صخب الثورات
07-10-2002, 01:09 PM
((المشكلة الحقيقية أن دكتاتوريات همجية تخطاها العصر تعاقبت على حكم أفريقيا , تمقت المثقفين و لا تتساهل مع المعارضة , وتحارب الأكاديميين))
وول سونيكا
ادخل الغرفة الأولى فتطالعني "المرء حصيلة ثقافته" , وادخل الغرفة الثانية فتطالعني "عندما يرن صدى الذكريات في أذني سأحتاج لفافة تبغ ومشنقة"..ادخل الغرفة لثالثة فتطالعني صورة "جيفارا" بشعره المنثور على كتفيه ..فيصبح هذا الفلم العائلي عندي غير متسلسل..
يختلط الوهم بالحقيقة فلا يترك لها من اسمها سوى الأحرف وتصبح فجأة وهما أو ضربا من شطحات الخيال لعقل متعب كما يفسره الأطباء النفسيون...
عندما يسقط الجدار النفسي بينك وبين كل الذكريات التي تفترش مساحة الذاكرة المتعافية فقط ..لا المصابة..التي أحيلت إلى التقاعد مبكرا...تبدأ الأحداث الماضية بفقدان تسلسلها ومن ثم تكتسب لقب مجنون أو بأحسن حالاتك..انك تهذي...هذا اللاتسلسل الفكري الذي يحلو لي أن أطلق عليه الآن وأنا أحاول أن انسب أرقاما لحوادث حصلت علني أستطيع أن اربط بينها وبين ما نعيشه من ارث لكي اصل إلى تحليل منطقي للأمور..التي حصلت والتي ستحصل
كان البيت تتجاذبه قوى سياسية تنتقل من الشارع إلى البيت مباشرة الذي يضم 16 صبي وفتاة وأم وأب وجدتين وجدين...وجود والدي الأميين سهل الكثير لنفاذ أفكار سيئة وأخرى صالحة , ولكن كان للبدوي فراسته كما يقولون ..فقد كانت فراسة الوالد تضيء له الضوء الأحمر حين اقتراب أولاده من مكامن الخطر..وحين تبدأ هذه الأفكار "الشارعية" بجلب مشاكل للبيت...هذه المشاكل التي كانت متمثلة بمداهمات أذناب السلطة بكل أشكالها وتناوب حكامها...فكانت فراسة الوالد وبالتالي ردة فعله تجعلنا نحن الصغار نتساءل عن فحوى الشجار الحاصل وبالتالي الخوف...نعم الخوف , فأغلب الأحيان كان الشجار ينتهي بمحرقة..أي نعم محرقة..يقيمها الوالد قرب تنور أمي...ويضع فيها كل ما تصل إليه يده من كتب تمت للمشكلة بصلة وقد لا تمت لها مطلقا...كما حصل ذات مرة حين قامت السلطة بمداهمة البيوت التي يشكك أن لأحد أبناءها صلة بحزب ما...خاصة الشيوعي...فأسرع الوالد...تساعده أمي..بسحب كل الكتب من المكتبة...واتضح فيما بعد انهم احرقوا كتب حزب البعث الذي كان شقيقي منتميا إليه في بداية تسلمه السلطة في البلاد..و تركوا منشورات الحزب الشيوعي الذي كان شقيقي الآخر منتسبا أليه...فكانت سخرية للقدر ..تبكي وتضحك في آن معا..أن يقتادوا والدي بدلا من أبناءه إلى التحقيق...لانهم أثناء المداهمات يكونون في الجامعات...
هذه المداهمات التي حصلت اكثر من مرة أمام أعيننا نحن الصغار كانت تستطيل بتثاقل أفعى عجوز يعيق حركتها ثقل جسمها لكنها مبهورة بطولها...حيث أن آثار المداهمات ونتائجها تترتب علينا كلنا..فتعلن أمي الإضراب..والصيام القسري..حيث لا طبخ و لا استحمام و لا مدارس و لا تلفزيون لحين عودة المسجونين...
