محمد الدسوقي
08-09-2006, 06:41 PM
الفصل الأول
-أشرفت الشمس علي المغيب...
فتلك عادة الحياة..
هكذا تكون نهاية النهار مهما طال..
فلكأنها تختتم دورة صغيره من دورات الحياة التي لا تنتهي والتي تبدأها مع بداية النهار..
حيث تخرج أشعتها الفضية من خلف أسوار الليل المنيفة.. فتهب في الخلائق روحاً جديدة ... وتعزف في قلوبهم سيمفونية خالدة.. اسمها الحياة .. و تضرب لهم عقارب الزمن ألف موعد جديد مع ألف ألف مجهول.. إلي أن ينهش الليل النهار بأنيابه باعثاً في جسد السماء عتمة وصمتاً.. فيزوي الشمس خلف ستائره القاتمة ...ويبتلع معها معظم صور الحياة.. ويغلفها بوشاح الصمت في محرابه المظلم .. ويترك في أعماق الخلائق مجرد الأمل في أن تشرق الشمس من جديد... فيعاود الجميع الكرة... بل تعاود الدنيا كلها الكرة .. دون أن يعي البعض أن يوماً من عمر الزمن قد مضي وأنا يوماً أخراً سيمضي ... وأن سفينة الحياة التي أقلعت منذ لحظة الميلاد قد اقتربت يوماً كاملاً من مرساها المحتوم ...
و تتعاقب سيمفونية الليل والنهار.. ومع كل وجه جديد للنهار تلفظ الدنيا مخلوقات.. وتستقبل مخلوقات.. لتكتمل لوحة الخلق.. التي ترسمها الحياة بأصابع ماهرة ولا تكف أبداً عنها منذ أن بدا الوجود...
ويا لها من سيمفونية...
ويا لها من لوحة..
إنما تدل كل منهما علي عظمه الخالق – سبحانه – في تسخير الكون .. وتضرب باقتدار جلي أعظم صورة لمبدأ الحياة الأزلي.. أن دوام الحال هو كل المحال...
*** **** ***
سنترك ما خلق من جمال للخالق..
سنترك أنفسنا لننساب مع أشعة الشمس الهاربة إلي براثن الليل...
سنقترب من الشاطئ حيث تسابقت الأمواج لاهثة .. محمومة…لتحظي بالفناء علي صخور الشاطئ..
وفوق الرمال الناعمة سننسي أنفسنا مع وجهين صغيرين لفتى وفتاه...سنطالع هذه الوجوه ونندمج معها .. ونعيش معها لحظة بلحظة ... سننصهر معها في حياة…
*** **** ***
دائماً يجمعهما الشاطئ ..
دائماً تجذبهما أشعة الشمس الغاربة كمسحورين..
دائماً ما يهرعان في هذا الوقت كأنما يُودعان الشمس .. أو تودعهما..
وما أخلف أي منهم الميعاد..
فلا هما ولا الشمس..
دائماً ما تبقي الشمس حتى يأتيان لتمسح علي وجهيهما بأشعتها الواهنة في جلال تغلفه أبدية الخلود.. تاركة في قلبيهما الأمل في لقاء بين طيات غد جديد..
الأمواج أيضاً دوماً تتسابق لتحظى برؤيتهما ..
تمر بهما سريعة .. قلما تقسو عليهما فتهدم قصور الرمال التي بنياها .. كأنها تُشاركهما أحلامهما البكر ..وتزيح من قلبيهما حلماً .. ليولد بعده ألف حلم جديد..
*** **** ***
لقد تأخرنا اليوم كثيراً.. قالها (أحمد) وهو يقترب من (وفاء) ..ابتسمت في عذوبة قائلة:
نعم يا (أحمد) هيا بنا سريعاً قبل أن ينالنا العقاب...
راحت خطاهما الصغيرة تنهب طريق العودة .. وفوق رمال الشاطئ تركا أملهما المعتاد في أن تشرق الشمس من جديد .. كأنهما ينتظران إطلالة لقاء في غد منتظر .. أو يتواعد قلباهما مع مجهول ..
