المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصبر على الطاعة من أفضل أعمال البرّ



أبو مصعب السكندرى
08-07-2008, 10:21 AM
الصبر على الطاعة من أفضل أعمال البرّ
قال الشافعي: "رأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً"
الصبر هو نصف الإيمان، وذلك لأن الإيمان نصفه صبر والنصف الآخر شكر، وقد ذُكِر الصبر في القرآن في تسعين موضعاً في موطن المدح والثناء والأمر به، وهو واجب بإجماع الأمة، وهو أنواع:

1. الصبر على طاعة الله، وهو أفضلها.

2. الصبر عن معصية الله عز وجل، وهو يلي النوع الأول في الفضل.

3. الصبر على امتحان الله عز وجل.

قال ابن القيم رحمه الله: (فالأولان صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه.

وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدَّس الله روحه ـ يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، ولا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، أما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضا، ومحاربة النفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية، وعَزَباً ليس له ما يعوضه ويبرد شهوته، وغريباً والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه مَنْ بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكاً والمملوك أيضاً ليس له وازع كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟!

وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرَّمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية).1

وما قاله شيخ الإسلام هو الحق، فقد قرن الله بين الصبر والإيمان والعمل، حيث قال في سورة العصر: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكانت كافية وحجة على الأمة.

والدليل على ذلك أن كثيراً من الخلق يسهل عليهم الصبر على المصائب والبلايا وعن المعاصي، ولكن قليل منهم من يصبر على طاعة الله عز وجل، بل من الناس من يصبر على المعاصي ويتحمل من أجلها ما لا يتحمل معشار معشاره على طاعة الله عز وجل.

قال المزني رحمه الله: (سمعتُ الشافعي رحمه الله يقول: رأيتُ بالمدينة ـ المنورة ـ أربع عجائب، رأيتُ جَدَّة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيتُ رجلاً فلسه القاضي في مدين نَوَى، ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً، ونسيتُ الرابعة).2

وشاهدنا في قوله: "ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون.." إلخ.

وما تعجب منه الشافعي، وحق له أن يعد ذلك من العجائب، مُشاهَد، فإنك تجد البائع واقفاً في سوقه من الصباح إلى المساء لا يفتر ولا يقعد، وكذلك مشجع الكرة يقف على رجل واحدة ويصيح بملء فيه ويدخل الملعب قبل ثلاث ساعات من موعد المباراة، وتجد الفنان يقيم الحفلة إلى مشارف الصبح، والمصلي يخرج من المسجد يقف يتكلم في أمور الدنيا الساعة والساعتين، وغيرُهم كثير، فإذا استغرقت الصلاة ربع ساعة، أواطمأن الإمامُ في ركوعه وسجوده قليلاً، قامت الدنيا ولم تقعد، وتضجَّر الناسُ، واشتكوا، ومنهم من يشكو الإمام إلى المسؤولين وإلى لجنة المسجد، ورفع في وجه الإمام كلمة الحق التي يريدون بها باطلاً: "من أمَّ الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف.." الحديث.

وكأن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كان يؤمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المغرب أحياناً بالأعراف والصافات، والذين أمهم أبوبكر الصديق مرة بالبقرة كلها في صلاة الصبح، والذين كثيراً ما كان يؤمهم عمر في الصبح بيوسف، وهود، والنحل، ليس فيهم مريض ولا ضعيف؟

وتثريب الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ رضي الله عنه لأنه كان يصلي معه العشاء ثم يذهب ليؤم قومه بعد ذلك، وقد أمهم يوماً بالبقرة في الركعة الأولى من العشاء، وبالقمر في الثانية، وعندما خرج أعرابي من صلاته نال منه معاذ بأنه منافق! ومن أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.

أين هذا كله مما عليه الأئمة الآن؟! فتبيَّن أن احتجاج البعض بهذا الحديث ليس في موضع النزاع، فمن فعل كما فعل معاذ يكون فتاناً حقاً، ولكن مَنْ مِن الأئمة الآن يستطيع أن يفعل ذلك ولو كان فذاً؟!