شاءت أقدار هذه العائلة أن يكونوا أبناءها البكر ذكورا...وشاءت الأقدار أيضا أن ينضج ويبلغ هؤلاء الذكور في احلك فترة تاريخية كان و لا يزال يمر بها البلد..اللااستقرار...لا بل الوطن العربي بأكمله حيث كانت تتجاذبه قوى سياسية وثقافية مختلفة ابتداءا من الماركسية مرورا بالشيوعية والقومية والتحررية فكان كل واحد من هؤلاء الذكور ينتمي لحزب معين..ويأتون ليلا للبيت لمناقشة أفكارهم و آراءهم أو للتصدي لمحاولة تشويه للحزب الذي ينتمي إليه أحدهم من شقيقه الآخر...
وكبرنا...مرت السنوات سريعة كسرعة قطار يريد أن يفرغ من رحلة مكررة......كبرنا..لنجد أن الشيوعي صار إسلاميا...والتحرري صارت مبادئه اقرب إلى الإلحاد...فأختار الاتحاد السوفيتي (سابقا) مقرا للإقامة ووطنا آخر..و البعثي صار عضوا نشيطا يخدم الدولة بكل إخلاص ويؤدي ايفاداتها بكل غرور وخيلاء...
كبرنا ونحن لا نعرف سر هذا التحول الحاصل ...لا هم اخبرونا لماذا..و لا نحن سألناهم..كمشاهدين سيئين..كانوا يشاهدون فيلما لتقضية الوقت لا غير...
كبرنا لنجد حزب البعث يحكم البلد...ويخلق حروبا..ويقتات علينا لكي يستمر..حتى جاء يوم قال لي فيه أخي البعثي بالحرف الواحد..
-اسمعي , سوف يأتون لكم على المدارس سائلين عن غير المنتمين في صفوف الحزب لحد الآن , كل ما عليك قوله هو " انك لست منتمية بل مستقلة " ثم اخبريهم إن الرئيس قال ذات يوم " كل العراقيين بعثيين وان لم ينتموا" واسكتي وسوف ينصرفون عنك...أرجوك لا تنتمي..
كان أخي ذاته الذي يشغل منصبا كبيرا في حزب البعث..لكن لم قال لي ذلك؟..لم اعرف...ولحد هذه اللحظة...
فعلا جاء البعثيون بعد أيام...لثانويتنا وأنا بأعوامي ال16 ومتفوقة بدراستي وممتلئة نرجسية وغرورا بهذا التفوق على زميلاتي..كنت قد قررت أن احفظ نصا ما قاله أخي..دخل البعثيون...كان عددهم..6 أشخاص بكروش متدلية وملابس كاكية...يمسكون بأيديهم نماذج جاهزة للتعبئة...كانت الحرب مع إيران على اشدها...والقصف يقتات ويلتهم صبية غيداء كل يوم من بيننا...زميلات وفتيات بعمر الورد...فكنت حانقة أولا على نفسي لأنني جئت للدنيا و لأنني سأصطدم بهذه الوجوه النتنة...ذهبوا إلى آخر الفصل..ونادى اسمن واحد فيهم...
-من منكن غير منتمية لحد الآن..يعني ما تزال مستقلة ؟
قمنا...نحن أربع فتيات لا غير...ابتدأ بآخر وحدة في الفصل...هل تريدين الانتماء لصفوف حزب البعث العربي الاشتراكي؟ أومأت أن نعم..ولم يكن هناك من الخيارات المتوفرة غير نعم...ملأ استمارة باسمهما وهو منتشيا بكسب عضوة جديدة..ثم انتقل للأخرى..ثم الأخرى..ثم وصل ألي..قال..
-وأنت ؟ لم لست منتمية لصفوف الحزب لحد الآن؟ ما شاء الله انتن صبايا والحزب يستمر بسواعد الشباب...
قال كلماته وعينيه تعملان مسحا شاملا لطول شعري ولون عيني وامتلائي وبياضي من سمرتي...القذر..القميء...كم كرهته لحظتها...ارتجف قلبي..وأنا أراه يلعق شاربيه...خفت..استجمعت شجاعتي..قلت
-اسمع أستاذ...السيد الرئيس يقول.."كل العراقيين بعثيين وان لم ينتموا" ...
