المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غــــرابيل



سمير الفيل
03-08-2006, 04:14 PM
غــــرابيل





بقلم : سمير الفيل





بائع الغرابيل كان يجوب الأسواق ، ويخترق الأزقة الخلفية المشمسة في نهار طوبة شحيح الدفء . يحمل بضاعته بين يديه وينادي . كانت وحيدة ، تتكيء على حافة الشباك ، وتسرح في البعيد حيث ذهب زوجها لبر الشام كي يعمل بحثا عن الرزق الحلال .


قبل سفره بيومين رجته أن يبقى ، فرب هنا رب هناك ، لكنه قال جملته التي لن تنساها : البلد التي تمنحك القرش هي بلدك .


كانت تعرف أن ارض الله واسعة ، وما يكسبه من عرق جبينه هنا حتى لو أنه قليل إلا أنه يمنحهما الستر ، لكنه تبرم من ضيق ذات اليد . جاء بجواز السفر الأخضر وألقاه أمامها . حين رأت النسر الذهبي ذعرت فقد كان ينظر نحوها بعداء واضح ، وهي أعطته ظهرها حتى وضعه في الحقيبة الصغيرة .


قال لها وهي تعد له أقراص المنين والكعك بعجوة وعيش الطابونة : لا تطل الغياب .


اغتصب ضحكة ووعدها أن يرسل في طلبها فور أن ينصلح الحال . بائع الغرابيل ينادي بصوت فيه نداوة :


( الحر يصبر على الضيق


ولا يفرح لعـــــــــادي


لو ينشف الفم م الريق


يتم ع الحال هـــــــادي ) *


لم تكن تفهم الكلام ولكنها طلت ورأت أنه يشبه حلمي تماما بنفس شاربه الكث وصوته الغليظ المبحوح ، لكنه لم يغني لها أبدا .


لأول مرة تكتشف أن حلمي الذي راح لبلاد الشام ليعمل في الموبليا لم يغن لها حتى في أيام الخطوبة . صحيح انه كان يلاعبها ويضاحكها لكنه كان لا يطيق الغناء ولا سيرة المطربين والمطربات .


مرة سمعها تغني في الحمام وهي تستحم فطرق الباب وأمرها أن تكف عن إزعاجه بصوتها . في الفصل وقبل أن تخرج من الصف السادس الإبتدائي كانت تشارك في فريق الكورال ، وقد علمتها مدرسة الموسيقى السلم الموسيقي ، ومتى تبدأ من " دو " لتصعد إلى " سي " دون أن يختل صوتها .


هو الآن واقف على الباب بتهيب . فكرت لو أن لها طفلا لمنحها الأمان ، ولأدخل في قلبها الطمأنينة . خمس سنوات بلا طفل . لا ملاغاة ، ولا تحنين : تفضلي يا هانم .


مدت يدها تختبر متانة السلك ، وقبل أن تسأله عن الثمن سألها أن تأتي بكوب ماء مثلج .


دخلت وتركت الباب مواربا ، وحين عادت رأته يمسح عرقه بظهر يده : الدنيا حر . اسمحي لي بالجلوس على عتبتك.


لم يكن بوسعها أن تمنعه ، وكانت تشم رائحة عرقه فتعود القهقرى لأيام كان حلمي معها ، يعود مساء في غاية الإجهاد فتضع قدميه في ماء ساخن ، تتركه لتعد العشاء . ياه . كم اشتاقت لتلك الأيام ، فثلاثة أعوام جففت روحها ، وصحرت أيامها .هشت بيدها خواطر سوداء : هل يوجد أكبر من ذلك؟


هز رأسه : هذه أفضل بضاعة ، وأبيع بنصف سعر السوق .


من طرف خفي قاست طوله ، ورأته أقصر من زوجها ببوصتين فقد كان " زر " الكهرباء يعلو كتفه بنفس المقدار ، ضحكت وهي تضبط نفسها تقارن بين رجلين . بين حاضر وغائب . سألته : من أين حفظت الموال؟


قال لها أنه لابن عروس ، وقد سمعته عن جدي فقد كان يغنيه بين تعب المشاوير، وكنت أسرح معه . قالت له وهي تدخل لثوان معدودة ثم تعود بصورة أتت بها من درج الكومدينو : هذه أنا في حفل المدرسة . كان صوتي جميلا .


حملق في صورة البنت الشقية للحظات وقد افترت شفتاه عن ابتسامة هادئة : كنت حلوة . أراك تحبين الغناء .


وضع نظراته في بلاطات العتبة المزخرفة بأسود مع مربعات أقل بالأحمر : أول زبونة تسألني عن الموال . إنني أسلي به نفسي .


تركت في يده الصورة ، ودخلت، أحكمت وضع الإيشارب حول شعرها ، وأغلقت آخر زرار في فستانها البيتي المهوش : استرح دقيقتين . أجهز كوبين من الشاي لي ولك .


