإنه لو قال تعالى : ( غير المغضوب عليهم والضالين ) لتوهم أن المباينة لمن جمع الغضب والضلال .

فلما ذكر ( لا ) جعل المباينة لكل صنف منهما . ونظير ذلك تقول : ( أنا لا أحب من تكبر وبخل ) أو ( أنا لا أحب من تكبر ولا من بخل ) فإن الجملة الأولى تحتمل أنه لا يحب هذين الصنفين ، وتحتمل أنهلا يحب من جمع هذين الوصفين دون من لم يجمعهما ، فمن تكبر ولم يبخل أو بخل ولم يتكبر ، لم يكن داخلاً في الحكم بخلاف قولك : ( أنا لا أحب من تكبر ولامن بخل ) فإنك نصصت فيه على أنك لا تحب من اتصف بأي صفة منهما.


سؤال : لِمَ قدّم الغضب على الضلال ، فقال : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) ولِمَ لم يقدم الضالين على المغضوب عليهم ؟


والجواب :

إن المقام يقتضي تقديم المغضوب عليهم من أوجه:

:star: أن المغضوب عليه أشد ضلالاَ وجرماً وعقوبة لأنه علم وجحد ، وليس من علم كمن لا يعلم ، ولذا قيل في العقائد :

وعالم بعلمه لم يَعْمَلَنْ معذّب من قبْل عُبّاد الوثن

فهو أولى بالسؤال بالمباعدة عنه ، فإن الضال إذا علم الحق ، فربما اتبعه وربما خالفه فيكون من المغضوب عليهم .

:star: أنه جاء في الحديث الحديث الصحيح أن المغضوب عليهم اليهود والضالين النصارى . واليهود أسبق من النصارى فناسب أن يبدأ بهم.

:star: أن صفة المغضوب عليهم هي أول معصية ظهرت في الوجود وأقدمها على الإطلاق ، وهي معصية إبليس ، ذلك أنه كان عالماً بالحق عارفاً له ، فعصى ربه وخالف أمره ، فغضب الله عليه ولعنه ، ثم قطع إبليس عهداً على نفسه أن يُضل بني آدم فقال : ( ولأضلنهم ولأمنيهم)/النساء. فناسب أن يبدأ بذكر أُولى المعاصي على الإطلاق وأن يتبعها بما قطع إبليس على نفسه أن يفعله وهو الإضلال.

:star: أن هذه الصفة ( المغضوب عليهم ) هي أول معصية ظهرت على الأرض ، وهي قتل ابن آدم أخاه ، بعد أن قرّبا قرباناً ، فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، فقتله متعمداً ظالماً له .

وبذا تبين أن صفة المغضوب عليهم ، هي أقدم صفة من صفات المعاصي ، ظهرت في الوجود في الملأ الأعلى ، وبعدها على الأرض ، فناسب أن يبدأ بها .

:star: أن المغضوب عليه ، يقابل المُنعم عليه ، ولا يقابل الضال ، فإنك تقول : ( فلان أنعم عليه الخليفة ، وفلان غضب عليه ) ولا تقول : ( فلان أنعم عليه الخليفة وفلان ضل ) . فناسب أن يضع بجنب الذين أنعم الله عليهم ، المغضوب عليهم.

:star: أن تقديم المغضوب عليهم ، هو المناسب لمُفْتتح السورة وما بعده ، ذلك أن الحامد لله العارف بصفاته الخاص إيّاه بالعبادة والاستعانة إذا زاغ كان من المغضوب عليهم ، لأنه علم وخالف ، فكان من المناسب أن يسأل الله المباعدة عن ذلك أولاً بخلاف من لا يعلم ، وكان ضالاً ، أما سؤال الهداية بعد ذلك وهو قوله : ( اهدنا الصراط المستقيم ) فهو المناسب للسؤال بالمباعدة عن الضلال.
فلما قدم الحمد وما إليه ناسب السؤال بالمباعدة عن الغضب ، ولما طلب بعد ذلك الهداية ، ناسب أن يذكر بعد ذلك المباعدة عن الضلال .

:star: أن ذلك هو المناسب لخواتيم الآي أيضاً.

ثم انظر كيف تناسب قوله: ( غير المغضوب عليهم ) وقوله: ( الحمد لله رب العالمين ) فإن الحمد مطلق غير مقيد بزمن ولا بفاعل معين ، وهو دائم ثابت ، وهؤلاء مغضوب عليهم وضالون على جهة الثبوت والدوام.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى :

أن من لم يحمد الله ، فهو مغضوب عليه وضال.

ومن لم يقر بأن الله رب العالمين ، فهو مغضوب عليه وضال.

ومن لم تدركه رحمة الله الرحمن الرحيم ، ، فهو مغضوب عليه وضال.

ومن لم يؤمن بيوم الدين ، وأن الله مالك ذلك اليوم ، فهو مغضوب عليه

وضال.

ومن لم يخص الله بالعبادة والاستعانة ، فهو مغضوب عليه وضال.

ومن لم يهتدِ إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم ، فهو

مغضوب عليه وضال.


فما أجلّ هذا الارتباط!!!

(F)

(F)

(F)


:star: إن هذه السورة جمعت أصول العقيدة الإسلامية : :star:

:sleep: الإقرار بوجود الله ، وأن له صفات الكمال وهو المستحق للحمد ، ذاتاً وصفاتاً ، منها الإقرار بالتوحيد وهو قوله: ( رب العالمين ) فإن كونه رب العالمين جميعاً ، يعني : أنه لا رب سواه ، وأن تخصيصه بالعبادة والاستعانة معناه : أنه لا إله سواه ، فقد شملت توحيد الألوهية والربوبية .

:sleep: وقوله ( مالك يوم الدين ) يعني : الإقرار باليوم الآخر والجزاء.

:sleep: وقوله ( إيّاك نستعين) يعني : الإقرار بقدرته التي لا تُحد.

:sleep: وقوله ( اهدنا الصراط المستقيم () صراط الذين أنعمت عليهم ) يعني الإقرار بالرسل ، وما أنزل إليهم من كتب . فإن الصراط المستقيم الذي يريده الله إنما يُعرف من طريق الأنبياء والرسل.

والعبادة التي يرتضيها الله لا تُؤخذ إلا عن طريق الرسل ، فإنه ليس للإنسان أن يعبد الله كما يشتهي ، بل كما يريد الله ويحب.

فتضمنت السورة أصول العقيدة وأمهاتها ، وتضمنت دين الإسلام بركنيه ، الإيمان والعمل الصالح ، أما الإيمان فقد ذكرت أركانه ، من إيمان بالله ورسله واليوم الآخر ، وأما العمل الصالح فقد دخل في قوله : ( إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ) إلى آخر السورة.

ومن هنا نقول إنها ( سورة الفاتحة) هي أم الكتاب حقاً.

والآن أحبتي قد انتهى الحديث عن سورة الفاتحة ، بعد أن كشفنا ما فيها من الأسرار والبلاغات والتفسيرات التي كانت غائبة عنّا ... وستبقى الأسرار فيها إلى قيام الساعة ... لأنه كتاب الله الخالد الذي لا تنتهي أسراره ومعجزاته... وكل جيل يأتِ بما يفتح الله عليه ليكشف ما غاب عن الجيل الذي سبقه.

أما موضوعنا للمرة القادمة سيكون بإذن الله آيات من (سورة المائدة) .

نفعنا الله بالقرآن الكريم ، وبارك لكم حضوركم.

وافر احترامي وتقديري
الأمـــــل

الأمــل
08-02-2003, 10:16 AM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif


دمتم بخير أحبتي الدرر ،،،

انتهينا في المرة السابقة من سورة الفاتحة بعد أن وجدنا فيها الشيء الكثير مما كنا نجهله ، ولله الحمد والمنّة ، وفي السطور القادمة تناول المؤلف - حفظه الله - الآية 118 من سورة المائدة ، ولنر جميعاً المسألة التي تناولها ، وهي :
سأل سائل عن قوله تعالى :

( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم )/المائدة (118).

لِمً ختم الآية بقوله : ( فإنك أنت العزيز الحكيم ) وكان المناسب لقوله : ( وإن تغفر لهم ) أن يقول : فإنك أنت الغفور الرحيم ؟ ولِمَ لم يقل سيدنا عيسى كما قال سيدنا إبراهيم ، عليهما السلام : ( فمن تبعني فإنه منّي ومن عصاني فإنك غفورٌ رحيم )/إبراهيم (36)؟

الجواب:

إن الشق الأول من السؤال قديم : " قال أبو بكر بن الأنباري ، وقد طعن على القرآن مَن قال : إن قوله : (فإنك أنت العزيز الحكيم ) لا يناسب قوله : ( وإن تغفر لهم ) لأن المناسب ، فإنك أنت الغفور الرحيم "(البحر المحيط وأجاب عنه.

وجاء في ( الإتقان ) : " من مشكلات الفواصل ، قوله تعالى : ( إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فإن قوله : ( وإن تغفر لهم ) يقتضي أن تكون الفاصلة ( الغفور الرحيم ).

والحقيقة : أنه لا يصح اقتطاع جزء من آية أو جزء من السياق ، وبناء الحكم عليه ، بل الذي ينبغي هو أن ينظر في السياق كله ، ثم ينظر في ملاءمة الكلام بعضه لبعض . ولو نظر السائل أو المعترض في السياق لما أثار هذا السؤال اصلاً ، فإنه لا يصح ختم الآية بالمغفرة والرحمة ههنا :

:star: لأن السياق لا يمكن أن يقتضيها ، ولو فعل ذلك لكان نظير ما روى من أن : " بعض الأعراب سمع قارئاً يقرا : والسارق والسارقة ..، وختمها بقوله : ( والله غفور رحيم ) فقال : ما هذا كلام فصيح . فقيل له : ليس التلاوة كذلك ، وغنما هي : ( والله عزيز حكيم ) فقال : بخٍ بخ عزَّ فحكمَ فقطعَ"(البحر المحيط).

:star: إنه ليس كل موطن تذكر فيه المغفرة والرحمة ، ينبغي أن تختم الآية بهما، وإنما يعود ذلك إلى الموطن والسياق.

ومن المعلوم أنه وردت في القرآن مواطن ذكرت فيها المغفرة والرحمة، ولم تختم الآيات بهما لأن الموطن لا يقتضي ذلك، بل يقتضي أمراً آخر يدل عليه السياق، وذلك نحو قوله تعالى : ( ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم )/الممتحنة(5). فإنه تعالى لم يختم بالمغفرة مع أنه ورد طلب المغفرة، ذلك لأن مدار الطلب في الآية هو أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا، وهو محط الاهتمام كما هو واضح من السياق، وذلك يقتضي الختم بالعزة والحكمة، كما هو ظاهر فختم بهما".

:star: إن الآية ذكرت في سياق التبرؤ من قولٍ عظيم قالته طائفةٌ من النصارى ونسبته إلى عيسى عليه السلام، حكاه الله تعالى بقوله : المائدة ( 116-118)

( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الغيوب () مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

فنسب إلى عيسى أنه طلب من الناس أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وأظن ( المؤلف) أن هذا المقام يمنع عيسى من طلب المغفرة، أو ترجيها لهؤلاء الذين جعلوا الله دون منزلة عيسى وأمه.

:star: لقد رد علماؤنا الأوائل على مَن ظن أن المناسب ختم الآية بالمغفرة والرحمة بردود عدة منها :

(1) أنه لو ختم الآية بالمغفرة والرحمة لضعف المعنى ، لأن هذا ينفرد بالشرط الثاني، ولا يكون له تعلّق بالشرط الأول، في حين أن ختمه بالعزة والحكمة متعلق بالشرطين، فإن تعذيبه ومغفرته منوطان بعزته وحمته "فكان العزيز الحكيم أليق بهذا المكان، لعمومه وأنه يجمع الشرطين، ولم يصلح ( الغفور الرحيم ) أن يحتمله ما احتمله العزيز الحكيم"(البحر المحيط).

وجاء في ( روح المعاني ) : " وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط، وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه، فإن مَن له الفعل والترك عزيز حكيم"

ومعنى ذلك، أن اختيار العزيز الحكيم متعلق بالثواب والعقاب جميعاً، وليس بحال واحدة.

جاء في الكشاف : " وإن تغفر لهم، فإنك أنت العزيز، القوي، القادر على الثواب والعقاب، الحكيم الذي لا يُثيب ولا يعاقب إلا عن حكمةٍ وصواب.

فإن قلت : المغفرة لا تكون للكفار، فكيف قال: ( وإن تغفر لهم ) ؟

قلت : ما قال إنك تغفر لهم ، ولكنه بنى الكلام على إنْ غفرت لهم فقال : " إن عذبتهم عدلت، لأنهم أحقاء بالعذاب، وإن غفرت لهم مع كفرهم، لم تعدم في المغفرة وجه حكمة، لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في العقول، بل متى كان المجرم أعظم جرماً كان العفو عنه أحسن)
(2)
إن الآية مبنية على التسليم لله سبحانه، وتفويض الأمر إليه وليس على التعريض بطلب المغفرة.

جاء في ( ملاك التأويل ) : " أما آية المائدة فمبنية على التسليم لله سبحانه وأنه المالك للكل، يفعل فيهم ما شاء، فلو ورد هنا عقب أية المائدة :" وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم " لكان تعريضاً بطلب المغفرة، ولم يقصد ذلك في الآية، وإنما قيل ذلك على لسان عيسى، عليه السلام، تبرّياً وتسليماً لله سبحانه، وليس موضع طلب مغفرة لهم، وإنما هو تنصّل من حالهم، وتسليم لله فيهم. قال الغرنوي –رحمه اله- : لم يقل : ( الغفور الرحيم) لأن مخرجه على التسليم، ولأن في ذكر
العفو تعريضاً للسائل، والكلام لتسليم الأمرين، والحكمة تقتضيهما وكأنه قال: المغفرة لا تنقص من عزك، ولا تخرج عم حكمتك"( ملاك التأويل)

وجاء في ( البرهان ): " وقيل: ليس هو على مسألة الغفران، وإنما هو على معنى تسليم الأمر إلى مَن هو أملك لهم، ولو قيل : فإنك أنت الغفور الرحيم ، لأوهم الدعاء بالمغفرة، ولا يسوغ الدعاء بالمغفرة لمن مات على شِركه لا لنبي ولا لغيره".

وجاء في ( تفسير ابن كثير ) : " هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله، عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء".

(3) وقيل إن ذكر العزيز الحكيم من باب الاحتراس، وذلك أنه " لا يغفر لمن استحق العذاب إلا مَن ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، فهو العزيز، أي: الغالب، والحكيم : هو الذي يضع الشيء في محله.

وقد يخفى وجه الحكمة على بعض الضعفاء في بعض الأفعال، فيتوهم أنه خارج عنها، وليس كذلك، فكان في الوصف بالحكيم احتراسٌ حسن، أي: وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترض عليك لأحدٍ في ذلك والحكمة فيما فعلته"( الإتقان).

وجاء في ( روح المعاني ) : " وقيل: إن ذكرهما من باب الاحتراس، لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة، أو لإهمال ينافي الحكمة، فدفع توهم ذلك بذكرهما".

وجاء في ( تفسير البيضاوي ) : " ( وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ) فلا عجزَ ولا استقباح، فإنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب".

وخلاصة الاحتراس، أن العفو عن المستحق للعذاب العظيم، قد يكون عن عجز وضعف، لا عن استطاعةٍ وقدرة، أو قد يكون عن سوء تدبير وتقدير، أو عن كليهما، فلو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، لما دفع هذين الوصفين عنه، فإن الغافر الراحم قد يكون إنما يفعل ذلك لضعفه، أو لسوء تدبيره. فقال: ( فإنك أنت العزيز الحكيم ) ليدفع ذلك عنه، وليقول انه إن عفا وغفر فعن كمال العزة والقدرة، وعن غاية الحكمة والتدبير، فكان الختم بهما، أولى مما ذكر المعترض.

(4) وقيل : إن المقام مقام تبرؤٍ مما نُسب إليه، وليس مقام طلب عفو ومغفرة فلا يصح في هذا المقام الصفح والمغفرة.


جاء في ( البرهان ) : " وقيل لأنه مقام تبرٍّ، فلم يذكر الصفة المقتضية استمطار العفو لهم، وذكر صفة العدل في ذلك، بأنه العزيز الغالب، وقوله: ( الحكيم)الذي يضع الأشياء في مواضعها فلا يعترض عليه، إن عفا عمن يستحق العقوبة "

(5) وقيل: إنه لا يجوز سؤال المغفرة والرحمة، أو التعريض بهما لهؤلاء لأن هؤلاء مقطوع لهم بالعذاب، وعدم المغفرة، لأنهم مشركون قال: ( إن الله لا يغفر إن يشرك به ويغفر ما دون ذلك)/النساء ( 48).

وكما قال الله : إنه لا يغفر للمشركين، قال: إنه لا يصح سؤال المغفرة للمشركين، لا من نبي ولا من غيره، قال تعالى : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربي)/التوبة(113).

فلا يجوز التعريض بالمغفرة، بل الذي يصح هو تفويض الأمر إليه، وتركه إلى حكمته سبحانه، بل إن ما دان به هؤلاء أكبر من الشرك وأعظم، فإن الشرك أن تجعل لله نداً، وكان المشركون في الجاهلية يجعلون مع الله آلهة أخرى يعبدونهم، ليقربوهم إليه زلفى. وأما هؤلاء فقد عبدوا المسيح وأمه من دون الله، فإنهم جعلوه اقل من الشريك، فهم أولى بعدم المغفرة ورجائها لهم.


(6) ولا يَحْسن طلب المغفرة لهم، أو التعريض بها من السيد المسيح من جانب آخر، ذلك أن الأمر يتعلق به هو( عيسى عليه السلام) فإنه مسؤول مستنطق عما ادُّعي عليه أنه قاله وهو أنه طلب من الناس أن يعبدوه وأمه، وأن يتركوا عبادة. وقد ذكر السيد المسيح أن هذا افتراء عليه، فكيف يصح أدباً أن يطلب المغفرة أو يعرض بها لهؤلاء المفترين الذين أعلوه وأمه على الله سبحانه؟

إنه لو كان الأمر يتعلق بغيره، لكان من السماحة الشفاعة لهم، لأن ما فعلوه أعظم من الشرك، فكيف والأمر يتعلق به هو؟ إن طلب المغفرة لهم يعني التغاضي أو التهوين من شناعة هذا الأمر ويوهم الرضا به والارتياح له. ألا ترى أنه لو اتهم مسؤول الشرطة مثلاً بأنه اصدر أمراً للإطاحة بالملك، ليكون هو مكانه، ثم قبض على المسؤول واستجوب، فنفى أن يكون له علم بذلك، أكان يصح أن يطلب من الملك العفو عن هؤلاء الذين خلعوا سلطانه، وأعلنوا العصيان عليه، وادعوا أن هذا بأمر مسؤول الشرطة نفسه؟ إنه الآن في مقام دفع التهمة عن نفسه، وإثبات براءته، فكيف يصح أن يطلب العفو عن هؤلاء الجناة المفترين؟ إنه الآن في موقفٍ يحتاج إلى الشفاعة لا أن يشفع هو.


فتبين من هذا أن ختم الآية بما ختم من العزة والحكمة هو الأولى.

ونشير إلى جانب لطيف آخر في الآية وهو قوله: ( إن تعذبهم فإنهم عبادك)، فإنه لم يقل: ( إن تعذبهم فإنهم أحقاء بذلك ) أو( فذلك عدل)، ذلك أن كونهم عباده، معناه أنه المستحق للعباده دون غيره، وانه الإله الحق. فمستحق العبادة من كان الخلق عباده دون مَن ليس له عباد.فإنه لو قال: ( فإنهم أحقاء بذلك ) أو قال: ( فذلك عدل ) لم يعنِ ذاك أنهم عباده. فالناس ليسوا عباداً لمن يعدل، كما أنهم إذا كانوا أحقاء بالعذاب، فليس معناه أنهم عباد لمن عذَب. فالذي يعذّب شخصاً أو جماعة لا يعني أن المعذبين عباده . فاختيار لفظ العبودية أنسب شيء في هذا المقام.

وفيه معنى آخر، وهو أنهم لما كانوا عباده، فليس هناك من معترض على ما يفعل بهم من تعذيب أو مغفرة، فالأمر كله إليه، ومتروك لمشيئته، ومناط بعزته وحكمته وحكمه، فإنه هو العزيز الحكيم.

وكذلك فعل سيدنا عيسى، عليه السلام، فقد أناط الأمر بعزته وحكمته وحكمه وفوّضه إليه.

وانظر من ناحية أخرى إلى الضمير ( أنت ) وتعريف ( العزيز الحكيم ) للدلالة على توكيد الحكم، وقصر العزة والحكمة عليه والكمال فيما وصف به، فإنه في الحقيقة لاعزيزَ، ولا حكيم ولا حاكم سواه. فإنه لم يقل: ( فإنك عزيز حكيم ) ذلك أن هذا التعبير لا يفيد قصر الصفتين عليه –سبحانه- ولا كمالهما فيه. فإنك إذا قلت لأحد: ( إنك كريم سمح) فلا يفيد ذلك قصر الصفتين عليه، بل يفيد غثبات الوصفين له بخلاف ما إذا قلت ( إنك أنت الكريم السمح)، فإن ذلك يفيد القصر أو الكمال فيما وصفت. فقوله: ( فإنك أنت العزيز الحكيم يفيد قصر هذين الوصفين عليه، وكمالهما فيه دون غيره بمعنى: إنه لا عزيز ولا حكيم على وجه الكمال والحقيقة سواك.