ابتسم...انتفخت أوداجه...ثم قال..ما شاء الله..أمثالك أنت مكسب كبير للحزب..هيا وقعي..على هذه الاستمارة وسأضمك للفرع الذي أنا فيه..وين بيتكم...؟
-ماعدنا بيت عدنا خيمة ..من بركاتكم..وما أوقع...هل أن الحزب عندكم مجرد توقيع ؟ إذن سأملأ لك الاستمارة والأرض وتخت الدراسة وحتى قميصي وقمصان زميلاتي...و أعطيك إياها..لما لا تجعلون لحزبكم معنى أسمى ؟ لم حزبكم هذا لم ينقذ صديقتي التي اغتالها القصف؟ اترك موضوع الانتماء ...سأنتمي متى اقتنعت بآرائكم ..ألسنا بلد ديمقراطي ؟ اشتراكي؟ أم انه ملكي وديكتاتوري ؟
لا ادري من أين انطلقت هذه الكلمات ومن أين جئت بها..وهذه الشجاعة..لنطقها وكيف واتتني تلك اللحظة؟
كل ما اذكره الآن..انه جمع استماراته ولعق إهانته بعصبية ونزق ونظرة تهديد معلنة..
في اليوم التالي...أخبرتني مديرة المدرسة انه تم نقلي (أنا وكريم) لثانوية (القائد) (هه!!) التي تبعد عن بيتنا مسافة ساعتين بالسيارة ...سألتها لماذا؟
أطرقت المديرة...عبثت بأطراف أوراق كانت على منضدتها..قالت..
-أنت طالبة متفوقة ومن احسن طلابنا و طالباتنا..لكنك بالأمس أدخلت نفسك وأنا معك في متاهة لا يعلمها إلا الله...
-لماذا؟
-ما الداعي للكلام الكبير الذي قلتيه أمس..؟ اجلسي..قد تكونين لا تفهمين اغلب معاني الكلمات التي قلتيها بالأمس ..ربما قرأتها هنا أو هناك..وفي هذه الحالة يكون من الممكن أن نقدم اعتذارا نقول فيه عدم فهمك لما قلتيه
انتفضت ..قمت ..نهضت ووقفت..
-لا أبدا...ست..أنا اعرف معنى كل كلمة وكل حرف قلته واقصده تماما...
-إذن هنيئا لك ولأخيك كريم مدرستكما الجديدة...
وأذنت لي بالانصراف...كان كريم ممسكا بكتبه ينتظرني خارجا..كنا في مدرسة واحدة..آزرني..وبين لي فرحه بالانتقال لمدرسة جديدة ..رغم انه كان يخفي العكس...وصلنا البيت..كان شقيقي حانقا جدا وفرحا جدا بنفس الوقت..فكر إنني لم اكن الببغاء التي تكرر ما يلقنه لها الآخرين بكل طاعة..بل كنت ببغاء مشاكسة أخرجت كل ما في قريحتها ..لم يلمني...أمي فقط هي من كانت حانقة ..
وهكذا كانت أول عقوبة اشتراكية ديمقراطية أتلقاها من الحكومة في عمر ال16 ...حين وصلنا إلى المدرسة الجديدة فوجئنا..بأن لا يحق لنا استلام القرطاسية المجانية..أولا لأننا منقولين بعقوبة..وثانيا عندنا شقيق معدوم...يعني جمعوا كل ما استطاعوا لكي ينبذوننا...حنقت جدا..غضبت..كيف لهم أن يغلفوا لنا شعارات ملئوا بها حتى جدران دورات المياه ..حتى جدران ذاكرتنا الطفولية التي بحت من ترديد وحدة حرية اشتراكية..ولم نرى أي شيء يتجسد حقيقة من هذه الثلاث كلمات فقد كان الشمال الكردي من الوطن مبتورا دائما ولا يزال وحروبه مشتعلة تأكل الأخضر واليابس...فلم يكن للوحدة من الشعار سوى اسمها..أما الحرية فقد تذوقت نارها في أول رد فعل لي في ال16 من عمري والاشتراكية...التي قوضت أركان اقتصاد البلد..دون أن تسهم سوى في رصد مبالغ للأسلحة..التي تتبول عليها الكلاب الآن...ولم تسهم فعلا في وضع حد للمشاكل التي تفاقمت فأصبحت حروبا واجتياحا لكل من تطاله يد حزب البعث العربي الاشتراكي! وليعيش حزب البعث العربي الاشتراكي ولتكسر كل الأقلام التي لا تكتب للقادسية!!!