*** **** ***
أطلقت (وفاء) تنهيدة وهي تتوقف مع (أحمد) أمام منزلها الصغير قبل أن تقول له بصوتها اللاهث.. :
ـ لقد وصلنا أخيراً..
قبل أن تتابع بصوتها اللاهث :
ـ لقد تأخرنا اليوم كثيراً.. ولولا أننا عدونا طوال الطريق لما وصلنا في هذا الموعد..
لم يعلق علي كلامها ، ولكنه حياها مسرعاً قبل أن يتابع وهو يبتعد :
سأنتظرك غداً ...
جاوبته وهي تبتسم :
ـ في نفس المكان ..
ثم دفعت باب منزلها المُتهالك .. وهي تنظر بعينيها الصغيرتين في بهو المنزل .. ثم راحت تخطو مُتلصصة علي أطراف أصابعها في طريقها إلى حجرتها .. قبل أن يُفاجئها صوت والدتها ، التي قالت لها بحدة غاضبة :
أين كنتِ حتى الآن يا (وفاء) ..؟؟!
استدارت (وفاء) وقد احمر وجهها ، وبدت كالفأر الذي باغتته المصيدة :
ـ إننا لم نتأخر بعد يا أُماه ..
ثم اتبعت قائلة :
.. ثم إنني لم أعد صغيرة حتى تخافي عليَّ على هذا النحو ، فقد أصبحت في العاشرة ..
ثم أشارت نحو بطن أُمها المتكورة قائلة :
ـ وعما قريب أُصبح أختاً كبرى لأخ جميل مثلك .. وهذا يكفي لـ..
قاطعتها والدتها بضحكة قصيرة وهي تقول :
ـ ... هيا إذن أيتها الكبيرة لتساعديني في إعداد العشاء لوالدك .. فلديه الليلة عمل كثير و...
قاطعتها وفاء بدهشة :
ـ .. ولكنه يعمل نهاراً... ولم يسبق له العمل ليلاً ..!!
سبقتها أُمها إلى حجرة جانبية قائلة :
ـ .. إن الليلة عيد ميلاد ) شاهيناز)ابنة الباشا..
تبعتها عدواً وأُمها ما زالت تتابع :
ـ ... والقصر بأثره في حالة يقظة .. فأنتِ تعرفين كيف يكون هذا الحفل ... ومَن يحضره من الناس ..
ابتسمت ابتسامة شاردة وهي تتخيل الحالة التي سيكون عليها القصر في هذه الليلة .. وتتخيل ابنة الباشا التي تكبرها بعام .. وكيف لها أن تبدوا في هذه الليلة .. وكيف يُمكن أن تتوارى تحف القصر أمام روعة زينتها وثيابها وحليها .. ثم لم تملك إلا أن طالعت وجهها في مرآة مهترئة معلقة علي الحائط....
*** **** ***
انهمك سالم في تناول عشائه في عجلة من أمره تحت نظر زوجته التي قالت له وهي ما زالت تتابعه بعينيها بحنان :
لما هذه العجلة يا ) سالم) ..؟!
قال لها وهو مازال مُنهمك في تناول عشاءه :
أنتِ تعرفين أن العمل في قصر الباشا لا يرحم أحداً يا (فردوس)، وهذه الليلة تحديداً تحتاج إلى التبكير في الذهاب ..
أطلقت زوجته تنهيدة حارة قبل أن تقول :
أعانك الله ... ثم اتجهت إلى أحد أركان الحجرة واستكانت فيها بوهن شديد ناتج عن إرهاق الحمل .. مما جعل سالم يقول لها :
سأحاول جاهداً أن أُنهي عملي مبكراً ..حتى لا تفاجئك آلام الوضع في غيابي...
ابتسمت له قائلة :
ما زال أمامي مُتسع من الوقت ..
هز رأسه باسماً وهو يُنهي طعامه قائلاً :
لا تبالغي يا فردوس إنكِ علي علم بأن أوان الوضع قد اقترب ....
ابتسمت ابتسامة أخرى قائلة :
لا تخف يا سالم سوف تمر هذه الليلة علي خير إن شاء الله كما مر غيرها ...
