المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجحيم



عبدالله البقالي
21-08-2002, 10:26 PM
الى صديقي وابن بلدتي "احمد المرزوقي" صاحب الكتاب الشهير "الزنزانة رقم 10" و الذي امتص جحيم السجون " تازمامارت" عشرين سنة من احلى سنوات شبابه --------------------------------- كم سنة مرت به وهو هنا ؟ و أي شئ مهول ذاك الذي كان ثمنه أحلى سنوات عمره ؟ حلم سرمدي أم سراب خادع ؟..وهم تستر بجلالب الواقع أم حقيقة شقت طريق المستحيل ؟
يتساءل .. يمارس وظيفته الوحيدة التي امتهنها من عقود خلت والمقرونة دوما بقياس مختلف المسافات لأبعاد المكان. وحدة القياس كانت تختلف كل مرة .فحينا تكون خطوة قد تطول أو تقصر , و أخرى باطن قدمه او راحة يده وحينا تكون قامته..

عملياته تلك جعلته على دراية تامة بأدق تفاصيل المكان دونما حاجة الى الكوة الضيقة المنتصبة في أعلى الجحر , و التي ان كانت قد ضنت عليه بالنور , فقد جادت عليه بالبرودة او الحرارة والحشرات .الا أنه مع ذلك فقد كان لتلك الأشياء دورا مهما . فعلى الأقل كانت تمكنه من معرفة تعاقب الفصول في العالم الخارجي .لكن ماذا يجدي ذلك ان كان عمره بشطريه المنصرم والمتبقى قد صودرا منه . و أنه عاش فيما عاش أياما وسنوات مزيفة ؟
صوت مرتل سورة الكهف يأتيه خافتا على غير عادته و يقطع حبل تفكيره. من المخطئ ؟..لقد واظب هذا القارء على ترتيل هذه السورة في نفس التوقيت من صبيحة كل يوم جمعة على امتداد عشرين سنة .
لكن لم يكن قد انقضى أسبوع بكامله على ترتيل المرة الأخيرة في تلك اللحظة.
ينتابه الشك ..ينادي زميلا له في جحر مجاور .يكرر النداء ثانية وثالثة ورابعة .. تنطلق صيحات التأبين من جحور متفاوتة البعد . يقرفص تحت الكوة و يغوص مخترقا نفقا مداه عشرين سنة من الظلمة و الرهبة والخوف . يعبره السؤال . كم كانوا في البداية و كم صاروا الآن ؟....
انه يستطيع أن يتذكر بتجل تام أن الرحلة كانت في بدايتها مغرية ..رياح المد كانت تعصف بقوة اتجاه الشطآن . كان من السباقين الذين جروا الى هناك ... بهرته الأمواج العاتية ...
كانت مختلفة تلك المرة , فيها مزيج من الألوان و ان كان الأحمر يغلب عليها .اقترب أكثر ..شدته اليها .. أمعن النظر ..رأى على بسائطها انعكاسات لصور شتى .أطفال متحلقون حول صحون فارغة ..سلاليم بلا أدراج..راكضون اتجاه خط وصول وهمي ..
لمس الموج , تحول الى بساط , ركبه . لم يكن وحده .رجالا عتاة كانوا في عيونهم أمل وعلى محياهم عزم زواصرار وفي جوفهم ظمأ راكمته الدهور .
انطلقوا مع الموج الكاسح . مجالات كثيرة اخترقوها ..قلاع وحصون ..حدران وأسلاك..جميعها تهاوت وتلاشت تحت اقدامهم . وفي غمرة الزحف انفتحت أفواه أسطورية انصبوا داخلها مع الموج ليقطعوا رحلة امتد مسارها عبر تقاطع الوجود و العدم . ليفرغوا في النهاية في صقع لم يكونوا وحدهم من جهلوا موقعه . أشياء مريعة مرت بهم في رحلتهم . سئلوا عن اشياء كثيرة ..عن علاقتهم بالبحر ..و عن اجتياح الموج للقلاع والقماقم ..
لم يجيبوا بشئ لأنهم لم يعرفوا من كان السباق لعشق الآخر هم أم البحر ؟
صيحات التأبين تقطع حبل تفكيره من جديد ..سقط مرتل سورة الكهف ..انتصب واقفا ينظر الى انهيار تحصينات ما عادت قادرة على الصمود في وجه سؤال ملح ..
ماذا يفعل المقاتل حين يصاب في معركة ؟...هل ينزوي لركن آمن يضمد فيه جراحه و يتحسس المنفذ الذي قد يتسرب عبره الموت أم يتابع القتال بضراوة وشراسة بلا مثيل ..؟هل يتمكن منه نداء الحياة ويسحبه الى الخلف حيث وجوه يحبها تقف في انتظار عودته أم أن ضغط الألم يحوله الى ثور هائج يدفعه باصرار نحو متاريس عدوه باحثا عن طلقة رحمة ..؟ اي النوعين هو اذن ؟ .
يتوقف عند منتصف الجحر شاخصا ببصره في الجدران . قلبه يخفق بشدة ... أنفاسه تتلاحق بسرعة ... دماؤه تفور . ثور هائج هو اذن . أين ماتريس عدوه ؟؟.. انها تبدأمن هنا , من هذا الجدار . يتجه صوبه , يهوي عليه بملء يديه , يضرب ويضرب ويضرب .. تخور قواه , ينهار ملتصقا بالجدار مرددا بلوعة ..
افتحوا أبواب الجحيم كي ألقي بنفسي فيه ...
افتحوا ابواب الجحيم كي انصهر في حممه ..
افتحوا ...افتحوا ... افتحوا..
صوت قوي ياتيه عبر الكوة .
آسفون ..
لم نبخل عليك بشئ .
ليس لدينا اكثر مما انت فيه الان .
انك في اعلى مراتب الجحيم .
عبد الله البقالي
.

