محسن يونس
04-10-2006, 09:14 PM
مشهد طويل لاختراق شائع
محسن يونس
( 1 ) انتهت جحافل الجراد من التهام كل أخضر فى أحراش جزيرة ديامو ، التى نعيش على يابستها ، واستعدت للهجوم على بقية الجزيرة إلا أن أنثى جراد عجوز صاحت انتظروا يا أبنائى .. اسمعوا قولى ..
كانت تتعلق بأحد الفروع لنبات جرد تماما من أوراقه الخضراء ، نظرت ناحية ديامو قائلة : لماذا لم يحاربنا أهل هذه الجزيرة حينما كنا سربا يغطى بحرهم ؟!
تجمعت أسراب الجراد أسفل الفرع الأجرد ، قالوا : " يزداد غموض السؤال يا أمنا إذا كان الجواب غير حاضر.. "
قالت الجرادة العجوز : " كلما ازداد الغموض ازداد الشر .. هذه حكمتى .. "
دوم الهواء قرب سطح الأرض ، وظهر ذكر جراد ممتلئ البطن ، تسلق الفرع الأجرد حتى وصل إلى حيث تعلقت الجرادة العجوز ، حاول احتلال مكانها ونجح، صاح : " الكلمات لا تهاجم الجسد .. الكلمات تهاجم الروح فيأتى الخوف .. اسمعوا صوت الهواء جيدا .. ليس فى الهواء مكيدة .. هل سمعتم صوت الهواء؟ هيا إذن إلى قلب هذه الجزيرة .. "
تبع ذكر الجراد بضعة ألوف ، ظلوا يطيرون إلى أن اختفوا، عادت الجرادة العجوز تتسلق الفرع الأجرد، وهى تنظر إلى بيوت ديامو ..
( 2 ) " الموت والحياة يتوالد كل منهما من الآخر" .. كان ذكر جراد يشبه الحكماء.. وها هو قالها إلا أن الجراد صاح فيه : " اسكت .. هل يحتاج قولك إلى شمس لنراه ؟! "
كانت الكلمات هى الأخرى تتوالد ، فالجراد الذى ذهب إلى ديامو قد غيبه سر من أسرارها ، لم يستطع الجراد أن يفك غموضه ، وظهر النمل من أسفل أرض الأحراش ، وهو يحمل جرادة ميتة ، حملها فترة ثم ظهرت عدة نملات لها فكوك تشبه المناشير ، ظلت تعمل فى تقطيع جسد الجرادة الميتة ، كان النمل يحمل أجزاءها بسرعة إلى أسفل، ارتعد بعض الجراد ، وعاد الحكيم يقول : " العمر قصير .. الشيوخ منا يموتون قبل أن يعرفوا ما هى الحياة ، وما هو الموت .. "
كانت اهتزازات الأجنحة تسرع فى إيقاعها ، هل أصيب الجراد – كما نقول نحن البشر – بأزمة هوية ؟! هل اعتقد أنه جمع من النسانيس ؟! فظل ينط فى الأحراش ثم يعود يتساقط على أرضها .. أم أن الأزمة جعلته يشبه الببغاوات؟!
صاحت جرادة : " المخبأ الطبيعى لنا أن نطير .. "
أجابتها عدة أصوات : " وإلى أين ؟! إلى أين ؟! "
قالت الجرادة : " المخبأ الآمن هو ألا يكون لنا مكان .. "
صاح الجراد جميعا : " اخرسى يا خربة الرأس .. وهل كان لنا مكان من قبل ؟ نحن نخرب الأماكن .."
كانت الأحراش قد شاهدت بعض القتلى ، وعمل نملها بهمة، وهو عازم على اغتنام الفرصة ، فالأيام لا تأتى بمثل هذه الخصومات التى تعقب بعض الجثث .. كان الجراد ينظر إلى ما يفعله النمل ، وهو يقول لبعضه : لعنة الله عليها .. حشرة ملعونة تأكل كل شىء فى الفريسة فلا تعثر للفريسة على أثر ..
( 3 ) عند شروق الشمس كانت الأحراش قد تعرفت على الغزاة ، بعد ازدحام الهواء برائحتهم فلها تاريخ معهم .. لم تكن الأحراش مبتورة الأيدى لترفض تاريخها الملون بألوان الطيف ، كنا نقول : من البحر يأتى الغرباء والأنواء .. إلى البحر يذهب الغرباء وتنتهى الأنواء .. فهل كانت الجرادة العجوز تعى ذلك وهى ترى أبا فصادة يزقزق طائرا من غصن إلى غصن برشاقة ، قالت لنفسها : طائر مجنون يختبئ ويفضحه صياحه .. لكنها سرعان ما أصابها الرعب فنسيت فلسفتها ، وهى ترى ثعلبا يخرج من بين حشائش الأحراش ، يقبض القبضة من جرادها ، ويمضغها، بعد قضم الأقدام المنشارية،لافظا إياها خارج فكيه ، ثم جاءت ثلاثة ثعالب داكنة الفروة ، تحايل الأربعة مكونين حلقة صيد متعاونة القصد ..