إن الزرازير لما قام قائمها
توهمت إنها صارت شواهينا
ظنت تأني البزاة الشهب عن جزع
و ما درت انه قد كان تهوينا
أنا لقوم أبت أخلاقنا شرفا
أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
مودتي
رجاء جمعة سلمان
وول سونيكا
ادخل الغرفة الأولى فتطالعني "المرء حصيلة ثقافته" , وادخل الغرفة الثانية فتطالعني "عندما يرن صدى الذكريات في أذني سأحتاج لفافة تبغ ومشنقة"..ادخل الغرفة لثالثة فتطالعني صورة "جيفارا" بشعره المنثور على كتفيه ..فيصبح هذا الفلم العائلي عندي غير متسلسل..
يختلط الوهم بالحقيقة فلا يترك لها من اسمها سوى الأحرف وتصبح فجأة وهما أو ضربا من شطحات الخيال لعقل متعب كما يفسره الأطباء النفسيون...
عندما يسقط الجدار النفسي بينك وبين كل الذكريات التي تفترش مساحة الذاكرة المتعافية فقط ..لا المصابة..التي أحيلت إلى التقاعد مبكرا...تبدأ الأحداث الماضية بفقدان تسلسلها ومن ثم تكتسب لقب مجنون أو بأحسن حالاتك..انك تهذي...هذا اللاتسلسل الفكري الذي يحلو لي أن أطلق عليه الآن وأنا أحاول أن انسب أرقاما لحوادث حصلت علني أستطيع أن اربط بينها وبين ما نعيشه من ارث لكي اصل إلى تحليل منطقي للأمور..التي حصلت والتي ستحصل
كان البيت تتجاذبه قوى سياسية تنتقل من الشارع إلى البيت مباشرة الذي يضم 16 صبي وفتاة وأم وأب وجدتين وجدين...وجود والدي الأميين سهل الكثير لنفاذ أفكار سيئة وأخرى صالحة , ولكن كان للبدوي فراسته كما يقولون ..فقد كانت فراسة الوالد تضيء له الضوء الأحمر حين اقتراب أولاده من مكامن الخطر..وحين تبدأ هذه الأفكار "الشارعية" بجلب مشاكل للبيت...هذه المشاكل التي كانت متمثلة بمداهمات أذناب السلطة بكل أشكالها وتناوب حكامها...فكانت فراسة الوالد وبالتالي ردة فعله تجعلنا نحن الصغار نتساءل عن فحوى الشجار الحاصل وبالتالي الخوف...نعم الخوف , فأغلب الأحيان كان الشجار ينتهي بمحرقة..أي نعم محرقة..يقيمها الوالد قرب تنور أمي...ويضع فيها كل ما تصل إليه يده من كتب تمت للمشكلة بصلة وقد لا تمت لها مطلقا...كما حصل ذات مرة حين قامت السلطة بمداهمة البيوت التي يشكك أن لأحد أبناءها صلة بحزب ما...خاصة الشيوعي...فأسرع الوالد...تساعده أمي..بسحب كل الكتب من المكتبة...واتضح فيما بعد انهم احرقوا كتب حزب البعث الذي كان شقيقي منتميا إليه في بداية تسلمه السلطة في البلاد..و تركوا منشورات الحزب الشيوعي الذي كان شقيقي الآخر منتسبا أليه...فكانت سخرية للقدر ..تبكي وتضحك في آن معا..أن يقتادوا والدي بدلا من أبناءه إلى التحقيق...لانهم أثناء المداهمات يكونون في الجامعات...
هذه المداهمات التي حصلت اكثر من مرة أمام أعيننا نحن الصغار كانت تستطيل بتثاقل أفعى عجوز يعيق حركتها ثقل جسمها لكنها مبهورة بطولها...حيث أن آثار المداهمات ونتائجها تترتب علينا كلنا..فتعلن أمي الإضراب..والصيام القسري..حيث لا طبخ و لا استحمام و لا مدارس و لا تلفزيون لحين عودة المسجونين...
شاءت أقدار هذه العائلة أن يكونوا أبناءها البكر ذكورا...وشاءت الأقدار أيضا أن ينضج ويبلغ هؤلاء الذكور في احلك فترة تاريخية كان و لا يزال يمر بها البلد..اللااستقرار...لا بل الوطن العربي بأكمله حيث كانت تتجاذبه قوى سياسية وثقافية مختلفة ابتداءا من الماركسية مرورا بالشيوعية والقومية والتحررية فكان كل واحد من هؤلاء الذكور ينتمي لحزب معين..ويأتون ليلا للبيت لمناقشة أفكارهم و آراءهم أو للتصدي لمحاولة تشويه للحزب الذي ينتمي إليه أحدهم من شقيقه الآخر...