وهذا التعبير أولى في هذا الموطن، لأنه في موطن نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له، فهو المتفرد بذاته وصفاته لا يشاركه ولا يشابهه فيهما أحد.

فهو الإله حصراً ، وهو العزيز الحكيم حصراً.


:star::star::star::star:


وأما الشق الثاني من السؤال وهو ، لماذا لم يقل سيدنا عيسى كما قال سيدنا إبراهيم عليهما السلام: ( فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم )/إبراهيم( 36). فإنه سأل المغفرة والرحمة أو عرّض بهما لمن عصاه، فهذا يجاب عنه من أوجه:

:star: أن إبراهيم، عليه السلام، لم يقل : ( ومن عصاك فإنك غفور رحيم )، بل قال: ( ومن عصاني) ومعصية العبد دون معصية الله .

:star: أن إبراهيم، عليه السلام، ذكر المعصية، ولم يذكر الشرك، فقد قال: ( ومن عصاني) ولم يقل :(ومن أشرك بك ) والمعصية درجات، أما الشرك فهو أكبر الكبائر، فغن الله قد يغفر للعاصي غير المشرك، أما المشرك فغن الله لن يغفر له، وقد قال تعالى عن سيدنا آدم، عليه السلام، : ( وعصى آدم ربه فغوى)/ (طه(121) ثم قال : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى)/ طه( 122).

سؤال: هل يظن أحد أن سيدنا إبراهيم، عليه السلام، كان يمكن أن يقول: ومَن اتخذني إلهاً من دونك، فإنك غفور رحيم؟

فهذا ما قالته الفرقة المفترية على عيسى.

إن إبراهيم، عليه السلام، وإنْ كان أوّاهاً حليماً، كما وصفه الله تعالى، تبرأ من أبيه لما تبين انه عدوٌ لله، كما قال تعالى: ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له انه عدوٌ لله تبرأ منه)/ التوبة( 114).

فاتضح الفرق بين المقامين.



هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن الأنبياء ليسوا على طبيعة واحدة، ولا ضير في ذلك ما دام كل منهم تدفعه طبيعته إلى ابتغاء رضوان الله.

فطبيعة نوح وسجيته غير طبيعة إبراهيم وسجيته، وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر بإبراهيم، وعمر بنوح، وفي كل ذلك خير. ولم أجد في القرآن الكريم أنه وصف موسى بما وصف إبراهيم، ولا عيب في ذلك ولا قصور، فصفاتهم كلها صفات الكمال، ولنا في رسول الله، وفيهم أُسوة حسنة، فلا ضير أن تتنوع الاستجابات وتتعدد المواقف ما دام كل ذلك في سبيل الله وفيما يرضي الله.

-

- الحديث في المرة القادمة سيكون – بإذن الله- عن قصة سيدنا إبراهيم في سورتي الحجر والذاريات والفرق بينهما بالرغم من التشابه الكبير بينها في المحتوى والتعبير….


وافر احترامي وتقديري

الأمــل

الأمــل
14-02-2003, 10:53 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif
دمتم بخي أحبتي الدرر ،،،

حديثنا اليوم عن قصة سيدنا إبراهيم، عليه السلام، في سورتي الحجر والذاريات والفرق في التعبير بينهما حسب ما يقتضيه كل مقام ولنرَ جميعاً ما كان من فروق:


قال تعالى في سورة الحجر:


وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِ بْراَهِيمَ {51}‏ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ {52} قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ {53} قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ {54} قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ {55} قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ {56}

قال تعالى في سورة الذاريات:

هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ {24} إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ {25} فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ {26} فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ {27} فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ {28} فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ {29} قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ {30}


من الواضح البيّن أن ثمة تشابهاً ظاهراً في محتوى القصتين، وتقارباً في التعبير بينهما إلى درجة كبيرة، غير أن هناك جملة اختلافات بينهما أبرزها:

أنه وصف الضيف في سورة ( الذاريات ) بأنهم (مكرمون) فقال : ( هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ) ولم يصفهم بذاك في سورة ( الحجر )بل قال : ( ونبئهم عن ضيف إبراهيم ) وقد أدى هذا إلى الاختلاف بين السياقين في أمور عدة منها:

((1)) إنه ذكر في سورة الذاريات، أن إبراهيم، عليه السلام، ردّ التحية عليهم حين حيّوه فقال: ( فقالوا سلاما قال سلام)، ولم يذكر ذلك في الحجر. وإنما ذكر أنهم حيوه ولم يذكر أنه رد التحية عليهم. ولا شك أن رد التحية هو الذي يقتضيه الإكرام. فلما وصفهم بأنهم مكرمون ناسب ذلك ذكر رد التحية، فإنه من إكرامهم.

((2)) إنه ردّ التحية عليهم بخيرٍ من تحيتهم، فإنهم حيوه بالنصب ( سلاماً) وحياهم بالرفع ( سلامٌ). فهم حيّوه بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، أي: نسلم سلاماً، وهو قد حياهم بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت. والاسم أقوى وأثبت من الفعل، كما هو معلوم في اللغة، وكما مر توضيحه في سورة الفاتحة، وذلك نحو يطّلع ومطّلع، ويتعلم ومتعلم.

فهو حياهم بالسلام الشامل الثابت الدائم فيكون قد حياهم بخير من تحيتهم.

جاء في (تفسير الكبير) : " إن إبراهيم، عليه السلام، أراد أن يرد عليهم بالأحسن فأتى بالجملة الاسمية، فإنها أدل على الدوام والاستمرار".

((3)) ذكر في سورة الذاريات، أنه جاءهم بعجل ووصف هذا العجل بأنه سمين وقرّبه إليهم ليأكلوه. وهذا مما يدل على تكريم ضيفه واحتفائه بهم، ولم يقل مثل ذلك في ( الحجر). وكلٌ من الحالين المذكورين هو المناسب لموطنه وسياقه.

((4)) ذكر في آيات ( الذاريات) أنه أوجس منهم خيفة، ولم يواجه ضيفه بما أحس في نفسه. في حين انه واجههم بذاك في سورة الحجر، فقال مخاطباً إياهم: ( إنا منكم وجلون).
وواضح أن ما جاء في آيات الذرايات هو المناسب لمقام الإكرام، فليس مناسباً لجو التكريم أن يعلن لضيفه، أنه غير مطمئن إليهم، وأنه منهم وجل.
وهكذا ترى أن كل تعبير هو المناسب للسياق الذي ورد فيه.

((5)) أظهر التعبير أن حالة الخوف والوجل في آيات الحجر، أكبر مما هي في آيات الذاريات.

فإنه واجه ضيفه بالخوف منهم، في سورة ( الحجر) بالجملة الاسمية المؤكدة بـ ( إن )، وجاء مع ذلك بالصفة المشبهة ( وجِلون ) الدالة على شدة الخوف، ثم أخرجه مخرج العموم والشمول لأهل البيت أجمعين، فذكره بصورة الجمع: ( إنا منكم وجلون). في حين ذكر ذلك في ( الذاريات) بالجملة الفعلية غير المؤكدة، فقال: ( فأوجس منهم خيفة) وذكره بصورة الإفراد.

ولا شك أن الحالة النفسية لسيدنا إبراهيم، عليه السلام، وما صرّح به من شدة الفزع، جعلت المقام لا يتناسب هو وذكر التكريم فإن التكريم يحتاج على انشراح نفسي وانفتاح، وهو غير موجود في آيات ( الحجر، بل إن كل تعبير فيها يدل على القلق وعدم الارتياح.
فناسب كل تعبير موطنه.

((6)) ولما واجههم بالخوف منهم، والوجل في سورة (الحجر) واجهوه بالبشرى، فإنه لما قال لهم : ( إنا منكم وجلون) قالوا له : ( إنا نبشرك بغلام عليم ). ولما لم يواجههم بذلك في سورة الذاريات، بل ذكره بصيغة الغيبة : ( فأوجس منهم خيفة لم يواجهوه بالبشرى بل وردت بصيغة الغيبة أيضاً ( وبشروه) فكان التعبير في الموطنين على النحو الآتي:

الحجر: إنا منكم وجلون إنا نبشرك بغلام عليم.
الذاريات: فأوجس منهم خيفة وبشروه بغلام عليم.

فناسب كل تعبير موطنه وسياقه.

(( 7)) لما ذكر الوجل منهم بالصيغة الاسمية في سورة الحجر : ( إنا منكم وجلون ) بشروه بالجملة الاسمية أيضا ( إنا نبشرك ) .
ولما ذكر الخوف منهم بالصيغة الفعلية في سورة الذاريات : ( فأوجس منهم خيفة ) بشروه بالصيغة الفعلية أيضا : ( وبشروه).

((8)) قال في ىيات الذاريات : ( فأوجس منهم خيفة ) بتقديم ( منهم ) على ( خيفة ). وهذا التقديم، يفيد الاختصاص والحصر، أي ك أن الخوف كان منهم لا من غيرهم. ولو قال : ( فأوجس خيفة منهم ) لكان أخبر أنه خاف منهم لا من غيرهم. ولم يخبر أنه لم يخف من غيرهم، وبل ربما كان ثمة خوف آخر من غيرهم؟. فإن التعبير الوارد في الآية جعل الضيف وحدهم سبب الخوف وقصر ذلك عليهم. وأما التعبير الآخر( فأوجس خيفة منهم ) فلا يقصر الخوف عليهم، بل ربما كان هناك سبب آخر معهم وهذا نظير قولك : ( بك وثقت ) و ( وثقت بك) فغن الجملة الأولى أخبرت بها أنك قصرت الثقة على المخاطب، ولم تثق بأحدٍ آخر.
أما الجملة الثانية، فإنها تفيد أنك وثقت به ولم تفد أنك قصرت الثقة عليه، بل قد تكون وثقت بغيره ايضاً. ومما يوضح ذلك قوله تعالى : ( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا )/الملك(29)، فقد أخر الجار والمجرور ( به ) عن الفعل ( آمنا) وقدم الجار والمجرور ( عليه ) على الفعل (توكلنا).

ذلك أن " الإيمان لما لم يكن منحصراً في الإيمان بالله، بل لا بد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه، بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره، لأن غيره لا يملك ضراً ولا نفعاً فيتوكل عليه".( البرهان ) ( التفسير الكبير).

وكذلك ذكر في سورة ( الحجر) فقد قال: ( إنا منكم وجلون ) بتقديم ( منكم ) على ( وجلون ) مما يفيد أنهم هم سبب الخوف. وهذا التقديم يفيد القصر كما في ىية الذاريات. فكلتا الآيتين أفادت الدلالة على أن الخوف كان من الضيف وحدهم، لا من غيرهم بدلالة تقديم الجار والمجرور على متعلقه. غير أنه أخرج ذلك على سبيل المواجهة المؤكدة في آيات الحجر، وعلى سبيل الغيبة غير المؤكدة في آيات الذاريات. فكانت نهاية الآية في الحجر متناسقة مع الموسيقى، ومع المعنى في آن واحد.

((9)) اعترض في سورة الحجر على تبشيرهم له بالغلام واستنكر ذلك قائلاً: ( أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون ) فكأنه غير مستوثقٍ من أنهم رسل ربه. ويبدو أن الذي أدخلته عليه هيئتهم من الوجل والخوف زرع الشك فيهم، وعدم الثقة بأقوالهم وأفعالهم. وكما أظهر لهم عدم ارتياحه من دخولهم بيته، أظهر الاستخفاف بالبشرى والاستنكار لأقوالهم.

ولم يعترض أو يستنكر في سورة الذاريات، لأن المقام الإكرام غير مناسب للاعراض والاستنكار والاستخفاف بما يقولون. وكل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه كما هو ظاهر.

((10)) ذكر في آيات الذاريات، أن امرأة سيدنا إبراهيم عندما سمعت بالبشرى، أقبلت في جَلَبةٍ وصكّت وجهها متعجبة مما أخبروه به.

ولم يذكر ذلك في الحجر ذلك أن الخوف الذي ذكر في الحجر، كان عاماً شاملاً لأهل البيت أجمعين : ( إنا منكم وجلون ) وفي مثل هذا الموقف، قعدت العجوز المسنة خائفةً وجلة من هؤلاء الغرباء الذين أدخلوا الخوف على البيت كله. فناسب ذلك عدم ذكر خروجها لهم ومواجهتهم.

أما في آيات الذاريات، فليس فيها هذا الشمول، فلم يمنع ذلك من خروجها، فناسب كل موقف موطنه.

يتبين لنا مما مر كله أن كل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه مناسبة تامة.

انتهينا الآن من سرد الاختلافات بين السورتين بالنسبة لقصة سيدنا إبراهيم، عليه السلام، كما جاءت في هذا الكتاب ( لمسات بيانية في نصوص من التنزيل) ولنكمل حديثنا المرة القادمة -بإذن الله- عن قصة سيدنا موسى، عليه السلام، في سورتي النمل والقصص.

نفعني الله وإيّاكم بالقرآن الكريم.

أختكم الأمــل

الأمــل
24-02-2003, 02:09 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif


أحبتي الدرر،،،

موضوعنا اليوم عن قصة سيدنا موسى في سورتي النمل والقصص ، والفرق في التعبير بينهما بما يقتضيه المقام والمقال.. ولكثرة تشعب هذه القصة وكثرة تكرارها في القرآن سيكون لهذا الموضوع أكثر من جزء والآن.....لنر جميعاً ما كان في كتابنا ( لمسات بيانية ) :


من سورة النمل :

إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {7} فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {8} يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {9} وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ {10} إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ {11} وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ {12} فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ {13}‏ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ {14}

(F)(F)(F)(F)

من سورة القصص:

فَلَمَّا قَضَى مُوسَىالْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ {29} فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ {30} وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ {31} اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ {32} قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ {33}

(F)(F)

من هذين النصين تتبين طائفة من الاختلافات في التعبير ندّون أظهرها:

النمل القصص

( إِنِّي آنَسْتُ نَاراً ) ( آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً )

------ ( امْكُثُوا )

(سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ ) ( لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ )

( أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ ) (جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ )

(فَلَمَّا جَاءهَا ) ( فَلَمَّا أَتَاهَا )

(نُودِيَ أَن بُورِكَ ) (نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ )

(وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ---------

(يَا مُوسَى ) ( أَن يَا مُوسَى)

( إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )

(وَأَلْقِ عَصَاكَ ) (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ )

(يَا مُوسَى لَا تَخَفْ ) (يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ )

(إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ) (إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ )

(إِلَّا مَن ظَلَمَ ) ---------

(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ) (اسْلُكْ يَدَكَ )

(فِي تِسْعِ آيَاتٍ ) (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ )

--------- ( وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ )

(إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ ) (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ )


إن الذي وُرد هنا من سورة النمل، هو كل ما ورد من قصة موسى في السورة. وأما ما ذُكر من سورة القصص، فهو جزء يسير من القصة، فقد وُردت القصة مفصّلة ابتداء من قبل أن يأتي موسى إلى الدنيا إلى ولادته، وإلقائه في اليم والتقاطه من آل فرعون، وإرضاعه ونشأته وقتله المصري وهربه من مصر إلى مدين، وزواجه وعودته بعد عشر سنين وإبلاغه بالرسالة من الله رب العالمين، وتأييده بالآيات، ودعوته فرعون إلى عبادة الله إلى غرق فرعون في اليم، وذلك من الآية الثانية إلى الآية الثالثة والأربعين.

فالقصة في سورة القصص، إذن مفصلة مطولة، وفي سورة النمل موجزة مجملة. وهذا الأمر ظاهر في صياغة القصتين، واختيار التعبير لكل منهما.

هذا أمر، والأمر الثاني أن المقام في سورة النمل، مقام تكريم لموسى أوضح مما هو في القصص، ذلك أنه في سورة القصص، كان جو القصة مطبوعاً بطابع الخوف الذي يسيطر على موسى، عليه السلام، بل إن جو الخوف كان مقترناً بولادة موسى، عليه السلام، فقد خافت أمه فرعون عليه، فقد قال تعالى : ( وأوحينا إلى أم موسى أن ارضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني) . ويستبد بها الخوف أكثر حتى يصفها رب العزة بقوله: ( واصبح فؤاد أن موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها). ثم ينتقل الخوف إلى موسى عليه السلام، ويساوره وذلك بعد قتله المصري: ( فأصبح في المدينة خائفاً يترقب). فنصحه أحد الناصحين بالهرب من مصر لأنه مهدد بالقتل : ( فخرج منها خائفاً يترقب) وطلب ممن ربه أن ينجيه من بطش الظالمين : ( قال رب نجني من القوم الظالمين ). فهرب إلى مدين وهناك اتصل برجل صالح فيها، وقص عليه القصص فطمأنه قائلاً: ( لا تخف نجوت من القوم الظالمين ) .

وهذا الطابع ( الخوف) يبقى ملازماً للقصة إلى أواخرها، بل حتى إنه لما كلفه ربه بالذهاب إلى فرعون راجعه وقال له: إنه خائف على نفسه من القتل: ( قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون) وطلب أخاه ظهيراً له يعينه ويصدقه لأنه يخاف أن يكذّبوه : ( وأخي هارون هو افصح مني لساناً فأرسله معي ردءًا يصدقني إني أخاف أن يكذبون) في حين ليس الأمر كذلك في قصة النمل، فإنها ليس فيها ذكر للخوف إلا في مقام إلقاء العصا.


فاقتضى أن يكون التعبير مناسباً للمقام الذي ورد فيه. وإليكم إيضاح ذلك:


((1)) قال تعالى في سورة النمل : ( إني آنست ناراً ) وقال في سورة القصص : ( آنس من جانب الطور ناراً )، فزاد ( من جانب الطور) وذلك لمقام التفصيل الذي بنيت عليه القصة في سورة القصص.

((2)) قال في سورة النمل : (إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً) وقال في سورة القصص: (قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً) بزيادة ( امكثوا). وهذه الزيادة نظيرة ما ذكرناه آنفاً أي مناسبة لمقام التفصيل الذي بنيت عليه القصة بخلاف في النمل المبنية على الإيجاز.


((3)) قال في سورة النمل: (سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ ). وقال في القصص: (لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ). فبنى الكلام في النمل على القطع (سَآتِيكُم) وفي القصص على الترجي (لَّعَلِّي آتِيكُم ). وذلك أن مقام الخوف في القصص لم يدعه يقطع بالأمر فإن الخائف لا يستطيع القطع بما سيفعل بخلاف الآمن. ولما لم يذكر الخوف في سورة النمل بناء على الوثوق والقطع بالأمر.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن ما ذكره في النمل هو المناسب لمقام التكريم لموسى بخلاف ما في القصص.

ومن ناحية ثالثة، إن كل تعبير مناسب لجو السورة الذي وردت فيه القصة، ذلك أن الترجي من سمات سورة القصص والقطع من سمات سورة النمل. فقد جاء في سورة القصص قوله تعالى : ( عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) وهو ترجٍ. وقال : (لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ)، وقال ( لعلكم تصطلون )، وقال: ( لعلي أطلع إلى إله موسى )، وقال: ( لعلهم يتذكرون) ، ثلاث مرات في الآيات 43 ، 46 ، 51 ، وقال : ( فعسى أن يكون من المفلحين )، وقال: ( ولعلكم تشكرون )، وهذا كله ترجٍ. وذلك في عشرة مواطن في حين لم يرد الترجي في سورة النمل، إلا في موطنين وهما قوله: ( لعلكم تصطلون)، وقوله: ( لعلكم ترحمون) .

وقد تردد القطع واليقين في سورة النمل، من ذلك قوله تعالى على لسان الهدد: ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين )، ,قوله على لسن العفريت لسيدنا سليمان: ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين). وقوله على لسان الذي عنده علم من الكتاب: ( أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) .

فانظر كيف ناسب الترجي ما ورد في القصص، ومناسبا القطع واليقين ما ورد في النمل.

ثم انظر بعد ذلك قوله تعالى في القصة : ( سآتيكم منها بخبر) ومناسبته لقوله تعالى في آخر السورة: ( الحمدلله سيريكم آيته فتعرفونها)، وانظر مناسبة ( سآتيكم) لت ( سيريكم) .

وبعد كل ذلك انظر كيف تم وضع كل تعبير في موطنه اللائق به.


أكتفي بهذا القدر اليوم ، ونكمل البقية في المرة القادمة _ إن شاء الله _ .


أجمل تحية من أختكم الأمــل

الأمــل
15-03-2003, 09:45 AM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

أحبتي الدرر ،،،

أسعد الله أوقاتكم بالخيرات والمسرات ، ونكمل هنا ما توقفنا عنده المرة السابقة ، في إيضاح الفرق بين التعبيرين في السورتين ودواعي ذلك:


4) كرر فعل الاتيان في النمل، فقال: ( سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب )، ولم يكرره في القصص، بل قال : ( لعلي آتيكم منه ابخير أو جذوة ) فأكد الإتيان في سورة النمل لقوة يقينه، وثقته بنفسه، والتوكيد يدل على القوة، في حين لم يكرر فعل الإتيان في القصص، مناسبة جو الخوف.

هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى إن فعل الإتيان تكرر في النمل اثنتي عشرة مرة. وتكرر في القصص ست مرات فناسب تكرار ( آتيكم ) في النمل من كل وجه.


5) وقال في سورة النمل : ( أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون ).وقال في القصص : ( لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون) .

فذكر في سورة النمل أنه يأتيهم بشهاب قبس، والشهاب: هو شعلة من النار ساطعة.

