المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غربة الروح و الارض



غايه
15-08-2002, 01:21 PM
ينبتون من أضلاع الليل، يولون وجوههم شطر الأرض و النخل، لا تضاريس و لا لغة تخون إنفلاتهم حيث يلدون كل تفاصيل التعود لديهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ـ
تخرج من ربكة الحلم و تستعيذ بالله منه، تنهض كليلة القدر لتضيء حداد المكان، تلصق ظهرها على جدار الطين مللا، حيث لا صوت و لا روح غيرها.
تستنفر كل عاداتها التي ورثتها أما عن جدة لترفع خيوط اللحاف الأسود* الشبكي بقطعتين من الذهب. رغم ذلك تتسلل بعض الشعيرات البيضاء من أطراف اللحاف و من خلاله،تضع المزيد من الورس و الزعفران** على جبهتها ،تنهض بكل هدوء و تثاقل تتجه للمطبخ لتعد القهوة و هي ترتل بعض الآيات و الأدعية، تحبس كل التذكر فهي تتحرك الآن بناء على العادة لا أكثر، تخرج من مطبخها الصغير لتفترش ظل شجرة البيت التي يقارب عمرها عمر جدها إن لم يكن اكثر، تتكئ عليها بكل طمأنينة و كأنها تذكر سندا ما، و كأنها تستشعر روحا نبضت هنا . تتخيل كل المشاهد التي مرت على المتكئين على ذات الشجرة، تستشعر أحلامهم هنا و رغباتهم، تحاول أن تمتص تلك الأوقات التي قضتها أمامهم لتشعر بقلوبهم النابضة كيف أحبتها و كيف تشكلت صورتها في دواخلهم، و كيف تشكلت صورهم ، تعرف أنه ليس ثمة من يراقبها ليس ثمة من تراقب، كل الأشياء تتبخر بسرعة لا مجال لأن يتكأ غيرها. تتفقد الآن أصابعها التي توقفت عن خياطة "الكميم"***، ليس عجزا إنما لا يوجد راس لتمارس عليه طقوسها، سقطت الإبر كما سقطت الرؤوس، تميل عن جذع الشجرة قليلا و كأنها ترغب أن تتخلص من هذه الأحزان، تلصق كفيها ببعض لتصفق صفقات خفيفة، تترنم ببعض المورثات الشعبية .
تفجؤهااللحظة ما أن يتحرك شيء بكل نعومة خلف ظهرها، يتطاير كل شيء و كأنها لم تتذكر، ما ان تستدير حتى تعود بكل يأس،
- ها قد عدت. لم أرك منذ مدة, حتى أنتِ تغيبين مع الكل، لكنك تعودين بين حين و حين(تتنهد)، هم رحلوا و تركوا لي ظل شجرة و بيتا خاويا.
- .....

تتجه إليها بكل دلال و خفة و كأنها تستجدي العفو و المغفرة. تربت على رأسها و تلاطفها.
- لابد أنك جائعة
- .....
تنهض لتبحث عن ما يمكن أن تسد به جوع قطتها الوحيدة، تجري وراءها القطة بكل خبث و مراوغة و هي منتشية تعسف بذيلها في كل جهة، تترك لها بعض الطعام في صحن قديم و تعود لذات المكان لتراقبها من بعيد، ما أن تنتهي القطة من تناول طعامها حتى تفر هاربة دون إلتفاتة.
- لا تنسي أن تعودي! (تصرخ عليها)، رغم كل هذا فأنا انتظرك، أنت تغيبين لكنك تعودين، هم لا يفعلون، هم تركوا لي الحصير و الشجرة، لا ظل ينبض بالحياة هنا، تذكريني عندما تكوني جائعة، لا تغيبي طويلا، أقصد لا ترحلي.
تضع رأسها بين كفيها ثم تبعدهما بسرعة و تستعيذ من فعلتها.
- أستغفر الله من فعل الشيطان!
يفتح الباب الخارجي للبيت بصخب واضح يتراكض مجموعة من الصغار خلف ديك هارب، يمتلأ المكان بغبار أقدامهم العارية، وللمرة الأولى تبتسم منذ استيقاظها.
- لا تدعوه يهرب، أمسكوا به، بل تمسكوا به، أقصد أعيدوه لقفصه و احبسوه! أسوأ شيء أن تتركوه يرحل فقط لغضب عابر!
- إن شاء الله ن إن شاء الله (يصرخ أحد الصبية و هو في عجلة من أمره ليكمل المطاردة)
- و نعم بالله.
تلتفت للشجرة و تبتسم
- رحلوا بغبارهم، بقينا أنا و أنتِ، على الأقل أنت تمنحينني ظلا و سندا، ماذا أمنحك أنا غير جسدي المثقل بالوخز و التذكر؟!
تمر نسمة هواء لتحرك أغصان الشجرة ، لتمنحها شيئا من الصبر و الإجابة.
- أقله أنت تجيبين هم لا يفعلون، هم لا يسمعون ندائي القديم و عظامي الموهنة بالبرد و السن، قاموا بغرسك هنا ظلما لكي تجاوريني و أجاورك، هذا يضمني لي بقائك أنت على الأقل من بينهم. و غدا عندما ارحل ستدركين أنك الأكثر فينا من يعاني غربة المكان و الروح!
تعبرها الريح بشدة ليتساقط الكثير من الورق على حصير العجوز.
- لست وحدك من يبكي، لقد كنت قاسية عليك و أنت ظلي الوحيد، هل يبكيك فراقي أم يبكيك الكم الذي ينتظرك من الوحدة؟! سأسند الآن ظهري عليك و هذا المرة الأولى التي أستأذنك فيها، سأنام قليلا لكني لا أعدك أني سأستعيذ من ربكة الحلم ثانية، اقله أضمن لك أن لن تكوني وحيدة مثلي بعد اليوم!