وكبرنا...مرت السنوات سريعة كسرعة قطار يريد أن يفرغ من رحلة مكررة......كبرنا..لنجد أن الشيوعي صار إسلاميا...والتحرري صارت مبادئه اقرب إلى الإلحاد...فأختار الاتحاد السوفيتي (سابقا) مقرا للإقامة ووطنا آخر..و البعثي صار عضوا نشيطا يخدم الدولة بكل إخلاص ويؤدي ايفاداتها بكل غرور وخيلاء...
كبرنا ونحن لا نعرف سر هذا التحول الحاصل ...لا هم اخبرونا لماذا..و لا نحن سألناهم..كمشاهدين سيئين..كانوا يشاهدون فيلما لتقضية الوقت لا غير...
كبرنا لنجد حزب البعث يحكم البلد...ويخلق حروبا..ويقتات علينا لكي يستمر..حتى جاء يوم قال لي فيه أخي البعثي بالحرف الواحد..
-اسمعي , سوف يأتون لكم على المدارس سائلين عن غير المنتمين في صفوف الحزب لحد الآن , كل ما عليك قوله هو " انك لست منتمية بل مستقلة " ثم اخبريهم إن الرئيس قال ذات يوم " كل العراقيين بعثيين وان لم ينتموا" واسكتي وسوف ينصرفون عنك...أرجوك لا تنتمي..
كان أخي ذاته الذي يشغل منصبا كبيرا في حزب البعث..لكن لم قال لي ذلك؟..لم اعرف...ولحد هذه اللحظة...
فعلا جاء البعثيون بعد أيام...لثانويتنا وأنا بأعوامي ال16 ومتفوقة بدراستي وممتلئة نرجسية وغرورا بهذا التفوق على زميلاتي..كنت قد قررت أن احفظ نصا ما قاله أخي..دخل البعثيون...كان عددهم..6 أشخاص بكروش متدلية وملابس كاكية...يمسكون بأيديهم نماذج جاهزة للتعبئة...كانت الحرب مع إيران على اشدها...والقصف يقتات ويلتهم صبية غيداء كل يوم من بيننا...زميلات وفتيات بعمر الورد...فكنت حانقة أولا على نفسي لأنني جئت للدنيا و لأنني سأصطدم بهذه الوجوه النتنة...ذهبوا إلى آخر الفصل..ونادى اسمن واحد فيهم...
-من منكن غير منتمية لحد الآن..يعني ما تزال مستقلة ؟
قمنا...نحن أربع فتيات لا غير...ابتدأ بآخر وحدة في الفصل...هل تريدين الانتماء لصفوف حزب البعث العربي الاشتراكي؟ أومأت أن نعم..ولم يكن هناك من الخيارات المتوفرة غير نعم...ملأ استمارة باسمهما وهو منتشيا بكسب عضوة جديدة..ثم انتقل للأخرى..ثم الأخرى..ثم وصل ألي..قال..
-وأنت ؟ لم لست منتمية لصفوف الحزب لحد الآن؟ ما شاء الله انتن صبايا والحزب يستمر بسواعد الشباب...
قال كلماته وعينيه تعملان مسحا شاملا لطول شعري ولون عيني وامتلائي وبياضي من سمرتي...القذر..القميء...كم كرهته لحظتها...ارتجف قلبي..وأنا أراه يلعق شاربيه...خفت..استجمعت شجاعتي..قلت
-اسمع أستاذ...السيد الرئيس يقول.."كل العراقيين بعثيين وان لم ينتموا" ...