ومعنى( القبس) شعلة نار تقتبس من معظم النار، كالمقباس يقال: قبس يقبس منه ناراً، أي : أخذ منه ناراً وقبس العلم استفاده. وأما( الجذوة) فهي الجمرة أو القبسة من النار وقيل : هي ما يبقى من الحطب بعد الالتهاب، وفي معناه ما قيل: هي عود فيه نار بلا لهب.

والمجيء بالشهاب أحسن من المجيء بالجمرة، لأن الشهاب يدفيء أكثر من الجمرة لما فيه من اللهب الساطع، كما أنه ينفع في الاستنارة أيضا . فهو أحسن من الجذوة في الاستضاءة والدفء.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، ذكر أنه سيأتي بالشهاب مقبوساً من النار، وليس مختلساً أو محمولاً منها، لأن الشهاب يكون مقبوساً وغير مقبوس، وهذا أدل على القوة والثبات الجنان ، لأن معناه أنه سيذهب إلى النار، ويقبس منها شعلة نار ساطعة.

أما في القصص فقد ذكر أنه ربما أتى بجمرة من النار ، ولم يقل إنه سيقبسها منها.

والجذوة قد تكون قبساً وغير قبس. ولا شك أن الحالة الأولى أكمل لما فيها من زيادة نفع الشهاب على الجذوة ، ولما فيها من الدلالة على الثبات وقوة الجنان.

وقد وضع كل تعبير في موطنه اللائق به ، ففي موطن الخوف ، ذكر الجمرة وفي غير موطن الخوف، ذكر الشهاب القبس.


6) قال في سورة النمل: ( فلما جاءها نودي ) .

وقال في سورة القصص : ( فلما آتاها نودي ) ...... فما الفرق بينهما؟

قال الراغب الاصفهاني مفرقاً بين الإتيان والمجيء : " الاتيان مجيءٌ بسهولة، ومنه قيل للسيل المار على وجهه أتى" . وقال: " المجيء كالإتيان، لكن المجيء أعم، لأن الإتيان مجيء بسهولة".

ولم يذكر أهل المعجمات ما ذكره الراغب، وإنما هم يفسرون واحداً بالآخر، فيفسرون جاء بأتى، وأتى بجاء، غير أنهم يذكرون في بعض تصريفات ( أتى ) ما يدل على السهولة، فيقولون مثلا في تفسير الطريق الميتاء من ( أتى ) " طريق مسلوك يسلكه كل واحد) وذلك لسهولته ويسره. ويقولون : " كل سيل سهلته الماء ، أتيّ" و " أتّوا جداولها : سهلوا طرق المياه إليها" يقال: ( أتيت الماء ) إذا أصلحت مجراه حتى يجري إلى مقارّه....ويقال : أتّيت للسيل، فأنا أؤتّيه إذا سهلت سبيله من موضع إلى موضع ليخرج إليه.... وأتّيت الماء تأتيةً وتأتّياً، أي : سهّلت سبيله ليخرج إلى موضع".

ولقد استبان للمؤلف أن القرآن الكريم ، يستعمل المجيء لما فيه صعوبة ومشقة، أو لما هو أصعب واشق مما تستعمل له ( أتى ) فهو يقول مثلاً: ( فإذا جاء أمرنا وفار التنور) المؤمنون. وذلك لأن هذا المجيء فيه مشقة وشدة. وقال : ( وجاءت سكرة الموت بالحق ) ( ق ) . وقال : ( قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ) الإسراء. وقال : ( فإذا جاءت الطامة الكبرى ) النازعات.

وهذا كله مما فيه صعوبة ومشقة.

وقد تقول: وقد قال أيضاً: ( هل أتاك حديث الغاشية ) الغاشية . والجواب : أن الذي جاء هنا هو الحديث، وليس الغاشية في حين أن الذي جاء هناك هو الطامة والصاخة ونحوهما مما ذكر.

ويتضح الاختلاف بينهما في الآيات المتشابهة التي يختلف فيها الفعلان، وذلك نحو قوله تعالى: ( أتى أمر الله ) النحل. وقوله : ( فإذا جاء أمر الله) غافر. ونحو قوله : ( لجاءهم العذاب) العنكبوت. و( أتاهم العذاب) النحل.

فإنه يتضح الفرق في اختيار أحدهما على الآخر، وإليك أيضاح ذلك:

قال تعالى : ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون) النحل. وقال : ( فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون) غافر. فقد قال في النحل: ( أتى أمر الله ) ، وقال في غافر : ( جاء أمر الله ) ، وبأدنى نظر يتضح الفرق بين التعبيرين ، فإن المجيء الثاني ، أشق وأصعب لما فيه من قضاء وخسران، في حين لم يزد في الآية الأولى على الإتيان. فاختار لما هو أصعب وأشق( جاء ) ولما هو أيسر ( أتى ) .

وقد أورد المؤلف أمثلةً كثيرة من القرآن قارن فيها بين الفعلين ( أتى وجاء ) ، أوردت السابق وأورد الآن السؤال التالي :

لقد ورد في القرآن الكريم ( أتتكم الساعة ) و( جاءتهم الساعة ) ،

والساعة واحدة، فما الفرق؟

الجواب:

أنه لا يصح اقتطاع جزء من الآية للاستدلال، بل ينبغي النظر في الآية كلها وفي السياق أيضاً ليصح الاستدلال والحكم.

وإليك الآيتين اللتين فيهما ذُكر الساعة:

قال تعالى : ( قد خسر الذين كذّبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتةً قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهو يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) الأنعام.

وقال تعالى : ( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو اتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين، بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) . فقال في الآية الأولى : ( جاءتهم الساعة ) ، وقال في الثانية : ( أتتكم الساعة ) .

وبأدنى تأمل يتضح الفرق بين المقامين . فإن الأولى في الآخرة وفي الذين كذبوا باليوم الآخر، وهم نادمون متحسرون على ما فرطوا في الدنيا، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. وتوضحه الآية قبلها وهي قوله تعالى : ( ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، قد خسر الذين كذّبوا...) الأنعام. في حين أن الثانية في الدنيا بدليل قوله تعالى : ( أغير الله تدعون إن كنتم صادقين) وقوله: ( بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون) فذكر أنه يكشف ما يدعون إليه إن شاء، وهذا في الدنيا ، وإلا فإن الله لا يكشف عن المشركين شيئاً في الآخرة ولا يستجيب لهم البتة.

فالموقف الأول أشق وأشد مما في الثانية، فجاء بالفعل ( جاء ) دون ( أتى ) بخلاف الآية الثانية .

فاتضح أن القرآن إنما يستعمل ( جاء ) لما هو أصعب وأشق. ويستعمل ( أتى) لما هو أخف وايسر.

ولعل من أسباب ذلك أنن الفعل ( جاء ) اثقل من ( أتى ) في اللفظ بدليل أنه لم يرد في القرآن فعل مضارع لـ ( جاء ) ولا أمر ولا اسم فاعل ولا اسم مفعول، ولم يرد إلا الماضي وحده بخلاف ( أتى ) الذي وردت كل تصريفاته، فقد ورد منه الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل واسم المفعول. فناسب بين ثقل اللفظ وثقل الموقف في ( جاء ) ، وخفة اللفظ وخفة الموقف في ( أتى ) والله أعلم.

ونعود إلى ما نحن فيه من قصة موسى – عليه السلام- ، فقد قال في سورة النمل : ( فلما جاءها ) وقال في سورة القصص : ( فلما آتاها ) ذلك أن ما قطعه موسى على نفسه في النمل أصعب مما في القصص، فقط قطع في النمل على نفسه أن يأتيهم بخبرٍ أو شهاب قبس، في حين ترجّى ذلك في القصص. والقطع اشق وأصعب من الترجي. وأنه قطع في النمل ، أن يأتيهم بشهاب قبس، أي : بشعلة من النار ساطعة مقبوسة من النار التي رآها في حين أنه ترجى في القصص أن يأتيهم بجمرة من النار ، والأولى أصعب. ثم إن المهمة التي ستوكل إليه في النمل، أصعب وأشق مما في القصص، فإنه طلب إليهفي سورة النمل ، أن يبلغ فرعون وقومه رسالة ربه، في حين طلب إليه في سورة القصص، أن يبلغ فرعون ملأه .

وتبليغ القوم أوسع واصعب من تبليغ الملأ، ذلك أن دائرة الملأ ضيقة، وهم المحيطون بفرعون في حين أن دائرة القوم واسعة، لأنهم منتشرون في المدن والقرى، وأن التعامل مع هذه الدائرة الواسعة من الناس صعب وشاق، فإنهم مختلفون في الأمزجة والاستجابة والتصرف، فما في سورة النمل أشق وأصعب ، فجاء بالفعل ( جاء ) دون ( أتى ) الذي هو أخف.

ويدل على ذلك قوله تعالى في سورة طه: ( فلما آتاها نودي يا موسى ) ذلك لأنه أمره بالذهاب إلى فرعون ولم يذكر معه أحداً آخر: ( اذهب على فرعون إنه طغى ) ( قال رب اشرح لي صدري ، ويسر لي أمري ) .

وهنا لما أرسله إلى فرعون قال : ( أتاها ) ولما أرسله إلى فرعون وملئه قال ( أتاها ) أيضاً في حين لما أرسله إلى فرعون وقومه قال ( جاءها ) ، فالفرق بين الموطنين ظاهر.


7) ذكر في القصص جهة النداء فقال: ( فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة ) ولم يذكر الجهة في سورة النمل ، وذلك لأن موطن القصص موطن تفصيل ، وموطن النمل موطن إيجاز كما ذُكِر.

8) قال في سورة النمل : ( نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين ) ولم يذكر مثل ذلك في القصص ، بل ذكر جهة النداء فقط ، وذاك لأن الموقف في النمل موقف تعظيم كما أسلفنا وهذا القول تعظيم لله رب العالمين .

9) قال في النمل : ( يا موسى ) وقال في القصص : ( أن يا موسى ) فجاء بـ ( أن ) المفسرة في القصص، ولم يأت بها في النمل، وذلك لأكثر من سبب، منها:

:star: أن المقام في النمل مقام تعظيم لله سبحانه، وتكريم لموسى كما ذكرنا فشّرفه بالنداء المباشر في حين ليس المقام كذلك في القصص، فجاء بما يفسر الكلام، أي: ناديناه بنحو هذا، أو بما هذا معناه، فهناك فرق بين قولك: ( أشرت إليه أن اذهب) و ( قلت له اذهب ) فالأول معناه: أشرت إليه بالذهاب، بأي لفظٍ أو دلالة تدل على هذا المعنى.
وأما الثاني فقد قلت له هذا القول نصاً، ومثله قوله تعالى : ( ونادينا أن يا إبراهيم ، قد صدّقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين) الصافات. أي : بما هذا تفسيره أو بما هذا معناه بخلاف قوله : ( قال يا نوح إنه ليس من أهلك ) هود.

:star: أن المقام في سورة القصص، مقام تبسّط وتفصيل فجاء بـ ( أن ) زيادة في التبسط.

:star: أن ثقل التكليف في سورة النمل يستدعي المباشرة في النداء، ذلك أن الموقف يختلف بحسب المهمة وقوة التكليف كما هو معلوم.

إلى هنا أكتفي اليوم ، لنكمل الفروق ودواعيها في المرة القادمة - بإذن الله تعالى.

أجمل تحية

أختكم الأمل

الأصيـــــــــل
18-03-2003, 02:29 PM
الأخت العزيزة الأمـــــل


بارك الله لك وبك

ودمتي على الخير وبالخير

وجزاك الله ألف خير

تأكدي بأني استمتع جداً بقراءة ما تنثرينه علينا

وفقك الله عز وجل لما فيه الخير

وجزاك بكل حرف تقرأه عين ألف حسنة



خالص التحيّة

الأمــل
09-04-2003, 11:13 AM
أخي العزيز الأصيل ،،،

بارك الله فيك ، وعلى مرورك البهي ، سعيدة باستمتاعك بالفائدة هنا ، وجزاك الله خيراً .

الأمــل
09-04-2003, 11:46 AM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

أحبتي الدرر ،،،

أسعد الله أوقاتكم بالخيرات والمسرات ، ونكمل هنا ما توقفنا عنده المرة السابقة ، في إيضاح الفرق بين التعبيرين في السورتين ودواعي ذلك:

10) قال في النمل : ( إنه أنا الله العزيز الحكيم ) ، وقال في سورة القصص : ( إني أنا الله رب العالمين ) .

فجاء بضمير الشأن الدال على التعظيم في آية النمل: ( إنه أنا ) ولم يأتِ به في القصص ، ثم جاء باسميه الكريمين : ( العزيز الحكيم ) في النمل زيادة في التعظيم.

ثم انظر إلى اختيار هذين الاسمين وتناسبهما مع مقام ثقل التكليف، فإن فرعون حاكم متجبر يرتدي رداء العزة، ألا ترى كيف أقسم السحرة بعزته قائلين : ( بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون ) الشعراء/44. فاختار من بين أسمائه ( العزيز ) معرفاً بالألف واللام للدلالة على أنه هو العزيز ولا عزيز سواه و ( الحكيم ) للدلالة على أنه لا حاكم ولا ذا حكمة سواه، فهو المتصف بهذين الوصفين على جهة الكمال حصراً. وفي تعريف هذين الاسمين بالألف واللام من الدلالة على الكمال والحصر ما لا يخفى ما لو قال : عزيز حكيم فإنه قد يشاركه فيهما آخرون.

ثم انظر من ناحية أخرى ، كيف أنه لما قال : ( أنا الله العزيز الحكيم ) ، ولم يذكر أن موسى سأل ربه أن يعززه ويقويه بأخيه. ولما لم يقل ذلك ذكر أنه سأل ربه أن يكون له ردءاً، يصدقه ويقويه وهو أخوه ( هارون ) .

وقد تقول: ولكنه قال في القصص : ( إني أنا الله رب العالمين ) ، وفي ذلك من التعظيم ما لا يخفى.

ونقول: وقد قال ذلك أيضاً في النمل، فقد قال : ( وسبحان الله رب العالمين )، وزاد عليه: ( إنه أنا الله العزيز الحكيم ) . فاتضح الفرق بين المقامين.

سؤال: لِمَ قال في سورة طه : ( إني أنا ربك فاخلع نعليك ) بذكر ربو بيته له خصوصاً، ولم يقل كما قال في سورتي النمل والقصص: ( رب العالمين ) ؟

الجواب : أنه في سورة طه كان الخطاب والتوجيه لموسى عليه السلام أولا فعلمه وأرشده فقال له : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (14) إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ) ، فطلب منه العبادة وإقامة الصلاة.

وقال بعد ذلك : ( لنريك من آياتنا الكبرى ( 23) ) طه ، ثم ذكر منته عليه مرة أخرى فقال : ( ولقد مننا عليك مرة أخرى (37) إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى ) .

ويمضي في ذكر منته عليه ولم يرد مثل ذلك في النمل ولا في القصص.

فإنه لم يذكر توجيهاً له أو إرشاداً لعبادته في النمل ، ولا في القصص فلم يأمره بعبادة أو صلاة أو تكليف خاص بشأنه. ثم إنه في سورة القصص وإن كان قد فصّل في ذكر ولادته ونشأته وما إلى ذلك فقد ذكرها في حالة الغيبة لا في حالة الخطاب : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) ( إن كادت لتبدي به .... فرددناه إلى أمه....ولما بلغ أشده .....ودخل المدينة ....) في حين كان الكلام في سورة طه بصورة الخطاب. فناسب أن يقول له في ( طه ) ( أنا ربك ) بخلاف ما في النمل والقصص ، والله أعلم.

11) قال في النمل : ( وألق عصاك ) ، وقال في القصص : ( وأن ألق عصاك ) . فجاء بـ ( أن ) المفسرة أو المصدرية . ونظيره ما مر في قوله : ( يا موسى ) و ( أن يا موسى ) .

فقوله: ( وألق عصاك ) قول مباشر من رب العزة ، وهو دال على التكريم. وأما قوله : ( وأن ألق عصاك ) فإن معناه : أنه ناداه بما تفسيره هذا أو بما معناه هذا. فأنت إذا قلت : ( ناديته أن أذهب ) كان المعنى ناديته بالذهاب. فقد يكون النداء بهذا اللفظ أو بغيره بخلاف قولك : ( ناديته اذهب ) ، أي : قلت له : اذهب.

وهو نحو ما ذكرناه في قوله : ( يا موسى ) و (أن يا موسى ) من أسباب ودواعِ فلا داعي لتكرارها.

12 ) قال في النمل : ( يا موسى لا تخف ) . وقال في القصص : ( يا موسى أقبل ولا تخف ) بزيادة ( اقبل ) على ما في النمل وذلك له أكثر من سبب.

منها: أن مقام الإيجاز في النمل يستدعي عدم الإطالة ، بخلاف مقام التفصيل في القصص.

ومنها: أن شيوع جو الخوف في القصص، يدل على إيغال موسى في الهرب، فدعاه إلى الإقبال وعدم الخوف.

فوضع كل تعبير في مكانه الذي هو أليق به.

13) قال تعالى في النمل : ( إني لا يخاف لدي المرسلون ) ، وقال في القصص : ( إنك من الأمنين ) ، ذلك أن المقام في سورة القصص مقام الخوف ، والخائف يحتاج إلى الأمن ، فأمنه قائلاً : ( إنك من الأمنين )

أما في سورة النمل فالمقام مقام التكريم والتشريف، فقال : ( إني لا يخاف لدي المرسلون) ، فألمح بذلك إلى أنه منهم ، وهذا تكريم وتشريف. ثم انظر كيف قال : ( لدي ) مشعرا بالقرب وهو زيادة في التكريم والتشريف.

ثم انظر من ناحية أخرى كيف أنه لما قال في سورة النمل : ( لدي ) المفيدة للقرب ناداه بما يفيد القرب فقال : ( يا موسى ) ولم يقل : ( أن يا موسى ) كما قال في القصص، ففصل بين المنادي والمنادى بما يفيد البعد.

وأمره أيضاً بما يفيد القرب بلا فاصل بينهما فقال: ( ألق عصاك) ولم يقل : ( وأن ألق عصاك ) للدلالة على قرب المأمور منه. فناداه من قرب وأمره من قرب ، وذلك لأنه كان منه فريبا، فانظر علو هذا التعبير ورفعته.

ثم انظر من ناحية أخرى كيف قال ك ( إني لا يخاف لدي المرسلون ) ولم يقل : إني لا يخاف مني المرسلين ، لا يخافون بحضرته ، ولكنهم يخشونه ويخافونه كل الخوف ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أخشاكم لله) فهو أخوف الناس منه ، أخشاهم له.

14) قال في النمل : ( إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ) ولم يقل مثل ذلك في القصص ، لأنه لا يحسن أن يقال : ( إنك من الآمنين إلا من ظلم ، ثم بدل حسناً بعد سوء....) ولو قال هذا لم يكن كلاماً.

هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى ، ناسب ذلك قول ملكة سبأ ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ( 44) النمل. فإنها ظلمت نفسها بكفرها وسجودها للشمس من دون اللهه ، ثم بدلت حسنا بعد سوء ، فأسلمت لله . فلاءم هذا التعبير موطنه من كل ناحية .

وقد تقول : لقد ورد مثل هذا التعبير في سورة القصص أيضاً ، وهو قوله تعالى : ( قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم ).

والحق أن المقامين مختلفان، فإن القول في سورة القصص هو قول موسى عليه السلام، حين قتل المصري، وموسى لم يكن كافراً بالله، بل هو مؤمن بالله تعالى، ألا ترى إلى قوله منيباً إلى ربه بعد ما فعل فعلته: ( قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ) وقوله حين فر من مصر : (رب نجني من القوم الظالمين ) وقوله : ( قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) .

فغن موسى لم يبدل حسناً بعد سوء، وذلك أنه عليه السلام لم يكن سيئاً بخلاف ملكة سبا لإنها كانت مشركة، وقد بدلت حسناً بعد سوء. فما جاء من قوله : ( إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء.... ) أكثر ملاءمة للموضع الذي ورد فيه من كل ناحية .

15) قال في النمل : ( وأدخل يدك في جيبك ) . وقال في القصص : ( اسلك يدك في جيبك ) .

لقد استعمل في سورة القصص أمر الفعل ( سلك ) الذي يستعمل كثيراً في سلوك السبل ، فيقال : سلك الطريق والمكان سلكا ، قال تعالى : ( والله جعل لكم الأرض بساطاً ، لتسلكوا منها سبلا فجاجا (20)نوح . ذلك لأنه تردد سلوك الأمكنة والسبل في قصة موسى في القصص ، بخلاف ما ورد في النمل. فقد ورد فيها ، أي : في سورة القصص سلوك الصندوق بموسى، وهو ملقى في اليم إلى قصر فرعون ، وسلوك أخته وهي تقص اثره. وسلوك موسى الطريق إلى مدين، وسير موسى بأهله وسلوكه الطريق على مصر، حتى إنه لم يذمر في النمل سيره بأهله بعد قضاء الأجل ، بل إنه طوى كل ذكر للسير والسلوك في القصة. فقال مبتدئاً : ( إذ قال موسى لأهله إني آنست ناراً سآتيكم منها بخبر) بخلاف ما ورد في القصص ، فإنه قال: ( فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً) . فحسن ذكر السلوك في القصص دون النمل.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ، إن الفعل ( دخل) ومشتقاته تكرر خمس مرات في النمل، في حين لم يرد هذا الفعل ولاشيء من مشتقاته في القصص، فناسب ذكره في النمل دون القصص.

