المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الطفولة و الورق الاخضر



عبدالله البقالي
17-08-2002, 09:08 PM
أقر في البداية أني كنت تلك اللحظة عصي الفهم الى حد البلادة , و الا كيف بقيت مصرا الى أن افكاري المسبقة كانت أكبر مما كان يجري أمامي؟ و لماذا لم ألحظ تلك السيول التي عمقت مجاريها على ذلك الوجه الصغير ؟ و أي صملاخ سميك ذاك الذي أغلق مسامعي و حال بينها و بين أنين تلك الصغيرة ؟
قلت بغباوة من يعتقد ان لا شئ يخفى عنه: توقفي حيث أنت . أخبريني الآن . بأي شئ ستبررين تخلفك هذه المرة ؟
وقفت عند خط دفاعها الأخير ووجهها منكب على الأرض حتى لا تراه ينهار ولاذت بالصمت. زاد ذلك من غضبي و قلت محاصرا اياها في زاوية ضيقة : تأكدي أننا لن نقوم بأي عمل ما لم نعرف سبب تأخرك.
تأكدت أنها ستفقد ما تبقى من كبريائها . أجهشت بالبكاء و قالت : كنت أرعى الغنم.
ضج القسم بضحك التلاميذ فزاد ذلك من اعتقادي من ان المسألة ليست أكثر من ادعاء كاذب تهدف من خلاله الى تجنب حرج الموقف. لكن انهيارها بذلك الشكل هزني بعنف. بقيت مصعوقا اذ لا يمكن أن تكون تلك الصغيرة راعية غنم. وجهها الملائكي, شعرها الأشقر , يشرتها البيضاء التي لا علاقة لها بلفح الشمس. صورة للبراءة في أزهى صورها . شئ واحد كان كفوضى داخل هذا النظام. ملابسها العتيقة التي لا تتغير , و أهم من ذلك تخلفها المستمر عن أوقات الدراسة.
متاخرا حاولت أن ادفعها للتماسك. اقتربت منها وقلت: أنا لم أقتنع من أنك ترعين الغنم .
هزت رأسها بايماءة مؤكدة أن ما قالته هو الصواب. سألتها : ماذا يشتغل أبوك ؟
أجابت بصوت خافت : أستاذ .
أثار الجواب ذهولي و اعتقدت ان في الأمر خطا وقلت : أقلت أستاذ ؟ هل تقصدين أنه يشتغل بالتدريس؟
حركت رأسها من جديد . انذهلت وقلت منفجرا في وجهها : أستاذ و يبعث بك الى المرعى ؟ وفي أوقات الدراسة ؟
انفجرت باكية و هي تقول : هو غير موجود.
بانفعال متزايد قلت : و أين هو ؟
ـ سافر الى دولة في الخليج.
أحسست أني تورطت وقلت : ومع من تعيشين ؟
ـ مع احدى الاسر.
ـ وهل تعرف هذه الأسرة أنه يتوجب عليك الحضور الى المدرسة في الساعة الثامنة ؟
ـ بكل تأكيد
جف حلقي , انتابتني رغبة هائلة في أن أحضر و أحاكم بقسوة كل من له علاقة بهذه الفتاة البئيسة. من أي مواد صلبة شكلت أحشاء هؤلاء ؟ و أي صور ستنطبع في ذاكرة هذه البئيسة التي شيئ لها أن تنظر الى العالم بعيون اليتم المصطنع ؟
طلبت من الصغيرة أن تحضر لي عنوان أبيها وتوهمت عبثا أني أنهيت الموضوع , لكن محيط تلك الشيقة كان قد اتسع لأصبح مجرد مجرة تسبح في فلكها . و رايت في غفلة منها عبر منظارها المشكل من أحاسيس اليتم المصطنع الفرق المروع بين من تجعله الحياة مصبا تتنافس الروافد و الاودية على تغذيته بكل ما يصنع روعته وبين أكمة منسية افقدها التآكل الذاكرة التي كانت صورها تضخ بعض الدفء اللازم للحياة. ما أحسست ان لها بيتا تهرول اليه حين يلجأ الآخرون الى بيوتهم , و لا لمست لديها حماسا لعيد أو مناسبة . شئ واحد كان يشدها و تجد ايما لذة في الحديث عنه. كانت تركز نظراتها على تواريخ الأيام. و حين كنت اضبط شرودها كانت تجيب محتمية بدفء الأيام القادمة
ـ لم تعد الا شهور قليلة وتعود اسرتي .
كنت أفكر في زجرها لأن ذلك يفقدها أشياء مهمة. لكن ماذا يعني أن تفقد هذا و قد فقدت قبله حنان الام
و طعم الأبوة ؟ و ماذا سيعنيه توبيخي لها امام ضياع يجتاح كل يوم مساحة جديدة من روحها ؟
اقتربت منها و قلت : منذ متى رأيت أسرتك آخر مرة ؟
استوت في مقعدها و عدلت من جلستها . عبرت سحنتها أطياف ذكريات بعيدة , أفرجت عن ابتسامة سرعان ما اغتالتها و قالت : في ذلك المساء حضر كل افراد العائلة . البعض منهم رأيته لأول مرة . جميعهم حضروا لتوديعنا . كنت فرحة أسابق الاوقات لرؤية ذلك العالم الجديد الى حد أني لم استطع ان أاكل شيئا حين قدم العشاء . لكني حين استيقظت في الصباح لم أجدهم . قيل انهم سيعودون في الغد , ثم قيل بعد اسبوع , ثم بعد شهر و الآن مرت أربع سنوات. ها عنوان ابي قل له حين تكتب ...
لم تتمالك نفسها , و كشظايا انفجار توالت كلماتها وخلف كل شظية كان يمتد عالم موبوء لا حياة فيه غير صفير الريح و نوح البوم في ليل طويل طويل تراحعت فيه الحياة لتختصر في حلم بعيد يعيد..
تساءلت و انا اتفحص العنوان . هل الامر في حاجة الى كلمات ؟ و هل تستطيع الكلمات ان تكون أقوى مما رأيت و أقوى من تلك اللحظة التي ولى الاب فيها هاربا و هي تتعلق باذياله و تبكي ؟
لم اكتب شيئا , لكني صرت مثل تلك الصغيرة , كلانا يعيش على اتنظار مع فارق ان انتظارها سينتهي مع دق الأسرة للباب و في حين سأظل انا أسير رهان مجنون يتمثل في تمن أن ينطلق داخل كل انسان اعصار داخلي عنيف يجتث الخلايا المسؤولة عن موت الاحساس و المشاعر داخل الانسان.



