سمير الفيل
09-06-2006, 12:14 PM
تمــرحنــــــة
بقلم : سمير الفيل
حين رفس بقدمه الباب بكل ما يمتلك من قوة لم يكن يتصور هذا المنظر أبدا ، فرغم أنه جاب أكثر موانيء العالم ، وشاف كل غريب ومحير لم يتصور أن يكون هو نفسه مضغة في الأفواه ، وسيرته على كل لسان . كانت في فراشها المكسو بالقطيفة الحمراء ، وهو في أحضانها يموء ، وقد وجمت لدخوله المفاجيء على هذه الصورة ، وهو نفسه استغرقته المفاجأة ، فقد كان ما تصوره عشيقها هو مجرد قط . قط سيامي شعره كستنائي يحرك ذيله في حبور ، وتتسع عينيه ما بين الدهشة والفزع .
شدها من شعرها ، وصفعها على وجهها ، ولم يأخذ وقتا في التفكير حين سحب من جيبه سكينا حاد النصل وذبح القط المسكين . ارتمت على الذبيح تبكي ، ودمه يشخب . هبت مذعورة تدق بقبضتيها اللدنتين صدره العريض دقا جنائزيا لحوحا، توشك أن تقذفه باتهامها الذي خبأته في أعماق نفسها سنوات : مجنون .
الطواهي صبري المر كما في جواز سفره لم يكن مجنونا ، فقد خضع لاختبارات قاسية ومضنية حتى التحق بالكلية البحرية ، لكنهم فصلوه من الدراسة في السنة الثالثة حين ذهبت الدفعة للتدريب في إحدى مواني اليونان ، فحضر بعد موعده المقرر بساعتين ، ولم يكتف بذلك بل جاء متطوحا من شدة السكر وبيده غانية ترطن بالإجريجي مع نبرة سكندرية شبقة ، تقول : أيووووووووووه.
بعد أن فُصل أصر العمدة ـ أبوه ـ أن يظل في نفس السلك فسفـّـره إلى أمريكا وبفلوسه جاء بالشهادة مختومة ومعتمدة ، وعليها النسر الأصلع الرقبة ، من ينكرها يضعها في عينه ليطرفها أو يخوزقه بالكلمات الممرورة : طز فيك وفي أبيك . .
بإحدى شركات السفن العملاقة التي تجوب أعالي البحار سلك طريقه ، و هي زوجته التي أحبها ، ومن أجلها ظل ثلاث دورات لا يستجيب لصفارة الميناء البحري في الأسكندرية ، وحين تأكد من حملها جدد التأشيرة ، وصعد على ظهر أول مركب مبحر نحو الشمال . في كل مرة يقضي شهورا متنقلا بين علب الليل ، ومقاهي وأرصفة أوربا ليعاقر النبيذ المعتق الذي سلب لبه ، لكن صورتها بالذات كانت دائما في جيب سترته . كان يخرج الصورة ويتأمل " تمرحنة " ، فيفوح الشذى عبر البلاد مخترقا المحيطات والقارات . فما هو الهاجس الذي جعله يشعر بأنها لم تعد مخلصة له البتة ؟ وما هو معنى الخيانة إن لم يكن ما رآه هو الخيانة بعينها ؟
منذ عودته آخر رحلة سألها مباشرة ، وعينيه فيهما حيرة غائمة : ما الذي غيرك؟
ألقت نظرة على المصابيح المشتعلة نورا في جوف ليل مستحيل بارد ، قالت له ، وهي تخفي فجيعتها : لم أعد لك . هذا كل ما في الأمر .
أمرها أن تبادر بخلع ثيابها ، وتقف في الظلمة ليعرف بالضبط ماذا حل بها ، وحين طوحت رأسها رفضا واشمئزازا هرول ناحيتها ، ومد يده نحو قميص النوم الستان الأزرق بلون البحر ، وشقه نصفين ، ثم أخذ كل نصف ورفعه على جانب من مصراعي النافذة . لم تكد تتحرك لتستر جسدها حتى ومضت الرغبة في عينيه ، لكنها تلك التي تنازعها رغبة مضمرة في التشفي المقيت . لملمت أحزانها ، سألته في وقت ظنت فيه أنها لاتملك صوتا : وماذا بعد ؟ هل ستستريح بعدها ؟
كان قد هدأ فعلا ، وأخبرها أن هواجس كثيرة تملأ رأسه ، وأن عليها أن تساعده كي يتجاوز تلك الرائحة التي تخنقه . وقد هم بإطفاء مصباح الحجرة ، فمدت يدها وأبقت النور . حملق في السقف وكان مطليا ببياض قديم ، وقد سقط على مدار خمس سنوات هي عمر زواجهما ، قالت له كالمأخوذة : حتى لو نلت جسدي فهناك ما يمنع تواصلنا . هناك شيء أسود مرعب يبدد هدوء نفسك .
أسلم الطواهي نفسه لشرود لا نهاية له ، وأشعل سيجارة ، ثم راح ينفث دخانها في ألم ممض ، سألها : تمر حنة ؟ أتحبين غيري ؟
ندت منها آهة حزينة ، وربتت على كتفه : قم لتنام . أنت مرهق . استرح . لا أحب أحداَ . لا أنت ولا غيرك.
ومن النافذة أطلت فرأت شجرة التمرحنة التي زرعتها ، ومن قبل أخذت اسمها مطرقة ذابلة ، والزهر الذي يظهر في النور متفتحا ومستغرقا في البياض مرتجفا وبلا خضرة.
