المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ۝ في حضرة الغيـــــــاب ۝



Oscar
04-12-2006, 07:24 AM
في حضرة الغياب

محمود درويش



/



http://www.dorarr.ws/forum/uploaded/absence.jpg






//



ظلام ظلام ظلام..

نجاة اللون من التأويل، وخيال يهب الأعشى ما فاته من فروق الإملاء ومساواة ترجح كفة الخطأ..

لو خلا الليل منا لعاد صيادو الأشباح إلى ثكناتهم خائبين.. ولو خلا الليل منهم لعدنا إلى بيوتنا سالمين

الأشجار سوداء عمياء بلا أسماء وبلا ظلال.. وفي كل حجر سرّ ما..

كأن الموت الذي لم تره من قبل ينصب فخاخه بدهاء تامّ السرية..

فماذا تفعل في هذا الخلاء الكامل لو نقصت هذه القافلة الصغيرة؟

ومن أية جهة تنجو، وماذا تفعل بنجاتك؟

إلى أين تأخذها وأنت لا تعرف أي طريق؟

لم تفكر بموتك أنت.. فما زلت صغيراً على هذه التجربة..

إذ لم تدرك بعد أن بمقدور الصغار أيضاً أن يموتوا.. لكن كيف تمضي وحيداً إلى حياة لا تعرفها ولا تعرف مكانها؟ فأبكاك احتمال يهيل عليك بلا رأفة ..



سماء ثقيلة الوطأة.. ويروي لك، بلا رحمة..

نهاية قصة عن ضياع أبدي في ليل وحشي مطبق على بغلتين

وطريق صخري وسمسار حنين يقود خمسة

عائدين إلى خطاهم المعاكسة




وستروي إلى لا أحد واضح الملامح:

لم يكن لنا من غدو، وقتئذ، إلا الضوء والصوت..

ولم يكن لنا، ليلتئذ، من حليف سوى الحظ

ينهرك صوت الخوف الخفيض: لا تسعل أيها الولد، ففي السعال دليل الموت إلى مقصده..

ولا تشعل عود الثقاب، أيها الأب، فان في بصيص نارك الصغيرة

إغواء لنار البنادق


و خيّل لك أن الليل هذا هو خباء الموت الواسع

وأنك تمشي أو تزحف أو تقفز كالجندب في برية الذئاب الخالية من المارة..



وخيّل لك أن الضوء القادم من نجمة شاردة، أو من سيارة بعيدة، هو أحد الأدلاء السريين لصاحب هذه البرية..

وعليك إذا لاح الضوء من بعيد أن تتخذ هيئة شجرة واطئة أو صخرة صغيرة، وأن تحبس أنفاسك لئلا يسمعك الضوء الواشي


وستروي لي عندما أتقن التدوين، أو ستروي للا أحد كيف عثرت هناك، في ذلك الليل، على قرون استشعار جاهزة لالتقاط الرسائل البعيدة

وكيف تدربت على الاقامة في المغامرة، وكيف اكتويت بجمرة الثنائيات وجاهدت في مكابدة الضد للضد، وتجنبت تعريف العكس بالعكس، فليس كل عكس لما هو خطأ صواباً دائماً..



وليس الوطن هو النهار، دائماً.. وليس المنفى هو الليل...




ظلام يوحد العناصر في كهف الوجود الخالي من الصور..

يطفح المجهول المحمول على عواء الذئاب وعلى هسيس العشب الدامي وتمشي خطوة على خواطر سوداء، وعلى صخرة ليل خطوة..

وأنت تسأل في سرك عما يجعل العتمة صلبة، وعما يجعل الحياة صعبة.. وتحن إلى مطر في الجنوب إلى مطر يذيب هذا

الحبر الكوني الهائل



وتقول: لو هطل المطر علينا في هذا الليل لذاب الظلام

ورأينا خطانا والطريق، وقادتنا رائحة المطر إلى الشجر الذي شب في الغياب ودخلت أغصانه العالية إلى الغرف

لكن همساً مالحاً يأمرك بأن تنبطح على الأرض..

هو الضبع - يقولون لك وهم يشيرون إلى ضوء سيارة من بعيد، ولا يأذنون لك بأن تسأل: هل يقود الضبع سيارة؟ لم تعرف المجاز بعد، فلم تعرف أن الضبع هو "حرس الحدود"

إذ ظنوا أن الضبع لمن هو في سنك أرحم..

فهو لا يحمل بندقية ولا يعرف المحاججة.. ويكفيك، لتنجو منه

أن تخفي خوفك في جيبك، وتتظاهر بالمشية اللامبالية.. يبتعد الضوء، وتزدرد الخوف، وتمشي مع بغلتين، وعائلة، وسمسار حنين على هدي الظلام






وأنا الراوي، لا أنت، أذكّرك الآن بمنادي قرية كان يقف على سطح بيت ويصرخ: جاء الضبع..

فيهرول عشرات من أمثالك إلى كهف القرية، إلى أن يعود الجنود من حملة التفتيش عمن عادوا إلى بلدهم "متسللين"..

تلك القرية المنحوتة في سفح جبل ذات بيوت من جدران ثلاثة..

أما الرابع فهو ظهر الجبل..

بيوت لو نظرت إليها من تحت، من كرم الزيتون، لرأيت لوحة عشوائية رسمها فنان أعمى على عجل، صخرة على صخرة..

ونسي أن يرش عليها شيئاً من نعمة اللون، فقد كان خائفاً من أن يرى، فجأة، ما صنعت يداه..

أما النوافذ فإنها تطل على جهة واحدة: جهة الضبع!

هناك، عرفت من آثار النكبة المدمرة ما سيدفعك إلى كراهية النصف الثاني من الطفولة..

فإن كنزة صوف واحدة، منتهية الصلاحية، لا تكفي لعقد صداقة مع الشتاء..