نظر نحوها في ترقب ومد رقبته يتشمم وجود أحد فاكتشف أنها بمفردها ، لكنها كانت مأخوذة بالكلام الذي حفظه عن جده . اختفت لدقائق وعادت بالكوبين . مدت يدها والشاي يصبغ الضوء النازل بحمرة مبهجة : ياليتك تغني موالا آخر . كانت الغرابيل مسندة على حافة الجدار ، متداخلة ومتعانقة ، أما الباب فمفتوح على آخره ،وقد راح ينتقل من موال إلى موال آخر وهي تهز رأسها مستمتعة لأقصى حد . كان البيت من طابق واحد بالطوب الأحمر ، وعلى الحافة تحط عصافير وتطير ، وتهب نسائم آتية من الشمال مع لفحة برد تنخر العظام .


ارتشف بتلذذ عجيب شاي الصباح ، وهي أمالت كوبها وراحت تعب وعقلها شارد حيث ينبغي أن يكون حلمي : كم تريد ثمنا له؟


نظر بامتنان نحوها وقد لامست يده أصابعها الطرية بدون قصد فيما هو يسلمها الكوب الفارغ : لا شيء . يكفيني أن تعرفت عليك .


لكنها دخلت ثانية . حطت الكوبين على رخام المطبخ ، وعادت بحافظة نقودها : خذ ما تشاء . انتزع جنيهين . هبط درجات السلم القليلة ، هو يصدح بالموال ، أما هي فقد راقبته من شباكها حتى ابتلعته الزحمة .





دمياط 3/ 8/ 2006

My-Spirit
03-08-2006, 10:56 PM
سرد رائع ولغة سلسة غير متكلفة


أخي سمير .. سأتابعك فلا تحرمنا من مشاركاتك :)







تحياتي

ألنشمي
04-08-2006, 02:14 AM
000

00

0

سلمت يداك اخي الغالي

ابدعت في نضم الكلمة وتسلسل الاحداث

سمير الفيل
05-08-2006, 04:36 AM
سرد رائع ولغة سلسة غير متكلفة






أخي سمير .. سأتابعك فلا تحرمنا من مشاركاتك :)






تحياتي

My-Spirit
ألف شكر للاهتمام
يومك سعيد .

سمير الفيل
05-08-2006, 04:37 AM
000



00

0

سلمت يداك اخي الغالي



ابدعت في نضم الكلمة وتسلسل الاحداث
ألنشمي
ألف شكر لكم ودمتم بود

تحياتي .

رشا محمود
05-08-2006, 11:12 AM
أستاذى / سمير الفيل

نقلتنى كلماتك إلى أجواء بعيدة
ورأيت شخوصا تتمثل أمامى
تلك الزوجة الوحيدة فى الشرفة
وبائع الغرابيل وهو يغنى الموال فى برد طوبة
صور رائعة للغاية
لا يجيد رسمها سوى الفنان سمير الفيل
شكرا لك أستاذى
تحياتى

سمير الفيل
07-08-2006, 01:07 AM
أستاذى / سمير الفيل

نقلتنى كلماتك إلى أجواء بعيدة
ورأيت شخوصا تتمثل أمامى
تلك الزوجة الوحيدة فى الشرفة
وبائع الغرابيل وهو يغنى الموال فى برد طوبة
صور رائعة للغاية
لا يجيد رسمها سوى الفنان سمير الفيل
شكرا لك أستاذى
تحياتى
رشا محمود
شكرا لك أستاذة رشا
ممتن بالكلمات الرقيقة .
احب المواويل جدا .

تحياتي .

عابده لله
08-08-2006, 06:46 AM
صـــباحك جــوري ..

يكــفــي أن ارى أسم سميــر الفيــل بـ هــذا المتصفـح
لـ امضـــي مهــرولــة لـ قراءة ما بــه بـ نهم شـديد ..


ابــداع ...
ولا مجــال لـ قول غيــر هــذا لانه حقيقــة ثابتـــة مُسلم بها
وغير قابل النقــاش فيهـــا ..



أستاذي سمير ..
لـ قلمك نكهــة خاصــة لا يتقنهــا الإ أنت ..
فقــــط ..

:)