عادت لحظتها إلى دارها الواسع في قريتها البعيدة ، وأبوها الجنايني يرفعها إلى شجرة البمبوظا لتقطف الثمرات السوداء المائلة للزرقة ، ثم تضعها في قبعة مصنوعة من الخوص : لماذا اخترت لي هذا الاسم يا أبي؟
يضحك وهو يسندها كي تنجح في تسلق فرع جديد : إسألي أمك. وفتنة ، أمها تأتي بإناء من عصير الليمون البنزهير ، وتصب في كوب شفاف للأب والبنت : ألا يعجبك الاسم يا بنت؟
تخجل تمرحنة : لا والله . أحبه . لكن ما سره ؟
قبل أن تتزوج من الطواهي أخذتها الأم ، وأجلستها أمامها ، ودعكت أذنيها برفق ، ولطف . تسلل الضوء مع الكلمات : تعرفي يا أجمل بنت في الوجود . سأقول لك السر . كان أبوك يأتي كل مرة مساء الجمعة ليجلس معي ، وكانت أمي عنيدة ومهابة ، فلا تسمح لنا بالجلوس منفردين . مرة سهاها ، وجاء لها بوردة جوري حمراء ، ما أن شمتها حتى انتابتها نوبة عطس . الماكر كان دس فيها بعض النشوق الحراق . ظلت تعطس وتعطس وتأتي بمناديل لا حصر لها . واستغل الداهية ارتباك أمي وفرفط عود التمرحنة في صدري . هنا في مفرق النهدين . أنظري هنا بالضبط . كانت أحلى مرة تجمعنا جلسة .
البنت تداري خجلها في ضحكة متكتمة : أبي يفعل هذا ،لا أصدق . الحاج عبد العليم . لا يا أمي قولي كلام آخر .
مع دقات رتيبة لها إيقاع صارت تعرفه ، تقوم لتفتح الباب لخطيبها ، الذي دخل البيت من أبوابه ، لكنه يجلس شارد اللب ، وحين يمسك يدها تحس ببرودة شديدة ، وتقشعر لارتجافة خفيفة تشعر بها مع لمساته المترددة .
حين انصرف حدثت أمها : أخافه يا أمي !
وقلب الأم جاوبها : لا تتسرعي في الحكم عليه يا ابنتي . العشرة الجميلة تقرب القلوب ، وتلـّين الحجر الصوان .
كان الأب حين يهل بصحبة الورد يدخل عليهما مرحا : أيه؟ فتنة وتمرحنة.. عليّ العوض يا رب !
فتهب عاصفة من ضحك ، وقرقرة القلة حين يرفعها لفيه شهد زلال ، لا يستريح إلا وطوق الرقبة يشرب معه قطرات وقطرات كأنه يُسقط تلك المياه عن عمد ، والسفرة طبلية صغيرة مدورة عليها الفول والفلافل ، وأرغفة ساخنة طالعة من فرن الخبيز للتو ، وطبق الطحينة الذي لا يغيب عن عشاء كل ليلة .
هو الآن قابع في ركن من الحجرة ، والدماء لطخت سجادة كشميري كان والدها عبد العليم قد اشتراها من سوق الموسكي في زيارته الموسمية لمولد سيدنا الحسين . لم يكن يعنيها أن ينتهي اليوم بنفس الكلمات التي تعدها بأن يكون هذا آخر تصرف جنوني .
وإلى قفص الكناري مدت يدها ، ومسدت الريش الملون الجميل ، وهي تشهق بالبكاء ، وتحاول أن تلتمس له الأعذار ، حين انتهت أول سيجارة ، وسحب أخرى ، سألها والتماعة خاطفة تومض في العينين : هل يريحك أن تذهبي؟
كان يقولها بمكر ، وشنطة سفره تطل من حافة الدولاب الذي صنع من أشجار الماهوجني ، فيما المرايا تحول وجهه إلى عشرات البحارة المحملقين في فراغ الليل الساكت المكفهر بحلقات دخان تنعقد في فضاء الغرفة : هل يمكنك أن تغفري لي هذه المرة ؟
في كل عودة كانت تسبقه أسئلته ، وقبل أن يغلق الباب خلفه يحاسبها حسابا عسيرا عن الضحكات المفترضة التي ضحكتها ، وعن المسرات التي سردتها ، ويخنق كل رغبة لها في أن تتوحد به ، لكنه ينال متعته عنوة .
حين يشعل بخور جاوة تشعر فعلا بالاختناق ، وتسارع بفتح نوافذ البيت ، وهو يغلقها من ورائها ، ويطرحها على السرير لينتهكها قسرا ، فتتحول بين يديه إلى دمية فاقدة الروح لا أكثر ، وبعد أن ينتهي من لعب دور الرجل ، ويخلو العظم من بعض ما به من نخاع يشد خصلة من شعرها بقوة ، ويضعها في حافظته الجلدية ، فيما تغالب دموعها ، وتشعر أنها فقدت روحها أبدا ، وتبددت مزقا .
لم تعد هي تمر حنة التي تحب الحقول والأشجار والطيور ، لقد صارت شيئا مختلفا . حين يدخل للاستحمام بعد فعلته تنظر في المرآة ، وترى التجاعيد تزحف بإصرار لتشكل وجها لا تعرفه . يخرج ليسكب مزيدا من العطور الباريسية ، وكلما انتهى فتح الغطاء المعدني وسكب أكثر .
مرة صرخ في وجهها : رائحة كريهة لا تريد أن تذهب يا تمرحنة . أفتحي كل النوافذ والأبواب . وحين فعلت قام يغلق كل مافتحته ، ويبكي أنه لا يعرف كنه تلك الرائحة التي يحملها معه من ميناء إلى ميناء ، ومن مدينة إلى مدينة ، ومن حجرة النوم إلى غرفة السفرة .