ومن ناحية أخرى، إن الإدخال أخص من السّلك أو السلوك اللذين هما مصدر الفعل سلك، لأن السلك أو السلوك، قد يكون إدخالاً وغير إدخال، قد تقول: سلكت الطريق وسلكت المكان، أي: سرتُ فيه، وتقول: سلكت الخيط في المخيط، أي : أدخلته فيه. فالإدخال أخص وأشق من السلك والسلوك.فإن السلك قد يكون سهلا ميسوراً، قال تعالى في النحل: ( فاسلكي سبل ربك ذللاً ) ، فانظر كيف قال : ( ذللاً ) ، ليدلل على سهولته ويسره ، وقال: ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض) /الزمر. وهل هناك أيسر من سلوك الماء في الأرض وغوره فيها؟

فناسب وضع السلوك في موطن السهولة واليسر، ووضع الإدخال في موطن المشقة والتكليف الصعب. لقد ناسب الإدخال أن يوضع مع قوله : ( سآتيكم منها بخير ) وقوله ( فلما جاءها ) ومهمة التبليغ إلى فرعون وقومه.

وناسب أن يوضع السلوك في مقام الخوف، وأن يوضع الإدخال في مقام الأمن والثقة.

وناسب أن يوضع الإدخال، وهو أخص من السلوك مع ( الشهاب القبس ) الذي هو أخص من الجذوة، وأن يوضع السلوك، وهو أعم من الإدخال مع الجذوة من النار التي هي أعم من الشهاب القبس.

فكل لفظة وضعت في مكانها الملائم تماماً.

16) قال فيا لقصص : ( واضمم إليك جناحك من الرهب ) ولم يذكر مثل ذلك فيالنمل. و(الرهب ) هو الخوف، وهو مناسب لجو الخوف الذي تردد في القصة، ومناسب لجو التفصيل فيها بخلاف ما في النمل.

17) قال في النمل: ( في تسع آيات ) ، وقال في القصص : ( فذانك برهانان ) .

فقد أعطاه في النمل تسع آيات إلى فرعون، وذكر في القصص برهانين، وذلك لما كان المقام في النمل مقام ثقة وقوة وسّه المهمة، فجعلها إلى فرعون وقومه، ووسع الآيات فجعلها تسعاً، ولما كان المقام مقام خوف في القصص، ضيّق المهمة، وقلل من ذكر الآيات.

وكل تعبير وضع في مكانه المناسب.

ثم استعمال كلمة ( الآيات) في النمل مناسب لما تردد ممن ذكر للآيات، والآية في السورة، فقد تردد ذكرهما فيها عشر مرات، في حين تردد في القصص مرات . فناسب وضع ( الآيات ) في النمل، ووضع ( البرهان ) في القصص الذي تردد فيها مرتين، في حين ورد في النمل مرة واحدة، فناسب كل تعبير مكانه.

18) قال في النمل: ( إلى فرعون وقومه ) ، وقال في القصص: ( إلى فرعون وملإيه ) .

فوسّع دائرة التبليغ في النمل كما ذكرنا، وذلك مناسب لجو التكريم في القصة، ومناسب لثقة موسى بنفسه التي اوضحتها القصة.

ولما وسّع دائرة التبليغ وسّع الآيات التي أعطيها، بخلاف ما ورد في القصص.

19) قال في النمل : ( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين ) .

ومعنى ذلك أن موسى، قبل المهمة ونفذها من دون ذكر لتردد أو مراجعة، وهو المناسب لمقام القوة ونفذها من دون ذكر لتردد أو مراجعة، وهو المناسب لمقام القوة والثقة والتكريم، في حين قال في القصص : ( قال رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون)، فذكر مراجعته لربه وخوفه على نفسه من القتل، وهو المناسب لجو الخوف في السورة ولجو التبسط والتفصيل في الكلام.

وكل تعبير مناسب لموطنه الذي ورد فيه كما هو ظاهر.

والله أعلم.

إلى هنا انتهى الحديث عن قصة سيدنا موسى عليه السلام في سورتي النمل والقصص ، والفرق بينهما ودواعي ذلك .

موضوعنا القادم سيكون بإذن الله عن لمسات بيانية :

( من سورتي المؤمنون والزمر )

أجمل فائدة أتمناها لكم

تحياتي الأمل

الأمــل
30-04-2003, 09:49 AM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

أحبتي الدرر ،،

ها أنا أعود من جديد لأكمل ما قد بدأته معكم من كتابة ما جاء من لمسات بيانية في القرآن الكريم وفقاً لكتاب ( لمسات بيانية ) ، متمنية للجميع الفائدة والمتعة في رحاب كتاب الله ، واليوم سيكون موضوعنا عن بعض تلك اللمسات من سورتي ( المؤمنون والزمر ) ، ولنبدأ بسم الله:

من سورة المؤمنون :

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

من سورة الزمر:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

نرى في هذين النصين آيتين فيهما شيء من التلاقي في التعبير وشيء من الاختلاف ، وهما قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

وهاهنا ثلاثة أسئلة وهي:

1) لم قال الله تعالى في آية ( المؤمنون ): ( لميتون ) باللام، وقال في الزمر: ( ميتون ) من دون لام؟

2) ولِمَ أكد الموت في آية( المؤمنون ) بأن واللام، وأكد البعث بإنّ وحدها مع أن الموت لا شك فيه، وليس ثمة منكر له، بخلاف البعث، فإن هناك منكرين له كثيرين؟

3) لِمَ ختم آية ( المؤمنون ) بالبعث فقال: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ) ، وختم آية الزمر بالاختصام فقال: ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون )؟

جواب السؤال الأول :

لقد أكد الله تعالى الموت في أية ( المؤمنون ) بإن واللام في حين أكده في الزمر بإن وحدها، ذلك أن سورة ( المؤمنون ) تكرر فيها ذكر الموت كثيراً، وتعددت صوره وأحواله، بخلاف سورة الزمر . فقد ذكر في سورة ( المؤمنون ) قوم نوح، وقال: ( إنهم مغرقون )، أي: سيموتون بالغرق. وقال بعدها: ( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون )، ثم قال: ( إ هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين )، وقال بعدها : ( فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاءً فبعداً للقوم الظالمين )، وقال بعدها: ( فأتبعنا بعضهم بعضاً وجعلناهم أحاديث فبعداً لقومٍ لا يؤمنون)، وقال بعد ذلك: ( فكذبوهما فكانوا من المهلكين )، ثم قال بعدها: ( وهو الذي يحيى ويميت وله اختلاف الليل والنهار)، ثم قال: ( قالوا أءِذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءِنا لمبعوثون )، وقال بعدها: ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب أرجعون )، في حين لم يرد ذكر الموت في سورة الزمر إلا مرتين إحداهما في الآية المذكورة وهي قوله: ( إنك ميت وإنهم ميتون )، والأخرى قوله: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) .

لقد تردد ذكر الموت في سورة ( المؤمنون ) عشر مرات، في حين لم يرد ذكر الموت في سورة ( الزمر) إلا مرتين، فاقتضى ذلك تأكيد الموت في سورة ( المؤمنون ) أكثر مما في ( الزمر ) .

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إنه لما أكثر من الكلام على الموت في ( المؤمنون )، أكثر من تأكيده في الآية فجعله بحرفين، ولما قلل الكلام عليه في ( الزمر )، قلل من حروف التوكيد، فكان كل تعبير مناسباً لموطنه.


أما بالنسبة إلى السؤال الثاني:

فنقول: إن النظرة الأولى قد توحي بأنه كان ينبغي تأكيد البعث أكثر من تأكيد
الموت، ذلك لأن الموت لا شك فيه، وأنه لا ينكره أحد، أما البعث فمنكروه كثير، فلماذا إذن أكد الموت أكثر مما أكد البعث؟ لماذا أكد الموت بإن واللام فقال: ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون)، وأكد البعث بإن وحدها، فقال: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) ؟

لقد أثير هذا السؤال قديماً، فقد جاء في ( البحر المحيط ): " فإن قلت: الموت مقطوع به عند كل أحد، والبعث قد أنكرته طوائف، واستبعدته وإن كان مقطوعاً به من جهة الدليل لإمكانه في نفسه ومجيء السمع به، فوجب القطع به، فما بال جملة الموت مؤكدة بإن واللام ولم تؤكد جملة البعث ( إلا ) بإن؟".

إن هناك أكثر من سبب يدعو إلى هذا التعبير منها:

1) إن ما ذكره قبل هذه الآية من خلق الإنسان من طين وإحكامه وتطويره من قطرة ماء إلى أن يصير إنساناً عاقلاً منتشراً في الأرض، أكبر دليل على أن إعادته ممكنة وليس في ذلك أدنى ريب، فلا يحتاج بعد هذه الأدلة إلى كبير توكيد.

جاء في ( روح المعاني ): " ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له، اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد، وبشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالةٍ من طين، ثم نقله من طور إلى طور، حتى أنشأه خلقاً آخر يستغرق العجائب، ويستجمع الغرائب، فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عز وجل".

وجاء في ( البحر المحيط ): " ولم تؤكد جملة البعث إلا بإن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع، ولا يقبل إنكاراً وأنه حتم لا بد من كيانه، فلم يحتج إلى توكيد ثان".

2) إن الإعادة أسهل من الابتداء في منطق العقل، فإن الذي يصنع كل يوم آلاف النماذج لهو أقدر على إعادتها إذا حطمها أو أتلفها، ولذا أكدالخلق الأول تأكيدين، وأكد البعث تأكيداً واحداً فقال: ( ولقد خلقنا الإنسان.....)فأكده باللام وقد. وقال تعالى: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) فأكده بإن وحدها، ذلك لأن الإعادة كما ذكرنا أهون من الابتداء في منطق العقل، وإن لم يكن على الله شيء أهون من شيء، قال تعالى: ( وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) / الروم: 27 .

3) إن ما ذكره الله من خلق الإنسان وتطويره حتى صار مخلوقاً على أحسن هيئة، حتى قال رب العزة تعقيباً على خلقه: ( فتبارك الله أحسن الخالقين) إن ذلك ربما يوحى أنه خلقه للخلود، واعده للبقاء في هذه الدنيا. وأن الموت كأنه خلاف لما أعده له، ألا ترى إلى قوله تعالى: ( بعد ذلك )، ثم قوله : ( ثم إنكم بعد ذلك لميتون )، أي: إنكم بعد كل ذلك من التدبير والإحكام والإحسان في الخلق والتطوير، وبعد ما ذكر من الأمور العجيبة ستموتون مما يفيد استبعاد تقدير الموت عليه، ولذا اقتضى ذلك تأكيد الموت.

وجاء في ( روح المعاني ): " ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه، بالغ سبحانه –عز وجل- في تأكيد الجملة الدالة على موته، مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه، أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده، وسمع أن الله – جل جلاله – أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت، وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث".

4) إن الإنسان كثيراً ما يغفل عن الموت فينشغل بالحياة وتلهيه أمورها عما هو أولى، ويعمل أعمال من لا يرجو الموت ولا يأمله، فلا يتعظ كما قال تعالى: ( ألهاكم التكاثر () حتى زرتم المقابر )/التكاثر، وكما قال: ( وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ) الشعراء/129. فكأنه نسي حقيقة الموت الذي سيطوله، ولا بد، فهو كأنه منكر له في أعماله، وإن لم يكن له منكرا له في عقله ولسانه، فنزل منزلة المنكر له غير المقر به لأن أعماله أعمال أعمال المنكرين له والعبرة بالأعمال لا بالأقوال. فأكده له تأكيد المنكرين له لعله يرعوي ويتطامن.

جاء في ( روح المعاني ): " وقيل إنما بولغ في القرينة الأولى، لتمادي المخاطبين في الغفلة، فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك، و أخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها. وربما يقال: إن شدة كراهة الموت طبعاً التي لا يكاد يسلم منها أحد، نزلت منزلة شدة الإنكار، فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه. وأما البعث فمن حيث أنه مظنة للشدائد تكرهه، فلما لم يكن حاله كحال الموت، ولا كحال الحياة، بل بين بين، أكدت الجملة الدالة عليه تأكيداً واحداً".

5) إن الىية لم ترد في سياق المنكرين للبعث، بل هي في سياق المؤمنين العالمين بمقتضى إيمانهم الوارثين للفردوس، فلا يقتضي ذلك تأكيد البعث كتأكيد المنكرين له.

وقد تقول: أفيقتضي هذا السيقاق تأكيد الموت؟

فيجيب المؤلف قائلاً: نعم، فغن المؤمن قد تَعرِض له غفلة ينسى فيها الموت في زحمة عمله، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: " أكثروا من ذكر هادم اللذات". وقال: " كفى بالموت واعظاً". فهو يحتاج من يذكره بالموت.

6) لقد أكد الموت هذا التأكيد للدلالة على أن الإنسان ، لا يتمكن من الخلود في الدنيا مهما حاول، ومهما بذل من جهد في سبيل ذلك، فإن الإنسان لا بد أن يموت، ولا سبيل إلى الخلود ههنا. فهذا إخبار بأن الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى ما يُخلّده، وأن محاولاته ستبوء بالفشل مهما حاول.

وهذه الآية، قَطعٌ لأطماع الإنسان في الخلود في الدنيا.

7) إن الموت يستدعي التأمل والنظر، ذلك أن الإنسان يموت ويُمات، وقد خلقه الله كذلك، وكان بمقدوره تعالى أن يخلقه على غير هذه الحالة، فلا يموت ولا يُمات. ولو قدر ذلك لكان هذا أكبر نقمة على البشرية أو من أكبر النقم. تصور جيشاً هائلاً من المجرمين الموغلين في الإجرام، يعجز الخلق عن إهلاكهم، كيف سيفعلون بالناس الآخرين؟ إننا مع أسباب الموت والإماتة الكثيرة نعاني ما نعاني من المجرمين، فكيف إذا كان هؤلاء أحياء خالدين، لا يمكن التخلص منهم؟ كيف لو اجتمع المجرمون من كل العصور، وأخذوا يعيثون ما يعيثون في المجتمعات؟ كيف ترى أصحاب العاهات والآلام الشديدة والمعذبين الذين يتمنون الموت في كل لحظة، ليريحهم مما هم فيه ولا يحصل متمناهم هذا؟ أليس الموت نعمة لهؤلاء؟ أليس الموت نعمة لأصحاب النار مثلاً؟ ألا ترى قولهم: ( يا مالك ليقضِ علينا ربك قال إنكم ماكثون ) الزخرف/ 77.

ثم انظر أية كارثة تحيق بالبشرية من تكاثر مستمر بلا موت؟ إنه أكبر وأخطر من أي سرطان عُرف أو يعرف.

ثم انظر كيف يعيش الناس عند ذاك، وما مقدار ما يكفيهم من الغذاء والكساء، وأماكن السكن، أية أرض ستتسع لهم؟ وغير ذلك، وغيره من الأمور التي يطول تعدادها.

أرأيت كيف أن الموت من أعظم نعم الله على البشرية في هذه الأرض؟ ألا ترى أن ذلك به حاجة إلى التنويه والنظر في أمره وتأمُل نعمة الله فيه، كنعمة الخلق والإيجاد، ولذا أكدهما تأكيداً متناظراً، فقد أكد كلاً من الخلق والموت تأكيدين وأكد البعث تأكيداً واحداً.

فنحن لا نرى نعمة ممقوتة كهذه النعمة، ونعمة مخوفة كهذه النعمة، ونعمة محزنة مبكية مؤسية كهذه النعمة.

إن توكيد الموت لم يجيء من حيث إنكار وقوعه، فإنه لا ينكر أحد وقوعه، وإنما جاء من ناحية إنكار عدم العمل بمقتضى هذه المعرفة، وعدم تقدير هذه النعمة حق قدرها على البشرية لا على الفرد الواحد بعينه.

8) ذهب أكثر النحاة إلى أن اللام الداخلة على الفعل المضارعـ تُخلصه للحال زيادةً على إفادة التوكيد، فإذا قلت: ( إنه ليكتب ) فمعناه: إنه يكتب الآن. أما إذا دخلت على الاسم فلا تخلصه للحال، بل تكون للتوكيد فقط، قيل: ولذا أكد الموت باللام ولم يؤكد البعث بها.

جاء في ( البحر المحيط ) : " وكنتُ سُئِلْتُ: لِمَ دخلت اللام في قوله: ( لميتون )، ولم تدخل في ( تبعثون ) ؟ فأجبتُ: بأن اللام مخلصة المضارع للحال غالباً، فلا تجامع يوم القيامة، لأن إعمال ( تبعثون ) في الظرف المستقبل تخلصه للاستقبال، فتنافي الحال.

وإنما قلت(المؤلف): ( غالباً ) لأنه قد جاءت قليلاً مع الظرف المستقبل، كقوله تعالى: ( وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة )

على أنه يحتمل تأويل هذه الآية، وإقرار اللام مخلصة المضارع للحال، بأن يقدر عامل في يوم القيامة"

ويبدو للمؤلف: أن هذا هو الغالب، وليس هو قاعدة مطردة والله أعلم.

مما تقدم يتضح أن تأكيد الموت بإن واللام، وتأكيد البعث بإن وحدها له أكثر من سبب يدعو إليه. هذا علاوة على جو السورة التي وردت فيها الآية، واقتضى تأكيد الموت هذا التأكيد بخلاف ما في ( الزمر ). فاقتضى ذلك من كل وجه هذا التعبير.


وأما بالنسبة إلى السؤال الثالث:

وهو السؤال عن سبب ختم آية ( المؤمنون ) بالبعث، وختم آية الزمر بالاختصام فنقول:

إن نهاية كل آية تناسب سياق الآية الذي وردت فيه وتناسب جو السورة التي هي فيها.

فإنّ آية ( المؤمنون ) وقعت في سياق بَدْء خَلْق الإنسان وتطوره إلى منتهاه، قال تعالى:

( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)


فأنت ترى أن ختام الآيات هذه بالبعث، هو الختم الطبيعي، وهو الحلقة النهائية في سلسلة الحياة وتطورها.

أما آية الزمر، فقد وقعت في سياق آخر يقتضي ختم الآية بالخصومة، قال تعالى:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)

والشركاء المتشاكسون مظنة الوقوع في الخصام، فكان الختم بذلك أمراً طبيعياً يقتضيه السياق.

ثم إن جو سورة الزمر شائع فيه ذكر الخصومات والفصل بين المختلفين، لأن الخصومة تقتضي الحكم والقضاء.

أما جو سورة ( المؤمنون ) فشائع فيه ذكر الموت والبعث.

إن ذكر البعث والحياة الآخرة شائع في سورة ( المؤمنون ) .

فقد قال تعالى: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون )16.

وقال: ( وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة )33.

وقال: ( أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون(35) هيهات هيهات لما توعدون (36) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين(37)

وقال: ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجله أنهم إلى ربهم راجعون )60.

وقال: ( وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ) 74.

وقال: ( وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار) 80.

وقال: ( قالوا أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمبعوثون (82) لقد وُعدنا نحن وءاباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) 83.

وذكر مشهداً من مشاهد أهل النار: ( الآيات من103 – 108 )، ثم قال: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).

فأنت ترى أن جو السورة يشيع فيه ذكر البعث واليوم الآخر، فناسب ختام الآية جو السورة، علاوة على السياق الذي وردت فيه.

أما سورة الزمر فقد شاع فيها ذكر الخصومات والقضاء والحكم، فقد بدأت السورة، بقوله تعالى: ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) و ( الحكيم )، صفةٌ قد تكون من الحكم، وهو الفصل في الأمور، أي: القضاء كما قال تعالى: ( إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين)الأنعام/57. وقد تكون من الحكمة.

وقال بعدها: ( إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون)، وهو واضح في الحكم بين المختلفين. والخصومة إنما هي لون من ألوان الاختلاف.

وقال تعالى: ( ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون)الزمر/31.

وقال: ( أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون)الزمر/46.

وقال: (وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون)الزمر/69. والقضاء يقتضي اختلافاً وفصلاً.

وقال: ( وقُضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)الزمر/75.

فأنت ترى أن جو السورة شاع فيه الفصل والاختلاف والخصومات، فناسب ختام الآية جو السورة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لقد ناسب ختام كل آية مفتتح سورتها وخاتمتها.

فقد ناسب قوله تعالى: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) في المؤمنون، مفتتح السورة، وهو قوله تعالى: ( قد أفلح المؤمنون)، ومن لوازم الإيمان، الإيمان بالبعث، وناسب قوله في آخر السورة: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).

وناسب قوله تعالى: (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) في الزمر مفتتح السورة، وهو قوله تعالى: ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم )، وقوله: ( إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون)، فإن الخصومة تقتضي حكماً بين المتخاصمين. كما ناسب قوله تعالى في خاتمة السورة: ( وقُضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين)، والقضاء إنما يكون بين المتخاصمين.

فانظر كيف ناسب ختام كل آية من الآيتين، مفتتح سورتها وخاتمتها، وناسب جو السورة الشائع فيها، وناسب السياق الذي وردت فيه. فقد اقتضى المقام خاتمة الآيتين من كل وجه.

ثم انظر بعد ذلك كيف قال: ( إنك ميت وإنهم ميتون )، فافرد النبي عنهم، وجعلهم فريقين، ذلك لأن الخصومة والفصل يقتضيان أكثر من طرف، في حين لم يقتضِ ذلك في آية المؤمنون، فقال: ( ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) بجعلهم فريقاً واحداً، إذ كلهم يُبعثون وبخاصة أن الكلام على الإنسان على وجه العموم خلقه وتطوره وموته وبعثه. فانظر كيف ناسب كل تعبير موطنه؟

فما أحسن هذا الاختيار في النظم وما أبلغه وأجمله!