أعجب من هؤلاء جميعاً من يحيي ليله بالرقص، والتواجد، والضرب بالأقدام على الأرض، فإذا حان وقت صلاة الصبح تفرَّق جلهم، ومن بقي صُلِّيَ بهم بقصار المفصل من غير اطمئنان ولا خشوع.

لقد صاغ العلامة ابن القيم رحمه الله حال هذه الطائفة ـ الصوفية ـ التي أسِّست على الكسل كما قال الشافعي، شعراً، حيث ذكر جدهم واجتهادهم عند السماع، والرقص، والتواجد، الذي هو دين عباد العجل، عندما اتخذ لهم السامري عجلاً جسداً له خوار، فقاموا حواليه يرقصون ويتواجدون حتى يقع أحدُهم مغشياً عليه، فالرقص، والتواجد، والسماع الصوفي ليس من الذكر الذي شرعه الله لعباده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان هو وأصحابه يذكرون الله وكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار والسكينة، مقارناً له بصدودهم عن سماع آي القرآن والعلم، وعن الخشوع والاطمئنان في الصلاة التي هي من أجلِّ العبادات وأفضل القربات، قائلاً3:

تُلي الكتابُ فأطرقوا، لا خيفـةً لكنه إطـراق ســـاهٍ لاهي

وأتى الغناءُ فكالحمير تناهقـوا و الله ما رقصـوا لأجـل الله

دفٌّ، ومزمـارٌ، و نغمة شادنٍ فمتى رأيتَ عبادةً بمــلاهي ؟

ثَقُل الكتـابُ عليهمُ لمـا رأوا تقييـده بـأوامـر و نـواهي

سمعوا له رعداً وبرقاً إذ حوَى زجـراً و تخويفاً بفعل مناهي

ورأوه أعظمَ قاطعٍ للنفس عن شهواتهـا ، يا ذبحها المتناهي

وأتى السماعُ موافقاً أغراضها فلأجل ذاك غدا عظيمَ الجـاه

أين المساعدُ للهوى من قاطع أسبابَه عند الجَهـول السـاهي؟

إن لم يكن خمرَ الجسـوم فإنه خمـرُ العقول مماثلٌ ومضاهي

فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النسوان عند ملاهي

و انظر إلى تمزيق ذا أثـوابه من بعد تمزيق الفـؤاد اللاهي

واحكـم فأيُّ الخمرتين أحـقُّ بالتحريـم والتأثيــم عند الله ؟

وقال كذلك:

ذهب الرجالُ و حـال دون مجـالهم زُمَـرٌ من الأوبـاش والأنـذال

زعمــوا بأنـهم على آثـــارهم سـاروا و لكن سيـرة البطَّـال

لبسوا الدَّلـوق مرقَّعــاً و تقشفـوا كتقشف الأقطـاب و الأبــدال

قطعـوا طريق السالكين و غـوَّروا سبـل الهدى بجهـالة وضـلال

عَمَـروا ظـواهرهم بأثـواب التقى وحَشَـوا بواطنهم من الأدغـال

إن قلت : قـال الله قـال رسـوله هَمـَزوك همزَ المنكِـر المتغالي

أو قلتَ : قد قال الصحابـة والأولى تبعوهـم في القـول والأعمـال

أو قلتَ : قـال الآلُ آل المصـطفى صلى عليـه الله أفضـــلُ آل

أو قلتَ : قـال الشـافعي و أحمـدُ و أبو حنيفـة والإمـام العـالي

أو قلتَ : قال صحـابهم من بعدهم فالكـلُّ عندهـم كشِبـه خَيـال

ويقول : قلبي قال لي عن ســرِّه عن سـرِّ سرِّي عن صفا أحوالي

عن حضرتي عن فكرتي عن خلوتي عن شاهدي عن واردي عن حالي

عن صَفْو وَقْتي عن حقيقـة مشهدي عن سـرِّ ذاتي، عن صفات فعالي

دَعْــوَى إذا حققتهــا ألفيتهــا ألقــابَ زُور لفِّقـت بمحــال

تركوا الحقائق والشـرائع واقتـدوا بظواهــر الجهَّـال والضـلال

جعلوا المِرا فتحـاً وألفـاظ الخنـا شطحـاً وصـالوا صولة الإدلال

نبذوا كتاب الله خلف ظهـورهـم نبْذَ المسـافـر فضلة الأكَّــال

جعلـوا السمـاع مطيـة لهواهُـمُ وغَلَـوا فقالـوا فيه كل محـال

هو طاعـة، هو قربـة، هو سنـة صدقوا، لذاك الشيخ ذي الإضلال

شيـخ قديـم، صادهم بتحيُّـــل حتى أجابـوا دعـوة المحتـال

هجروا له القرآن والأخبار و الآثار إذ شهـدت لهـم بضـــلال

و رأوا سمـاع الشعـر أنفع للفتى من أوجـهٍ سبـعٍ لهـم بتـوال

تالله مـا ظفـر العـدو بمثلهــا من مثلهـم، واخيبـةَ الآمــال

نصب الحبال لهم فلم يقعوا بهــا فأتى بذا الشَّـرَك المحيط الغالي

فإذا بهم وسط العرين ممزقي الأثـ ـواب والأديـان والأحـــوال

لا يسمعـون سـوى الذي يَهْوونه شغلاً به عن سـائر الأشغــال

و دعوا إلى ذات اليمين فأعرضوا عنها ، وسـار القوم ذاتَ شمـال

خـرُّوا على القرآن عند سمـاعه صمـاً و عُمْيانـاً ذوي إهمـال

و إذا تلا القاري عليهم سـورة فأطالهـا عدَّوه في الأثقـــال

ويقول قائلهم : أطلتَ ، و ليس ذا عَشْـر ، فخفِّف ، أنت ذو إمـلال

هذا، وكم لغوٍ ، وكم صَخَبٍ، وكم ضَحِـكٍ بلا أدب ، ولا إجمــال

حتى إذا قـأم السمـاع لديهـمُ خشعت له الأصـوات بالإجـلال

وامتدت الأعناقُ، تسمع وَحْي ذاك الشيـخ من مترنَّـمٍ قــــوَّال

وتحركت تلك الرؤوس، وهزَّهـا طربٌ و أشـواق لنيـل وصـال

فهنالك الأشواق والأشجان والأحـ ـوال ، لا أهـلاً بذي الأحــوال

اعلم أخي الكريم أن الخشوع في الصلاة هو سرها ومقصودها، وأن الاطمئنان في الركوع والسجود هو فرض في الصلاة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن لم يطمئن في صلاته حيث كان ينقرها كما ينقر الديك الحب، وكما يفعل ذلك كثير من المصلين اليوم: "صلِّ، فإنك لم تصلِّ" ثلاث مرات، وقد جاء في الأثر: "كم من مصلٍّ سبعين ـ وفي رواية ثمانين ـ سنة، ليس له من صلاته شيء، ربما أكمل ركوعها ولم يكمل سجودها، أوأكمل سجودها ولم يكمل ركوعها".

واللهَ أسألُ أن يرزقنا الصبر على الطاعة، وأن يحبِّب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، ويكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلنا وجميع إخواننا المسلمين من الراشدين، ونسألك اللهم حبَّك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ عمل يقرِّبنا إلى حبك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ابن الاسلام
08-07-2008, 12:35 PM
اخي الحبيب ابو مصعب جزاك الله كل خير على الموضوع الرائع جدا

ألنشمي
08-07-2008, 03:49 PM
000
00
0








ذكرك الله بالشهادة


وجوزيت عنا خيرا

ألنشمي
08-07-2008, 03:50 PM
000
00
0


ذكرك الله بالشهادة


وجوزيت عنا خيرا

أبو مصعب السكندرى
08-07-2008, 07:04 PM
اخي {{البرق}}
جزاكم الله خير علي مرورك العطر

أبو مصعب السكندرى
09-07-2008, 02:00 PM
الا خ الحبيب النشمي شكر الله لك وجزاكم الله حير الحزاء
علي مرور العطر