تغسل عينيه دموع لا تعرف من أين يأتي بها . قام وأزاح القط المذبوح بيد ترتجف ، صعد السطح ، وألقى به بعيدا ، ثم أجبرها أن ترتدي القميص التركواز الذي ارتدته ليلة الدخلة ،كانت تنتفض من شدة الإحساس بالخيبة والألم أنها تطيعه ، ولرغبتها في أن تنتهي الليلة على خير ، فعلت كل ما أمر به ، ثم جلست في ركن آخر بعيد عنه ، حينها مد يده يبحث عن شموع ملونة ، ثم ما لبث أن أطفأ نور المصباح ، وسألها أن تشعل بالكبريت كل هذه الشموع ، وأن تغني أغنية كان قد غناها لها منذ خمس سنوات ، لكنها لم تستطع . لم يخرج صوتها أصلا ، فتوعدها أن تكون هي المذبوحة في المرة القادمة . وجلس على المائدة يغني وحده ، ولهب الشموع يتراقص مع نسمات تأتي من شباك بعيد في المطبخ : مسكينة أنت يا تمر حنة . هذا ما تقولينه في سرك ، ولا تستطيعين أن تنطقي به . إسمعي .. النساء خائنات إلا أنت ، والمرأة فاسدة ، لكنك مجرد زهور شجرة بلحاء بني .
يقهقه قهقهات عالية وروحها تتسرب ، ولا تنحدر دموع . مجرد نحيب خافت يتردد في صدرها ، وعين صقر مدرب على الانقضاض تبصرها طول الوقت : من فضلك اتركني أذهب لحالي.
كان يعرف أن أباها الجنايني الفقير قد مات ، وأمها فتنة تصرف على كوم لحم ، ومستحيل أن تترك كل هذا العز وتذهب للدار الفقيرة المسورة بأشجار بلدية لا ثمن لها .أشجار لبخ وكافورومستكة وجازورينا ، وعدة نخلات تطرح بلحا أحمر صغير النواة ، وحوش واسع فيه بعض بهائم .
لقد أمسكها من منكبيها ، ووضع رأسه المتعبة على كتفيها : هل أعذبك حقا يا تمرحنة؟ ألا تشعرين بمتعة معي؟ أتريدين أن تعودي للبيت الواطيء بلا فيديو ولا ثلاجة ولا غسالة . تعودين للزير والقلة وروث البهائم يا جميلة .. يا بنت الناس ؟
لم تنس تمر حنة يوما أمها الفلاحة البسيطة التي كانت تربي الطيور والدواجن في ذلك الحوش الواسع ، تنتظر مجيء يوم الجمعة لتذهب كي تبيع بعض ما ربته ، كي تـّوسع على زوجها . تشتري في العودة خبز فينو ، وقطع ملابس تخيطها بنفسها ، ولفائف حلوى ، وزجاجات عطر روح الفل . وعبد النعيم الذي تلقبه بالحاج دون أن يذهب للكعبة الشريفة في الحجاز ، أو يزور مقام النبي الغالي ليشرب ماء زمزم ، يرمقها في العودة بامتنان ، يسعل وهو يبعد جوزة المعسل ، ثم يسألها بسعادة : ماذا أحضرت معك يا ست فتنة؟
في بداية زواجهما ، وحين يعود الطواهي من السفر تلبس له أجمل ثيابها ، وتتعطر ، تضع بودرة خفيفة على وجنتيها ، وتتعلق في رقبته وتطوقه ، وهي تهمس في أذنه : اشتقت لك.
كان أول الأمر يبعدها براحة يده برفق كي يسألها عن سبب زينتها ، ولمن تتجمل إذا كان هو في سفر ؟
فتضحك وتعتبرها مزحة : أنسيت أنك من أخبرتني بالموعد قبل أسبوعين في آخر مكالمة هاتفية لك.
تمر سحابة سوداء تغشي وجهه ، ويغمغم في توتر : صحيح . الظاهر أنني صرت أنسى .
كان هذا في أول سنتين من الزواج ، لكنه لما عاد في بداية السنة الثالثة ، ضربها ضربا مبرحا لأنها وضعت " الروج " والكحل ، كأنها تغيظه ، وأجهضها حين لم يكف عن لكمها في كل مكان من جسدها الطري الحساس .
في المستشفى أخفت عن والدها الحاج عبد العليم حقيقة الضرب ، وأخبرته أنها كرت السلم بعد أن وضعت قدمها في درجة خالية ، ولما ضـيـّق عليها الخناق بعد أن لمح كدمات زرقاء في وجهها ، هزت رأسها أن الطواهي هو الذي ضربها وأهانها ، ومسح بكرامتها الأرض .
غضب الحاج وكتم في صدره أحزانه ، ومن المستشفى أخذها الأب للدار . أركبها عربة حنطور بحصانين ، وفي الطريق ، همس في أذنها : واحدة من اثنتين . إما ينعدل حاله ، أو نخلـّص الموضوع . ألن يمكننا أن نجد لك لقمتك يا ابنتي.
حضر الطواهي مع أولاد الحلال ، حاولوا إقناع الأب أن كل شيء قسمة ونصيب ، والاجهاض مقدر ومكتوب ، في اللوح المحفوظ قبل أن يولد الإنسان بألف ألف سنة ، وسبحان علام الغيوب .
كانت في القاعة الجوانية تعضعض أظفارها ، سألها الحاج بوجه مربد : أتريدينه يا تمرحنة ؟
صرخت لأول مرة في حضرة والدها الغالي الذي تموت ولا تعصي له أمرا : لا يا أبي . لا أطيقه .
ثم مسحت مكان الدموع المنحدرة على وجنتيها فبانت الزرقة مبللة مكان الكدمات : إنصحني ماذا افعل ، خلصني منه !