ثم اتبعت قائلة :
كما أن الله بجواري يا سالم وهو يكفيني عن أي شخص أخر ..
ابتسم سالم في حنان قائلاً :
ونعم بالله ..
ثم التفت إلى وفاء التي تقبع صامتة تتابع حديثهما في ركن الحجرة الأخر قائلاً :
هل تريدين أي شيء قبل أن أخرج يا (وفاء) ؟ ..
لكنها لم تلتفت إليه ... لقد كانت غارقة في الخيالات التي جنحت بها إلى قصر الباشا .. راح عقلها يصور لها كيف سيكون هذا الحفل الذي يضم سادة المجتمع .. وأنبل عناصره وراحت تتخيل أميرة القصر المدللة (شاهيناز) .. وكيف أنها ستكون الليلة في أجمل صورها ..
*** **** ***
ظلت (وفاء) تتقلب في فراشها الصغير منذ أن آوت للنوم .. وراحت شياطين الخيال تعبث برأسها.. و عبثاً راحت تحاول التشبث بأطراف النوم الجافية .. ولكن بلا فائدة .. فهكذا الزمن .. سياط مؤلمة لا يشعر بها سوي المعذبون ..وجواد جامح لا يشعر بسرعته إلا من تمنى إلا يمضي ..لقد شعرت وفاء أن دُهوراً طويلة مرت عليها دون أن تستسلم للنوم عيناها ... وخيالها يأخذها عنوة إلى القصر ... حيث راح يخيل لها كيف يكون هذا المكان الذي لم يسبق لها ارتياده .. ويا له من مكان ... ويا له من حفل ...ويا له من عالم.. راحت الأفكار تجري برأسها كشريط كبير ... سريع .. اقلق نومها تتابع الخواطر... وراحت الأمنيات تنسج بخاطرها من العدم ... لكم تتمني أن تكون بهذا الحفل ...ولم يكد قطار الأفكار يصل بها إلى هذه المحطة حتى هبت من فراشها في حذر .. وقد اشتعلت في رأسها فكرة واحدة .(ولما لا )...؟! ستذهب إلى والدها في القصر ... وسيمكنها من مُشاهدة الحفل ... حقيقةً هي لم تفعل من قبل ، فوالدها كان يمنعها بكبريائه من مجرد التواجد هناك ... ولكنه هذه المرة سيرحب بوجودها وسيدعها تشاهد الحفل ولو من بعيد .. كل هذه الأفكار هبت برأسها وسيطرت عليه علي الرغم من أن فكرة أُخرى راحت تمنعها وتلح عليها في إصرار ألا تفعل ..لكنها تجاهلتها علي الرغم منها في إصرار أشد .. وهبت من فراشها .. واستبدلت رداء نومها ...وراحت تتسلل خارج المنزل .. وقلبها يرتجف من الخوف .. ومما ستقدم عليه ..ولكن حتى خوفها لم يفلح في الوقوف أمام جموح أفكارها الشديد ..
*** **** ***
خطت وفاء بقدميها الصغيرتين فوق أرض الشارع ...ولم تكد تصل إلى نهايته حتى فاجئها شبح لطفل صغير في عمرها تقريباً .. ولم تكد تتبين ملامحه حتى صدرت عنها علي الرغم منها تنهيدة عميقة وهي تقول :
ـ اهو أنت ؟؟ ! لقد أفزعتني رؤيتك من بعيد يا (حسين)
نظر إليها (حسين)بدهشة ، وهو الذي لم يعتد رؤيتها في مثل هذا الوقت .. قائلاً :
ـ نعم أنا يا (وفاء)...
ثم اتبع مباشرةً وقد ارتسمت علامات الدهشة علي وجهه ، الذي لم تستطع تبينه في ظلام الليل :
ـ ولكن ما الذي أتى بك هنا في مثل هذا الوقت ؟؟!!
تلعثمت كلماتها ... ثم صمتت فترة قصيرة اتبعت بعدها كأنما حزمت أمرها :
ـ أصدقك القول يا حسين إني ذاهبة إلى قصر الباشا ...