___________
عدات تمارسها العجائز في سلطنة عمان
* اللحاف المثبت بالذهب ترتديه العجائز معنا
** الورس و الزعفران خلطة تدهن في الجبين
***الكميم = الكمة العمانية و هي ما يلبس في الرأس

أرسطوالعرب
16-08-2002, 06:11 AM
سلام
صباح لافندري......

أختي غاية..

((*و كأنها تستشعر روحا نبضت هنا . تتخيل كل المشاهد التي مرت على المتكئين على ذات الشجرة، تستشعر أحلامهم هنا و رغباتهم،*))

كم قتلني هذا السطر...!!!

قتلني وأعادني لذكرى أمي...

والذي نفسي بيده أستطيع أن أقدم لك تقريراً مفصلاً عن مشاعرها بعدما لامست الشجرة ومرّ ذاك الطيف القديم (الزمن) وهو يستجدي أحلام كل شخص إتكئ على جذعها...

منذ عام ونصف كنت أخرج من مدينة (القريات) وأسير مسافة 40كلم خارج المدينة.....

حيث شجرة غريبة....!!

فعلى مساحات الصحراء كلها كانت الشجرة الوحيدة على مدى الأفق!!

فكنت إن ذهبت إليها اسقيتها ثم جلست بالقرب منها أحدثها عن الغربة وما فعله بي فلان...وكيف فعلت بي حبيبتي...

لم تكن تجيبني ...أو تهمس لي حينها...

ولكني تعلمت لغة الأشجار بعد حين...

فلغة أي جامد أن تنظر إليه....ودع العمق لديك يتحدث !!

فكان حبي لتلك الشجرة بلغ من الجنون حد إحتضانها والبكاء عند لحائها!!

وفي ذكرى تلك الشجرة...

أصبح ذلك العمق يحدثني بين فترة وآخرى..

حتى أصبح جسداً واسمه ابن البلوط...


وإليك أختي غاية ما سيختصر طول ردي عليك :)
**ابن الـبـلوط** (http://forum.dorarr.com/showthread.php?s=&threadid=2355)

---------
غاية....حتماً أنا أقف أمام كاتبة كبيرة جداً......بإنتظار كل حرف :)
----------

الشمس
16-08-2002, 07:20 AM
غاية :)

كل فرع قد يأتي اليوم الذي يتنكر فيه لجذره إلا فروع الشجرة يموت الجذر وتبقى هي واقفة محيية لذكرى جذر أمدها بالحياة دهراً..فشتان هنا بين حال العجوز والشجرة.

ويبقى الإنسان إنساناً يبحث عن الأنس, فإن فقد الونيس من الناس بحث عنه في شيء آخر!


....

غاية

قصة جميلة جداً , لو أني شعرت بعدم واقعية حديث العجوز يبدو لي غير متناسب مع حجم ثقافة عجوز مثلها تسكن بيتاً طينياً ويركض الأولاد حولها قادمين من الشارع حفاة, لكن ربما نرجع هذا إلى أن الحوار كتب بالفصحى وهذا ما جعله يبدو أعمق .


محبتي

الشمــــــــس

غايه
17-08-2002, 12:16 PM
"القريات" !!

لا بأس :)

ها أنا ارخي سدول حمولتي شئا فشيئا

________
تلك العجوز مازالت تؤرقني كالشجرة تماما

غايه
17-08-2002, 12:18 PM
شكرا :)


أحيانا مائة عام من العزلة طريق مثمر لكن بالحزن!

ربما تماما كما قلت " الفصحى اربكت العجوز"

الشيهانة
18-08-2002, 01:32 AM
غايه..

قد تكون هذه العجوز أوفر حظاً من غيرها..

هي تملك شجرةً تشكو لها وهنها ووحدتها..

وتكون ظلها المؤرق..وإن بعثرتها الرياح..

هناك من لا بملك ظل يستند عليه أو يشكو له..

ليس له سوى ظله الوحيد والكئيب..


دمتي مشرقة ورائعة..

غايه
20-08-2002, 12:11 PM
عجوز + شجرة هل يشكلان حياة؟!

إنها الوحدة اينما حلت يربكها العمر

شكرا لمرورك الجميل

My-Spirit
20-08-2002, 12:32 PM
رائعة انت
بروعة حروف اسمك

مررت كثيراً على هذه الكلمات .. وقد يخونني التعبير في تسطير ولو كلمات اعجب
ولكني لم استطع منع نفسي من شرف وضع اسمي في هذا الموضوع الرائع

عبدالله البقالي
20-08-2002, 04:38 PM
غاية

لا اعرف تحديدا ما الذي اريده ان اقرأه فيك ...
الكلمات ؟ الصور الخارجة ؟ العدسة التي ترصد الاشياء ؟ التفاعلات التي تحدث في الداخل وهي ترسم مساحات متفاوتة البعد وهي تحدد هوية الاشياء ؟ ..

الان فقط انتبهت الى اننا لم تحدث منذ امد .
حين اطارد معاني كلماتك اجد نفسي انشغل بعيدا عنها .. لكني لا اقف في الخارج . هناك ريشات ومساحيق دائما تنطلق لترسم اشياء كنت امارسها في طفولتي واعجب كيف ظللت محتفظا بكل تلك الادوات والافكار ولم يجردني منها الزحف ...

غاية . لن اضيف شيئا ودعني الاحق صور افكارك المتمردة .