لكن فتنة تدخلت ، ومسحت على شعرها : لا أحد في عائلتنا يحمل لقب مطلقة . استرينا ياابنتي!
وهي استمعت للنصيحة ، ورأت الأب تزلزله أحزان جنين منعت الحياة عنه قبضة يد غاشمة . كان يريد أن يكون له حفيد كي يرفعه في نور الشمس الوضاح ليقطف ثمار البمبوظا ، ويضحك في وجهه كلما بلل ملابسه!
حين عادت كانت تمرحنة أخرى بلا روح . جسد خائر القوى ينام بالمسكنات ،ويصحو برنين المنبه المزعج، ولقد حاول أن يكسب رضاها ، فملأ عليها البيت الفاخر بأحواض زجاجية لأسماك الزينة ، وأقفاص عصافير ملونة، وببغاء له ريش عجيب ، وله صوت مبحوح يقول لكل من يهوب من الباب : تفضل يا باشا .
يقولها بصوت أخنف كأنه رجل بنصف أنف ، وبلا أسنان ، وإلى جواره يتدلى من خطاف في السقف قفص سلك به عصفوران لطيفان من جزر الملايو . وفي كل عودة يسألها : لماذا أراك حزينة . لم لا تتزينين؟
تطرق ، وفي الأرض تسمر نظراتها ، وهو يخرج لها هداياه المفضلة : ثعبان كوبرا من الأبنوس ، أسد أسيوي من العاج الشاهق ، نمر مفترس بأنياب حقيقية له عينان من الخرز ، تمساح محنط طوله نصف متر ، وآخر هداياه تمثال من خشب الصندل لإمرأة إفريقية حامل على وشك الوضع .
جاء بهذا التمثال قبل ستة أشهر من واقعة القط السيامي ، ثبت عينين شريرتين في وجهها : حتى النساء الأفارقة يمكنهن ذلك، وأنت رثة وبائسة.
كانت قد عرفت بعد أن عاشرته خمس سنوات وبضعة أشهر أنه لا يرمي من وراء كلماته الجارحة سوى إيلامها ، والانتقام لشيء لا تعرفه هي .
يخطو ما بين حافة السرير ، والصالة ذات نباتات الزينة من البلاستيك بعد أن قطع بالسكين في الحديقة الخلفية نباتات " ذقن الباشا " و" الجهنمية " ، و" أجهز على اللبلاب لكونه يتسلق الحائط بلا أدب ، حتى نبات اللوف الذي كان يتسلل برفق من الحديقة نحو الشرفة المطلة مباشرة على الحديقة ، ليعانق نبات " الفيكس " في أصصه الفخارية انتزعه في قسوة .
يعلو صوته : الرائحة تكاد تقتلني . أرحميني يا تمر حنة . أسكبي كل ما في الدولاب من عطور . هنا على وجهي ، وتحت ذقني ، ووراء أذنيّ . أريد أن أستريح. أستريح في ظل صلصال محروق!
وقد أركبه أبوه العمدة وهو طفل صغير حصان جامح ، حمله وانطلق به نحو الحقول فهوى على الأرض والحصان في أقصى سرعة له ، فتحطم له ضلعان ، وكاد يفارق الحياة غير أن الأب كان يريد رجلا يرث كل أملاكه ، رجل قوي الشكيمة ، قاس لا يخاف أي أحد في الكون ، ولا يعرف قلبه معنى الرحمة ، وفي المرة التي اصطاد الخفراء فيها ذئبا حيا ، أحضر صبري المر ابنه الوحيد ، وأجلسه في الحوش أمام الدوار الذي لا يزورونه سوى كل صيف . سأذبح الذئب أمامك ، وستأكل كبده حيا . هيه؟
اختفت نظرة الفضول في عيني الصبي ، وتظاهر بالشجاعة ، وهو يمد يده وينتزع الكبد الساخن النيء بعد أن طعن الأب الحيوان المفترس في رقبته فعوى عواءا مرعبا ، ثم عاجله بطعنتين مفاجئتين في الصدر . ذاق الولد الطعم المقزز النيء فأوشك على التقيؤ . حين هم بالفرار حاصرته أيدي الغفر ، وسمع صوت أبيه كأنه يأتي من واد سحيق : اتركوه كي يطلع امرأة . الناس تلعب به كالدلدول .
كانت أمه تخفي وجهها في طرف ثوب أسود يصل حتى الكعبين ، تحاول أن تمنع دمعها من الانهمار . بعد أن مضغ الكبد مغمضا عينيه أمرها في صرامة : زغردي يا إمرأة. ابنك صار رجلا بحق .
هو الذي أخبرها بكل ذلك وهو يداعب شعرها الأسود الفاحم الغزير المنسدل على كتفيها كشلال حرير أيام الخطوبة : سأحميك من أخطار الدنيا .
الشيء الوحيد الذي لم تفكر به تمر حنة هو سؤال ظل يعكر عليها حياتها بعد أن تمت الزيجة وتحولت من فتاة إلى سيدة في لحظة أو ظل لحظة لا أكثر : ومن يحميني من هذا الشقي؟
هي الآن تنظر إلى ظله وهو يتحرك في البيت جيئة وذهابا ، يفتح الأبواب ويغلقها ، وعيناه تغيمان فيما يشيح بيده نحو كائنات غير مرئية : رائحة لا تطاق .