كان الشجار سوف يبدأ بين عشيرة كاملة من النموس والثعالب إلا أن الوفرة جعلت أفراد العشيرتين يؤجلان المعركة ، ظهرت طيور تفحص المكان بعينيها أولا ، بعدها تحدد هدفها ، وتنقض بمناقيرها ، يحمل المنقار جرادة واحدة ، كانت صيحاتها تختلط مع قفزات هنا وهناك إلا أن المصير كان قد تحدد فى اتجاه واحد .. الفئران .. السحالى .. والكلاب تقف عند حدود الأحراش تنبح وتمرح فى نوبة من غبائها .. الجرادة العجوز تعرفت على كائنات الأحراش كلها ، وهى تختبئ أسفل ورقة وحيدة فى أحد أفرع نبات وحيد يتمايل مع اتجاه الرياح ..
( 4 ) كنا فى ديامو نسمع طنينا يتوالى فى نوبات .. عثرنا على بعض الجراد بين بيوتنا ، وفى أزقتنا ، وجرى أطفالنا خلفه ، يمسكونه من أقدامه الشوكية ، يوقفونه ، ثم يطلقونه ، كانوا ينشدون قفزات الجراد الفجائية المنطلقة فى تقوس نحو الأرض ، تنطلق ضحكاتهم ، وهم يتعلمون صنعة الإبادة لكل حشرة تتحرك، مع إرث من كراهية .. وتساءلنا : هل تمنحنا أحراش الجزيرة نحن البشر صفحة من صفحات تاريخها ؟ ذلك لأن الذى حدث فى أرضها لم نره رؤية العين ، ولكنا تخيلناه ، ونحن نسمع قعقعات الموج يلاطم شواطئ جزيرتنا ، وبعض الجراد متجمد على هيئة واحدة ، الأجنحة ممزقة ، ينام على ظهره رافعا قدميه المنشارتين لأعلى تخرج من أفواهه سوائل خضراء، وهو هامد بلا حركة .
محسن يونس
( 1 ) انتهت جحافل الجراد من التهام كل أخضر فى أحراش جزيرة ديامو ، التى نعيش على يابستها ، واستعدت للهجوم على بقية الجزيرة إلا أن أنثى جراد عجوز صاحت انتظروا يا أبنائى .. اسمعوا قولى ..
كانت تتعلق بأحد الفروع لنبات جرد تماما من أوراقه الخضراء ، نظرت ناحية ديامو قائلة : لماذا لم يحاربنا أهل هذه الجزيرة حينما كنا سربا يغطى بحرهم ؟!
تجمعت أسراب الجراد أسفل الفرع الأجرد ، قالوا : " يزداد غموض السؤال يا أمنا إذا كان الجواب غير حاضر.. "
قالت الجرادة العجوز : " كلما ازداد الغموض ازداد الشر .. هذه حكمتى .. "
دوم الهواء قرب سطح الأرض ، وظهر ذكر جراد ممتلئ البطن ، تسلق الفرع الأجرد حتى وصل إلى حيث تعلقت الجرادة العجوز ، حاول احتلال مكانها ونجح، صاح : " الكلمات لا تهاجم الجسد .. الكلمات تهاجم الروح فيأتى الخوف .. اسمعوا صوت الهواء جيدا .. ليس فى الهواء مكيدة .. هل سمعتم صوت الهواء؟ هيا إذن إلى قلب هذه الجزيرة .. "
تبع ذكر الجراد بضعة ألوف ، ظلوا يطيرون إلى أن اختفوا، عادت الجرادة العجوز تتسلق الفرع الأجرد، وهى تنظر إلى بيوت ديامو ..