فغر فاه واتسعت عيناه في ذهول وهو يقول في لهجة خالية من التصديق :
ـ أين ؟؟!!!
اتبعت ببساطة :
ـ قصر الباشا .. وماذا في ذلك ؟
ازدرد لعابه وهو يقول بدهشة :
ـ قصر الباشا .. ولما؟!
قال وقد عاودها الارتباك :
ـ أود مشاهده الحفل
كاد يطلق ضحكة ساخرة ، ولكنه كتم مشاعره وهو يقول :
ـ وكيف وصلتك الدعوة ؟!..
وكزته بيدها في ضِيق ، وهي تقول :
ـ كفاك سخرية..
ثم اتبعت :
ـ أنت تعرف أن أبي يعمل هناك ، وسأتمكن لذلك من مشاهدة الحفل عن قُرب ..
لم يسترح لمنطقها ، علي الرغم من علمه السابق بعمل أبيها هناك .. لذلك اتبع في صدق :
ـ ولكن هذا لا يكفي فأنت تعرفين طِباع هؤلاء الـ...
منعته من الكلام بإشارة من يدها وهي تتابع :
ـ لقد قررت الذهاب وسوف أذهب مهما كان ..
ثم أشارت له بأن يُفسح لها الطريق لتمضي قُدماً في طريقها ... وما أن أفسح الطريق حتى مضت في طريقها دون أن تلتفت إليه ... ولكنها توقفت فجأة علي أثر ندائه إليها .. واستدارت نحوه باستغراب قائلة :
ـ هل من حجج أُخرى ..؟؟
هز رأسه في استسلام كأنما غُلب على أمره ، ثم تابع بلهجة من سيقدم علي عمل أخرق :
ـ أمري لله .. لن أقوى علي تركك تمضين إلى هناك وحدك..
جاوبته بالابتسام فهرع نحوها .. وسارا سوياً تحت ستائر الليل المُسدلة .. وأعين القدر تتابعهما في إصرار...
إلي اللقاء في الحلقه القادمه.........
-أشرفت الشمس علي المغيب...
فتلك عادة الحياة..
هكذا تكون نهاية النهار مهما طال..
فلكأنها تختتم دورة صغيره من دورات الحياة التي لا تنتهي والتي تبدأها مع بداية النهار..
حيث تخرج أشعتها الفضية من خلف أسوار الليل المنيفة.. فتهب في الخلائق روحاً جديدة ... وتعزف في قلوبهم سيمفونية خالدة.. اسمها الحياة .. و تضرب لهم عقارب الزمن ألف موعد جديد مع ألف ألف مجهول.. إلي أن ينهش الليل النهار بأنيابه باعثاً في جسد السماء عتمة وصمتاً.. فيزوي الشمس خلف ستائره القاتمة ...ويبتلع معها معظم صور الحياة.. ويغلفها بوشاح الصمت في محرابه المظلم .. ويترك في أعماق الخلائق مجرد الأمل في أن تشرق الشمس من جديد... فيعاود الجميع الكرة... بل تعاود الدنيا كلها الكرة .. دون أن يعي البعض أن يوماً من عمر الزمن قد مضي وأنا يوماً أخراً سيمضي ... وأن سفينة الحياة التي أقلعت منذ لحظة الميلاد قد اقتربت يوماً كاملاً من مرساها المحتوم ...
و تتعاقب سيمفونية الليل والنهار.. ومع كل وجه جديد للنهار تلفظ الدنيا مخلوقات.. وتستقبل مخلوقات.. لتكتمل لوحة الخلق.. التي ترسمها الحياة بأصابع ماهرة ولا تكف أبداً عنها منذ أن بدا الوجود...
ويا لها من سيمفونية...
ويا لها من لوحة..
إنما تدل كل منهما علي عظمه الخالق – سبحانه – في تسخير الكون .. وتضرب باقتدار جلي أعظم صورة لمبدأ الحياة الأزلي.. أن دوام الحال هو كل المحال...
*** **** ***
سنترك ما خلق من جمال للخالق..