رأت أن تقضي وقتها في شيء لا يجدد غيرته ،ولا يثير أعصابه ، ففتحت درجا صغيرا أسفل الدولاب ، وأحضرت بعض كتب كلية الحقوق التي حصلت على شهادتها دون أن تعمل . بدأت تطالع بعض الصفحات في القانون الجنائي ، وما تلبث أن تبتسم لخطها الدقيق المنمنم بالقلم الرصاص قبل أن تترك مقاعد الدرس . شعرت بنفسها خفيفة وهي تسير في طرقات الكلية مع زملائها : شبان وبنات ، هي المرجع لهم عند كل سؤال صعب ، فجأة شعرت بنفسها تسير مترنحة في الصالة ، وهو منطو في ركنه المنعزل ، سارع باحتوائها قبل أن ترتطم بقطع الأثاث ، وسار بها نحو السرير : إستريحي الآن .
ردت كالمأخوذة : لن استريح قبل أن أترك هذا السجن!
نظر نحوها في استغراب ، وتوقع أن تجمع ملابسها في حقيبتها الكبيرة : أذهبي للفراش واستريحي . لن أضايقك . في الصباح خذي قرارك .
حين خرج رأت أن العالم يتحرك فيه الشر ويظلل كل شيء . كانت طيبتها ونظرتها المتفاءلة للحياة هي سر تعاستها . قررت أن تدخل عالمه الدموي الشرير ربما تتقارب الأرواح فلا تخسر نفسها .
كان بالقرب من قفص الببغاء هذا القفص الدائري من السلك به عصفور وعصفورة . جاءت بشفرة حامية من درج " الكومدينو " . مدت يدها وهبشت الهواء . ربما لامس السن الحامي الجلد الرقيق ، فقد تقصف ريش الجناح ، طرطش الدم على يدها ، عمها غم عظيم ، وبكت في حرقة : يا رب كيف يتخلص هذا الرجل من الرائحة . وكيف أتخلص من عذابي ؟
شعرت بأنها اقترفت جريمة ، وملأها شعور بالعار ، مدت يدها للعصفور الذي انكمش وملأ عينيه برجاء مذهل ، فهمته ، بصبغة اليود طهرت الجرح ، وضمدته برباط حريري كانت تعقص به شعرها وهي فتاة قبل أن تتحول إلى إمراة في لحظة أو ظل لحظة .
مدت رأسها تشرب الظلمة بعينين باكيتين : رب لم خلقتني أنثى ؟
شعرت بالذنب فاستغفرت ربها ،وتيقنت أنها لا يمكن أن تكون شريرة أبدا لأن العصفور المسكين استكان بين يديها ، وراحت تمرر شفتيها وتبلل بريقها الزغب الخفيف ، وتمسح به ذلك الريش الناعم الجميل الذي تقصف بعضه . كانت حدقتاه بنيتين لامعتين ، يرقبها في لوم ، وهي ترجوه أن يسامحها ، وقد فعل حين شقشق ، فابتهجت ودفعته بيدها في القفص السلكي .
سمعت خطوات أقدامه تقترب ، والأبواب تصطفق خلفه ، صوته يأتي محتجا ، يقصف هدوئها : أين العشاء يا تمرحنة ؟
خرجت لتعد بيديها المرتعدتين السفرة ، فرأت وجهه كسيفا ، والعبوس يملأ مساحات سوداء تحت الجفنين ، شردت وهي تذهب للبعيد البعيد .
كان وجه الحاج عبد النعيم يلوح لها من سفر مرهق ، وجه صبوح رغم الغضون التي تملأه ، وجه تنيره عينان سوداوتان جميلتان تشعان بصفاء غريب ، هتفت به : أبي أرفعني معك .
فيما يشبه المواساة رد في خفوت : ليتني أستطيع يا تمر حنة.
كانت يده تسندها ، يد الأب الحانية ، وقلبه يدق في انتظامه الأليف الذي تعرفه ،ورائحة الجنينة تنعش صدرها ، حتى أنها فتحت أزرار البلوزة واستنشقت نسيما طازجا ، وهي تواصل تسلق غصن لدن بعيد ، بينما يدها المدربة تقطف ثمار البمبوظا : أمي حكت لي ما فعلته يوم الوردة الجوري . كيف تفعل ذلك في جدتي؟!
غمرته نوبة ضحك ، اهتز لها جسده الضئيل كله ، وهو يضع يده على فمها الدقيق : إياك أن تقولي لأحد . عيب يا بنت .
ضحكا في نفس الوقت : أبي .
تهدج صوته ووجهه النوراني يشع طمانينة : نعم يا ابنتي؟
قالت في ضراعة : خذني معك يا أبي . خذني ولا تتركني له.
انزوى البحار في الركن المظلم أ كثر، وهو يراها تشحب وتشحب ، وتصعد ، وقد خرس لسانه تماما ، فيما هي تمضي مبتعدة بوهن مستحيل وأنين لا قبل لأحد على احتماله .
كانت تمرحنة قد ابتعدت بما فيه الكفاية ، وكان عليه أن يظل وحيدا في هذا البيت الذي فسد هواؤه ، ولقد انحنى ممسكا قطعة قماش محاولا أن يزيل بقع الدم بلا فائدة . كانت السجادة قد تشربتها تماما . ولم يكن بحاجة لدليل غير ما رآه بعينه ، كي يتأكد أن تمرحنة لن ترجع أبدا .
القاهرة 20 / 9 / 2005.
بقلم : سمير الفيل
حين رفس بقدمه الباب بكل ما يمتلك من قوة لم يكن يتصور هذا المنظر أبدا ، فرغم أنه جاب أكثر موانيء العالم ، وشاف كل غريب ومحير لم يتصور أن يكون هو نفسه مضغة في الأفواه ، وسيرته على كل لسان . كانت في فراشها المكسو بالقطيفة الحمراء ، وهو في أحضانها يموء ، وقد وجمت لدخوله المفاجيء على هذه الصورة ، وهو نفسه استغرقته المفاجأة ، فقد كان ما تصوره عشيقها هو مجرد قط . قط سيامي شعره كستنائي يحرك ذيله في حبور ، وتتسع عينيه ما بين الدهشة والفزع .