ستبحث عن الدفء في الرواية، وستهرب مما أنت فيه إلى عالم متخيل مكتوب بحبر على ورق..

أما الأغاني، فلم تسمعها الا من راديو الجيران..

وأما الأحلام فلن تجد متسعاً لها في بيت طيني، مبني على عجل كقن دجاج، يحشر فيه سبعة حالمين، لا أحد منهم ينادي الآخر باسمه منذ صار الاسم رقماً..



الكلام إشارات يابسة تتبادلونها في الضرورات القصوى، كأن يغمى عليك من سوء التغذية، فتداوى بزيت السمك...

هبة العالم المتمدن لمن اخرجوا من ديارهم..

تشربه مكرهاً كما تكره الألم على إخفاء صوته في ادعاء الرضا

تتذكر مذاق العسل الجارح الذي كان جدك يرغمك على تناوله فتأبى وتهرب من مشهد جدتك التي تضع المنخل على وجهها لتتقي عقصات النحل وتقطف الشهد بيد جريئة..



كل شيء هنا برهان على الخسارة والنقصان..

كل شيء هنا مقارنة موجعة مع ما كان هنا. وما يجرحك أكثر هو ان "هُناك" قريبة من "هنا"جارة ممنوعة من الزيارة ترى إلى حياتك التي يتابعها مهاجرون من اليمن دون ان تتدخل في ما يفعلون بها، فهم أصحاب الحق الإلهي وأنت الطارئ اللاجئ..




وحين تقول لأهلك: لم أذق في حياتي طعماً أسوأ من زيت السمك..

يسخر منك الكبار: ألك حياة يا ابن السابعة..

ألك ذكريات؟ تقول: نعم..

وهذا هو الفارق. ولد الماضي فجأة كالفطر..

صار لك ماض تراه بعيداً.. وبعيد هو البيت الذي يسكنه وحيداً ولد الماضي من الغياب..



ويناديك الماضي بكل ما ملكت يداه من أزهار الصبار الصفراء على طريق يصعد فوق التلال، ومن رائحة الحنين الشبيهة برائحة البلوط المشوي في الموقد، ومن عباءة جدك البنية كالتبغ الذي بلله الماء، الخفاقة كصوت صراع ودي بين الحكمة والعبث..

ولد الماضي ..

ومن خوفك من الغد ولد الماضي كاملاً جاهزاً لخطف العروس على حصان الحكاية..

من كل ما أنت فيه، ومن كل ما فيك من بؤس الحاضر الجائع إلى تعريف الهوية..

ولد الماضي..




وكما لو كنت تهذي: البعيد هو السعيد..

والسعيد هو البعيد..

سأجعل الليل إثمداً لأستعيد عافية الماضي وأداوي بها حمى أصابت الأرض المتشعبة فيّ كالنجيل. وأهذي وأعرف أني أهذي، ففي الهذيان وعي المريض برؤياه، لأنه أنبل مراتب الألم..






سيقول الطبيب مرة أخرى: إنه يشكو من سوء التغذية، فهل اقلع عن تناول زيت السمك؟ كلا، ولكنه يتذكر أشياء لا يحتملها من هو في مثل عمره.. يتمنى أن يكون فراشة، فهل للفراشات ذكريات؟

الفراشات هي الذكريات لمن يتقنون الغناء قرب نبع الماء، فهل غنّى؟

ما زال صغيراً فأنى له أن يدحرج الكلام على مصطبة من رمل؟ إنه يشكو من سوء الحاضر، فلتأخذوه إلى الغد..





ليس لنا في اليد حيلة ولا غد ـ قالوا ـ ونحن على هذه الحال، مربوطون إلى مصائر متينة التركيب، ومشدودون إلى هاوية بعد هاوية. نشتري الماء من آبار الجيران، ونقترض الخبز من سخاء الحجر. ونحيا، إن كان لنا ان نحيا، في ماض رضيع مزروع في حقول كانت لنا، منذ مئات السنين، إلى ما قبل قليل...





قبل أن يختمر العجين وتبرد أباريق القهوة..

بساعة نحس واحدة دخل التاريخ كلص جسور من باب، وخرج الحاضر من شباك.. وبمذبحة أو اثنتين، انتقل اسم البلاد، بلادنا، إلى اسم آخر.. وصار الواقع فكرة وانتقل التاريخ إلى ذاكرة الأسطورة تغزو، والغزو يعزو كل شيء إلى مشيئة الرب الذي وعد ولم يخلف الميعاد..

كتبوا روايتهم: عدنا. وكتبوا روايتنا: عادوا إلى الصحراء..

وحاكمونا: لماذا ولدتم هنا؟

فقلنا: لماذا ولد آدم في الجنة؟


..


تذكّر، لتكبر، نفسك قبل الهباء

تذكر تذكر

أصابعك العشر، وأنس الحذاء

تذكر ملامح وجهك

وأنس ضباب الشتاء

تذكر مع اسمك، أمك

وأنس حروف الهجاء

تذكر بلادك، وأنس السماء

تذكر تذكر!


* مقطع من كتاب (في حضرة الغياب)


/

كلُّ الودّ

OSCAR

:SMIL:

رشا محمود
04-12-2006, 03:56 PM
إلى أين أخذتينا يا أوسكار

رائعة إلى أبعد حدود الروعة والألم معا

بأى مداد تكتب أستاذنا / محمود درويش

ضوء يتألق كلمات

نهر يتدفق إحساس

ترتبك الكلمات أمام هكذا نص

شكرا لنقلكِ إياه غاليتى أوسكار

تحياتى وتقديرى .. لكما

أبو سمر
04-12-2006, 09:00 PM
الله عليك

كلمات تطرق أبواب القلب وتدخله بلا استئذان


يسلمت يمناك

شمس البحر
05-12-2006, 12:43 AM
كلام جميل و إلى الأمام

رحاب
05-12-2006, 04:45 PM
لأنه محمود درويش


شعرت به من أول مالمحت العنوان

ماتفعليه لنا كثييييير ياأوسكار....
جدا

يشبه ترتيب نصوص محمود درويش لفوضى رحاب:)

سأعود أكثر من مرة

وقبلة لــ قلبك

Oscar
05-12-2006, 07:04 PM
فقط حيثما أخذتني ذاتُ الكلمات

عــُذرًا إن آلمتكـ

..