الشيهانة
24-08-2002, 02:41 AM
مساء الخير استاذي البقالي..

ستظلمك مفردات اللغة لو حاولت ان اصف روعة اسلوبك بها..وجمال تصويرك..

يهمني كثيراً ان اعرف مصير احمد المرزوقي..هل مازال على قيد الحياة؟؟

أما من الذين أنتحروا لعدم قدرتهم على مواصلة الحياة..بعد خروجهم من المعتقل..

كلنا في الجحيم وان اختلفت درجاته..وكلنا في زنزانات الحياة وان تفاوتت احجامها..

ولكن حتماً ليس بجحيم زنزانة هذا المناضل ..

هو سجين بجسده..حر طليق بروحة ..

اما نحن ..؟؟ فلله المشتكى..

لكن ياسيدي ..

ماذا تقول عن رجل كانت روحه هي السجينه..وجسده حر طليق؟

أعتقد بأن سيكون السجن اقسى ..والحجيم سيكون مضاعف .






ودمت بكل الخير

عبدالله البقالي
24-08-2002, 09:30 PM
شكرا على تواجدك في فضاءات نصوصي .

بالنسبة لأحمد المرزوقي فهو قد امضى عشرين سنة في السجن التاريخي الذي دخل ذاكرة الانسانية "تازمامارت" في وقت كانت المحكمة قد ادانته بخمس سنوات .

ما حفظته ذاكرتي من تقديمه للكتاب هذا المقطع
بعد ان يصف حال السجناء باللحى التي تدلت تحت خصورهم والاظافر التي صارت اطول واقسى من السكاكين . والضمور الذي حولهم الى اشباح ... بعد وصف دقيق لحالهم يخاطب القارئ قائلا "

" عزيزي القارئ . نحن لسنا في العصر الحجري او عصر من عصور الهمجية . او سجن من سجون المغول . نحن في القرن العشرين والمكان بالتحديد هو "تازمامارت " ... وعذرا لصديقي احمد ان لم اكن قد نقلت النص بامانة ..
احمد المرزوقي هو ضابط شارك في انقلاب "الصخيرات" اعتقل بعد الافراج عنه لكن تدخل المنظمات الدولية اسفر عن الافراج عنه .
المنظر الرهيب كان يوم افرج عنه من السجن بعد عشرين سنة . ابوه مات اثناء سجنه . وحين حضر فقط بعض افراد اسرته لاستقباله ، سأل اول ما سال عن امه ، فابلغ انها ذهبت للعاصمة قصد استقباله فرد عليهم .." ايلغوني انها ماتت ان كانت قد ماتت . لا تخشوي علي من اية صدمة ، فقلبي قد مات من زمان بعيد ولم يعد يتاثر ...
اجمد المرزوقي عاد ليتسجل في الكلية . وقد حصل على الاجازة في القانون ، ولا يزال يتابع الان دراسته . كتابه الزنازانة رقم 10 طبع الى عدة لغات عالمية . واعتقد انه يترجم الان الى العربية . ..

اعود لسؤالك الثاني لأقول . الفرق هو فرق بين من يريد ان يجعل لحياته معنى وبين من يترك للأيام ان تحدد له ذلك ..

اتمنى ان لا اكون قد اطلت عليك ..

أرسطوالعرب
22-10-2002, 01:30 PM
سأدرس النص سيدي....

وأعجب من نفسي ووقاحتها أمام قلمك...!!!

فكيف لم تلتهم عيني هذه الكلمات من قبل؟!!!!

عذراً سيدي..............

أنا وقلمي وعيني وكلي.........آسفون
لم نبخل عليك بشئ .
ليس لدينا اكثر مما انت فيه الان .
انك في اعلى مراتب الجحيم ...............:)