وهنا أنتهى الحديث عن ما جاء في سورتي المؤمنون والزمر، ولي عودة أخرى إن شاء الله لأكمال ما كان في كتابنا( لمسات بيانية).

أجمل وأعذب تحية
أختكم الأمـل

الأمــل
16-06-2003, 08:32 AM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

أحبتي الدرر ، أسعد الله أيامكم ، ودامت دياركم عامرة، أحببت أن أعيد وضع هذا الجزء من الموضوع بعد أن اختفى جرّاء ما أصاب دررنا الغالية ، والموضوع يدور فلكه في سورتي المؤمنون والمعارج:

من سورة المؤمنون:

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
من سورة المعارج :

إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ (35)


هناك تشابه كبير بين النصين، كما أن هناك اختلافاً بينهما كما هو ظاهر:

1) فقد قال تعالى في سورة المؤمنون: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) ، وقال في سورة المعارج : (الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23).

2) قال في سورة المؤمنون : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ )، ولم يذكر ذلك في سورة المعارج.

3) وقال في سورة المؤمنون: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ )، وفي المعارج: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (24) لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25).

4) وقال في سورة المعارج : (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ )
ولم يذكر ذلك في سورة المؤمنون.

5) وقال في سورة المعارج: (وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ )، ولم يذكر ذلك في سورة المؤمنون.

6) وقال في سورة المؤمنون: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )، بالجمع ( صلاة).
وقال في سورة المعارج : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ )، بالإفراد.

7) وقال في سورة المؤمنون : (أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ )، وقال في سورة المعارج: (أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ) .

8) قال في سورة المؤمنون: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )، ولم يقل مثل ذلك في سورة المعارج. فما سبب ذلك؟؟

نعود إلى هذين النصين، لنتلمَّس سِر التعبير في كل واحد منهما.

إن آيات النص الأول، هي مفتتح سورة المؤمنون. وارتباطها بآخر السورة التي قبلها ظاهر، فقد قال تعالى في أواخر السورة التي قبلها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)الحج. وختمها بقوله تعالى : (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)الحج.

فأنت ترى من الأمر بالرطوع والسجود وعبادة الله، وفعل الخير وتأكيد ذلك بالأمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، ما يتناسب مناسبة ظاهرة مع نفتتح السورة، وما ذكر فيها من صفات المؤمنين من الصلاة والزكاة، وغيرها من الصفات.

لقد ابتدأت السورة بقوله تعالى: ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُون )
وفي هذا النص تقرير لفلاح المؤمنين، وإخبار بحصوله في حين كان الفلاح مرجوّا لهم في السورة قبلها. فقد قال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فقد أمرهم بالركوع والسجود، ليرجى لهم الفلاح، وهنا تحقق الفلاح بعد أن فعلوا ما أمرهم به ربهم. فهناك طلبٌ وترجٍ وهنا تنفيذ وحصول، فانظر التناسب اللطيف في التعبير، وكيف وضعه وضعاً فنياً بديعاً. فقد بدأ بالأمر والطلب من الذين آمنوا أن يفعلوا ما يأمرهم به ربهم، فاستجاب الذين آمنوا، ففعلوا ما أمرهم به، فوقع لهم الفلاح على وجه التحقيق، ثم انظر كيف طلب منهم ربهم وكيف استجابوا؟.

قال: ( يا أيها الذين آمنوا )، فناداهم بالصيغة الفعلية الدالة على الحدوث، فاستجابوا واتصفوا بذلك على وجه الثبات، فوصفهم بالصيغة الاسمية ( المؤمنون ).

ثم قال: ( اركعوا واسجدوا )، وقال: ( فأقيموا الصلاة وآتوا لزكاة )، فاتصفوا بما أمرهم به ربهم على وجه الثبات، فوصفهم بالصيغة الاسمية فقال: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ )

ثم قال: ( لعلكم تفلحون ) بصيغة ترجي الفلاح. ثم اخبر عنهم أنهم بعد أن قاموا بما أمرهم به ربهم، أن الفلاح قد وقع على جهة التحقيق والتأكيد، فجاء ب، ( قد ) الداخلة على الفعل الماضي، وهي تفيد التحقيق والتوقع والتقريب. فقد كان الفلاح متوقعاً مرجوّا لهم، فحصل ما توقعوه وتحقق عن قريب. فما اسرع ما نفّذوا وما أسرع ما تحقق لهم من الفلاح! فانظر كيف اقتضى التعبير ( قد) من جهات عدة، وانظر ارتباط كل ذلك بالسورة قبلها.

جاء في ( البحر المحيط ) : في هذه السورة: " ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهر، لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله: ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا ) الآية وفيها : ( لعلكم تفلحون )، وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله: ( قد أفلح المؤمنون ) إخباراً بحصول ما كانوا رجَوْهُ من الفلاح".

لقد ابتدأ بالصفة التي تستدعي الفلاح، ولا فلاح من دونها وهي الإيمان، وكل ما عداها من الصفات، إنما هي تبع لها فإن لم يكن إيمان فلا فلاح أبداً، كما قرر في آخر السورة، فقد قال في أول السورة: ( قد أفلح المؤمنون )، وقال: في خاتمتها: ( إنه لا يفلح الكافرون ). فانظرالتناسب بين هذا المفتتح وخاتمة السورة قبلها.

ثم ذكر أول صفة للمؤمنين، وهي الخشوع في الصلاة فقال: (الذين هم في صلاتهم خاشعون ) والخشوع في الصلاة، يعني خشية القلب وسكون الجوارح، وهو روح الصلاة، والصلاة من غير خشوع، جسد بلا روح ).

وهو – أي الخشوع – أمر مشترك بين القلب والجوارح، فخشوع الجوارح، سكونها وترْك الالتفات، وغض البصر وخفض الجناح. وخشوع القلب خضوعه وخشيته وتذلله وإعظام مقام الرب، وإخلاص المقال وجمع الهمة.

ولتقديم الوصف بالخشوع في الصلاة على سائر الصفات المذكورة بعده أسباب منها:

|548| فهو علاوة على أهميته، وأنه روح الصلاة، مرتبط بما ورد في ختام السورة السابقة من ذكر الركوع والسجود، فقد قال: ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) فذكر ركني الصلاة الظاهرين، وههنا ذكر الركن الباطن، فاستكمل ما ذكره هناك.

|548| ثم إن السورة مشحونة بجو الخشوع بشقيْه سواء ما يتعلق بالقلب، وما يتعلق بالجوارح وبالدعوة إليه بكل أحواله. فقد كرر الدعوة إلى التقوى، والتقوى أمرٌ قلبيٌ، وهي من لوازم الخشوع فقال: ( أفلا تتقون ) . وقال: ( وأنا ربكم فاتقون ). وقال: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ). والخشية والإشفاق أمر قلبي، وهما من لوازم الخشوع. وقال: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم على ربهم راجعون ) والوجل أمر قلبي وهو من لوازم الخشوع أيضاً.

وذكر الكفار وذمهم بقوله: ( بل قلوبهم في غمرة )، وهذه الغمرة تمنعها من الخشوع والخضوع والإعراض عما سوى الله تعالى. وذكر القلوب ههنا أمرٌ له دلالته، فلم يقل: ( هم في غمرة )، كما قال في مكان آخر من القرآن الكريم ( الذاريات 11) بل قال: ( قلوبهم في غمرة ) والقلبُ هو موطن الخشوع ومكانه، فإن كان هذا القلب في غمرة، فكيف يخشع؟

وقال في ذم الكفار: (فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) فلم يخشعوا، لأن الخاشع مستكين لربه متضرع متذلل إليه.

وقال: ( فاستكبروا وكانوا قوماً عالين ) والاستكبار والعلو مناقضان للخشوع، إذ الخشوع، تطامن ٌ وتذللٌ وخضوع لله رب العالمين.

فبدء السورة بالخشوع، هو المناسب لجو السورة.

ثم إن البدءَ به له دلالةٌ أخرى، ذلك أنه ورد في الآثار، أن الخشوع أول ما يُرفع من الناس، وقد جاء عن عبادة بن الصامت أنه قال:" يوشك أن تدخل المسجد، فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً". وعن حذيفة أنه قال: " أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، وتنقض عُرى الإسلام عروة عروة". روح المعاني.

فبدأ بما يرفع أولاً، وختم بما يرفع آخراً، وهي الصلاة، فقال: ( والذين هم على صلاتهم يحافظون ) .

أقف عند هذا القدر اليوم... وسيكون للموضوع بقية ما بقينا.

أجمل وأرق تحياتي للجميع

الأمــل

عابده لله
16-06-2003, 09:48 AM
أسعد الله صباحك أختي الأمل.....

انار الله قلبك وزاد إيمانك وجعلنا وإياك من الصالحين يا رب

العالمين....... حقيقة قرءاة هذه المواضيع والتفاسير لها الإفادة

الفعلية والحقيقية لنا .... أفادك الله وجعل أوقاتك سعادة ,,,,,,

وجزاك الله عنا وعن كل الدرريون كل الخير... فكثيرأ ما جهلت

بعض التفسير فوضحت بفضل الله ثم بفضلك أختي...

جزاك الله عننا كل الخير يا رب العالمين ....|48|

الأمــل
18-06-2003, 10:06 AM
يسعد صباحك أختي الغالية عابدة لله...

مرورك من هنا أسعدني ...وطلتك بهية بنورك أخية...

أثابك وأثابنا على الخير... ونوّر طريقنا للجنة ..برحمته.آمين

دمتِ لي خيرمعينة.

الأمــل

المستشار
29-06-2003, 09:13 PM
.
.

الأمل ..
والله أن كلمات الشكر لا تفيك حقّك ..
أجتهدي فأبدعتي بهذا الموضوع ..

اسأل الله العلي الكريم رب العرش العظيم أن لا يحرمك الأجر ..
وأن يجزاك عنّا كل خير ..


ودمت بحفظه ورعايته .. ':

الأمــل
01-07-2003, 10:08 PM
أخي الكريم المستشار..

بارك الله فيك وفي تشجيعك ودعائك لي.

أنا أيضا لا أوفي لك الشكر بـ شكراً.. فاعذرني.

دمت على الخير ... وسدد خطاك في سبيله.

جزاك الله كل خير عنا وعن المسلمين.

دمت بخير

الأمــل

الأمــل
04-08-2003, 05:31 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif
أحبتي الدرر..

أسعدكم الله في الدنيا والآخرة ... وأعانني وإياكم على طاعته ...أكمل الحديث اليوم في نفس فلك السورتين السابقتين، وآخر ما كان:

فبدأ بما يرفع أولاً، وختم بما يرفع آخراً، وهي الصلاة، فقال: ( والذين هم على صلاتهم يحافظون ) .

وهنا ننظر كيف أن الله تعالى جاء بالخشوع بالصيغة الاسمية الدالة على الثبات ولم يقل: ( يخشعون ) للدلالة على أنه وصف لهم دائم في الصلاة غير عارض، لأن الصلاة إذا ذهب منها الخشوع كانت ميته بلا روح.

وننظر أيضاً كيف أنه تعالى لما وصفهم بالإيمان على جهة الثبوت، وصفهم بالخشوع في الصلاة على جهة الثبوت والدوام أيضاً. فإنه لو قال: ( يخشعون ) لصح الوصف لهم وإن حصل لحظة في القلب أو الجارحة في حين أنه يريد أن يكون لهم الاتصاف في القلب والجوارح ما داموا في الصلاة.

وتقديم الجار والمجرور ( في صلاتهم ) على ( خاشعون ) له دلالته أيضاً، ذلك أن التقديم يفيد العناية والاهتمام، فقدّم الصلاة لأنها أهم ركن في الإسلام حتى أنه جاء في الأثر الصحيح، أن تاركها كافرٌ هادمٌ للدين، وحتى أن الفقهاء اختلفوا في كفر تاركها فمنهم من قال: إن تاركها كافر، وإن نطق بالشهادتين.
في حين أنه لو قدم الخشوع، لكان المعنى أن الخشوع أهم، وليس كذلك فإن الصلاة أهم. والصلاة من غير خشوع اكبر وأعظم عند الله من خشوع بلا صلاة، فإن المصلي، وإن لم يكن خاشعاً أسقط فرضه وقام بركنه بخلاف من لم يصل.

سؤال :وكيف يكون خشوع بلا صلاة؟

فنقول: إن الخشوع وصفٌ قلبي وجسمي، يكون في الصلاة وغيرها، ويوصف به الإنسان وغيره.

قال تعالى : ( وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا) طه/108، فوصف الأصوات بالخشوع.

وقال : ( خاشعة أبصارهم ترهقهم ذله) المعارج/44. فوصف الأبصار بالخشوع.

وقال: ( وجوهٌ يومئذٍ خاشعة ) الغاشية/2. فوصف الوجوه بالخشوع.

وقال: ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق)الحديد/16. فوصف القلب بالخشوع.

وليس ذلك مقصوراً على الصلاة كما هو واضح. قال تعالى: ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً)آل عمران/199.

وقال ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين) الأنبياء/90.
وقال : (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي) الشورى/45.
فتقديم الصلاة ههنا أهم وأهم.

وقال بعدها:
( والذين هم عن اللغو معرضون )

اللغو: ( السقط، ومالا يعتد به من كلام، وغيره ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع) لسان العرب.

وفي الكشاف: ( إن اللغو ما لا يعنيك من قول أو فعل، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطّراحه).

فاللغو جماع لما ينبغي اطراحه من قول وفعل. ووضع هذه الصفة بجنب الخشوع في الصلاة ألطف شي أبدعه، فإن الخاشع القلب الساكن الجوارح أبعد الناس عن اللغو والباطل. إذ الذي أخلى قلبه لله وأسكن جوارحه، وتطامن وهدأ ابتعد بطبعه عن اللغو والسقط وما توجب المروءة اطراحه.

جاء في ( الكشاف ) : ( لما وصفهم بالخشوع في الصلاة اتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على النفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف). ويعني بالفعل الخشوع، وبالترك الإعراض عن اللغو.

والحق إن الخشوع أمر يجمع بين الفعل والترك، ففيه من الفعل جمع الهمة وتذلل القلب وإلزامه التدبر والخشية، وفيه من الترك السكون وعدم الالتفات وغض البصر وما إلى ذلك.

جاء في ( التفسير الكبير ) : ( فالخاشع في صلاته، لابد وأن يحصل له مما يتعلق بالقلب نهاية الخضوع والتذلل للمعبود. ومن التروك أن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سوى التعظيم. ومما يتعلق بالجوارح، أن يكون ساكناً مطرقاً ناظراً إلى موضع سجوده، ومن التروك أن لا يلتفت يميناً وشمالاً).

وما بعده من الصفات المذكورة موزعة بين الفعل والترك، أو مشتركة فيهما كما هو ظاهر.

ولوضع هذه الصفة ( الإعراض عن اللغو ) بجنب الخشوع له دلالة أخرى، فإن السورة كما شاع فيها جو الخشوع، كما أسلفنا فإنها شاع فيها أيضاً جو الترك والإعراض، وذم اللغو بأشكاله المختلفة.

فمن ذلك أنه تعالى قال: ( كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً ) والعمل الصالح مناقض للغو وعمل الباطل. وقال : ( فذرهم في غمرتهم حتى حين )، والغمرة هي ما همم فيه من لغو وباطل. وقال: ( أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون )، والمسارعة في الشيء ضد الإعراض عنه. و( الخيرات) ضد اللغو والباطل.

وقال في وصف الكفار: ( قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون، مستكبرين به سامراً تهجرون)، والنكوص هو الإعراض، والهُجر من اللغو ، وهو القبيح من الكلام والفحش في المنطق.

وقال: ( أم يقولون به جِنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون ) وقولهم: ( به جنة ) من اللغو.

وقوله تعالى: ( وأكثرهم للحق كارهون ) من الإعراض، إذ الكره للشيء، إعراض عن الحق.

وقال: ( بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون).

وقال فيهم: ( ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون)، والطغيان هو الباطل وهو من اللغو.

وقال تعالى: ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم). والعبث هو الباطل، وهو من اللغو واللهو، ووصف الله نفسه بالحق، والحق نقيض الباطل والباطل من اللغو.

وقال تعالى: ( بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون )، والحق نقيض الباطل، واللغو والكذب من اللغو في القول، إلى غير ذلك.

فها نحن نرى أن السورة مشحونة بجو الدعوة إلى الحق وذم اللغو في القول والعمل.

فوضع هذه الآية في مكانها له دلالته في جو السورة، كما هو في الآية قبلها.

ولننظر إلى بناء هذه الآية، فإنه جعلها اسمية المسند، فلم يقل: " والذين لا يلغون "، أو " عن اللغو يعرضون "، وقدم الجار والمجرور ( عن اللغو ) على اسم الفاعل ( معرضون ) ولكلِّ سببٌ.

فإن قوله تعالى: ( عن اللغو معرضون ) أبلغ من " لا يلغون " ذلك أن الذي لا يغلو، قد لا يُعرض عن اللغو بل قد يستهويه، ويميل إليه بنفسه ويحضر مجالسه، أما الإعراض عنه، فإنه ابلغ من عدم فعله، ذلك أنه أبعد في الترك ، فإن المُعرض عن اللغو علاوة على عدم فعله ينأى عن مشاهدته وحضوره وسماعه، وإذا سمعه اعرض عنه كما قال تعالى: ( وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه )القصص/55.

فهم لم يكتفوا بعدم المشاركة فيه، بل هم ينأون عنه.

ثم إن التعبير باسمية المسند، يشير إلى أن إعراضهم عن اللغو، وصف ثابت فيهم، وليس شيئاً طارئاً. وهو مع ذلك متناسب مع ما ذكر فيهم من الصفات الدالة على الثبوت.

وأما تقديم الجار والمجرور ( عن اللغو ) فهو للإهتمام والحصر، إذ المقام يقتضي أن يقدم المعرض عنه لا الإعراض. فإن الإعراض قد يكون إعراضاً عن خير كما قال تعالى: ( بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون )المؤمنون/71. فتقديم الباطل من القول والفعل ليخبر أنهم معرضون عنه هو الأوْلى. كما أن فيه حصراً لما يعرض عنه، إذ الإعراض لا ينبغي أن يكون عن الخير، بل الخير ينبغي أن يُسارع فيه، فتقديم الجار والمجرور ليس لفواصل الآيات فقط، وإن كانت الفاصلة تقتضيه بل لأن المعنى يقتضيه أيضاً.

جاء في (روح المعاني): إن قوله تعالى: ( والذين هم عن اللغو معرضون) " أبلغ من أن يقال: ( لا يلغون) من وجوه: جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، وتقديم الضمير المفيد لتقوي الحكم بتكريره، والتعبير في المسند بالاسم الدال كما شاع على الثبات، وتقديم الظرف عليه المفيد للحصر، وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأساً مباشرة وتسببا وقيلاً وحضوراً، فإن أصله أن أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه".

ثم قال بعدها: ( والذين هم للزكاة فاعلون).

إن هذا التعبير يجمع معاني عدة كلها مرادة لا تؤدي في أي تعبير آخر. فإنه لو حذف اللام من ( الزكاة ) لكونها زائدة مقوية، كما ذهب بعضهم، أو قدم ( فاعلون ) على ( الزكاة ) فحذف اللام أو بقاها، أو بدل (مؤتون) بـ ( فاعلون) لم يؤد المعاني التي يؤديها هذا التعبير البليغ، وهذا النظم الكريم، وهي معان جليلة مرادة كلها.

فإن (الزكاة) اسم مشترك بين عدة معانٍ ، فقد يطلق على القدر الذي يخرجه المزكي من ماله إلى مستحقه، أي: قد تطلق على المال المخرّج.

وقد يطلق على المصدر بمعنى: التزكية، وهو الحدث، والمعنى: إخراج القدر المفروض من الأموال إلى مستحقة.

وقد تكون بمعنى العمل الصالح، وتطهير النفس من الشرك والدنس، كما قال تعالى: ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما)الكهف/81.

وقال تعالى: ( قد أفلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى) الأعلى/14-15.

وقال تعالى: ( قد افلح من زكاها، وقد خاب من دساها) الشمس/9-10. أي: أفلح من طهّر نفسه وخلصها من السوء.

وهذه المعاني مجتمعة يصح أن تكون مرادة في هذا التعبير.

ذلكك أنه يصح أن يكون المعنى: واللذين هم يؤدون الزكاة، وذلك على تضمين (فاعلون) معنى (مؤدون) أو على تقدير مضاف محذوف، أي: والذين هم لأداء الزكاة فاعلون. فأصل الكلام على هذا: ( واللذين هم فاعلون الزكاة). فالزكاة مفعولٌ به لاسم الفاعل (فاعلون)، ثم قدم المفعول للاختصاص فصار ( الزكاة فاعلون) كما تقول: ( أنا زيداً ضارب)، ثم زيدت اللام لتوكيد الاختصاص، وهو قياس مع مفعلو اسم الفاعل تقدم أو تأخر، كما قال تعلى: ( وهو الحق مصدقاً لما معهم) البقرة/91. وتسمى هذه اللام لام التقوية. وبهين التقديرين يكون المقصود بالزكاة اسم العين، وهو المال الذي يُخرج لمستحقه.

ويصح أن تكون ( الزكاة ) بمعنى التزكية وهو الحدث، أي فعل المزكي، فيكون ( فاعلون) بمعناها فيكون أصل التعبير ( فاعلون الزكاة) ومعنى ( فعل الزكاة) زكّى، أو أخرج الزكاة، كما يقال للضارب فعل الضرب.