رشـــــا

هل تسلل الألم ؟

..


عظـــــــــيم ٌ هذا الرجل

كم يــُجيد إلامَـــنا حتى البــــكاء

في زمن ٍ باتـَ يــُطعمنا

الهزائم ..

وَ

يسقينا خمر الإنكسار

..


اعتدنا كلَّ ذاك ..

كلماته هيَ الألم الوحيد الذي لن نعتاد !

..

عزيزتي رشـــــا

شكرًا لمشاركتي بروعة هنا

/

أطيب التحايا

Oscar
05-12-2006, 07:16 PM
هذا هوَ محمود درويش

شخصٌ قد يأسرك بكلــــــــــــمة !!

..

أخي الكريم أبو سمر

سلمتـَ على هذا المرور الطيبْ

/

كنْ بخير

Oscar
05-12-2006, 07:26 PM
أخي شمس البحر

لا يدرك حقيقة الجمال إلا المالكُـ لبعضٍ منه

..

مرورك جميل أيضــًا

شكرًا

/

دمْ بخير

Oscar
05-12-2006, 07:56 PM
وَ

لأنك رحـــــــــــاب

كان للـ ( هنا ) أنْ يدعوني بألق !!

لا لشيء ٍ سوى لأسعد

بكـِ

..

محمود درويش ..

آهـ يا رحـــــــاب

يـُشعرنا به أحيانــًا دون أن ينبس بكلمة

يحضر في الخيال ليرسم لنا

الليمون

وَ

أغصان الزيتون

هوَ فلسطين المنسيـــّـــــة

عندما تصرخ

بجـبن ٍ كما ارتضيتم شاركوني الألم

..

جيد إن كان في نصوصه ما ينظم فوضاكـِ

هوَ لا يفعل شيئــًا سوى

بعثرتي بصمتــْ !!

..

تشتاقكـِ الأمكنة !

فكوني (( هنا ))

/

وَ

قبلة لروحك الطيبة

ألنشمي
07-12-2006, 02:07 PM
000
00
0


اوسكار اختي الغالية


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


يسعد ربي ايامك ولياليك


يد بارعه


وكلمات جميلة


هكذا انتِ بارعة في الاجادة

سلمت اناملك ماخطته هنا


ويدك ما نسجت



لكِ ارق تحيه

Oscar
09-12-2006, 05:18 AM
أخي الكريم النشمي

أ ُسعدتـَ صباحــًا ..

/

فعلاً بارعة

تلكـَ الأيدي التي نثرتــ لنا الألم هنا

وَ نعم

لكم أبدعتْ النسج !!

..

أخي الكريم


ليتها يديّ ..

أنا أحاول جاهدة ً التعلم من رائعنــا محمود درويش :SMIL: (http://www.dorarr.ws/forum/misc.php?do=getsmilies&wysiwyg=1&forumid=0#)

..

له كلّ إطراء ٍ ســُـكبَ هنا

له هيبة المكان الموجــِـع بإتقان

وَ

إبداع الحرف المنسوج بروعةٍ

تسكن أشباحها هذا

المكان

..

لـــه كلّ ما هوَ حاضر ٌ هنا

رغمــًــا عن الغيــــــــاب

/

دمْ سالمــًـــا

قمر الغربية
19-12-2006, 09:44 AM
( في حضرة الغياب )



أين الغياب وانتي موجودة



في قلب كل درري



رائعة ياأوسكار كما عهدتك دائماً



لاتكفيكي الكلمات فأنتي أروع من رائعة



|558|

Oscar
22-12-2006, 11:39 PM
قمر


حاضرة ٌ أنتــِ أيضــًا في القلب

لنا أن نعنون نصنا

" في غياب الحضرة "

ثم نستجدي الزمان فتات الحضور

تمامــًا كما اعتدنا !!

..

عزيزتي

أنتـِ أروع

..

شكرًا على المرور

/

كوني بخير

:SMIL: (http://www.dorarr.ws/forum/misc.php?do=getsmilies&wysiwyg=1&forumid=0#)

هيلدا
23-12-2006, 01:58 AM
بين الهدوء والسكينه..

بين عتمة الليل وسواده..

بين القمر ونجومه..

بين أوراقي ومذكراتي..

أبعث لك سلامي وتحياتي

Oscar
26-12-2006, 05:05 AM
وَ منْ زخم مدادٍ يغلبــُ الغياب فيه على

الحضرة ..

أبعثــُ إليكـِ تحايــًا مماثلة

..

"هيل"

مرور عبق كما هي َ أنتــِ

(( شكرًا))

/

أطيب التحايا

السـ ـأهـ ـره
10-02-2007, 09:23 PM
:)
إحتياجي لـ المرور اكثر من مره
ربمــا تشبعت من الرغبه فـي المكوث بين السطــور
مع فنجان قهوه ممتزج بـ الموسيقى الهادئه
ريثمـــا اسكنهــا..كما سكنتنـي...

أوسكــار..
هل لــ الحضـور في غيابــك..معنـى..

لا أعتقد ذلك
عبق من جــوووري
آحترامي

Oscar
11-02-2007, 06:49 PM
ممتنة " أنا " لمحمود درويش وَ كلماته

التي أنعمت علــــــيَّ بحضـــــــور بهيّ ٍكهــــــــذا ..