Oscar
10-07-2008, 08:43 AM
أخي الكريم أبو مصعب ،،
{ الصبر } عملة نادرة هذه الأيام ، نـُعيز افتقادنا إياه إلى دنيوياتنا
وَ رتمها السريع إلا أنَّ العودة إلى " موضوعك " تضعُ نـُصبَ أعيوننا أسلافـًا
تنكمش همومنا مقارنة بهم ، وَ بالرغم من ذا كان لهم
" صبرٌ جميل "
..
للفاروق رضي الله عنه ، وَ أرضاهـ قصة تـُروى و الشاهدُ
فيها أمانته - أنا أحبُّ في ذات القصة " صبره " ..
تدور القصة حول " طاقات " من القماش يوزعها أمير المؤمنين بالتساوي
بين رعاياه لكلٍ منهم طاقة - و كان عمر أمير المؤمنين وقتها - بدأ الموقف عندما
تسآءل عمر ابن العاص رضي الله عنه عن مصدر " طاقة " القماش الثانية التي يرتديها
عمر وَ هو " طويل القامة " - أي لا تكفيه كما هم طاقة قماش واحدة - ، فما كان
منه إلاَّ أن صبر ، من ثم أتت إجابة ابنه عبدالله بن عمر : أن هي طاقتي
وهبتها أبي ..
، وَ لا أنسى يعقوب عليه السلام الصابر في :
" فصبرٌ جميل ، و الله المستعان على ما تصفون "
- نحن بحاجة إلى هكذا تذكرة ، جُزيتَ
خيرًا ..
/
تحياتي

أبو مصعب السكندرى
11-07-2008, 02:59 PM
الاخت الفاضله Oscar
جزاكم الله خير علي المرور والتذكره
ربنا يجعلنا من الصبرين

أبو مصعب السكندرى
22-07-2008, 12:30 PM
الكلام عن الصبر يطيب ، كيف لا وهو يبين لنا من خلاله معادن الناسِ ، وقوة إيمانهم ، وصبرهم ورضاهم بما قسمه الله وقدره .

ولما رأيتُ الدهر يؤذن صرفه *** بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعتُ إلى نفسي فوطنتها على *** ركوبِ جميل الصبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على سوء فعلها *** فأيامه محفوفة بالمصائب
فخذ خلسةً من كل يوم تعيشه *** وكن حذراً من كامنات العواقب