سنترك أنفسنا لننساب مع أشعة الشمس الهاربة إلي براثن الليل...
سنقترب من الشاطئ حيث تسابقت الأمواج لاهثة .. محمومة…لتحظي بالفناء علي صخور الشاطئ..
وفوق الرمال الناعمة سننسي أنفسنا مع وجهين صغيرين لفتى وفتاه...سنطالع هذه الوجوه ونندمج معها .. ونعيش معها لحظة بلحظة ... سننصهر معها في حياة…
*** **** ***
دائماً يجمعهما الشاطئ ..
دائماً تجذبهما أشعة الشمس الغاربة كمسحورين..
دائماً ما يهرعان في هذا الوقت كأنما يُودعان الشمس .. أو تودعهما..
وما أخلف أي منهم الميعاد..
فلا هما ولا الشمس..
دائماً ما تبقي الشمس حتى يأتيان لتمسح علي وجهيهما بأشعتها الواهنة في جلال تغلفه أبدية الخلود.. تاركة في قلبيهما الأمل في لقاء بين طيات غد جديد..
الأمواج أيضاً دوماً تتسابق لتحظى برؤيتهما ..
تمر بهما سريعة .. قلما تقسو عليهما فتهدم قصور الرمال التي بنياها .. كأنها تُشاركهما أحلامهما البكر ..وتزيح من قلبيهما حلماً .. ليولد بعده ألف حلم جديد..
*** **** ***
لقد تأخرنا اليوم كثيراً.. قالها (أحمد) وهو يقترب من (وفاء) ..ابتسمت في عذوبة قائلة:
نعم يا (أحمد) هيا بنا سريعاً قبل أن ينالنا العقاب...
راحت خطاهما الصغيرة تنهب طريق العودة .. وفوق رمال الشاطئ تركا أملهما المعتاد في أن تشرق الشمس من جديد .. كأنهما ينتظران إطلالة لقاء في غد منتظر .. أو يتواعد قلباهما مع مجهول ..
*** **** ***
أطلقت (وفاء) تنهيدة وهي تتوقف مع (أحمد) أمام منزلها الصغير قبل أن تقول له بصوتها اللاهث.. :
ـ لقد وصلنا أخيراً..
قبل أن تتابع بصوتها اللاهث :
ـ لقد تأخرنا اليوم كثيراً.. ولولا أننا عدونا طوال الطريق لما وصلنا في هذا الموعد..
لم يعلق علي كلامها ، ولكنه حياها مسرعاً قبل أن يتابع وهو يبتعد :
سأنتظرك غداً ...
جاوبته وهي تبتسم :
ـ في نفس المكان ..
ثم دفعت باب منزلها المُتهالك .. وهي تنظر بعينيها الصغيرتين في بهو المنزل .. ثم راحت تخطو مُتلصصة علي أطراف أصابعها في طريقها إلى حجرتها .. قبل أن يُفاجئها صوت والدتها ، التي قالت لها بحدة غاضبة :
أين كنتِ حتى الآن يا (وفاء) ..؟؟!
استدارت (وفاء) وقد احمر وجهها ، وبدت كالفأر الذي باغتته المصيدة :
ـ إننا لم نتأخر بعد يا أُماه ..
ثم اتبعت قائلة :
.. ثم إنني لم أعد صغيرة حتى تخافي عليَّ على هذا النحو ، فقد أصبحت في العاشرة ..
ثم أشارت نحو بطن أُمها المتكورة قائلة :
ـ وعما قريب أُصبح أختاً كبرى لأخ جميل مثلك .. وهذا يكفي لـ..
قاطعتها والدتها بضحكة قصيرة وهي تقول :
ـ ... هيا إذن أيتها الكبيرة لتساعديني في إعداد العشاء لوالدك .. فلديه الليلة عمل كثير و...
قاطعتها وفاء بدهشة :
ـ .. ولكنه يعمل نهاراً... ولم يسبق له العمل ليلاً ..!!
سبقتها أُمها إلى حجرة جانبية قائلة :
ـ .. إن الليلة عيد ميلاد ) شاهيناز)ابنة الباشا..