**

عزيزتي الســــــــآهرة

أنا بكم ..

لذا يكون المعنى كلُّ المعنى بتواجدكم الطيبْ

وَ حضوركم الذي يسعدني في

الغياب وَ الحضرة ..

/

لكِ الودْ وَ كلُّ الجوري

:SMIL:

Oscar
28-03-2007, 09:43 PM
http://www.neelwafurat.com/images/lb/abookstore/covers/normal/147/147996.gif

في حضرة الغياب أو ما يشبه السيرة الذاتية ،محمود درويش ينثر حياته سطراً سطرًا ..

ليس ما يكتبه الشاعر محمود درويش في كتابه الساحر «في حضرة الغياب»
(الصادر حديثاً عن دار رياض الريس) نصاً، كما يثبت المؤلف على الغلاف، قاصداً أن ينبه القارئ إلى ضرورة أن يتأمل ما بين يديه بوصفه عملاً حائر الإسم، فلا هو بالشعر، وهو ما سيظنه قارئ درويش، ولا هو بالنثر الذي سيبدو للقارئ أقل شرفاً من نصوص درويش الأخرى التي تحلق في فضاء الشعر وتحيل على لغة الاستعارة والمجاز، والقول الذي لا يحمل على الحقيقة. من هنا يبدو هذا العمل مقيماً في منزلة بين المنزلتين فلا هو بالشعر، الذي يحتشد بالطاقة الخيالية والإيقاعية التي نعهدها في قصائد درويش، عبر مسيرته الشعرية الحافلة، ولا هو بالنثر الذي يستعرض حكاية الكاتب الشخصية مفصلاً الأحداث ومستذكراً الأشخاص والأمكنة والأزمنة، ومقلباً صفحات حياة درويش على وجوهها.

هكذا يبدأ درويش كتابه مستحضراً آخره، أي الشاعر فيه الذي يؤمل أن يحيا من بعده في وعد القراءة المتجددة مع كل قارئ ينجو من شرك الموت، فيما يذهب الكائن المنشق عن صفة الشاعر فيه باتجاه موته: سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلا في المطالع / وكما أوصيتني، أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع، والانصراف إلى عشاء احتفالي يليق بذكراك / فلتأذن لي بأن أراك، وقد خرجت مني وخرجت منك، سالماً كالنثر المصفى على حجر يخضر أو يصفر في غيابك. ولتأذن لي بأن ألمك، واسمك، كما يلم السابلة ما نسي قاطفو الزيتون من حبات خبأها الحصى. ولنذهبن معاً أنا وأنت في مسارين: أنت إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة، في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض. وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد. فليس على الشاعر من حرج إن كذب...».

يلخص مفتتح الكتاب إذاً هذا العمل كله، مشروعه النصي، وغايته التي يسعى الى حفرها في الكلام الذي يتخذ سمت النثر ولكنه يتزيا بشكل الشعر عبر التقطيع السطري، واللغة المجازية، والبنية الاستعارية التي تغلب على هذا الشكل من أشكال الكتابة. ويكشف الشاعر عن خطته في مزج الشعر بالنثر، والغنائية بالسردية، والرثاء بالتعبير عن وعد الحياة الأبدية الأخرى، من خلال تناسل الكلام في قراء مجهولين موعودين. لكن الأهم هو أن بنية المطلع، التي يتحدث عنها درويش في السطر الأول من هذا النص، تبقى شعرية بامتياز وإن خلت من إيقاع القصيدة التفعيلية وتخففت من الوزن والقافية، وأعطت لنفسها حرية الانسياب من سطر إلى آخر. لكن هذه السمة التي تتصل بالتدوير في القصيدة حاضرة في نصوص درويش الشعرية، بعامة، وفي مجموعاته الشعرية الأخيرة بخاصة؛ ما يعني أن إلحاق هذا النص بالنثر يبدو مسألة مشكوكاً في شرعيتها لأن التقنيات التي يستخدمها الشاعر في قصائده حاضرة بوضوح في السطور التي اقتبسناها قبل قليل.

«ولأذهبن، بلا عكاز وقافية، على طريق سلكناه، على غيرهدى، بلا رغبة في الوصول، من فرط ما قرأنا من كتب أنذرتنا بخلو الذرى مما بعدها، فآثرنا الوقوف على سفوح لا تخلو من لهفة الترقب لما توحي الثنائيات من امتنان غير معلن بين الضد والضد. لو عرفتك لامتلكتك، ولو عرفتني لامتلكتني، فلا أكون ولا تكون.

هنا تنساب السطور في إيقاع لاهث متصل وصولاً إلى تلك الضربة النهائية التي يعلن فيها صوت الراوي عن رغبة الفناء في العدم، ما يذكر بشعراء الصوفية الذين استخدم بعضهم الشعر كما استخدم بعضهم الآخر لغة نثر غنوصية ملتبسة تفيد فناء المخلوق في الخالق. لكن الوسيط اللغوي المختلف في الحالين لم يكن ليمنعنا من رؤية الشعر، بمعناه الواسع الذي جاوز حدود البيت والقافية والعروض، في نصوص المتصوفة جميعهم. وهذا ينطبق على نص درويش الذي بين أيدينا، والذي يقوم بتصعيد لغة النثر إلى حدود الشعر وعالمه، مستخدماً تقنيات الشعر ومضفياً على لغة النثر طاقة إيحائية خلاقة في كلام ملتبس بين شعرية تخفي استعاراتها ونثر يتخفف من مراجعه اليومية - الواقعية.

لكنك مسجى أمامي، أعني في كلامي الخالي من عثور الاستعارات على مصادرها، وعلى رابط خفي بين أرض متدينة وسماء وثنية...