|

أرسطوالعرب
19-08-2002, 07:33 AM
سلام
صباح اللافندر......

تحية طيبة سيدي البقالي....

لا أدري إن قصدت بالورق الأخضر (النقود)....

على هذا الإفتراض...

فلا أعتقد سيدي أن سعي الأب للرزق في بلد آخر هو السبب في طفولة هذه الطفلة !!

فكم من شخص مغترب في دولة شقيقة...ورغم هذا أبنائه في أحسن حال...والحمدلله

والملام هنا العائلة المحيطة بهذه الطفلة البائسة...

أتفق معك أن غياب الأب مؤثر.....ولكن ليس لدرجة إسقاط أي خلل بأبنائه...به !!

هذه النقطة التي أود إضافتها هنا سيدي...:)

وكالعادة سيدي....فأنت فريد من نوعك.......لأنك تخاطب العقول بلا قيود...
فكأنك وعقلي تتفقون ....ولا أملك غير الإستسلام لعبثك :)
---------
ربما إفتقادي لعائلتي...وحياة الغربة جعلتني أحمل هذه الفكرة!
----------

عبدالله البقالي
19-08-2002, 12:08 PM
قبل ان ارد عليك اشيد بتواجدك في كل مكان من رقعة الدرر .

الورق الاخضر هو النقود فعلا . ومن ثم تترتسم المفارقة . خيار غير منطقي . المال ام الابناء ؟ ..
لا اتفق معك تماما من ان المال يمكن ان يكون بديلا للاحاسيس .
اي طفل في العالم هو في حاجة الى ان ينمو بشكل طبيعي .
هو في حاجة الى محيطه .
الى الام
الى الاب
الى الاخوة
لن يكون هناك شئ بديل لهذا المطلب .
كل اموال المعمور لن تكون بديلا لحضن الام و لا لدفء الاحساس بالابوة

ارسطو

القصة التي في الاعلى لم اكتبها من مخيلتي كما اوضحت لك من قبل

لا زلت اذكر "مريم"
فتاة اكبر من الطفولة واصغر من المعاناة .
كل صباح كانت تأتي ووجنتيها محمرتان بالبكاء .
تأخرها المستمر كان يقلقني . كنت قاسيا معها في البدء قبل ان تنفتح ابواب مأساتها امام ناظري .
في البدءكنت اعتقد ان تاخرها هو من باب التهاون و استصغار امور الواجب .
لكن حين حكت لي قصتها وجدت الادانة ترتفع في وجهي من كوني اني كنت المقصر لأني لم انتفتح على عوالم اشخاص كان يجب ان اكون على دراية بأمورهم .
هكذا نشات القصة . وهكذا كنت ارى ذلك الشرخ يكبر كل يوم .
انه زمن الليبيرالية المتوحشة التي تاتي على كل شئ . وفي كل يوم ترسل اعاصير لتشطب من الانسان ما تبقىفيه من احساس انساني .