والله لو نطق الصبر لقال : هذه هي الصابرة ... لطالما وصفت المرأة بالجزع والهلع ، لكن مع الإيمان ينتقل ذلك إلى صبرٍ ورضا ، امرأتنا هذه ، لها مع الصبرِ شأن عجيب ، تقول إحدى الأخوات في رسالتها : هي قصة لامرأة وقفت على فصولها ، هذه المرأة تزوجت ، وانتظرت أكثر من عشرين عاماً ، تنتظر على إثر ذلك ريحانةً لقلبها ، تنتظر مولوداً يشنف سمعها بلفظ الأمومة ، ولكن ، لم يقدر الله تعالى لها من ذلك الزوج أولاداً ، طلبت الانفصال عن هذا الزوج ، ، مع حبها الشديد له ، لكن عاطفة الأمومة لديها سيالة ، انفصلت عن زوجها وتزوجت بآخر ، فوهبها المنعم المتفضل بعد طول مدةٍ مولوداً ذكرا ، وفي أثناء حملها ، طلقها هذا الرجل ، فوضعت حينها قرة عينها ، بعد طول ترقب وانتظار ، وحينها تقدم لها الكثير من الخطاب ، ولكنها رفضتهم جميعاً لتربي ولدها ، عكفت على تربيته ، لقد علقت فيه آمالها ، ورأت فيه بهجة الدنيا وزينتها ، انصرفت إلى خدمته في ليلها ونهارها ، غذته بصحتها ، ونمته بهزالها ، وقوته بضعفها ، كانت تخاف عليه من رقة النسيم ، وطنين الذباب ، كانت تؤثره على نفسها بالغذاء والراحة ، أصبح هذا الولد قلبها النابض ، تعيش معه وتأكل معه ، وتشرب معه ، تؤنسه ، تمازحه ، تنتظره وتودعه ، حين يذهب في المجالس وبين الأقارب يحلوا لها الحديث بطرائفه ونوادره ، تهب البشائر والأعطيات لكل من يبشرها بنجاحه أو قدومه من سفره ، ولما لا وهو وحيدها وثمرة فؤادها .
تعد الأيام والشهور لترى فلذة كبدها يكبر رويداً رويدا .. كبر ذالك الطفل ، وأصبح شاباً يافعا ، واستوى عوده ، واشتد عظمه ، كانت تقف أمامه مزهوة شامخة ، كانت تجاهد على إعانته على الطاعة ، كيف لا ، وهي كما تقول الأخت : عرفت منذ الصغر بطول قيامها وتهجدها ، لا تدخل مجلساً إلا وتذكر الله وتنهى فيه عن فحش القول أو البذاءة ، وهي مع ذلك من أهل الصلاة والصدقة ، لطالما تاقت نفسها أن تسمع صوت وحيدها يؤم المصلين في المسجد الحرام ، لكم تمنت أن يجعل الله له شأن يعز به دينه ، لقد كانت كثيراً ما تختلي بنفسها في أوقات الإجابة تدعو ربها ، وكم كان اسمه يسيطر على دعائها .
لا تنامُ إلا بعد أن ينام ، ثم تقوم مرة أخرى وتدخل عليه لتعيد غطاءه ، وتصلح حاله ، تفعل ذلك في الليلة الواحدة أكثر من مرة .
الله أكبر ، مبلغ الحنانِ ومنتهاه ! أحسبُ أنكم تقولون كفى ، فقد أبلغتِ في الوصف والثناء ، لستِ والله بمبالغة ، فهذه حالها مع ولدها .
عزمت على تزويجه ، لترى ولده وحفيدها ، بدأت تبحث له عن عروس ، ثم سعت إلى تقسيم منزلها إلى قسمين ، العلوي له ، والسفلي لها ، دخلت عليه في يوم من الأيام كالعادة ، نادته لم يرد عليها ، خفق قلبها ، رفعت يده فسقطت من يدها ، هزته بقوة ، لم يتحرك ، بادرت بالاتصال على قريب لها ، حضر على عجل ، فحمله إلى المستشفى ، أحست أن في الأمر شيئا ، لكنها على أمل ، فماذا عملت ، لقد كان من أمرها عجبا !! توضأت ثم يممت شطر سجادتها ، وسألت ربها أن يختار لها الخيرة المباركة ، وصلت ، وبعد سويعات ، وإذا وحيدها قد مات ، نعم ، بعد أربعين سنة ، عشرون سنة ترقبه ، وأخرى مثلها تربيه ، ضاع ذالك في لحظة واحدة ، وما كان منها حينما بلغها الخبر ، إلا أن قالت : وحيدي مات ، ثم استرجعت ، ثم رددت كثيرا : الحمد لله ، الحمد لله ، الحمد لله.. ، تقولها بثبات وصبر ، لم تندب ولم تصرخ ، ولم تشق جيباً أو تلطم خدا .
هذه هي ثمرة الإيمان تظهر في أشد المواقف وأصعبها وأحلكها ، كان وقع الصدمة شديداً على كل من عرف ، بعض قريباتها يبكين أمامها ليس لفقد الولد ، ولكن رأفةً بحالها ، كانت تنهاهن بحزم وهدوء ، وتقول بلهجتها : ما هذا الخبال ، ربي أعطاني إياه ، أنا راضية والحمد لله أنها لم تكن في ديني .
لله أكبر ، لقد ضربت أروع الأمثلة في الصبر والرضا ، إلا أن بعض النفوس الضعيفة ، من اللاتي يجهلن التسليم والرضا بالقدر ، لم يستوعبن موقفها ، فمن قائلة : لعلها أصيبت بحالة نفسية ، ومن قائلةٍ : هي ذاهلة ولم تستوعب بعدُ وفاته ، وفي تلك الليلة التي مات فيها فلذة كبدها ، حان وقت طعام العشاء ، فكان من أمرها عجبا ، امتنع الكثير عن تناوله ، أما هي فقد مدت يدها إلى الطعام وهي تقول : والله ليس لي رغبة فيه ، ولكني مددتُ يدي رضا بقضاء الله وقدره .
الله أكبر ، ما أعظم موقفها ، لقد كانت تشعر بالحرقة ، لكن على سجادتها بين يدي ربها تناجيه وتدعو لوليدها ، نعم ، فقدت فلذة كبدها ، لكنها في الوقت نفسه المؤمنة الراضية ، لقد حول صبرها ورضاها مع حسن ظنها بالله تعالى حول هذه المحنة إلى منحة ، حينها يكون لها حسن العقبى في الدارين بإذن الله "