المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أيام سوداء / قصة قصيرة



زايد التجاني
04-07-2008, 10:30 PM
أيــــــــام ســـــوداء

بخطى ثقيلة وظهر شبه مقوس.. ووجه رسمت عليه السنون أخاديد التعب ، دخل مكتب المدير.. أخذ يرتب الأشياء .. يمسح المكتب والكرسي المتحرك بحزمة من الريش الناعم المعقودة على رأس عمود خشبي.. وقبل الجلوس على كرسيه الخشبي الكائن عند مدخل الباب من الخارج ، التفت وألقى نظرة أخيرة على المكتب.

بعد نصف ساسة ، دخل مدير ا لشركة مكتبه وهو غضبان... سيما القلق بادية على محياه،أطلق سعالا قصيرا واضعا قبضة مثقوبة على فمه.. تبعه الخادم أحمد وحياه بانحناءة لطيفة، وضع فنجان القهوة على المكتب كعادته بعناية ، رنا إليه المدير نظرة خاطفة، وبحركة ميكانيكية رفع جهاز الهاتف وأخذ يتكلم فجأة بعصبية:
- ألو..السي فؤاد؟ اسمع ، احجز لي كل ما يمكن من العلب وكيفما كانت. ماذا؟ نفذت؟ أوف .. طيب طيب ، مع السلامة .
أشعل المدير المتأفف نصف سيجارة كانت بيده، كغصن في مهب الريح بدت ترتعش ،أخذ نفسا عميقا... نفث الدخان وهو يغمض عينيه . الخادم الجالس قرب الباب من الخارج التفت إليه بحذر، تذكر الواقعة التي نزلت كالصاعقة على المدخنين، حدث نفسه : لكم الله أيها الإخوان المسلون ، تحرقون المصانع المنتجة للتبغ كلها في يوم واحد ؟ ليتكم حرقتمونا نحن...
في الخارج، أصاب الجزء الكبير من المجتمع غضب عارم... علبهم المدخرة نفذت تقريبا ... كان أحدهم لا يدخن إلا سيجارة واحدة جزءا جزءا... ظهرت أفواج من الشحاذين للسجائر... لأجزاء السجائر . بعد شهرين كادت تتعطل بعض المؤسسات، الحكومة تطالب المدخنين بالالتحاق فورا بعد أن وعدتهم باستيراد أكبر كمية من الدول المجاورة في أقرب وقت ممكن. لكن عملية الاستيراد تتأخر لظروف مجهولة... المدخنون يزدادون تنمرا وغضبا، صارت المقاهي عبارة عن قبور ... الجالسون أموات صامتون كأهل الكهف ... والمارة من غير ا لمدخنين يتجنبون المرور بمحاذاتها.... وبمرور الأيام، صارت حوادث القتل متفشية... عدة زوجات ضربن حتى أشرفن على الموت،ومنهن من طلقن ... امتلأت السجون على إثر هذه الفوضى حتى لم تعد تستوعب المتهمين والمجرمين، فيما امتلأت المستشفيات بالجرحى. الصحف تلتمس من الزوجات الطاعة مهما كانت أوامر أزواجهن المدخنين ... تطالب الآباء بالخضوع لرغبات أبنائهم المدمنين... الإذاعة تطالب بمعاملة المدخنين بالتي هي أحسن " افسحوا لهم في المجالس... اسمحوا لهم مهما فرطوا في حقوقكم... تسامحوا معهم أكثر... لينوا الكلام... أحسنوا الجدال... لا تذكروا السجائر في أحاديثكم... اجتنبوا الضحك... لا تشمتوا بإخوانكم ، نرجوكم، كونوا عقلاء .. فأنتم الجسم السليم وأنتم العقل السليم."