شدها من شعرها ، وصفعها على وجهها ، ولم يأخذ وقتا في التفكير حين سحب من جيبه سكينا حاد النصل وذبح القط المسكين . ارتمت على الذبيح تبكي ، ودمه يشخب . هبت مذعورة تدق بقبضتيها اللدنتين صدره العريض دقا جنائزيا لحوحا، توشك أن تقذفه باتهامها الذي خبأته في أعماق نفسها سنوات : مجنون .
الطواهي صبري المر كما في جواز سفره لم يكن مجنونا ، فقد خضع لاختبارات قاسية ومضنية حتى التحق بالكلية البحرية ، لكنهم فصلوه من الدراسة في السنة الثالثة حين ذهبت الدفعة للتدريب في إحدى مواني اليونان ، فحضر بعد موعده المقرر بساعتين ، ولم يكتف بذلك بل جاء متطوحا من شدة السكر وبيده غانية ترطن بالإجريجي مع نبرة سكندرية شبقة ، تقول : أيووووووووووه.
بعد أن فُصل أصر العمدة ـ أبوه ـ أن يظل في نفس السلك فسفـّـره إلى أمريكا وبفلوسه جاء بالشهادة مختومة ومعتمدة ، وعليها النسر الأصلع الرقبة ، من ينكرها يضعها في عينه ليطرفها أو يخوزقه بالكلمات الممرورة : طز فيك وفي أبيك . .
بإحدى شركات السفن العملاقة التي تجوب أعالي البحار سلك طريقه ، و هي زوجته التي أحبها ، ومن أجلها ظل ثلاث دورات لا يستجيب لصفارة الميناء البحري في الأسكندرية ، وحين تأكد من حملها جدد التأشيرة ، وصعد على ظهر أول مركب مبحر نحو الشمال . في كل مرة يقضي شهورا متنقلا بين علب الليل ، ومقاهي وأرصفة أوربا ليعاقر النبيذ المعتق الذي سلب لبه ، لكن صورتها بالذات كانت دائما في جيب سترته . كان يخرج الصورة ويتأمل " تمرحنة " ، فيفوح الشذى عبر البلاد مخترقا المحيطات والقارات . فما هو الهاجس الذي جعله يشعر بأنها لم تعد مخلصة له البتة ؟ وما هو معنى الخيانة إن لم يكن ما رآه هو الخيانة بعينها ؟
منذ عودته آخر رحلة سألها مباشرة ، وعينيه فيهما حيرة غائمة : ما الذي غيرك؟
ألقت نظرة على المصابيح المشتعلة نورا في جوف ليل مستحيل بارد ، قالت له ، وهي تخفي فجيعتها : لم أعد لك . هذا كل ما في الأمر .
أمرها أن تبادر بخلع ثيابها ، وتقف في الظلمة ليعرف بالضبط ماذا حل بها ، وحين طوحت رأسها رفضا واشمئزازا هرول ناحيتها ، ومد يده نحو قميص النوم الستان الأزرق بلون البحر ، وشقه نصفين ، ثم أخذ كل نصف ورفعه على جانب من مصراعي النافذة . لم تكد تتحرك لتستر جسدها حتى ومضت الرغبة في عينيه ، لكنها تلك التي تنازعها رغبة مضمرة في التشفي المقيت . لملمت أحزانها ، سألته في وقت ظنت فيه أنها لاتملك صوتا : وماذا بعد ؟ هل ستستريح بعدها ؟
كان قد هدأ فعلا ، وأخبرها أن هواجس كثيرة تملأ رأسه ، وأن عليها أن تساعده كي يتجاوز تلك الرائحة التي تخنقه . وقد هم بإطفاء مصباح الحجرة ، فمدت يدها وأبقت النور . حملق في السقف وكان مطليا ببياض قديم ، وقد سقط على مدار خمس سنوات هي عمر زواجهما ، قالت له كالمأخوذة : حتى لو نلت جسدي فهناك ما يمنع تواصلنا . هناك شيء أسود مرعب يبدد هدوء نفسك .
أسلم الطواهي نفسه لشرود لا نهاية له ، وأشعل سيجارة ، ثم راح ينفث دخانها في ألم ممض ، سألها : تمر حنة ؟ أتحبين غيري ؟
ندت منها آهة حزينة ، وربتت على كتفه : قم لتنام . أنت مرهق . استرح . لا أحب أحداَ . لا أنت ولا غيرك.
ومن النافذة أطلت فرأت شجرة التمرحنة التي زرعتها ، ومن قبل أخذت اسمها مطرقة ذابلة ، والزهر الذي يظهر في النور متفتحا ومستغرقا في البياض مرتجفا وبلا خضرة.