في هذا المعنى يصعب أن نخرج الفصول الأولى من كتاب «في حضرة الغياب» من عالم الكتابة الشعرية، ففي الصفحات التي تمتد من الصفحة التاسعة إلى الصفحة الخامسة عشرة أو ما بعدها بقليل، نعثر على شروط الكتابة الشعرية خلا الإيقاع الشعري الخليلي، الذي يتغلب أحياناً على الشاعر فيظهر مدوياً أو خافتاً في بعض السطور أو العبارات الشعرية على مدار صفحات الكتاب كله، أو في عدد من نهايات الفصول التي يصعد فيها الإيقاع عالياً وكأنه ختام النشيد.

مهما نأيت ستدنو / ومهما قتلت ستحيا / فلا تظنن أنك ميت هناك / وأنك حي هنا / فلا شيء يثبت هذا وذلك إلا المجاز / المجاز الذي درَّب الكائنات على لعبة الكلمات / المجاز الذي يجعل الظل جغرافياً / والمجاز الذي سيلمك واسمك / فاصعد وقومك / أعلى وأبعد مما يعد تراث الأساطير لي ولك...

في الأبيات السابقة يستعيد درويش الطاقة الإيقاعية الفياضة في شعره، فيستخدم، إضافة إلى الموسيقى الشعرية التي تتصاعد وتعلو في النص، البنية المقطعية والتقفية الداخلية، وخفض الإيقاع وصولاً به إلى صوت النثر الهامس الذي يتلاشى في نهايات الفصول.

«والآن وأنت مسجى فوق الكلمات وحيداً، ملفوفاً بالزنبق، والأخضر والأزرق، أدرك ما لم أدرك: إن المستقبل منذئذ، هو ماضيك القادم!» (ص 23)

في هذا السياق من التدرج في الإعداد لرواية سيرة الذات، التي تغلب عليها الشعرية وعالمها، وينفي فيها ما هو شعري كل ما عداه، من الحياة اليومية وفتات التجارب الشخصية، بحيث يشحب الشخص والكائن لتتعملق الذات الشاعرة التي تبدو سيرة طفولتها شعرية التكوين بامتياز. وهو الأمر الذي يصادفنا عندما يخفت الإيقاع ويفسح المجال لنثر يصف الطفولة وعلاقتها بالعالم من حولها الذي يترجم إلى حروف وكلمات وجمل وإيقاعات. (للحروف البيضاء على اللوح الأسود مهابة فجر صيفي. وكما يصبون الماء، على مهل، في جرة لا تمتلئ، تشربت الشكل الناقص وصوته معاً، بتعذيب الحنجرة وتطويعها للإشارة، وبإخضاع الحلق لما تراه العينان. ص 25) ويمكن أن نعثر على عدد كبير من الاستعارات والمجازات والصور التي تحكي عن علاقة الشاعر الطفل بالعالم واكتسابه تلك اللغة الشعرية التي تفسر الوجود. إن الشاعر في درويش لا يقدر على التخلص من لغة التعبير الشعرية عن العالم، ويفشل في النزول إلى لغة اليومي والسرد الخطي عن المشاعر والذكريات إلى حد أن النثر يتخفى في لغة الشعر، والكلام عن الطفولة يتخذ سمتاً إيقاعياً خافتاً يتعالى إذا ما انتبه القارئ إلى شعريته واكتشف لعبة الشاعر في دس الشعر في ثنايا النثر. فلنقرأ هذه السطور في ص 27 معيدين توزيعها إيقاعياً وستصبح على الشاكلة التالية محتشدة بالموسيقى، ضاجة في إهاب التفاعيل: «وتحب الشعر / ويأخذك الإيقاع المهموز بحرف النون إلى ليل أبيض. / كلمات تنقل فرساناً من حب الحرب / دفاعاً عن بئر الماء، إلى حرب الحب...».

وهي سطور موقعة موزونة يمكن أن نعثر على ما يشاكلها في مواضع أخرى إذا ما أرهفنا القراءة وبحثنا عن الإيقاع المدسوس في ثنايا الجمل والسطور، في بدايات الفصول وفي نهاياتها، في قلب الفصول وفي المنعرجات التي يتخذها السرد حين يروي الشاعر عن حياته، وأيامه، عن انكساراته الشخصية وتراجيديا خروج الشعب الفلسطيني وهزائمه. وبما أن إيقاع حياة الشاعر وحياة شعبه محتشدان بالمأسوي الجارف فإننا نلحظ غلبة واضحة للشعري والملحمي في طريقة التعبير في هذا الكتاب. ثمة شعر كثير، وإيقاع يعلو على الدوام ويتغلب على السرد والحكاية في هذا النص الملتبس الذي يسعى إلى كتابة الحكاية الشخصية للشاعر لكنه سرعان ما يرتد إلى الشعر في كل تجويف من تجاويفه. فهل هناك أجمل من هذا التعبير الذي يقيم على حائط الأعراف الفاصل بين الشعر والنثر؟: «يتمنى أن يكون فراشة، فهل للفراشات ذكريات؟ الفراشات هي الذكريات لمن يتقنون الغناء قرب نبع الماء، فهل غنى؟ ما زال صغيرا فأنى له أن يدحرج الكلام على مصطبة من رمل؟ إنه يشكو من سوء الحاضر، فلتأخذوه إلى الغد.»