تبعتها عدواً وأُمها ما زالت تتابع :
ـ ... والقصر بأثره في حالة يقظة .. فأنتِ تعرفين كيف يكون هذا الحفل ... ومَن يحضره من الناس ..
ابتسمت ابتسامة شاردة وهي تتخيل الحالة التي سيكون عليها القصر في هذه الليلة .. وتتخيل ابنة الباشا التي تكبرها بعام .. وكيف لها أن تبدوا في هذه الليلة .. وكيف يُمكن أن تتوارى تحف القصر أمام روعة زينتها وثيابها وحليها .. ثم لم تملك إلا أن طالعت وجهها في مرآة مهترئة معلقة علي الحائط....
*** **** ***
انهمك سالم في تناول عشائه في عجلة من أمره تحت نظر زوجته التي قالت له وهي ما زالت تتابعه بعينيها بحنان :
لما هذه العجلة يا ) سالم) ..؟!
قال لها وهو مازال مُنهمك في تناول عشاءه :
أنتِ تعرفين أن العمل في قصر الباشا لا يرحم أحداً يا (فردوس)، وهذه الليلة تحديداً تحتاج إلى التبكير في الذهاب ..
أطلقت زوجته تنهيدة حارة قبل أن تقول :
أعانك الله ... ثم اتجهت إلى أحد أركان الحجرة واستكانت فيها بوهن شديد ناتج عن إرهاق الحمل .. مما جعل سالم يقول لها :
سأحاول جاهداً أن أُنهي عملي مبكراً ..حتى لا تفاجئك آلام الوضع في غيابي...
ابتسمت له قائلة :
ما زال أمامي مُتسع من الوقت ..
هز رأسه باسماً وهو يُنهي طعامه قائلاً :
لا تبالغي يا فردوس إنكِ علي علم بأن أوان الوضع قد اقترب ....
ابتسمت ابتسامة أخرى قائلة :
لا تخف يا سالم سوف تمر هذه الليلة علي خير إن شاء الله كما مر غيرها ...
ثم اتبعت قائلة :
كما أن الله بجواري يا سالم وهو يكفيني عن أي شخص أخر ..
ابتسم سالم في حنان قائلاً :
ونعم بالله ..
ثم التفت إلى وفاء التي تقبع صامتة تتابع حديثهما في ركن الحجرة الأخر قائلاً :
هل تريدين أي شيء قبل أن أخرج يا (وفاء) ؟ ..
لكنها لم تلتفت إليه ... لقد كانت غارقة في الخيالات التي جنحت بها إلى قصر الباشا .. راح عقلها يصور لها كيف سيكون هذا الحفل الذي يضم سادة المجتمع .. وأنبل عناصره وراحت تتخيل أميرة القصر المدللة (شاهيناز) .. وكيف أنها ستكون الليلة في أجمل صورها ..
*** **** ***
ظلت (وفاء) تتقلب في فراشها الصغير منذ أن آوت للنوم .. وراحت شياطين الخيال تعبث برأسها.. و عبثاً راحت تحاول التشبث بأطراف النوم الجافية .. ولكن بلا فائدة .. فهكذا الزمن .. سياط مؤلمة لا يشعر بها سوي المعذبون ..وجواد جامح لا يشعر بسرعته إلا من تمنى إلا يمضي ..لقد شعرت وفاء أن دُهوراً طويلة مرت عليها دون أن تستسلم للنوم عيناها ... وخيالها يأخذها عنوة إلى القصر ... حيث راح يخيل لها كيف يكون هذا المكان الذي لم يسبق لها ارتياده .. ويا له من مكان ... ويا له من حفل ...ويا له من عالم.. راحت الأفكار تجري برأسها كشريط كبير ... سريع .. اقلق نومها تتابع الخواطر... وراحت الأمنيات تنسج بخاطرها من العدم ... لكم تتمني أن تكون بهذا الحفل ...ولم يكد قطار الأفكار يصل بها إلى هذه المحطة حتى هبت من فراشها في حذر .. وقد اشتعلت في رأسها فكرة واحدة .(ولما لا )...؟! ستذهب إلى والدها في القصر ... وسيمكنها من مُشاهدة الحفل ... حقيقةً هي لم تفعل من قبل ، فوالدها كان يمنعها بكبريائه من مجرد التواجد هناك ... ولكنه هذه المرة سيرحب بوجودها وسيدعها تشاهد الحفل ولو من بعيد .. كل هذه الأفكار هبت برأسها وسيطرت عليه علي الرغم من أن فكرة أُخرى راحت تمنعها وتلح عليها في إصرار ألا تفعل ..لكنها تجاهلتها علي الرغم منها في إصرار أشد .. وهبت من فراشها .. واستبدلت رداء نومها ...وراحت تتسلل خارج المنزل .. وقلبها يرتجف من الخوف .. ومما ستقدم عليه ..ولكن حتى خوفها لم يفلح في الوقوف أمام جموح أفكارها الشديد ..