عادت لحظتها إلى دارها الواسع في قريتها البعيدة ، وأبوها الجنايني يرفعها إلى شجرة البمبوظا لتقطف الثمرات السوداء المائلة للزرقة ، ثم تضعها في قبعة مصنوعة من الخوص : لماذا اخترت لي هذا الاسم يا أبي؟
يضحك وهو يسندها كي تنجح في تسلق فرع جديد : إسألي أمك. وفتنة ، أمها تأتي بإناء من عصير الليمون البنزهير ، وتصب في كوب شفاف للأب والبنت : ألا يعجبك الاسم يا بنت؟
تخجل تمرحنة : لا والله . أحبه . لكن ما سره ؟
قبل أن تتزوج من الطواهي أخذتها الأم ، وأجلستها أمامها ، ودعكت أذنيها برفق ، ولطف . تسلل الضوء مع الكلمات : تعرفي يا أجمل بنت في الوجود . سأقول لك السر . كان أبوك يأتي كل مرة مساء الجمعة ليجلس معي ، وكانت أمي عنيدة ومهابة ، فلا تسمح لنا بالجلوس منفردين . مرة سهاها ، وجاء لها بوردة جوري حمراء ، ما أن شمتها حتى انتابتها نوبة عطس . الماكر كان دس فيها بعض النشوق الحراق . ظلت تعطس وتعطس وتأتي بمناديل لا حصر لها . واستغل الداهية ارتباك أمي وفرفط عود التمرحنة في صدري . هنا في مفرق النهدين . أنظري هنا بالضبط . كانت أحلى مرة تجمعنا جلسة .
البنت تداري خجلها في ضحكة متكتمة : أبي يفعل هذا ،لا أصدق . الحاج عبد العليم . لا يا أمي قولي كلام آخر .
مع دقات رتيبة لها إيقاع صارت تعرفه ، تقوم لتفتح الباب لخطيبها ، الذي دخل البيت من أبوابه ، لكنه يجلس شارد اللب ، وحين يمسك يدها تحس ببرودة شديدة ، وتقشعر لارتجافة خفيفة تشعر بها مع لمساته المترددة .
حين انصرف حدثت أمها : أخافه يا أمي !
وقلب الأم جاوبها : لا تتسرعي في الحكم عليه يا ابنتي . العشرة الجميلة تقرب القلوب ، وتلـّين الحجر الصوان .
كان الأب حين يهل بصحبة الورد يدخل عليهما مرحا : أيه؟ فتنة وتمرحنة.. عليّ العوض يا رب !
فتهب عاصفة من ضحك ، وقرقرة القلة حين يرفعها لفيه شهد زلال ، لا يستريح إلا وطوق الرقبة يشرب معه قطرات وقطرات كأنه يُسقط تلك المياه عن عمد ، والسفرة طبلية صغيرة مدورة عليها الفول والفلافل ، وأرغفة ساخنة طالعة من فرن الخبيز للتو ، وطبق الطحينة الذي لا يغيب عن عشاء كل ليلة .
هو الآن قابع في ركن من الحجرة ، والدماء لطخت سجادة كشميري كان والدها عبد العليم قد اشتراها من سوق الموسكي في زيارته الموسمية لمولد سيدنا الحسين . لم يكن يعنيها أن ينتهي اليوم بنفس الكلمات التي تعدها بأن يكون هذا آخر تصرف جنوني .
وإلى قفص الكناري مدت يدها ، ومسدت الريش الملون الجميل ، وهي تشهق بالبكاء ، وتحاول أن تلتمس له الأعذار ، حين انتهت أول سيجارة ، وسحب أخرى ، سألها والتماعة خاطفة تومض في العينين : هل يريحك أن تذهبي؟
كان يقولها بمكر ، وشنطة سفره تطل من حافة الدولاب الذي صنع من أشجار الماهوجني ، فيما المرايا تحول وجهه إلى عشرات البحارة المحملقين في فراغ الليل الساكت المكفهر بحلقات دخان تنعقد في فضاء الغرفة : هل يمكنك أن تغفري لي هذه المرة ؟
في كل عودة كانت تسبقه أسئلته ، وقبل أن يغلق الباب خلفه يحاسبها حسابا عسيرا عن الضحكات المفترضة التي ضحكتها ، وعن المسرات التي سردتها ، ويخنق كل رغبة لها في أن تتوحد به ، لكنه ينال متعته عنوة .
حين يشعل بخور جاوة تشعر فعلا بالاختناق ، وتسارع بفتح نوافذ البيت ، وهو يغلقها من ورائها ، ويطرحها على السرير لينتهكها قسرا ، فتتحول بين يديه إلى دمية فاقدة الروح لا أكثر ، وبعد أن ينتهي من لعب دور الرجل ، ويخلو العظم من بعض ما به من نخاع يشد خصلة من شعرها بقوة ، ويضعها في حافظته الجلدية ، فيما تغالب دموعها ، وتشعر أنها فقدت روحها أبدا ، وتبددت مزقا .
لم تعد هي تمر حنة التي تحب الحقول والأشجار والطيور ، لقد صارت شيئا مختلفا . حين يدخل للاستحمام بعد فعلته تنظر في المرآة ، وترى التجاعيد تزحف بإصرار لتشكل وجها لا تعرفه . يخرج ليسكب مزيدا من العطور الباريسية ، وكلما انتهى فتح الغطاء المعدني وسكب أكثر .
مرة صرخ في وجهها : رائحة كريهة لا تريد أن تذهب يا تمرحنة . أفتحي كل النوافذ والأبواب . وحين فعلت قام يغلق كل مافتحته ، ويبكي أنه لا يعرف كنه تلك الرائحة التي يحملها معه من ميناء إلى ميناء ، ومن مدينة إلى مدينة ، ومن حجرة النوم إلى غرفة السفرة .