عابده

محسن يونس
09-08-2006, 06:19 AM
إللى ما يشوف من الغربال أعمى

ماالذى يمكن أن يظل يأسر جوانحنا بعد قراءة هذا النص " الغرابيل " جمع " غربال " وهو ما يستخدم فى غربلة القمح وما فى ضربه لتنظيفه من الشوائب الغريبة ( هذا كان زمان )
هل تصاحبنا الدهشة ؟ أم يعطى النص لنا إمكانية تفسير ، والدخول إلى تلك المنطقة المظلمة حيث تسطع الشمس فجأة ، ونحن على أعتاب رؤية جديدة للعالم والناس ؟
هذا نص المسكوت عنه ، فها هى علاقة - مجرد علاقة عابرة - بين بائع متجول ، وامرأة فى عز شبابها تركها زوجها إلى بلاد غربة لثلاث سنوات مضيت، وها هى تبدأ فى التطلع فى الرجال بحجة المقارنة بينهم، وبين من كان يملأ دنياها وغاب ..
أهنا أسرار ؟ نعم والكاتب ماكر لم يقع أو بالأحرى لم يوقع نصه فى مباشرة ثقيلة بدروبها الحسية ، ولكنه أوحى ، وأشار إشارات وكفى ...
نص يحمل من الأسى والعذاب والوحدة والإنسانية الكثير ..
ولكن ليسمح لى الصديق : سمير الفيل ، وهو كاتب له وزنه وحضوره أن أطرح هذه الملاحظة بعد إذنه :
جملة : " وحين عادت رأته يمسح عرقه الخفيف بظهر يده : أشعر أن الدنيا حر . اسمحي لي بالجلوس على عتبتك. " بعد أن بدأ نصه بهذه الجملة : " بائع الغرابيل كان يجوب الأسواق ، ويخترق الأزقة الخلفية المشمسة في نهار طوبة شحيح الدفء " ثم هذه الجملة التى تؤكد برودة الجو " كان البيت من طابق واحد بالطوب الأحمر ، وعلى الحافة تحط عصافير وتطير ، وتهب نسائم آتية من الشمال مع لفحة برد تنخر العظام "
هل تلوينات الطقس بهذا الشكل متعمد نتيجة لما أصاب الشخصيتان من انفجار المشاعر دون سابق إنذار ؟!
ربما ..
شكرا لك أيها الكاتب الجميل ..
و دمت بخير

سمير الفيل
10-08-2006, 03:45 PM
صـــباحك جــوري ..

يكــفــي أن ارى أسم سميــر الفيــل بـ هــذا المتصفـح
لـ امضـــي مهــرولــة لـ قراءة ما بــه بـ نهم شـديد ..


ابــداع ...
ولا مجــال لـ قول غيــر هــذا لانه حقيقــة ثابتـــة مُسلم بها
وغير قابل النقــاش فيهـــا ..



أستاذي سمير ..
لـ قلمك نكهــة خاصــة لا يتقنهــا الإ أنت ..
فقــــط ..

:)


عابده
عابده لله..
صباح الخير

كلام شرح صدري .. فعلا ..

سمير الفيل
10-08-2006, 03:51 PM
إللى ما يشوف من الغربال أعمى



ماالذى يمكن أن يظل يأسر جوانحنا بعد قراءة هذا النص " الغرابيل " جمع " غربال " وهو ما يستخدم فى غربلة القمح وما فى ضربه لتنظيفه من الشوائب الغريبة ( هذا كان زمان )

هل تصاحبنا الدهشة ؟ أم يعطى النص لنا إمكانية تفسير ، والدخول إلى تلك المنطقة المظلمة حيث تسطع الشمس فجأة ، ونحن على أعتاب رؤية جديدة للعالم والناس ؟
هذا نص المسكوت عنه ، فها هى علاقة - مجرد علاقة عابرة - بين بائع متجول ، وامرأة فى عز شبابها تركها زوجها إلى بلاد غربة لثلاث سنوات مضيت، وها هى تبدأ فى التطلع فى الرجال بحجة المقارنة بينهم، وبين من كان يملأ دنياها وغاب ..
أهنا أسرار ؟ نعم والكاتب ماكر لم يقع أو بالأحرى لم يوقع نصه فى مباشرة ثقيلة بدروبها الحسية ، ولكنه أوحى ، وأشار إشارات وكفى ...
نص يحمل من الأسى والعذاب والوحدة والإنسانية الكثير ..
ولكن ليسمح لى الصديق : سمير الفيل ، وهو كاتب له وزنه وحضوره أن أطرح هذه الملاحظة بعد إذنه :
جملة : " وحين عادت رأته يمسح عرقه الخفيف بظهر يده : أشعر أن الدنيا حر . اسمحي لي بالجلوس على عتبتك. " بعد أن بدأ نصه بهذه الجملة : " بائع الغرابيل كان يجوب الأسواق ، ويخترق الأزقة الخلفية المشمسة في نهار طوبة شحيح الدفء " ثم هذه الجملة التى تؤكد برودة الجو " كان البيت من طابق واحد بالطوب الأحمر ، وعلى الحافة تحط عصافير وتطير ، وتهب نسائم آتية من الشمال مع لفحة برد تنخر العظام "
هل تلوينات الطقس بهذا الشكل متعمد نتيجة لما أصاب الشخصيتان من انفجار المشاعر دون سابق إنذار ؟!
ربما ..
شكرا لك أيها الكاتب الجميل ..
و دمت بخير






الأديب الكبير محسن يونس .



هو كان يشعر بالوهج يملأ قلبه ، وبنوع من الدفء يتسلل لروحه .

في هذه الجزئية وفقت أنت بالذات في ايجاد مبرر للتناقض الظاهري .



لكنك كنت قريبا جدا مني وانا أكتب ؛ حين تأملت ما بالنص من الأسى والعذاب والوحدة والإنسانية، كتجليات لحالة الغياب .

هذا نص من سبعة نصوص كتبتها نفس اليــــــــــــوم ثم أدركت أن " غرابيل " مختلف فاقتنصته من فم ذلك الغياب الموحش .



شكرا لك فحضورك جميل كالعادة .