لكن إذا كان الشعر في هذه الكتابة هو الغالب والمسيطر، سواء من حيث حضور الشعر كجنس إبداعي أو من حيث اتخاذ الكتابة (حتى النثرية منها) سمتاً شعرياً وانثيال الاستعارات والمجازات والصور والإيقاعات وتشكل النص في فضاء شعري، فثمة قطع لهذا الشعر بالنثر وفضائه اليومي - الأرضي، بالسرد والرواية عن الذات، واستحضار لحظات تنزل الكتابة الشعرية من عليائها وتجبلها بالتراب والعيش اليومي. في الكتاب، منذ صفحاته الأولى يكتب درويش، واعياً بغايات النص التجنيسية، عن طفولته وهجرة عائلته إلى لبنان أثناء النكبة، وعودتهم لاجئين إلى وطنهم، «حاضرين غائبين» كما سماهم الاحتلال الإسرائيلي؛ كما يكتب عن خروجه من فلسطين، وعن بيروت المحاصرة عام 1982 والمقاتلين الذين غادروا بيروت، وعن منفى الفلسطيني الذي لا ينتهي خارج الوطن وفي الوطن الذي لم يصبح وطناً بعد فصارت الكلمات في نص الشاعر بديلا له. كل هذه التفاصيل والفتات اليومي، والأحلام والكوابيس ولحظات الموت القصيرة التي جعلها درويش موضوعاً لـ «الجدارية» من قبل، هي محاولة لتعويم لغة الشعر وإزالة الحدود التي تفصل النثر عن الشعر بسيف بتار.
* فخري صالح - الحياة

Oscar
28-03-2007, 10:06 PM
http://www.neelwafurat.com/images/lb/abookstore/covers/normal/147/147996.gif

"في حضرة الغياب"
عن المنفى والحنين إلى الحاضنة الأولى

هكذا بكلمة (نصّ) المثبتة أسفل العنوان على غلاف الكتاب، يحاول محمود درويش أن يبعد قارئه
عن حيرة التصنيف، ليتعامل مع المادة المكتوبة كلحظة تخطّ للحدود بين الجنسين الأدبيين
اللذين تمايزا بنائياً مع بداية انفكاك الأجناس ما بين العالم القديم والعالم الجديد بثقافتيهما وآليات تفكيرهما.
وبهذا المعنى، فإن نصّ "في حضرة الغياب" أشبه بالعودة إلى الوراء بضعة خطوات، ليسافر
في زمن الملحمة وأبعادها الرمزية والتراجيدية، على اعتبار أن الملحمة مازالت تعتبر الأرضية المشتركة التي ينطلق منها الأدب وخصوصاً في شكله الروائي، وهي إلى ذلك مازالت حاضرة
في الوجدان الجمعي بكلّ غناها البنائي والدلالي.
إنها تجربة جديدة تستعيد الموروث السومري وربّما رحلة جلجامش تحديداً من ناحية بنائية النصّ،
حيث يتناوب السرد والشعر على تقديم الحكاية بالشكل الذي وصل إلينا. السرد الجميل الناهض
على بنية حكائية سيرية سيمنح الشاعر إمكانية التحرر من ضغوطات الجملة الشعرية الغنائية بأوزانها وتفاعيلها وإنشائيتها المأثورة عنه، وربّما نحو شكل وأسلوب قصيدة النثر،
سيما وأن البنية السردية هنا تنهل من معين السيرة الذاتية لشاعر مبدع ومثقف مشهود له
بقراءاته الواسعة وبتمثّله للتراث الإبداعي العربي والإنساني، وتنهل من معين سيرة الشعب
الفلسطيني، وفلسطين التي استباحها الليل فبعثر سكانها في المنافي.


وإذا كان النص الملحمي تنهض بنيته على المزاوجة ما بين السرد والشعر في لغة خاصّة،
فإن نصّ محمود درويش ينهض بدوره على فعل السرد وفي لحظة درامية قدرية مشابهة،
ونعني بالقدرية هنا: صراع البطل أو البشر مع القوى الغامضة والمصائر التي ستنجم عن
هذا الصراع غير المتكافئ في زمن واضح ومعلوم، هو الزمن الحديث، وليس زمن
الملاحم والأساطير،ولكنه مع ذلك يشبهه كلّ الشبه من حيث منطق القوّة وممارسة العنف، واستعباد أو تهجير الشعوب بفائض من القوّة والغطرسة
بدعوى الحقّ الإلهي.

ومن هنا، فإننا لا نميل نحو الآراء المعرّفة للنصّ بأنه نصّ رثائيّ اعتماداً
على تصدير الشاعر لكتابه ببيت مالك بن الريب:
يقولون لا تبعد وهم يدفونني وأين مكان البعد إلاّ مكانيا
ومعروف أن مالك بن الريب هو أوّل شاعر في التراث العربيّ عانى من الاغتراب فرثى نفسه
قبل الموت، ولكن شتّان ما بين النصّين سواء في البنية النصّية أو في المضامين المنشودة،
فقصيدة ابن الريب غنائية رثائية بسيطة، بينما نصّ محمود درويش سيرتقي بموضوعة
الاغتراب أو الغياب إلى أبعاد تراجيدية وملحمية توضّح آثاره المختلفة على الذات الإنسانية المبعدة عن أرضها قسراً، وفي رؤية فلسفية تدرك مقدار العطب الذي أصاب ضمير الإنسانية، فتعبّر عن كلّ ذلك خير تعبير.
وإلى ذلك لا يمكننا اختزال موضوعة الغياب في الجانب الذاتي للشاعر وخصوصاً في هذا النصّ المركّب، وإنما في أسباب هذا الغياب، وفي آثاره المدمّرة لذوات شعب أقصي عن أراضيه ومدارج طفولته قسراً،وبالتالي فإن ارتباط الخاص بالعام سيكون هنا ضرورة بنائية ووجدانية أيضاً، بينما في "الجدارية"قصيدته الطويلة المعروفة، كنا التمسنا هذا الشعور المتزايد بلحظة الغياب ذاتياً، بمعنى غياب الجسد وفنائه فراح الشاعر يواجه الموت بمزيد من الكتابة، وقلنا: إن محمود درويش مثله مثل جلجامش مغبون بهذه المعادلة العمرية المكتوبة على البشر، وربّما هو يحتاج عمراً
إضافياً، أو عمرين لكي يواظب على صياغة ملحمته الخاصّة وتأريخ اللحظة فنياً، ولكنه من البشر وقد حكمت الأقدار أن يعيش فترة محدودة من الزمن، ولذلك فإنه سوف يتصدى للموت بمزيد من الإبداع لتغدو أعماله الشعرية بمثابة القلعة الصامدة بوجه الموت لآلاف من السنين القادمة تماماً كملحمة جلجامش.