جاء في ( الكشاف ) : ( الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى. فالعين القدر الذي يخرجه المزكي من النصاب إلى الفقير. والمعنى: فعل المزكي الذي هو التزكية، وهو الذي أراده الله فجعل المزكين فاعلين له. ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل.
ويقال لمحدثه: فاعل، تقول للضارب: فاعل الضرب، وللقاتل: فاعل القتل، وللمزكي: فاعل التزكية، وعلى هذا الكلام كله.

والتحقيق أنك تقول في جميع الحوادث: من فاعل هذا؟ فيقال لك: فاعله الله أو بعض خلق الله. ولم يمتنع الزكاة الدالة على العين، أن يتعلق بها (فاعلون) لخروجها من صحة أن يتناولها الفاعل، ولكن لأن الخلق ليسوا بفاعليها ... ويجوز أن يراد بالزكاة العين، ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء).

وجاء في ( البحر المحيط): " والزكاة إن أريد بها التزكية صح نسبة الفعل إليها، إذ كل ما يصدر صح أن يقال فيه فعل. وإن أريد بالزكاة قدر ما يخرج من المال للفقير، فيكون على حذف: أي لأداء الزكاة فاعلون، إذ لا يصح فعل الأعيان من المزكي أو يضمن (فاعلون) معنى (مؤدون) وبه شرحه التبريزي".

ويصح أن تكون الزكاة بمعنى العمل الصالح وتطهير النفس، فيحتمل أن تكون اللام زائدة مقوية دخلت على المفعول به(الزكاة) فيكون معنى (فعل الزكاة) فعل العمل الصالح وتطهير النفس كما يقال: ( فعل خيراً، أو فعل شراً) فيكون معنى الآية: ( الذين هم فاعلون العمل الصالح وتطهير النفس) واللام زائدة في المفعول ويسمونها مقوية وهي تفيد توكيد الاختصاص في المفعول المقدم، أي: لا يفعلون إلا ذاك.

ويحتمل أن تكون اللام لام التعليل، أي: يفعلون من اجل الزكاة، أي: هم عاملون من أجل تزكية نفوسهم وتطهيرها والمفعول محذوف، فيكون الفعل عاماً، وهو كل ما يؤدي إلى الخير وتطهير النفس.

جاء في ( روح المعاني) : " وعن أبي مسلم، أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله تعالى: ( خيراً منه زكاة ). واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة، واللام للتعليل والمعنى: والذين يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله تعالى، أو يزكوا أنفسهم ... قال صاحب " الكشاف"، معنى الآية، الذين هن لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير. ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: ( قد افلح من تزكى، وذكر اسم ربه فصلى)، و( قد افلح من زكاها).

وجاء في ( البحر المحيط) : " وقيل ( للزكاة ) للعمل الصالح كقوله: ( خيراً منه زكاة )، أي: عملاً صالحاً. قاله أبو مسلم. وقيل: الزكاة هنا: النماء والزيادة. واللام، لام العلة ومعمول فاعلون محذوف. التقدير: والذين هم لأجل تحصيل النماء والزيادة فاعلون الخير".

فالزكاة إذن تحتمل العبادة المالية، وتحتمل العمل الصالح والتطهير والنماء، واللام تحتمل التقوية، وتحتمل التعليل، وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فهو يريد الذين يؤدون الزكاة، ويفعلون العمل الصالح، وتطهير النفس ويفعلون من أجل ذلك. ولا تجتمع هذه المعاني في أي تعبير آخر. فلو أبدل كلمة ( مؤتون ) مكان ( فاعلون ) لاقتصر الأمر على زكاة المال، ولو حذف اللام، لم يفد معنى التعليل، فانظر كيف جمع عدة معان بأيسر سبيل.

جاء في ( تفسير ابن كثير ) : " الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة، إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن اصل الزكاة كان واجباً بمكة .. وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة ههنا زكاة النفس من الشرك والدنس كقوله: ( قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها) .. وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل، هو الذي يفعل هذا وهذا ، والله أعلم".

وتقديم الزكاة للاهتمام والعناية والقصر، أي: لا يفعلون إلا الخير، والزكاة منها.

سؤال: لِمِ لم يقل الله تعالى: ( والذين هم للصلاة فاعلون) ، كما قال: ( والذين هم للزكاة فاعلون) ؟

الجواب:

أن إخراج النصاب إلى مستحقه كافٍ لأداء فريضة الزكاة، وليس وراءه شيء يتعلق بها، فإن لم يفعل ذلك فلا زكاة. أما فعل الصلاة من قيام وقعود وركوع وسجود مع هيئاتها الأخرى، فليس بكافٍ، بل ينبغي أن يكون مع ذلك خشوع وتدبر وحضور قلب وسنن، وآداب تكمل هذه الأفعال الظاهرة وتتمها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: " لك من صلاتك ما عقلت منها"، فاتضح الفرق بينهما".

أخوتي للمسات بقية ... إن كنا من أهل الدنيا.

أستدوع الله دينكم وآماناتكم.

الأمــل

الأمــل
09-09-2003, 10:15 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أخوتي وأحبتي الدرر...

لنكمل حديثنا بعد طول غياب .. فارجو المعذرة منكم..

( والذين هن لفروجهم حافظون(5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين(6) فم ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون(7) .

قيل: المعنى: أنهم ممسكون لفروجهم على أزواجهم، وما ملكت أيمانهم.

جاء في (البحر المحيط):" (حفظ) لا يتعدى بعلى...والأولى أن يكون من باب التضمين ضمن ( حافظون) معنى ممسكون أو قاصرون، وكلاهما يتعدى بعلى كقوله : ( أمسك عليك زوجك)".

وجاء في ( فتح القدير) : " ومعنى حفظهم لها أنهم ممسكون لها بالعفاف عما لا يحل لهم ... وقيل: إن الاستثناء من نفي الإرسال المفهوم من الحفظ. أي : يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم. وقيل: المعنى: إلا والين على أزواجهم وقوّامين عليهم".

إن اختيار هذا التعبير اختيار عجيب، وفيه آيات عظيمة لمن تدبر ونظر. ذلك أنه تعالى قال: ( والذين هم لفروجهم حافظون) ولم يقل (ممسكون) أو نحو ذلك مما فسر به. وفي اختيار ( الحفظ) سر بديع، ذلك أن الذي يمسك فرجه عما لا يحل يكون حافظاً لنفسه ولفرجه من الآفات والأمراض والأوجاع التي نصيبه، وهي أمراض وبيلة وخيمة العاقبة. ومن أرسله في المحرمات، فإنما يكون قد ضيعه وضيع نفسه.

جاء في الحديث:" لم تظهر الفاحشة في قوم قط، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا" (سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني).

واختيار: ( غير ملومين) في قوله: ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)، اختيار لطيف، ذلك أنه علاوة على ما يفيده ظاهر النص من أن الذي يبتغي وراء ما ذكر ملوم من نفسه ومن الناس لما يُحدث في نفسه وفيهم من أضرار وأمراض فهو يلوم نفسه على ما أحدث فيها من أوجاع وعاهات مستديمة، وعلى ما أحدث في زوجه وعائلته.

وحتى ولده الذي لا يزال جنيناً في بطن أمه قد يصيبه من عقابيل ذلك ما يجعله شقيا معذباً طوال حياته، وملوم من المجتمع على ما أحدثه في نفسه وعلى ما يحدث فيهم من أمراض معدية مهلكة. فمن حفظ فرجه فهو غير ملوم، وإلا فهو ملوم أشد اللوم.

ثم قال تعالى:
( فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون).

و(العادون) هم المعتدون، ومعنى الآية: أن هؤلاء هم " الكاملون في العدوان المتناهون فيه" . فإنه لم يقل : (فأولئك عادون) أو ( من العادين) بل قال تعالى : ( فأولئك هن العادون). للدلالة على المبالغة في الاعتداء من جهة أن العِرضِ أثمن وأغلى من كل ما يُعتدى عليه ويُنال منه، ومن جهة أن هؤلاء هم أولى من يوصف بالعدوان، لأنهم يعتدون على أنفسهم بما سيجرون عليها من وبال وأوجاع وعاهات مستديمة ، قد تصل إلى الجنون. ويعتدون على أزواجهم وعوائلهم، بما ينقلونه إليهم من هذه الأوجاع والأمراض، ويعتدون على أولادهم وعلى الجيل اللاحق من أبنائهم، ممن لم يظهر إلى الدنيا بما يُلحقونه بهم من هذه الآفات المستديمة، ويعتدون على المجتمع الذي يعيشون فيه، بما ينقلونه إليه من أمراض معدية مرعبة وما ( الإيدز) إلا واحد من هذه الأمراض الوبيلة المرعبة. أفهناك عدوان أوسع من هذا العدوان وأخطرمنه؟

نحن نعرف أن المعتدي قد يعتدي على بيت أو قبيلة، أما أن يمتد العدوان إلى الإنسان نفسه وأولاده وزوجه وربما إلى طبيبه الذي يعالجه، وإلى الجيل الذي الذي لم يظهر بعد، وإلى المجتمع على وجه العموم، فهذا شر أنواع العدوان وأولى بأن يوسم صاحبه به.

أفرأيت العلو في الاختيار والجلالة فيه،إنه لا يؤدي تعبير آخر مؤداه.

إنه تعالى لم يقل: ( فأولئك هم الضالون ) أو ( أولئك هم الخاطئون) أو ( الفاسقون)، وما إلى ذلك من أنهم منهم، لأن هذه الصفات فردية، وليس فيها إشارة إلى العدوانية، كما ليس فيها إشارة إلى الخطر الهائل الذي يحيق بالمجتمع من جراء ذلك.

هذا من جهة ومن جهة أخرى، إ نذلك أنسب مع قوله: ( غير ملومين) فإن المعتدي ملوم على عدوانه أكثر من صاحب الأوصاف الذي ذكرناها.

وهناك أمر آخر لاءم بين ذكر هذه الصفات، وهو أن الصفات المذكورة كلها ذات علاقة بالآخرين، وليست فردية، فالذي لا يحفظ فرجه، إنما يرسله فيما من أفراد المجتمع، وقوله: ( غير ملومين) كذلك فإن الملوم يقتضي لائماً، وقد فعل ما يقتضي اللوم من الآخرين د، وقوله: ( هم العادون) كذلك. فإن العادي يقتضي معتدى عليه، ولا يسمى عادياً حتى يكون ثمّة معتدى عليه. فالصفات هذه كلها كما ترى ليست فردية. فانظر التناسب بينها.

ثم انظر كيف اختار التعبير عن هذه الصفات بالصيغة الاسمية فقال: ( حافظون) و ( ملومين ) و ( العادون) للدلالة على ثبات هذه الصفات. فقوله: ( والذين هم لفروجهم حافظون)، يفيد ثبات الحفظ ودوامه وعدم انتهاكه على سبيل الاستمرار، لأن هذا لا ينبغي أن يخرم ولو مرة واحدة.

ومن فعل ذلك على وجه الدوام، فإنه غير ملوم على وجه الدوام، أيضاً فإن خالف لِيْمَ على ذلك. والذ يبتغي وراء ذلك، يلهث وراء الفاحشة، فهو معتدٍ على وجه الثبات أيضاً، وقد يثبت هذا العدوان، فلا يمكن إزالته أبداً، وذلك ببقاء آثاره على نفسه والآخرين.

فانظر رِفعة هذا التعبير وجلاله.

ثم قال تعالى بعدها:
( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .

وجهُ ارتباط هذه الآية بما قبلها ظاهر، إذ أن كلا من الفروج والأمانات ينبغي أن تحفظ وتصان وكذلك الأمانات؟ ومن لم يحفظ الأمانة والعهد، فهو ملوم كما هو شأن من لم يحفظ فرجه.ومن ابتغى ما لا يحل له من الفروج عادٍ، وكذلك الباغي على الأمانة عادٍ ظالم.

وقد قدم الأمانة على العهد، وجمع الأمانة وأفراد العهد.أما جمع الأمانة، فلتعددها وتنوعها فهي كثيرة جداً، فمن ذلك ما يُؤتمن عليه الشخص من ودائع الناس وأموالهم، ومنها ما يطلع عليه من أسرار الناس وأحوالهم، ومنها الأقوال التي يسمعها ويستأمن عليها مما لا يصح أن يذيعه منها، ومنها أن يودع شخص أهلا له عند شخصٍ حتى يعود ويقول له: هؤلاء أو صغاري عندك أمانة حتى أعود، أو حتى يكبروا، فهو يتولى أمرهم ويرعاهم، والزرع قد تجعله أمانة عند شخص فيرعاه ويتعهده ويحفظه، الحكم أمانة، والرعية أمانة عند أميرهم ومتولي أمرهم، والقضاء ثقيلة، والشرع أمانة ، قال تعالى : ( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال) الأحزاب/72.

جاء في البحر المحيط : " والأمانة الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر أو نهي، وشأن ودين ودنيا، والشرع كله أمانة، وهذا قول الجمهور ولذلك قال أبي بن كعب: منالأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها".

وفي الحديث ( المؤذن مؤتمن) يعني : أن المؤذن أمين الناس على صلاتهم وصيامهم، فصلاة الناس وصيامهم أمانة عنده. وفي الحديث أيضاً: ( المجالس بالأمانة) و" هذا ندب إلى ترك إعادة ما يجري في المجلس من قولٍ أو فعل، فكان ذلك أمانة عند من سمعه أو رآه. والأمانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والثقة والأمان، وقد جاء في كل منها حديث". وفي الحديث: " الإيمانُ أمانة ولا دِين لمن لا أمانة له". وفي حديث آخر: " لا إيمان لمن لا أمانة له". أي: أهلك، ومن تخلفه بعدك منهم، ومالك الذي تودعه".

جاء في ( روح المعاني) في قوله تعالى: ( والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون) : " الآية عند أكثر المفسرين عامة في كل ما ائتُمِنوا عليه، وعوهدوا من جهة الله تعالى، ومن جهة الناس كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والأيمان والنذور والعقود ونحوها. وجمعت الأمانة دون العهد قيل: لأنها متنوعة متعددة جداً بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى، ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك ولا كذلك العهد".

وجاء فيه ايضاً:" وكأنه لكثرة الأمانة، جُمعت ولم يُجمع العهدُ، قيل: إيذاناً بأنه ليس كالأمانة كثرة، وقيل : لأنه مصدر، ويدل على كثرة الأمانة ما روى الكلبي: كل أحد مؤتمن على ما افترض عليه من العقائد والأقوال والأحوال والأفعال، ومن الحقوق في الأموال، وحقوق الأهل والعيال وسائر الأقارب والمملوكين والجار وسائر المسلمين. وقال السدي: إن حقوق الشرع كلها أمانات قد قبلها المؤمن وضمن أداءها بقبول الإيمان. وقيل : كل ما أعطاه الله تعالى للعبد من الأعضاء وغيرها أمانة عنده، فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله، وأذن سبحانه له به، فقد خان الأمانة".

فقد رأيتُ( المؤلف) من تعددها وتنوعها وتشعبها، ما يدعو إلى جمعها وليس كذلك العهد، فأفرد العهد وجمع الأمانة. وأما تقديمهاعلى العهد، فلأهميتها كما رأيت، وحسب ذلك أن تكون الشرع كله كما مر، وحسبك من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: " الإيمان أمانة، ولا دين لمن لا أمانة له". وقوله: " لا إيمان لمن لا أمانة له".

وجاء في ( فتح القدير): " والأمانة أعم من العهد، فكل عهد أمانة".

أما اختيار كلمة ( راعون) مع الأمانة والعهد دون ( الحفظ) الذي استخدم مع الفروج، فله سبب لطيف ذلك أن ( راعون) اسم فاعل من ( رعى) وأصل الرعي حفظ الحيوان، وتولي أمره وتفقد شأنه.

جاء في ( الكشاف) : " والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح، كراعي الغنم وراعي الرعية. ويقال: من راعي هذا الشيء؟ أي: متوليه وصاحبه".

وجاء في ( روح المعاني) تفسير( راعون): " قائمون بحفظها وإصلاحها. وأصل الرعي، حفظ الحيوان، إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه، ثم استعمل في الحفظ مطلقاً".

فالرعي ليس مجرد الحفظ، بل هو الحفظ والإصلاح والعناية بالأمر وتولي شأنه، وتفقد أحواله وما إلى ذلك. وهذا ما يتعلق بالأمانة كثيراً وليس مجرد الحفظ كافياً. فمن ائتمن عندك أهله وصغاره، فلا بد أن تتفقد أمورهم وتنظر في أحوالهم وحاجاتهم علاوة على حفظهم، وكذلك من تولى أمر الرعية، ونحوه من اؤتمن على زرع أو ضرع، وكذلك ما حمّله الله للإنسان من أمر الشرع يحتاج إلى قيام به وتحر للحق فيما يرضي الله وما إلى ذلك من أمور لا يصح معها مجرد الحفظ، فالرعاية أشمل وأعم.

ثم إن هناك فرقاً آخر بين رعي الأمانة وحفظ الفروج ، ذلك أن الفروج جزء من الإنسان، وهي لا تند عنه، أما الأمانات فقد تكون في أماكن متعددة، وربما تكون أماكن حفظها نائية عنه، فهي تحتاج إلى تفقد ورعاية كما يحتاج الحيوان إلى حفظه من الذئاب والوحوش الضارية. وقد يصعب على الإنسان المحافظة على الأمانة، من العادين واللصوص فيضطر إلى تخبئتها في أماكن لا ينالها النظر ولا يطولها التفتيش، فكان على المؤتمن أن ينظر في حفظها كما ينظر الراعي في أمر ما يرعاه. فاختيار الرعي لها أنسب من الحفظ.

ثم إن اختيار كلمة (يرعون) ذلك ليدل على لزوم ثبات الرعي ودوامه وعدم الإخلال به البتة.
وأما تقديم الأمانة والعهد على ( راعون) فللاهتمام والعناية بأمرهما، وللدلالة على أنهما أولى ما يُرعى في هذه الحياة.

وزيادة اللام، تفيد الزيادة في الاختصاص وتوكيده. و تفيد فائدة أخرى إلى جانب ما ذكرت، ذلك أن كلمة ( الراعي) قد تكون بمعنى الصاحب، تقول: ( من راعي هذه الدار؟) و( من الراعي لهذه الدار ؟) أي: من صاحبها ومتولي أمرها؟

فيكون المعنى على هذا: والذين هم أصحاب الأمانات والعهود، أي: هم أهلها ومتولوها. ولو قيل بدل ذلك: الذين هم يرعون الأمانة والعهود، لم تفِد هذه الفائدة الجليلة.

ولنا لقاء آخر مع آية أخرى في هذه السورة .. بإذن الله ..

لكم كل الود والفائدة

الأمــل

الأمــل
19-09-2003, 10:30 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

أخوتي الدرر .. أكمل معكم ما تبقى من السورتين:

( والذين هم على صلواتهم يحافظون)

فختم بالمحافظة على الصلاة، وهي آخر ما يُفقد من الدين، كما في الحديث الشريف، فلعل الختم بالمحافظة عليها إشارة إلى ذلك، أي أنها خاتمة عُرى الإسلام.

إذ ذكر الصلاة في البدء والخاتمة تعظيم لأمرها أيما تعظيم.

جاء في ( روح المعاني): " وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها. وتقديم الخشوع للاهتمام به، فإن الصلاة بدونه كلا صلاةٍ بالإجماع، وقد قالوا: صلاة بلا خشوع جسد بلا روح".
فقد بدأ بالخشوع في الصلاة، وكأنه إشارة إلى أول ما يرفع، وختم بالمحافظة عليها إشارة إلى آخر ما يبقى، والله أعلم.

والخشوع غير المحافظة، فالخشوع أمر قلبي متضمن للخشية والتذلل، وجمع الهمة والتدبر، وأمرٌ بدني وهو السكون في الصلاة كما سبق ذكره فهو صفة للمصلي في حال تأدية لصلاته. وأما المحافظة فهي المواظبة عليها، وتأديتها في أوقاتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وإقامة أركانها وإتمام ركوعها وسجودها وقراءتها والمشروع من أذكارها، وأن يوكلوا نفوسهم بالاهتمام بها، وبما ينبغي أن تتم به أوصافها.

وقيل: " المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها".

وكل ذلك مراد، لأنه من المحافظة عليها.

ذكرت الصلاة أولاً بصورة المفرد ليدل ذلك على أن الخشوع مطلوب في جنس الصلاة، ففي كل صلاة ينبغي أن يكون الخشوع، أيا كانت الصلاة فرضاً أو نافلة، فالصلاة ههنا تفيد الجنس.

وذكرت آخراً بصورة الجمع للدلالة على تعددها من صلوات اليوم والليلة إلى صلاة الجمعة والعيدين وصلاة الجنازة، وغيرها من الفرائض والسنن، فالمحافظة ينبغي أن تكون على جميع أنواع الصلوات.

جاء في ( الكشاف) : " وقد وُحدت أولا ليفاد الخشوع في جنس الصلاة، أي صلاة كانت، وجُمعت آخراً لتفاد المحافظة على أعدادها وهي: الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة على كل صلاة، وصلاة الجمعة والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف، وصلاة الضحى والتهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل".