*** **** ***
خطت وفاء بقدميها الصغيرتين فوق أرض الشارع ...ولم تكد تصل إلى نهايته حتى فاجئها شبح لطفل صغير في عمرها تقريباً .. ولم تكد تتبين ملامحه حتى صدرت عنها علي الرغم منها تنهيدة عميقة وهي تقول :
ـ اهو أنت ؟؟ ! لقد أفزعتني رؤيتك من بعيد يا (حسين)
نظر إليها (حسين)بدهشة ، وهو الذي لم يعتد رؤيتها في مثل هذا الوقت .. قائلاً :
ـ نعم أنا يا (وفاء)...
ثم اتبع مباشرةً وقد ارتسمت علامات الدهشة علي وجهه ، الذي لم تستطع تبينه في ظلام الليل :
ـ ولكن ما الذي أتى بك هنا في مثل هذا الوقت ؟؟!!
تلعثمت كلماتها ... ثم صمتت فترة قصيرة اتبعت بعدها كأنما حزمت أمرها :
ـ أصدقك القول يا حسين إني ذاهبة إلى قصر الباشا ...
فغر فاه واتسعت عيناه في ذهول وهو يقول في لهجة خالية من التصديق :
ـ أين ؟؟!!!
اتبعت ببساطة :
ـ قصر الباشا .. وماذا في ذلك ؟
ازدرد لعابه وهو يقول بدهشة :
ـ قصر الباشا .. ولما؟!
قال وقد عاودها الارتباك :
ـ أود مشاهده الحفل
كاد يطلق ضحكة ساخرة ، ولكنه كتم مشاعره وهو يقول :
ـ وكيف وصلتك الدعوة ؟!..
وكزته بيدها في ضِيق ، وهي تقول :
ـ كفاك سخرية..
ثم اتبعت :
ـ أنت تعرف أن أبي يعمل هناك ، وسأتمكن لذلك من مشاهدة الحفل عن قُرب ..
لم يسترح لمنطقها ، علي الرغم من علمه السابق بعمل أبيها هناك .. لذلك اتبع في صدق :
ـ ولكن هذا لا يكفي فأنت تعرفين طِباع هؤلاء الـ...
منعته من الكلام بإشارة من يدها وهي تتابع :
ـ لقد قررت الذهاب وسوف أذهب مهما كان ..
ثم أشارت له بأن يُفسح لها الطريق لتمضي قُدماً في طريقها ... وما أن أفسح الطريق حتى مضت في طريقها دون أن تلتفت إليه ... ولكنها توقفت فجأة علي أثر ندائه إليها .. واستدارت نحوه باستغراب قائلة :
ـ هل من حجج أُخرى ..؟؟
هز رأسه في استسلام كأنما غُلب على أمره ، ثم تابع بلهجة من سيقدم علي عمل أخرق :
ـ أمري لله .. لن أقوى علي تركك تمضين إلى هناك وحدك..
جاوبته بالابتسام فهرع نحوها .. وسارا سوياً تحت ستائر الليل المُسدلة .. وأعين القدر تتابعهما في إصرار...
إلي اللقاء في الحلقه القادمه.........