( 2 ) " الموت والحياة يتوالد كل منهما من الآخر" .. كان ذكر جراد يشبه الحكماء.. وها هو قالها إلا أن الجراد صاح فيه : " اسكت .. هل يحتاج قولك إلى شمس لنراه ؟! "
كانت الكلمات هى الأخرى تتوالد ، فالجراد الذى ذهب إلى ديامو قد غيبه سر من أسرارها ، لم يستطع الجراد أن يفك غموضه ، وظهر النمل من أسفل أرض الأحراش ، وهو يحمل جرادة ميتة ، حملها فترة ثم ظهرت عدة نملات لها فكوك تشبه المناشير ، ظلت تعمل فى تقطيع جسد الجرادة الميتة ، كان النمل يحمل أجزاءها بسرعة إلى أسفل، ارتعد بعض الجراد ، وعاد الحكيم يقول : " العمر قصير .. الشيوخ منا يموتون قبل أن يعرفوا ما هى الحياة ، وما هو الموت .. "
كانت اهتزازات الأجنحة تسرع فى إيقاعها ، هل أصيب الجراد – كما نقول نحن البشر – بأزمة هوية ؟! هل اعتقد أنه جمع من النسانيس ؟! فظل ينط فى الأحراش ثم يعود يتساقط على أرضها .. أم أن الأزمة جعلته يشبه الببغاوات؟!
صاحت جرادة : " المخبأ الطبيعى لنا أن نطير .. "
أجابتها عدة أصوات : " وإلى أين ؟! إلى أين ؟! "
قالت الجرادة : " المخبأ الآمن هو ألا يكون لنا مكان .. "
صاح الجراد جميعا : " اخرسى يا خربة الرأس .. وهل كان لنا مكان من قبل ؟ نحن نخرب الأماكن .."
كانت الأحراش قد شاهدت بعض القتلى ، وعمل نملها بهمة، وهو عازم على اغتنام الفرصة ، فالأيام لا تأتى بمثل هذه الخصومات التى تعقب بعض الجثث .. كان الجراد ينظر إلى ما يفعله النمل ، وهو يقول لبعضه : لعنة الله عليها .. حشرة ملعونة تأكل كل شىء فى الفريسة فلا تعثر للفريسة على أثر ..
( 3 ) عند شروق الشمس كانت الأحراش قد تعرفت على الغزاة ، بعد ازدحام الهواء برائحتهم فلها تاريخ معهم .. لم تكن الأحراش مبتورة الأيدى لترفض تاريخها الملون بألوان الطيف ، كنا نقول : من البحر يأتى الغرباء والأنواء .. إلى البحر يذهب الغرباء وتنتهى الأنواء .. فهل كانت الجرادة العجوز تعى ذلك وهى ترى أبا فصادة يزقزق طائرا من غصن إلى غصن برشاقة ، قالت لنفسها : طائر مجنون يختبئ ويفضحه صياحه .. لكنها سرعان ما أصابها الرعب فنسيت فلسفتها ، وهى ترى ثعلبا يخرج من بين حشائش الأحراش ، يقبض القبضة من جرادها ، ويمضغها، بعد قضم الأقدام المنشارية،لافظا إياها خارج فكيه ، ثم جاءت ثلاثة ثعالب داكنة الفروة ، تحايل الأربعة مكونين حلقة صيد متعاونة القصد ..
كان الشجار سوف يبدأ بين عشيرة كاملة من النموس والثعالب إلا أن الوفرة جعلت أفراد العشيرتين يؤجلان المعركة ، ظهرت طيور تفحص المكان بعينيها أولا ، بعدها تحدد هدفها ، وتنقض بمناقيرها ، يحمل المنقار جرادة واحدة ، كانت صيحاتها تختلط مع قفزات هنا وهناك إلا أن المصير كان قد تحدد فى اتجاه واحد .. الفئران .. السحالى .. والكلاب تقف عند حدود الأحراش تنبح وتمرح فى نوبة من غبائها .. الجرادة العجوز تعرفت على كائنات الأحراش كلها ، وهى تختبئ أسفل ورقة وحيدة فى أحد أفرع نبات وحيد يتمايل مع اتجاه الرياح ..
( 4 ) كنا فى ديامو نسمع طنينا يتوالى فى نوبات .. عثرنا على بعض الجراد بين بيوتنا ، وفى أزقتنا ، وجرى أطفالنا خلفه ، يمسكونه من أقدامه الشوكية ، يوقفونه ، ثم يطلقونه ، كانوا ينشدون قفزات الجراد الفجائية المنطلقة فى تقوس نحو الأرض ، تنطلق ضحكاتهم ، وهم يتعلمون صنعة الإبادة لكل حشرة تتحرك، مع إرث من كراهية .. وتساءلنا : هل تمنحنا أحراش الجزيرة نحن البشر صفحة من صفحات تاريخها ؟ ذلك لأن الذى حدث فى أرضها لم نره رؤية العين ، ولكنا تخيلناه ، ونحن نسمع قعقعات الموج يلاطم شواطئ جزيرتنا ، وبعض الجراد متجمد على هيئة واحدة ، الأجنحة ممزقة ، ينام على ظهره رافعا قدميه المنشارتين لأعلى تخرج من أفواهه سوائل خضراء، وهو هامد بلا حركة .