واستعمال الجمع مع المحافظة أنسب شيء للدلالة على المحافظة عليها بأجمعها. وقد جيء بالفعل المضارع، فقال: ( والذين هم على صلواتهم يحافظون)، بخلاف ما مرّ من الصفات للدلالة على التجدد والحدوث، لأن الصلوات لها مواقيت وأحوال تحدث وتتجدد فيها فيصلي لكل وقت وحالة، فليس فيها من الثبوت ما في الأوصاف التي مرت، فهناك فرق مثلا بينها وبين قوله: ( الذين هم في صلاتهم خاشعون)، لأن الخشوع ينبغي أن يكون مستمراً ثابتاً في الصلاة لا ينقطع، فهو صفة ثابتة فيها.وكذلك قوله: ( والذين هم عن اللغو معرضون) فإنه ينبغي أن يكون الإعراض عن اللغو دائماً مستمراً لا ينقطع، وكذلك قوله: ( والذين هم لفروجهم حافظون) فإن حفظ الفروج ثابت دائم.

وأما العطف بالواو في كل صفة من هذه الصفات، فللدلالة على الاهتمام بكل صفة على وجه الخصوص، وهذا ما تفيده الواو من عطف الإخبار والصفات.

وكذلك ذكر الاسم الموصول مع كل صفة، فإنه يدل على الاهتمام والتوكيد، فإنه لم يقل مثلاً: ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، وعن اللغو معرضون وللزكاة فاعلون...الخ) بل كرر الموصول مع كل صفة للدلالة على توكيد هذه الصفات، وأهمية كل صفة.

جاء في ( تفسير فتح القدير): " وكرر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته، يستحق أن يستقل بموصوف متعدد".

ثم قال بعد ذلك:

( أولئك هم الوارثون ).

فجاء بضمير الفصل والتعريف في الخير، للدلالة على القصر، أي: هؤلاء الجامعون لهذه الأوصاف، هم الوارثون الحقيقيون وليس غيرهم. ثم فسر هذا الإبهام، فبين ماذا يرثون،/ فقال: (الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) ففي هذا الإبهام ثم الإيضاح بعده من الفخامة ما فيه.

جاء في الكشاف: " ( أولئك) الجامعون لهذه الأوصاف ( هم الوارثون) الأحقّاء بأن يسموا وُرّاثاً دون
من عداهم. ثم ترجم الوارثين بقوله: ( الذين يرثون الفردوس) فجاء بفخامة وجزالة لأرثهم لا تخفي على الناظر).

ثم انظر إلى تقديم الجار والمجرور على الخبر، في قوله : " هم فيها خالدون". للدلالة على القصر وتناسب ذلك مع التقديم في الأوصاف السابقة: في صلاتهم خاشعون، للزكاة فاعلون، لفروجهم حافظون، لأماناتهم وعهدهم راعون، فجازاهم من جنس عملهم، فإن أولئك الذين قصروا أعمالهم على الخير، قصر الله خلودهم في أعلى الجنة، وهو الفردوس، فلا يخرجون عنه إلى ما هو أدنى درجة منه، فكان خلودهم في الفردوس لا في غيره. والفردوس أعلى الجنة وأفضلها ومنه تتفجر أنهار الجنة كما في الحديث.

من سورة المعارج، الآيات (19-35)

قال تعالى:

http://quran.al-islam.com/GenGifImages/Normal/442X500-0/70/19/1.png
قال تعالى : ( إن الإنسان خلق هلوعاً).

بنى الفعل ( خلق) للمجهول، وذلك أن المقام مقام ذم لا تكريم. مقام ذكر جانب مظلم من طبيعة البشر. والله سبحانه لا ينسب الفعل إلى نفسه في مقام السوء والذم.

قال تعالى: ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) التين/4. فنسب الفعل إلى ذاته في مقام المدح. وقال: ( ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ) الأعراف/11.

وقال: ( وممن خلقننا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)الأعراف/18. في حين قال: ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً)النساء/28. وقال: ( خلق الإنسان من عجل)الأنبياء/37. وقال: (إن الإنسان خلق هلوعا) المعارج/19.

والهلع فسّره ربنا بقوله: ( إذا مسه الشر جزوعا() وإذا مسه الخير منوعا)، فهو الجزع عند مس الشر والمنع عند مس الخير.

جاء في الكشاف : " الهلع سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير....و( الخير) : المال والغنى. و( الشر) : الفقر، أو الصحة والمرض. إذا صح الغني منع المعروف وشح بماله، وإذا مرض جزع وأخذ يوصي".

وجاء في تفسير ابن كثير: "أي: إذا مسه الضر فزع وجزع وانخلع قلبه من شدة الرعب، وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير. ( وإذا مسه الخير منوعاً) أي: إذا حصلت له نعمة من الله، بخل بها على غيره، ومنع حق الله –تعالى-فيها".

وجاء في فتح القدير: " قال في الصحاح: الهلع في اللغة: أشد الحرص وأسوا الجزع وأفحشه....أي: إذا اصابه الفقر والحاجة، أو المرض ونحو ذلك، فهو جزوع، أي كثير الجزع. وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة ونحو ذلك، فهو كثير المنع والإمساك".

والجزع ضد الصبر ونقيضه، وقد قابله الله بالصبر فقال: ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص)إبراهيم/21. وجاء في ( لسان العرب):" الجزوع ضد الصبور على الشر، والجزع نقيض الصبر...وقيل: إذا كثر منه الجزع، فهو جزوع وجُزاع".

وقد بدأ بالشر قبل الخير، فقال: ( إذا مسه الشر جزوعا() وإذا مسه الخير منوعا() وذلك لأن السياق يقتضي ذلك، فقد بدأت السورة بالعذاب، وهو قوله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع). وذكر قبل هذه الآية مشهداً من مشاهد العذاب، فقال: ( يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه () وصاحبته وأخيه() ....كلا إنها لظى () نزاعة للشوى).

فالمناسب إذن هو البدء بالشر، وهو الذي يقتضيه السياق وجو السورة. قالإنسان خلق هلوعا لا يصبر إذا مسه الشر بل يجزع. وبر ذكر الجزع ههنا وهو عدم الصبر مناسب لقوله تعالى في أوائل السورة: ( فاصبر صبراً جميلاً). فهو يأمر نبيه بالصبر الجميل. والصبر طارد للجزع المقيت الذي طبع عليه الإنسان وتحرر منه من أراد الله له الخير.

واستثنى من الاتصاف بصفة الهلع هذه بشقيها: الجزع والمنع للخير، من ذكرهم بعد هذه الآية بقوله: ( إلا المصلين () الذين هم على صلاتهم دائمون).

والدوام على الصلاة معناه المواظبة عليها والانهماك حتى تنتهي، وعدم الانشغال عنها، وليس المراد أنهم يصلون أبدا.

جاء في ( البحر المحيط): " ديمومتها، قال الجمهور: المواظبة عليها.

وقال ابن مسعود: صلاتها لوقتها.

وقال عقبة بن عامر: يقرون فيها ولا يلتفتون يميناً ولا شمالاً".

وجاء في ( فتح القدير) : " أي لا يشغلهم عنها شاغل، ولا يصرفهم عنها صارف، وليس المرالين).د بالدوام أنهميصلون أبداً".

وقد فرق صاحب ( الكشاف): بين الدوام والمحافظة على الصلاة، فقال: " فإن قلت: كيف قال: ( الذين هم على صلاتهم دائمون) ؟ قلت: معنى دوامهم عليها: أن يواظبوا على أدائها لا يخلون بها، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أفضل العمل أدومه وإن قل"...

ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها، ومواقيتها ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم. فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات والمحافظة على أحوالها".

وهذه الآية مرتبطة بقوله تعالى قبل هذه الآيات في صفة جهنم: ( تدعوا من أدبر ونولى) ومرتبطة بقوله تعالى: ( إن الإنسان خلق هلوعا).

أما ارتباطها بقوله : ( تدعوا من أدبر وتولى) فهو واضح، فإن ذلك الذي تدعوه جهنم، قد أدبر عن الطاعة وتولى عن الحق، وهذا مقبل على الطاعة، مواظب عليها، لا يلتفت عنها، فهو ناج من عذاب جهنم. ثم انظر إلى قوله تعالى: ( تدعوا من أدبر وتولى) فقد ذكر أمراً ووكّده فقال: ( تدعوا من أدبر وتولى) وقابله بقوله: (إلا المصلين).

وقال: ( وتولى) وهو توكيد للإدبار والانصراف عن الطاعة، وقابله بقوله: ( الذين هم على صلاتهم دائمون) أي: منقلبون على الطاعة مستمرون عليها. فهو مرتبط بها أحسن ارتباط. وهذا الصنف مقابل لأولئك المدبرين العصاة.

وأما ارتباطها بقوله: ( إن الإنسان خلق هلوعا) فهو أجمل ارتباط وأحسنه ذلك أن الدوام على الصلاة علاج للجزع، وعلاج لمنع الخير. فإن الجزوع شخص لا يصبر.

وعلاج هذه الصفة أن يتعلم الصبر ويتعوده، والدوام على الصلاة والمواظبة عليها والاستمرار عليها من أحسن ما يعوّد على الصبر، فإن هذه الأعمال تقتضي صبراً متواصلاً، ولذا لا يدوم، عليها كثير من الناس، فهم يصلون ولكن لا يدوم، عليها كثير من الناس، فهم يصلون ولكن لا يدومون على صلاتهم، بل ينشغلون عنها بأنفسهم وقلوبهم وتسرح في دواخلهم صوارف تنال كثيراص من صلاتهم. فالدوام عليها علاج من أنجع الأدوية للتعويد على الصبر والمعافاة من الجزع.

وهي كذلك علاج لمنع الخير ذلك أن الدائم في صلاته يتعود أن يعطى من نفسه ووقته لربه، بل يعطيه نفسه كلها ووقته في الصلاة، وأن يتحرر من العبودية لرغبته وشهوته فيدوم على أمر ليس في مصلحة دنيوية ظاهرة له، بل قد تفوّت عليه شيئاً عاجلاً كما ذكر ربنا في قوله في صلاة الجمعة: ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها)الجمعة/11.

فالدوام على الصلاة علاج ناجع لهذه النفوس الجاسية لتسمح من وقتها ومالها وكل ما يربطها برغباتها وشهواتها، ولذا لم يكتف بقوله: ( إلا المصلين) بل قال: ( الذين هم على صلاتهم دائمون).

وللموضوع بقية .. أكمله في وقت لاحق .. بإذن الله ..

أجمل تحياتي .. ودمتم على الخير ..

الأمـل

إشراقة أمل
20-09-2003, 04:11 PM
جزاك الله خير الجزاء أختي الأمل..


ولا حرمنا إبداعاتك..


أختك

:SMIL:
إشراقة أمل

الأمــل
23-09-2003, 02:01 PM
ويجزيك الخير إشراقتي الجميلة على دعواتك الطيبة ..

لا حرمني الله وجودك .. ودعواتك .. وإشراقتك البهية ..

دمتِ أختي في الله .. أسعد بوجودها .. ووفقك لكل خيرٍ يرضاه ..

الأمــل

الأمــل
13-12-2003, 02:04 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،

طال غيابي هنا.. فللجميع بالغ معذرتي .. وأكمل ما قد بدأت به في رحاب السورتين ...

*

ثم قال بعد ذاك:

( والذين في أموالهم حق معلوم() للسائل والمحروم).
قيل: إن المراد بالحق المعلوم الزكاة لأنها مقدرة معلومة، وقيل: غير ذلك.
وعلى أية حال فإن هؤلاء وضعوا في أموالهم حقاً معلوماً لمستحقه. هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى في أصحاب جهنم: ( وجمع فأوعى) ومرتبطة بقوله تعالى: ( وإذا مسه الخير منوعاً).

أما ارتباطها بقوله تعالى: ( وجمع فأوعى) فهو ظاهر، ذلك أن الله وصف أصحاب جهنم بقوله: ( تدعوا من أدبر وتولى () وجمع فأوعى)، ومعنى جمع فأوعى: أنه جمع المال بعضه على بعض فأوعاه، أي: فجعله في وعاء وكنزه ومنع حق الله الواجب فيه من مستحقيه. أما هؤلاء المعافون من النار، فقد جعلوا في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، فهم لم يمنعوا حق الله، فلم يكونوا ممن أدبر وتولى وجمع فأوعى.

وأما ارتباطها بقوله تعالى: ( وإذا مسه الخير منوعاً)، فهو ظاهر أيضاً ذلك أن معنى ( وإذا مسه الخير منوعاً) أنه إذا أصابه الخير والمال والغنى بخل ومنع حق الله تعالى فيه كما ذكرنا.

وهؤلاء جعلوا في أموالهم حقا معلوماً للسائل والمحروم فهم معافون مستثنون من صفة الهلع: المذكورة؛ بل إنهم مستثنون من صفة الهلع بشقيها: الجزع عند مس الشر والمنع عند مس الخير. ذلك أن قسماً من البخلاء إذا خرج شيء من مالهم، جزعوا وحزنوا كأنما حلت بهم مصيبة، وكأن المال ألصق بقلوبهم من أي شيء آخر، فهؤلاء الذين جعلوا في أموالهم حقاً معلوماً للسائل والمحروم، لم يجزعوا عند خروج المال منهم ولم يعقبوه أنفسهم، ولم يمنعوا السائل والمحروم منه؛ فإخراج المال إلى الفقراء والمساكين علاج وشفاء لهذا الداء الوبيل.

وهناك لمسة فنية لطيفة في اختيار نوع العذاب في هذا السياق، ذلك أنه قال: ( كلا إنها لظى ()نزاعة للشوى () تدعوا من أدبر وتولى () وجمع فأوعى )

ومن معاني (الشوى) جلد الإنسان فهي، أي: جهنم تنزع جلد الإنسان وتُبقي الأحشاء بلا جلد. والجلد للأحشاء كالوعاء للمال يحفظ ما في داخله، ولا شك أن جلده ووعاء نفسه أحب إليه من المال ومن كل شيء، ألا ترى أنه يقال للمطلوب: ( انج بجلدك)؟ فانظر التناسق الجميل بين المعصية والعذاب، والجزاء من جنس العمل.

ثم قال بعد ذلك:

ويوم الدين يوم القيامة، واختيار ذكر التصديق بيوم الدين دون غيره من أركان الإيمان ههنا له سببه، ذلك أن جو السورة في الكلام على هذا اليوم، فقد قال في أوائل السورة: ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) وهذا اليوم هو يوم القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح.

وقال عن هذا اليوم: ( إنهم يرونه بعيدا () ونراه قريباً () أي: أن الكفار يستعبدون وقوعه ويرونه محالاً، في حين أن هؤلاء المعافين يصدقون به.

وقال تعالى: ( يوم تكون السماء كالمهل () وتكون الجبال كالعهن)، وقال تعالى: ( فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون () يوم يخرجون من الأجداث سراعاً كأنهم إلى نصب يو فضون () خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون).

فجو السورة والسياق في الكلام على يوم الدين، وختم السورة بالكلام عليه، فكان مناسباً لأن يخصه بالذكر من بين أركان الإيمان الأخرى، فقال تعالى: ( والذين يصدقون بيوم الدين).

ثم قال: ( والذين هم من عذاب ربهم مشفقون () إن عذاب ربهم غير مأمون )

وذكر الإشفاق من العذاب مناسب لجو السورة أيضاً، فإن السورة مشحونة بذكر العذاب والكلام عليه فقد بدئت السورة به، فقال في أول سورة : ( سأل سائل بعذاب واقع () للكافرين ليس له دافع ) وقال في خاتمتها: ( خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ) كما ذكر فيها مشهداً آخر من مشاهد العذاب، فقال: ( يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه () وصاحبته واخيه () وفصيلته التي تئويه () ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه () كلا إنها لظى () نزاعة للشوى () تدعوا من أدبر وتولى () وجمع فأوعى) .
فاختيار الإشفاق من العذاب أنسبُ اختيارٍ ههنا.

ولا شك أن الذين يصدقون بيوم الدين، ويخشون عذاب ربهم مستثنون معافون من صفة الهلع. فالتصديق بيوم الدين مدعاة للطمأنينة والأمن في النفوس، فهو يصبر إذا مسه الشر احتساباً لأجر ذلك عند الله، وأنه سيعوضه خيراً مما فقد أو مما ابتلي به، وإذا مسه الخير، لا يمنع، لأن الله سيعطيه أضعاف ما يعطي.

ثم قال بعد ذلك: ( والذين هم لفروجهم حافظون() إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين() فمن ابتغى وراء ذلك فألئك هم العادون).

وقد مر تفسير ذلك في آيات سورة ( المؤمنون) فلا حاجة إلى إعادة ما مر.
غير أن الذي نقوله ههنا: إن هذه الآيات مرتبطة بما قبلها أجمل ارتباط.وهي مع ما ذّكِر معها من الأوصاف منجاة من الهلع وعلاج له.

ذلك أن الذي يصبر على شهوته ولا يندفع وراء رغبته يعوّد نفسه على الصبر، فلا يجزع إذا رأى ما يستثير شهوته ثم لا يلهث وراءها حتى يهتبل هذه الفرصة للتلذذ بها.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إن حفظ الفروج وعدم إرسالها إلا على مستحقيها، أولى من حفظ المال وكنزه ومنع مستحقة منه.

ثم قال:

( والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)

وقد مر ذلك في آيات سورة ( المؤمنون).

وهذا علاج للهلع أيضاً، ذلك أن الأمانة والعهد ربما يُلحقان بالمؤتمن ضرراً من سلطة أو مُنفّذ، ذلك لأن صاحب الأمانة قد يكون مطلوباً لهما فالمؤتمن كأنه يعينه على ما هو عليه أو لغير ذلك من الأسباب. وقد يُفوتان عليه خيراً كبيراً وهو مع ذلك يفي بالعهد ويؤدي الأمانة موطناً نفسه على الصبر على ما سيحيق به محتسباً أجر ما يفوته من الخير العاجل عند الله. ولا شك أن هذا مما يكسر الهلع ويضعفه ويعافي منه.

ثم قال:

( والذين هم بشهاداتهم قائمون)

" والشهادة من جملة الأمانات وخصها من بينها، إبانة لفضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وتصحيحها وفي زيّها تضييعها ولإبطالها". ( الكشاف 3/ 269).

والقيام بالشهادة معناه: إقامتها على" من كانت عليه من قريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها"( فتح القدير 5/284). ولا يخفون ما علموه منها.

والإتيان بها مجموعة إشارة " إلى اختلاف الشهادات وكثرة ضروبها، فحسن الجمع من جهة الاختلاف".( التفسير الكبير 30/ 131).

والقيام بالشهادات من أنفع الأشياء في علاج الهلع بشقيه، ذلك أن القيام بالشهادة، قد يعرض صاحبها للأذى والنيل منه أو قد يُفوّت عليه فرص الخير المادي، والنفع العاجل، فالقيام بها توطين للنفس على استقبال الشر والصبر عليه، وتوطين لها على السماح بالخير، وبذله وعدم منعه.

ثم قال بعد ذلك:

( والذين هم على صلاتهم يحافظون)

فختم بالمحافظة على الصلاة، كما افتتح بالدوام عليها، وهذا نظير ما جاء في سورة ( المؤمنون) من الافتتاح بالصلاة والختم بها.

والمحافظة على الصلاة غير الدوام عليها:" فإن معنى الدوام هو أن لا ينشغل عنها بشيء من الشواغل"(فتح القدير 5/ 285). وأن ينهمك بها ويواظب على أدائها. أما المحافظة عليها فتعني مراعاة شرائطها وإكمال فرائضها وسننها وأذكارها، كما سلف وبيان ذلك.

وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح فهي مرتبطة بقوله: ( وجمع فأوعى ) ذلك أن القصد من جعل المال في وعاء، هو المحافظة عليه. والصلاة أدعى وأولى بالمحافظة عليها.

ومرتبطةٌ بصفة الهلع أيضاً ذلك أنها علاج لهذه الصفة المستهجنة بشقيها. فالمحافظة على الصلاة في مختلف الأوقات وتباين الأزمان في أوقات الرخاء والشدة، والعسر واليسر، والمرض والعافية، والشر والخير من المنجيات من هذه الصفة، ذلك أن المحافظة عليها تحتاج إلى الصبر الطويل، لذلك قال تعالى:" وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها" طه/132.وتحتاج إلى البذل والسماح بالخير، وقد وصف الله تعالى رجالاً من المؤمنين بقوله: ( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة )النور/37.فالصلاة إذا حضرت أهم من التجارة والبيع، فهم يفرطون بالصفات واحتمال الربح في جنب الصلاة.
إن الصفات المذكورة أنفع علاج لصفة الهلع المقيت، وإن القائمين بهذه الصفات إنما هم ناجون منها مستثنون من أهلها معافون من بلواها.

ثم قال بعد ذلك:

( أولئك في جنات مكرمون)

وقد تقول: ولماذا قال في آيات ( المؤمنون) : ( أولئك هم الوارثون(10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون(11)، وقال ههنا: ( أولئك في جنات مكرمون)؟

فذكر هناك أنهم يرثون الفردوس، والفردوس أعلى الجنة وربوتها، وأفضلها، ومنه تنفجر أنهار الجنة. ثم ذكر أنهم خالدون. في حين قال هنا أنهم في جنات، ولم يقل أنهم في أعلى الجنان، كما لم يقل أنهم فيها خالدون كما قال في الأولين.

ونظرة إلى ما في النصين توضح سبب ذلك.

إن آيات سورة ( المؤمنون) في ذكر فلاح المؤمنين وآيات سورة المعارج في ذكر المعافين من الهلع وقد جعل كل صفة في موطنها.