ابتسم...انتفخت أوداجه...ثم قال..ما شاء الله..أمثالك أنت مكسب كبير للحزب..هيا وقعي..على هذه الاستمارة وسأضمك للفرع الذي أنا فيه..وين بيتكم...؟
-ماعدنا بيت عدنا خيمة ..من بركاتكم..وما أوقع...هل أن الحزب عندكم مجرد توقيع ؟ إذن سأملأ لك الاستمارة والأرض وتخت الدراسة وحتى قميصي وقمصان زميلاتي...و أعطيك إياها..لما لا تجعلون لحزبكم معنى أسمى ؟ لم حزبكم هذا لم ينقذ صديقتي التي اغتالها القصف؟ اترك موضوع الانتماء ...سأنتمي متى اقتنعت بآرائكم ..ألسنا بلد ديمقراطي ؟ اشتراكي؟ أم انه ملكي وديكتاتوري ؟
لا ادري من أين انطلقت هذه الكلمات ومن أين جئت بها..وهذه الشجاعة..لنطقها وكيف واتتني تلك اللحظة؟
كل ما اذكره الآن..انه جمع استماراته ولعق إهانته بعصبية ونزق ونظرة تهديد معلنة..
في اليوم التالي...أخبرتني مديرة المدرسة انه تم نقلي (أنا وكريم) لثانوية (القائد) (هه!!) التي تبعد عن بيتنا مسافة ساعتين بالسيارة ...سألتها لماذا؟
أطرقت المديرة...عبثت بأطراف أوراق كانت على منضدتها..قالت..
-أنت طالبة متفوقة ومن احسن طلابنا و طالباتنا..لكنك بالأمس أدخلت نفسك وأنا معك في متاهة لا يعلمها إلا الله...
-لماذا؟
-ما الداعي للكلام الكبير الذي قلتيه أمس..؟ اجلسي..قد تكونين لا تفهمين اغلب معاني الكلمات التي قلتيها بالأمس ..ربما قرأتها هنا أو هناك..وفي هذه الحالة يكون من الممكن أن نقدم اعتذارا نقول فيه عدم فهمك لما قلتيه
انتفضت ..قمت ..نهضت ووقفت..
-لا أبدا...ست..أنا اعرف معنى كل كلمة وكل حرف قلته واقصده تماما...
-إذن هنيئا لك ولأخيك كريم مدرستكما الجديدة...
وأذنت لي بالانصراف...كان كريم ممسكا بكتبه ينتظرني خارجا..كنا في مدرسة واحدة..آزرني..وبين لي فرحه بالانتقال لمدرسة جديدة ..رغم انه كان يخفي العكس...وصلنا البيت..كان شقيقي حانقا جدا وفرحا جدا بنفس الوقت..فكر إنني لم اكن الببغاء التي تكرر ما يلقنه لها الآخرين بكل طاعة..بل كنت ببغاء مشاكسة أخرجت كل ما في قريحتها ..لم يلمني...أمي فقط هي من كانت حانقة ..
وهكذا كانت أول عقوبة اشتراكية ديمقراطية أتلقاها من الحكومة في عمر ال16 ...حين وصلنا إلى المدرسة الجديدة فوجئنا..بأن لا يحق لنا استلام القرطاسية المجانية..أولا لأننا منقولين بعقوبة..وثانيا عندنا شقيق معدوم...يعني جمعوا كل ما استطاعوا لكي ينبذوننا...حنقت جدا..غضبت..كيف لهم أن يغلفوا لنا شعارات ملئوا بها حتى جدران دورات المياه ..حتى جدران ذاكرتنا الطفولية التي بحت من ترديد وحدة حرية اشتراكية..ولم نرى أي شيء يتجسد حقيقة من هذه الثلاث كلمات فقد كان الشمال الكردي من الوطن مبتورا دائما ولا يزال وحروبه مشتعلة تأكل الأخضر واليابس...فلم يكن للوحدة من الشعار سوى اسمها..أما الحرية فقد تذوقت نارها في أول رد فعل لي في ال16 من عمري والاشتراكية...التي قوضت أركان اقتصاد البلد..دون أن تسهم سوى في رصد مبالغ للأسلحة..التي تتبول عليها الكلاب الآن...ولم تسهم فعلا في وضع حد للمشاكل التي تفاقمت فأصبحت حروبا واجتياحا لكل من تطاله يد حزب البعث العربي الاشتراكي! وليعيش حزب البعث العربي الاشتراكي ولتكسر كل الأقلام التي لا تكتب للقادسية!!!
إن الزرازير لما قام قائمها
توهمت إنها صارت شواهينا
ظنت تأني البزاة الشهب عن جزع
و ما درت انه قد كان تهوينا
أنا لقوم أبت أخلاقنا شرفا
أن نبتدي بالأذى من ليس يؤذينا
مودتي
رجاء جمعة سلمان