في الساحات والشوارع ، بزغت مظاهرات تطالب بالدخان ... رفعت لافتات تقول: "الدخان أولا ثم الحرية ثانيا " "بيعوا القمح وهاتوا الدخان " "ويل للإخوان المسلمين" ثم... ثم حدثت مواجهات بين المدخنين والمصلين الخارجين من أحد المساجد.امحت اللحى بعد ذلك من الوجوه... صار الرجل يخشى على نفسه أن يقصد المسجد... لم يذكر أحمد كيف سمع بخبر الرجل الذي يصنع التبغ ،سأل عنه حتى وجده ،اشترى منه كيلو من الحشائش الميبّسة والمقطعة أجزاء صغيرة، التقطه كما يأخذ الفقير كيلو من الدقيق في السنوات العجاف ،وهرع إلى منزله وهو يخفي بضاعته بين ثوبه وجلده.
أخذ أحمد ورقة رقيقة بيضاء ، ثم أخذ مسكة أصبعين من تلك الحشائش ووضعها على الورقة ، بالإبهامين برمها ، وبطرف لسانه بلل حرفها وبرمها حتى استوت في يده سيجارة ، ثم أشعل سيجارته الجديدة بفرح كبير، سحب نفسا عميقا ثم زم شفتيه تاركا ثقبا ضيقا لطرد الدخان ، وأخذ يدخن في شره وهو ينظر إلى باقي الحشائش المفروشة أمامه كأنما ينظر إلى كنز... كان طعمها مر المذاق ... أحس بسعال قوي، بدأ يسعل بشدة، أرادت زوجته أن تمد له كأس ماء فداست الحشائش المفروشة، رفع أحمد عينين حمراوين، وبدون تفكير، رماها بالكأس على وجهها، أطلقت صرخة قوية وهي تفر كقطة مذعورة ... فيما أحمد كان يلعن و يصيح :
- لعنة الله علي... أنا الخادم التعس ... لو كنت غنيا لكنت سافرت ﺇلى الخارج وهناك سأجد ما أدخنه ... تفو..! ثم أخذ يلوك بقية الكلام وهو يجمع الحشائش المتناثرة ، عندما انتهى ، وضعها في قطعة ثوب وعقد حولها عقدة محكمة وخبأها في مكان أمين وخرج.
طوال الزقاق ، كان أحمد يسمع أحيانا خصومات عنيفة هنا وهناك، وتارة كان لا يكاد يسمع ولو أنّة واحدة، لكأن حربا قد هدأت قبل قليل .. أصحاب الأسنان الصفراء والمسوسة والعيون الزائغة تفرض على الآخرين اتخاذ الحيطة والحذر .. حكّ جبهته بكفه ثم اتجه رأسا ﺇلى مقهى.
ذات صباح،ألفى الناس يتسابقون لشراء الجرائد ، تذكر أنه أمي ، همس: لابد أنهم يريدون التعرف على مجريات الأمور.. وما لبث أن لاحظ الجرائد تتطاير فجأة هنا وهناك... تأوﱠه بعمق ، تناهى ﺇليه صوت من ورائه :
- ﺇحدى الصحف تقول بأن الدول الكبرى هي التي حظرت عملية تصدير السجائر ﺇلى بلادنا ..
عقب عليه صوت ﺁخر في غضب وثورة:
- تبا للدول الكبرى .. البيع حرام يا ناس؟ نحن نكاد نختنق وهم لا يأبهون؟ أي حق في هذا العصر وأين هي حقوق اﻹنسان؟
- أي حق؟أجاب ثالث. إنهم يريدون أن يعرفوا الآثار التي يمكن أن تخلفها أزمة اختفاء السجائر لمدة طويلة ... هكذا ألح علماء الاجتماع وعلماء النفس ، نحن نكاد نجن فيما هم يعقدون الندوات ويطالبون حكوماتهم بعدم تصدير السجائر... ؟
كان أحمد يمشي بلا هدف .. أفكار ضبابية تغزو عقله المتعب ، حملته رجلاه كالعادة إلى مقهي ، جلس يتأمل الوضع الجديد .. تصور أنها فرصة ثمينة للإقلاع عن هذه السموم إلى الأبد .. تذكر الدولة .. تساءل : لم لا تستغل هذا الوضع فتمنع إنتاجه ؟ وما قيمة أي عائد مادي إذا كانت تهلك صحة مواطنيها ؟ دق أحمد الطاولة بقبضته، فيما رجل يصيح بقوة في الشارع:أريد دخانا.. أريد دخانا ... رأسي سوف تنفجر ...
الساعة الآن العاشرة والنصف ، بدأ أحمد يشعر باختناق... بضيق... فلم يشعر حتى استدار في جنون وطفق يحث الخطى إلى منزله... إلى الحشائش الميبسة...