1- فقد قال سورة ( المؤمنون): ( قد أفلح المؤمنون) فذكر صفة الإيمان على وجه العموم.
وقال في آية المعارج: ( والذين يصدقون بيوم الدين) فذكر ركناً من أركان الإيمان، وهو التصديق بيوم الدين. وثمة فرق بين الحالين:

جاء في روح المعاني في قوله تعالى: ( قد افلح المؤمنون ) " والمراد بالمؤمنين قيل: إما المصدقون بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة، والحشر الجسماني والجزاء ونظائرها".
فذكر في آية ( المؤمنون) المؤمنين بيوم الدين وغيره، وذكر في سورة المعارج التصديق بيوم الدين. فما ذكره في سورة ( المؤمنون) أكمل.

2- قال في آية ( المؤمنون): ( الذين هم في صلاتهم خاشعون).
وقال في آية( المعارج): ( الذين هم على صلاتهم دائمون).
والخشوع اعم من الدوام ذلك أنه يشمل الدوام على الصلاة، وزيادة فهو روح الصلاة، وهو من أفعال القلوب والجوارح من تدبر وخضوع وتذلل وسكون وإلباد بصر وعدم التفات. والخاشع دائم على صلاته منهمك فيها حتى ينتهي.

3- قال تعالى في (المؤمنون): ( والذين هم عن اللغو معرضون) وهو كل باطل من كلام وفعل وما توجب المروءة إطراحة كما ذكرنا.

ولم يذكر مثل ذلك في سورة المعارج، فهذه صفة فضل لم ترد في المعارج.

4- قال تعالى في ( المؤمنون): ( والذين هم للزكاة فاعلون).
وقال في سورة المعارج: ( والذين في أموالهم حق معلوم(24) للسائل والمحروم).
وما في سورة ( المؤمنون) أعم واشمل إذ الزكاة تشمل العبادة المالية كما تشمل طهارة النفس فهي أعلى مما في المعارج وأكمل فإنه ذكر في المعارج أنهم يجعلون في أموالهم حقاً للسائل والمحروم. أم الزكاة فإمها تشمل أصنافاً ثمانية وليس للسائل والمحروم فقط، هذا علاوة على ما فيها من طهارة النفس وتزكيتها كما سبق تقريره.

5- قال تعالى في سورتي ( المؤمنون والمعارج: ( والذين هم لفروجهم حافظون(5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين(6) فمن ابتغى وراء ذلك فألئك هم العادون(7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون).

6- قال تعالى في آية المعارج: ( والذين هم بشهاداتهم قائمون).
ولم يذكر ذلك في آيات ( المؤمنون) ذلك أنه في سياق المعافاة من الهلع.

7- قال تعالى في ىيات ( المؤمنون): ( والذين هم على صلواتهم يحافظون) بالجمع.
وقال في المعارج: ( والذين هم على صلاتهم يحافظون) بإفراد الصلاة.

والصلوات أعم من الصلاة وأشمل. والمحافظة على الصلوات أعلى من المحافظة على الصلاة لما فيها من التعدد والتنوع والفرائض والسنن.

فلما كانت الصفات في ىيات سورة المؤمنون أكمل وأعلى كان جزاؤهم كذلك، فجعل لهم الفردوس ثم ذكر أنهم خالدون فيها، في حين قال في سورة المعارج: ( أولئك في جنات مكرمون) ولم يذكر أنهم في الفردوس، ولم يذكر الخلود؛ فهنا ناسب كل تعبير موطنه.

كما نجد أنه ذكر في سورة المؤمنون بأن المؤمنين هم المصدقون بيوم الدين وزيادة، وذكر الخشوع في الصلاة، وهو الدوام عليها وزيادة، وذكر فعلهم للزكاة وهي العبادة المالية وزيادة. ومستحقوها هم السائل والمحروم وزيادة، وذكر الإعراض عن اللغو وهو زيادة . وذكر الصلوات وهي الصلاة وزيادة، ثم ذكر الفردوس وهي الجنة وزيادة في الفضل والمرتبة، وذكر الخلود فيها وهو والإكرام وزيادة.
فما أجمل هذا التناسب والتناسق، فسبحان الله رب العالمين.

*

*

الموضوع القادم سيكون من سورتي الطور والقلم ..بإذن الله .

تقبلوا وافر تقديري واحترامي ..ونفعنا الله بما نقرأ..

الأمــل

الأمــل
21-12-2003, 09:43 AM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

صباحكم ورد ..

موضوعنا اليوم سيكون بإذن الله (في سورتي الطور والقلم )، وإليكم ما جاء في الكتاب في صدد السورتين:

قال تعالى في سورة الطور: ( فذكر فما أنت بنعمت ربك بكاهن ولا مجنون(29).

وقال في سورة القلم: ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون(2).

فزاد قوله: ( بكاهن ) على ما في سورة القلم، فما سبب ذاك؟


والجواب: أن هناك أكثر من سبب دعا إلى هذه الزيادة:

1- منها أنه فصّل في سورة الطور في ذكر أقوال الكفرة في الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكروا أنه كاهن، وذكروا أنه مجنون، وأنه شاعر ( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون(30)، وقالوا: إنه كاذب ( أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون(33).
في حين لم يذكر غير قوله إنه مجنون في سورة القلم: ( ويقولون إنه لمجنون) فناسب ذكر هذه الزيادة في سورة الطور.

2- ومنها أنه ذكر في سورة الطور قوله: ( أم لهم سلم يستمعون فيه فليأتِ مستمعهم بسلطان مبين(38) والاستماع مما تدّعيه الكهنة لتابعيهم من الجن، فناسب ذلك ذكر الكهنة فيها.

3- ومنها أنه ذكر السحر في سورة الطور، فقال: ( أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون(15) فناسب ذكر السحر ذكر الكهنة.

4- ومما حسّن ذلك أيضًا أنه توسع في القسم في أول سورة الطور بخلاف سورة القلم، فقد قال: ( والطور (1) وكتاب مسطور (2) في رق منشور (3) والبيت االمعمور (4) والسقف المرفوع (5) والبحر المسجور (6)
في حين لم يقسم في سورة القلم إلا بالقلم وما يسطرون. فناسب التوسع في الطور هذه الزيادة.

5- ذكر في سورة القلم في آخر السورة قول الكفرة، إنه لمجنون ولم يزد على هذا القول فقال: ( ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون ) فردّ عليهم في أول السورة بنفي الجنون عنه فقال: ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) فناسب آخر السورة أولها.
وكذلك لننظر من ناحية أخرى كيف ناسب التأكيد بالباء الزائدة في النفي (بمجنون) التوكيد باللام في الإثبات (لمجنون) لأن الباء لتوكيد النفي واللام لتوكيد الإثبات. والله أعلم.

الموضوع القادم سيكون – بإذن الله – ( من سورة القمر ).

مع أجمل الأماني

الأمــل

ابوفهد
22-12-2003, 08:28 AM
الاخت الغالية امل الدرر
اسعد المولى عز وجل جميع ايامك بالخيرات

اولا تعالى هناك ياكسوووووله :D

يعنى حلقتان تستغرقان منك ثلاثة اشهر ؟:005:

انما مع ذلك اقول لك

ارجو العزيز الجبار ان لايحرمكِ من اجر ماكتبتي

وان يثيبكِ على كل حرفٍ خطته يداك الف حسنة

وان يجعل كل ذلك في موازين حسنات يوم الحساب

دمتي بالف خير وعافية

ابوفهد
17-02-2004, 11:06 AM
امل الدرر ونورها
الله يسعد ايامك بالخيرات

يعنى لما اصبحت الحلقة القادمة عن سورة القمر

غاب القمر ونسى الموضوع ؟;)

اتمنى ان تكون ضروفك تسمح لك باكمال الموضوع للاهميتة اولا

وحتى تنالي اجرك كاملاً بدون نقصان من المولى عز وجل :D



ايتها الامل

الكتاب وبعد طول انتظار وصلني اليوم من الاردن ولله الحمد

ومعه ايضاً كتابي

التعبير القرآني ..... وبلاغة الكلمة في التعبير القرآني


وفقك الله وجعل لك في كل حرف مما كتبتية هنا وكتبه من شاركك

مائة حسنة تثقل موازين حسناتك يوم الحساب

دمتي بالف خير

الأمــل
26-02-2004, 01:59 PM
مساء الخيرات ..

يا هلا ومرحبا بعمدتنا الطيب بو فهد .. الله يحفظك ويوفقك للخير ..

الموضوع هذا بالذات .. أرغب في إكمالة .. للخير والفائدة المرجوة منه ..

أما توقفه الطويل لم يكن إلا للانشغال.. أو النسيان .. وللتكاسل أحيانا .. لكن سيكتمل بإذن الله..

وستكون هناك حلقة قريبة جدا .. بإذن الله ..

أبارك لك وصول الكتاب إليك .. فهو الآن بين يديك .. مقروءا .. وبين عينيك مكتوبا هنا :D

مضى الكثير ولم يبقَ منه إلا القليل ..

أعانني الله على إكماله..

لك الشكر الجزيل ... والدعوات الصادقة .. بارك الله فيك..

الأمــل

الأمــل
27-02-2004, 11:03 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

درري الأحبة ..

بعد انقطاع طويل.. عدنا .. وبإذن الله .. العود أحمد .. وهذه تكملة مواضيع كتاب ( لمسات بيانية في نصوص من التنزيل) ، لمؤلفه الأستاذ الدكتور، فاضل صالح السامرائي..

من سورة القمر

( إن المتقين في جنات ونهر(54) في مقعد صدق عند مليك مقتدر(55)

****

سأل سائل:

لِمَ وحّد الله تعالى: ( النهر) في هذه الآية ولم يجمعه مع أن الجنات الجنات قبله جمع بخلاف المواضع الأخرى من القرآن الكريم، فإنه إذا جمع الجنة، جمع النهر أيضا فيقول: ( جنات تجري من تحتها الأنهار)؟

والجواب:

أنه جمع في لفظ (النهر) عدة معان وأعطى أكثر من فائدة لا يفيدها فيما لو قال: (أنهار). ذلك أنه علاوة على أن فواصل الآيات، تقتضي ( النهر) لا ( الأنهار) لأن آيات السورة على هذا الوزن فقد جاء قبلها: ( وكل شيء فعلوه في الزبر (52) وكل صغير وكبير مستطر(53) وجاء بعدها: ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر(55) فإن المعنى أيضا يقتضي ذلك من جهات منها:

(()) أن النهر اسم جنس بمعنى الأنهار، وهو بمعنى الجمع. وقد يؤتى بالواحد للدلالة على الجمع والكثرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " أهلك الناس الدينار والدرهم ". والمراد بالدينار والدرهم الجنس لا الواحد.

وجاء في ( معاني القرآن) للفراء: " ونهر معناه أنهار. وهو في مذهبه كقوله: ( سيهزم الجمع ويولون الدبر) وزعم الكسائي أنه سمع العرب يقولون: أتينا فلانا فكنا في لحم ونبيذةٍ. فوحّد ومعناه الكثير".(معاني القرآن3/111).

(()) ومنها: أن معاني ( النهر) أيضا السعة. والسعة ههنا عامة تشمل سعة المنازل وسعة الرزق والمعيشة، وكل ما يقتضي تمام السعادة السعة فيه. جاء في ( البحر المحيط) :" ونهر: وسعة في الأرزاق والمنازل".

(()) ومنها: أن من معاني (النهر) أيضا الضياء.(لسان العرب(نهر) 7/96)
جاء في لسان العرب:" وأما قوله –عزوجل- : ( إن المتقين في جنات ونهر) فقد يجوز أن يعني به السعة والضياء، وأن يعني به النهر الذي هو مجرى الماء، على وضع الواحد موضع الجميع ... وقيل في قوله: ( جنات ونهر) أي: في ضياء وسعة، لأن الجنة ليس فيها ليل، إنما هو نور يتلألأ" (لسان العرب).

جاء في (معاني القرآن) للفراء: " ويقال: ( إن المتقين في جنات ونهر) في ضياء وسعة".

وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فإن المتقين في جنات وأنهار كثيرة جارية، وفي سعة من العيش والرزق والسكن وعموم ما يقتضي السعة، وفي ضياء ونور يتلألأ ليس عندهم ليل ولا ظلمة.

***

ولنر بعد ذلك أنه لما كان المذكورون هم من خواص المؤمنين، وهم المتقون وليسوا عموم المؤمنين أعلى اجرهم ودرجتهم، فقال: (ونهر) ولم يقل: ( وأنهار). ولما أعلى أجرهم ودرجتهم وبالغ في إنعامهم وإكرامهم جاء بالصفة والموصوف بما يدل على المبالغة فقال: ( عند مليك مقتدر) ولم يقل : ( ملك قادر) فإن (مليك) أبلغ من (ملك) و ( مقتدر) أبلغ من ( قادر) فإن كلمة (مليك) على صيغة (فعيل) وهي أبلغ واثبت من صيغة (فعِل).

جاء في ( روح المعاني) :" عند مليك، أي: ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة، وليست الياء من الإشباع".
ولما جاء بالصيغة الدالة على الثبوت، قال تعالى: ( في مقعد صدق) "ذلك لأن هذا المقعد ثابت لا يزول، فهو وحده مقعد الصدق، وكل المقاعد الأخرى كاذبة، لأنها تزول إما بزوال الملك صاحبة، وإما بزوال العقيدة، وإما بطرده، هذا وحده الذي لا يزول، وقد يفيد أيضا أنه المقعد الذي صدقوا في الخبر به"

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إن معنى الصدق ههنا يفيد معنى الخير أيضا والجودة والصلاح فجمعت كلمة ( الصدق) ههنا معنيي الخير والصدق معا، كما جمع (النهر) أكثر من معنى. ثم انظر كيف أنهم لما صدقوا في إيمانهم وعملهم، كان لهم مقعد الصدق.

و( المقتدر) أبلغ أيضا من ( القادر) ذلك أن ( المقتدر) اسم فاعل من (اقتدر) وهذا أبلغ من (قدر) فإن صيغة (افتعل) قد تفيد المبالغة والتصرف والاجتهاد والطلب في تحصيل الفعل بخلاف فعل ومنه اكتسب واصطبر واجتهد قال تعالى: ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)البقرة/286.

جاء في (الكشاف) في هذه الآية: " فإن قلت: لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب؟

قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال".
وجاء في (البحر المحيط): " والذي يظهر لي أن الحسنات، وهي مما تكتسب دون تكلف... والسيئات تكتسب ببناء المبالغة".وقال سيبويه: " كسب: أصاب، واكتسب ببناء المبالغة"

وقال سيبويه:"كسب:أصاب، واكتسب:تصرف واجتهد".(كتاب سيبويه 2/241.)

فجاء ههنا، أي: في قوله: (مقتدر) بالصيغة الدالة على القدرة البالغة مع الملك الواسع الثابت.
فهنا بالغ الله وأعظم في الأجر، وبالغ وأعظم في الملك، وبالغ وأعظم في القدرة لمن بالغ ووجد في عمله وصدق فيه وهم المتقون.

ويقول المؤلف: نريد أن نشير إلى أمر، وهو إطلاق وصف (المبالغة) على صفات الله نحو علام، وعليم، وغفور، وما إلى ذلك. فقد توهم بعضهم أنه ينبغي أنه ينبغي أن لا يطلق على صفات الله وصف المبالغة، لأنها صفات حقيقية وليست مبالغة فيها. وقد اعترض علي معترض ذات مرة بنحو هذا. مع أنه من الواضح أن ليس المقصود كما ظن الظان أو توهم. فالمقصود أن هذا البناء يفيد كثرة وقوع الفعل، وليس المقصود أن الأمر مبالغ فيه.فـ (عليم) أبلغ من (عالم) و( صبور) أبلغ من (صابر) ذلك أن الموصوف بعليم معناه أنه موصوف بكثرة العلم، وليس المقصود أن صاحبه وصف بهذا الوصف وهو لا يستحق أن يوصف به فكان الوصف به مبالغة.

ولا نريد أن نطيل في كشف هذه الشبهة، فإنها فيما أحسب لا تستحق أكثر من هذا.

***

الموضوع القادم سيكون نصًا ..من سورة الجمعة..

لكم كل الخير والسعادة ..بإذن الله ..

أختكم الأمــل

صوت الصباح
27-02-2004, 11:46 PM
دعاء بالق إيماني ، لا يتزعزع

ودعوة ،

بأن يُتيب ( صاحبة ) المقال الجزاء الأوفى في الدارين .

اللهم آمين ،

بصوتكم :

اللهم آمين .

شكراً ، لقد أعدتني إلى

اللغة والحياة .

عابده لله
28-02-2004, 12:15 AM
بارك الله فيكِ املنا الحبيبة
وأجزلكِ يا غالية عظيم العطاء ..

وجعل عملك الذي تقومين به خالصاً لوجهه
تعالى ..

أختي ..

أدعو الله أن يهون عليكِ ما بقي من هذه اللمسات البيانية
في نصوص التنزيل وأن تكون خير زادٍ لنا ...

وفقكِ الله يا غالية ..

تــحــيــاتــي .

الأمــل
01-03-2004, 11:36 AM
سيدى الفاضل .. صوت الصباح ...

حضور سخي بأجمل الدعوات وأصدقها .. ممتنة لك كثيرًا ..

أسعدك الله في الدنيا والآخرة .. كما أسعدت قلبي بدعوتك .. وحضورك الراقي ..

بارك الله فيك وحفظك ..

×××

أختي الغالية عابدة لله ..

ممتنة لكل دعوة جميلة كتبتها لي يا رقيقة القلب يا راقية .. وأعانني الله على الخير ..

ربي تقبل منا، إنك أنت السميع العليم.

××

دمتم بخير .. إلى أن نلتقي..

أختكم الأمــل

الأمــل
18-03-2004, 10:43 PM
http://www.alhusam.com/vb/images/smilies/bsm.gif

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

موضوعنا اليوم من سورة الجمعة:

سأل سائل عن قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين(11)/الجمعة.

لِمَ قُدمت التجارة على اللهو أولا، فقال: ( وإذا رأوا تجارة أو لهوًا)، وأخّرها عنه بعد فقال: ( خيرٌ من اللهو والتجارة)؟

الجواب:

الجواب والله أعلم أن سبب تقديم التجارة على اللهو في قوله: (وإذا رأوا تجارة أو لهوًا) أنها كانت سبب الانفضاض ذلك أنه قدمت عير المدينة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، وكان من عُرفهم أن يدخل بالطبل والدفوف والمعازف عند قدومها فانفض الناس إليها ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا فأنزل الله قوله: ( وإذا رأوا تجارة..).

فقدمها لأنها كانت سبب الانفضاض وليس اللهو، وإنما كان اللهو والضرب بالدفوف بسببها فقدمها لذلك. ولهذا أفرد الضمير في (إليها) ولم يقل ( إليهما) لأنهم في الحقيقة إنما انفضوا إلى التجارة وكان قد مسهم شيء من غلاء الأسعار.

وأما تقديم اللهو عليها فيما بعد في قوله: ( قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة) فذلك لأن اللهو أعم من التجارة، فليس كل الناس يشتغلون في التجارة ولكن أكثرهم يلهون. فالفقراء والأغنياء يلهون، وكان اللهو في الحكم العام لأنه أعم.

ولأنها مناسبة لقوله: ( والله خير الرازقين) فالتجارة من أسباب الرزق وليس اللهو فوضعها بجنبه. ولأن العادة أنك إذا فاضلت بين أمور فإنك تبدأ بالأدنى، ثم تترقى فتقول: ( فلان خير من فلان ومن فلان أيضا)، وذلك كأن تقول : ( البحتري أفضل من أبي فراس، ومن أبي تمام ومن المتنبي أيضًا).فإنك إذا بدأت بالأفضل انتفت الحاجة إلى من هو أدني، فبدأ باللهو لأنه ظاهر المذمة ثم ترقى إلى التجارة التي فيها كسب ومنفعة.

وكرر (من) مع اللهو ومع التجارة فقال: ( خير من اللهو ومن التجارة) ليؤذن باستقلال الأفضلية لكل واحد منهما لئلا يتصور أن الذم إنما هو لاجتماع التجارة واللهو، فإن إنفراد اللهو أو التجارة خرج من الذم، فأراد أن يبين ذم كل منهما على جهة الاستقلال لئلا يتهاون الناس في تقديم ما يرضي الله وتفضيله. ونحو ذلك، أن تقول: ( الأناة خير من التهور والعجلة) فإن ذلك قد يفهم أنها خير من اجتماعهما أسوا من انفرادهما فإن الذي يجمع التهور والعجلة أسوا ممن اتصف بإحدى الخلتين.

فإن قلت: ( الأناة خير من التهور ومن العجلة) لإفاد استقلال كل صفة عن الأخرى، وأنها خير من أية صفة منهما، فإن اجتمعتا كان ذلك أسوا. فجاء بـ (من) ليؤذن باستقلال كل من اللهو والتجارة وأنه ليس المقصود ذم الجميع بين الأمرين بل ذم ونتقيص كل واحد منهما، بالنسبة إلى ما عند الله.

جاء في (روح المعاني): "واختير ضمير التجارة دون اللهو، لأنها الأهم المقصود، فإن المراد ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه.أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذمومًا، فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه... ( خير من اللهو ومن التجارة ) وتقديم اللهو ليس من تقديمالعدم على الملكة كما توهم، بل لأنه أقوى مذمة فناسب تقديمه في مقام الذم. وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم وأُخرت مع التفضيل، لتقع النفس أولا على البين..

وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخرًا وكرر الجار، لإرادة الإطلاق في كل واحد واستقلاله فيما قصد منه، ليخالف السابق في اتحاد المعنى، لأن ذلك في قصة مخصوصة".

نلتقي في الموضوع القادم: من سورة (المنافقون) بإذن الله .

أجمل أمنياتي لكم

الأمــل