ومن هنا فإننا نظنّ أن الاستهلال الذي تحدث عن موت الجسد في النصّ الجديد، إنما هو لغرض
بنائي بحت، بحيث يتمكن الكاتب السارد من السيطرة على الخطاب وتوجيهه الوجهة التي
يشاء من حيث الحوار والمقارنة، على نحو خاص، بين الجسّد المعطّل والذات الشاعرة الذي
ظلّت حاضرة وبكامل وعيها، لتسافر بنا خفيفة كنسمة في ممالك اللغة الفيّاضة بإبداعها الخاص ذي النكهة الدرويشية إياها؛ النكهة التي تدوم طويلاً حتى بعد الانتهاء من قراءة الكتاب.

سنقرأ عن محمود درويش الطفل الذي ولد في قرية صغيرة وعن حياة الأهل فيها، وعن الطبيعة
الأم الحاضنة والمعلّمة، فيتعامل مع مفرداتها مبكراً:
الخضرة
والفراشات أو (المشاعر الطائرة)
والثعالب والذئاب والضباع وفوق كلّ هذا عوالم الضوء وطيوفه المدوّخة. عن بدايات
الوعي الأوّل بهذه المفردات،

وعن بداياته الأولى في رحلة الحروف التي منها ستتوالد اللغة بسحرها الخاص ورموزها
التي تفاعلت مع مخيلة طفل استهوته لعبة الخيال والمجاز، فراح عبر تجميع الحروف
إلى بعضها يكوّن عوالم حقيقية، "يحكّ حرفاً بحرف فتولد نجمة، يقرّب حرفاً إلى حرف
فيأتيه صوت المطر"، ومنذ تلك اللحظة الموغلة في الصفاء والنقاء سيولد الشاعر،
وتبدأ مسيرة الزهر والثمر، حيث كلّ الحروف باتت طوع بنانه وباتت جاهزة
لاستقباله استقبال الفاتحين.
واليوم إذ يضيء الشاعر ما تبقّى من سيرة ممالكه التي سرقت منه مبكراً، كما سرق منه عمره
بفعل الاحتلال الصهيوني لبلاده، وحرمانه من التعايش مع هذه اللحظات المثيرة من التعايش الأمثل مع الحاضنة الأولى والناس في الزمان والمكان الأصليين، سوف يتساءل بكلّ براءة الطفولة عن سبب هذا الإقصاء القسري، وعن معنى كلمة "لاجئ". وسرعان ما تحتل الظلمة بقاعه النيّرة، ظلام يخيّم بدءاً من الفصل الخامس، ليسافر بنا في رحلة التيه، حيث تصبح الأشجار عمياءبلا أسماء وبلا ظلال "كأن الموت الذي لم يعرفه بعد ينصب فخاخه بسرية كبيرة"،
وسيعبّر عن ذلك قائلاً: "وخيّل إليك أن الليل هذا هو خباء الموت الواسع، وأنت تمشي أو تزحف
أو تقفز كالجندب في برية الذئاب الخالية من المارة، وخيّل إليك أن الضوء من نجمة شاردة أو من سيارة بعيدة ، هو أحد الأدلاء السريين لصاحب هذه البريّة، وعليك إذا لاح الضوء من بعيد أن تتخذ هيئة شجرة واطئةأو صخرة صغيرة، وأن تحبس أنفاسك لئلا يسمعك الضوء الواشي."

والمفارقة هنا تأتي من تبدّل مشاعر الطفل نحو الضوء كنتيجة طبيعية من نتائج الخوف
الذي اجتاحه منذ حلول الظلام، فبات من الصعب استعادة تلك العوالم الطبيعية المشبعة
بالنور والخير والخيرات، ما لم يسافر الشاعر بعيداً في مملكة الظلام، بحثاً عن "أوتنابشتيم"
أو غيره من أولئك الذين يمتلكون حلولاً سحرية وسريعة، وهكذا تبدأ رحلة المنفيّ في الظلمة
حاملاً معه خوفه، فنقف على أهم المحطات التي سافر إليها: المطارات والبلدان والسجون
وسائر المنافي التي حلّ بها شعب منفيّ عن بلاده.