زايد التجاني / ميدلت / المغرب

ابو البراء
05-07-2008, 12:43 AM
شكرا اخى الكريم على القصة والافادة

assif
05-07-2008, 12:59 AM
السلام عليكم ..أخي التجاني أقصوصة غاية في الروعة و الجمال.انها ذكرتني بكبار القصاصين في بلادنا..و الله وددت لو تحقق موضوع قصتك فنعيش يوما بدون تدخين...بارك الله فيك وفي قلمك الذهبي ..ننتظر المزيد...بالتوفيق دائما أخي الغالي التجاني

alkhansa2
05-07-2008, 03:47 AM
السلام عليكم الاخ التيجاني
تصور جميل و رائع لعالم خال من دخان السجائر من خلال شخصية واحدة .أو ربما هو حلم نتمنى أن يتحقق يوما .
فمزيدا من العطاء اخي التجاني

زايد التجاني
05-07-2008, 12:12 PM
إخوتي الكرام :أبو البراء ، أسيف والخنساء
لكم الشكر الجزيل على الارتسمات الحلوة والتشجيعات الزكية ..ودمتم عقولا متقدة وأحاسيس مستعرة
طبعا لاشيئ أغلى عندي في الدنيا من يوم تطلع فيه الشمس فلا نرى تلك الادخنة الرقيقة المتصاعدة من السجائر اللعينة ..ولا ادري كيف اصابت حمى الاسعار رغيف الخبز وكاس الحليب وأخطأت بشكل كبير هذه الاعواد المسومة ؟ لعل اقبح ما اخترعه عقل الانسان هذه الساجائر ومشتقاتها الهينة والخطيرة ..


دمتم في حفظ الله
تحياتي

lonely girl
07-07-2008, 02:10 AM
اشكرك على المشاركة

رشا محمود
12-07-2008, 02:54 PM
أخى الكريم / زايد التجانى

مرحبا بك وبمشاركتك من جديد

هو تخيل كبير دون شك

وحلم قد نحلم به نحن غير المدخنين

أما عواقبه فهى تثير الرعب حقا

ألهذه الدرجة قد يصلوا عبيد السيجارة؟!!

يا له من ذل يرضونه لأنفسهم

حفظنا الله والمسلمين من كل شر

شكرا لك ثانية

بانتظار كل جديد

تحيتى

طيف
12-07-2008, 02:56 PM
بالفعل ادمان ....و لو اوقفت السيجارة في الأسواق أنلقى هذا الرد لا سمح الله

اللهم احفظ كل من شهد بلا إله إلا الله من هذا السم

جزاك الله خيرا أخي الكريم

قصة قيمة

وفقك الرحمن

Oscar
13-07-2008, 04:40 AM
مرحبًا زايد ،،
راقتني الفكرة كثيرًا ، كما المنحى الذي حملت إليه قصتك ..
عمومـًا هيَ و إن كانت قصيرة إلا أنَّ سياقها يعرض لنا البعد الإجتماعي/السياسي
لأسئلة " طالعٍ " كثيرة قد نستهلها بـ " ماذا لو ؟! " - من ثمَّ لا نتجرأ
على المتابعة ..
/
طبتــْ

الماسي
13-07-2008, 02:15 PM
قصة معبرة ،،،،

تحمل الالم ،،

والامنيات ،،،

مشكور عزيزي ،،،

في انظار المزيد ،،،

تقبل تحياتي ،،،

زايد التجاني
13-07-2008, 05:27 PM
لكم إخوتي : لونلي ، رشا محمود ، طيف، اوسكار والماسي
لكم جميعا من الشكر الجزيل
اتفق معالبعض ان الصورة قاتمة ومرعبة ، لكن تبقى مجرد توقعات قد تحدث وقد لا تحدث ، وان كنت اتمنى الخير للجميع

تحياتي

ألنشمي
13-07-2008, 08:53 PM
000
00
0

سلسة

رائعة

فسلمت يمينك ماخطت


حفظك ربي

زايد التجاني
14-07-2008, 12:16 PM
شكرا على التعليق والارتسامات المشجعة
تحياتي