وربّما الفكرة المحورية تتكثّف هنا في تساؤل الشاعر: من أنت في هذه الرحلة؟
أشاعر طرواديّ نجا من المذبحة ليروي ما حدث، أم خليط منه ومن إغريقيّ ضلّ طريق العودة؟
في إشارة إلى عودة أوليس الذي شاخ وهو في طريق عودته إلى دياره وزوجته وأولاده.
وهكذا فإن التساؤل سوف يعيدنا إلى الملحمة من جديد والحبكة السردية البطولية للشاعر
وهو يجتاز العقبات التي واجهته خلال مسيرة العودة إلى الحاضنة، ولكنها إلى ذلك ليست سيرة
تفاصيل وتواريخ، وإنما أشبه بالومضات المشهدية المنتقاة على طريقة التقطيع المشهدي السينمائي
لرصد رحلة التيه وآثارها المدمّرة، ومن ذلك وعلى سبيل المثال مشهد الطرقات التي يسير
فيها المنفيون:
"طريق يعلو ويهبط، يتموّج ويتعرّج ويطول، ويتفرّع إلى طرق لا حصر لها،
ولا نهاية تجتمع بالبداية؟ ونجونا من موت كثير، وهزمنا النسيان، وقلت لك نحن ننجو ولا ننتصر،
وقلت لك: النجاة هي انتصار الطريدة الممكن على الصياد.. وسال دمٌ غزير على السواحل
والصحارى.. دمٌ فاض عن حاجة الاسم إلى هوية، وحاجة الهوية إلى الاسم." وهذه المأساة
لا ترتبط بالحاضر أو في ماض قريب، وإنما تتوغّل إلى الماضي البعيد، نحو البدايات
الأولى للصراع وأسطورة "الأرض الموعودة" التي انبنت على أكذوبة صدّرها الغزاة الأوائل،
وما زالت حاضرة في زماننا، ومازالت تسعى لإلغاء الشعب الفلسطيني من التاريخ والوجود،
ولكنه على كلّ حال شعب أبيّ، ينهض من الرماد بعد كلّ موت كطائر الفينيق، حتى أن العدو
أصابته حُمّى الخوف من كلّ هذا الموت الذي راح يطارده حيثما حلّ وارتحل:
"صرنا شبح القتيل الذي يطارد قاتله في النوم واليقظة وفي ما بينهما، فيضطرب ويكتئب
ويشكو من الأرق ويصرخ:
ألم يموتوا بعد؟ كلاّ فقد بلغ الشبح سنّ الفطام وسنّ الرشد وسنّ المقاومة وسنّ العودة."
وعلى هذا النحو سنتابع الكثير من المشاهد البصرية للمجازر التي ارتكبت بحقّ هذا الشعب المهجّر
بدءاً من دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا إلى السفن التي نقلتهم من لبنان في رحلة أوليسية
جديدة نحو تونس، نظراً لأن الآلهة القديمة ذاتها اجتمعت وقررت إعاقة رحلة العودة إلى الديار،
وهكذا ستبدو الحياة أشبه بعبث شيطاني مدمّر لذات المنفيّ الذي باتت العودة إلى الحاضنة
الأولى بمثابة العودة إلى الفردوس ذاته، والذي لن تعوّضه أية ممالك بديلة حتى ولو كانت
باريس التي وصل إليها الشاعر وعاش فيها. ومن هنا فإننا سنلحظ أنه خصّ موضوعة الحنين
في المنفى بفصل كامل، كحنين أوليس إلى إيثاكا الذي فسّره ميلان كونديرا فلسفياً ونفسياً
في روايته (الجهل)، ليطرح في ختامها سؤالاً مهماً عن وجه التشابه بين "عودة" المهاجرين
وعودة "أوليس" في الأوديسة، وهو سؤال ضروريّ، فالكلّ يحن إلى الحاضنة الأمومية، والبعض
مثل "أوليس" جاهد في البحر عشرين عاماً كي يعود إلى إيثاكا، فما هي نتائج هذا الشوق
على الصعيد الشخصي لأوليس وشاعرنا؟ وهل ثمة تشابه بين اللحظتين؟
رؤية كونديرا تتلخّص في فقدان شخوصه للذاكرة. حيث كلّما اشتدّ الحنين كلّما فرغوا
أكثر من ذكرياتهم:
"كلّما كان أوليس يزداد نحولاً كلّما ازداد نسيانه، لأن الحنين لا ينشّط الذاكرة، لا يبعث الذكريات،
يكتفي بذاته، بعاطفته، يمتصّه.."

أما رؤية محمود درويش فلا تختلف عمّا طرحه كونديرا من حيث الجوهر وربّما هي أعمق،
إذ إن حنين المنفيّ يكون انتقائياً في الغالب، يتشبث بالجميل ويتناسى غير الجميل:
"هو اختصاص الذاكرة في تجميل ما احتجب من المشهد"، والحنين لا يولد من جرح، وليس ذكرى، بل هو ما ينتقى من متحف الذاكرة.

ومن هنا فإن العودة إلى الحاضنة بعد ثلاثين أو أربعين عاماً وفي شروط الاحتلال ستكون
بمثابة انتكاسة كبيرة لأولئك الحالمين بفراديسهم التي طالها التغيّر، فلم يعد المكان هو ذات المكان
الذي يتذكّره المنفيون، ثمّ أورثوا أولادهم هذه الذكرى خوفاً من النسيان، والعدو الذي أقصاهم
كلّ هذه السنين عن ديارهم، مازال موجوداً في سائر غرف المنزل ما عدا غرفة النوم التي
تخلّى عنها بعيد الاتفاق الشهير: الاحتلال خرج من غرفة النوم، ولكنه يجلس في الصالون
وفي سائر الغرف، يتحكّم بحنفية الماء وزرّ الكهرباء وزرقة البحر... ولكن لم كلّ هذا الصخب
الاحتفالي الكاذب الذي يخدّر العالم بالصور، وأين أصوات القتلى السابقين والجدد،
ثمّ ماذا بإمكان الشعر أن يفعل أمام جرافة التاريخ؟
أسئلة مشروعة كثيرة يطرحها محمود درويش بُعيد العودة، ربّما يجد القارئ لها جواباً في
هذا الكتاب الآسر في لغته وفي أطروحته.*عزت عمر

Oscar
28-03-2007, 10:24 PM
http://www.arabicebook.com//images/ebook/preview/ISBN_9953212546_Preview_1.gif


http://www.arabicebook.com//images/ebook/preview/ISBN_9953212546_Preview_2.gif


http://www.arabicebook.com//images/ebook/preview/ISBN_9953212546_Preview_3.gif


http://www.arabicebook.com//images/ebook/preview/ISBN_9953212546_Preview_4.gif


http://www.arabicebook.com//images/ebook/preview/ISBN_9953212546_Preview_5.gif

http://www.arabicebook.com//images/ebook/preview/ISBN_9953212546_Preview_6.gif

* عن الكتاب العربي الإلكتروني