تغسل عينيه دموع لا تعرف من أين يأتي بها . قام وأزاح القط المذبوح بيد ترتجف ، صعد السطح ، وألقى به بعيدا ، ثم أجبرها أن ترتدي القميص التركواز الذي ارتدته ليلة الدخلة ،كانت تنتفض من شدة الإحساس بالخيبة والألم أنها تطيعه ، ولرغبتها في أن تنتهي الليلة على خير ، فعلت كل ما أمر به ، ثم جلست في ركن آخر بعيد عنه ، حينها مد يده يبحث عن شموع ملونة ، ثم ما لبث أن أطفأ نور المصباح ، وسألها أن تشعل بالكبريت كل هذه الشموع ، وأن تغني أغنية كان قد غناها لها منذ خمس سنوات ، لكنها لم تستطع . لم يخرج صوتها أصلا ، فتوعدها أن تكون هي المذبوحة في المرة القادمة . وجلس على المائدة يغني وحده ، ولهب الشموع يتراقص مع نسمات تأتي من شباك بعيد في المطبخ : مسكينة أنت يا تمر حنة . هذا ما تقولينه في سرك ، ولا تستطيعين أن تنطقي به . إسمعي .. النساء خائنات إلا أنت ، والمرأة فاسدة ، لكنك مجرد زهور شجرة بلحاء بني .
يقهقه قهقهات عالية وروحها تتسرب ، ولا تنحدر دموع . مجرد نحيب خافت يتردد في صدرها ، وعين صقر مدرب على الانقضاض تبصرها طول الوقت : من فضلك اتركني أذهب لحالي.
كان يعرف أن أباها الجنايني الفقير قد مات ، وأمها فتنة تصرف على كوم لحم ، ومستحيل أن تترك كل هذا العز وتذهب للدار الفقيرة المسورة بأشجار بلدية لا ثمن لها .أشجار لبخ وكافورومستكة وجازورينا ، وعدة نخلات تطرح بلحا أحمر صغير النواة ، وحوش واسع فيه بعض بهائم .
لقد أمسكها من منكبيها ، ووضع رأسه المتعبة على كتفيها : هل أعذبك حقا يا تمرحنة؟ ألا تشعرين بمتعة معي؟ أتريدين أن تعودي للبيت الواطيء بلا فيديو ولا ثلاجة ولا غسالة . تعودين للزير والقلة وروث البهائم يا جميلة .. يا بنت الناس ؟
لم تنس تمر حنة يوما أمها الفلاحة البسيطة التي كانت تربي الطيور والدواجن في ذلك الحوش الواسع ، تنتظر مجيء يوم الجمعة لتذهب كي تبيع بعض ما ربته ، كي تـّوسع على زوجها . تشتري في العودة خبز فينو ، وقطع ملابس تخيطها بنفسها ، ولفائف حلوى ، وزجاجات عطر روح الفل . وعبد النعيم الذي تلقبه بالحاج دون أن يذهب للكعبة الشريفة في الحجاز ، أو يزور مقام النبي الغالي ليشرب ماء زمزم ، يرمقها في العودة بامتنان ، يسعل وهو يبعد جوزة المعسل ، ثم يسألها بسعادة : ماذا أحضرت معك يا ست فتنة؟
في بداية زواجهما ، وحين يعود الطواهي من السفر تلبس له أجمل ثيابها ، وتتعطر ، تضع بودرة خفيفة على وجنتيها ، وتتعلق في رقبته وتطوقه ، وهي تهمس في أذنه : اشتقت لك.
كان أول الأمر يبعدها براحة يده برفق كي يسألها عن سبب زينتها ، ولمن تتجمل إذا كان هو في سفر ؟
فتضحك وتعتبرها مزحة : أنسيت أنك من أخبرتني بالموعد قبل أسبوعين في آخر مكالمة هاتفية لك.
تمر سحابة سوداء تغشي وجهه ، ويغمغم في توتر : صحيح . الظاهر أنني صرت أنسى .
كان هذا في أول سنتين من الزواج ، لكنه لما عاد في بداية السنة الثالثة ، ضربها ضربا مبرحا لأنها وضعت " الروج " والكحل ، كأنها تغيظه ، وأجهضها حين لم يكف عن لكمها في كل مكان من جسدها الطري الحساس .
في المستشفى أخفت عن والدها الحاج عبد العليم حقيقة الضرب ، وأخبرته أنها كرت السلم بعد أن وضعت قدمها في درجة خالية ، ولما ضـيـّق عليها الخناق بعد أن لمح كدمات زرقاء في وجهها ، هزت رأسها أن الطواهي هو الذي ضربها وأهانها ، ومسح بكرامتها الأرض .
غضب الحاج وكتم في صدره أحزانه ، ومن المستشفى أخذها الأب للدار . أركبها عربة حنطور بحصانين ، وفي الطريق ، همس في أذنها : واحدة من اثنتين . إما ينعدل حاله ، أو نخلـّص الموضوع . ألن يمكننا أن نجد لك لقمتك يا ابنتي.
حضر الطواهي مع أولاد الحلال ، حاولوا إقناع الأب أن كل شيء قسمة ونصيب ، والاجهاض مقدر ومكتوب ، في اللوح المحفوظ قبل أن يولد الإنسان بألف ألف سنة ، وسبحان علام الغيوب .
كانت في القاعة الجوانية تعضعض أظفارها ، سألها الحاج بوجه مربد : أتريدينه يا تمرحنة ؟
صرخت لأول مرة في حضرة والدها الغالي الذي تموت ولا تعصي له أمرا : لا يا أبي . لا أطيقه .
ثم مسحت مكان الدموع المنحدرة على وجنتيها فبانت الزرقة مبللة مكان الكدمات : إنصحني ماذا افعل ، خلصني منه !
لكن فتنة تدخلت ، ومسحت على شعرها : لا أحد في عائلتنا يحمل لقب مطلقة . استرينا ياابنتي!
وهي استمعت للنصيحة ، ورأت الأب تزلزله أحزان جنين منعت الحياة عنه قبضة يد غاشمة . كان يريد أن يكون له حفيد كي يرفعه في نور الشمس الوضاح ليقطف ثمار البمبوظا ، ويضحك في وجهه كلما بلل ملابسه!
حين عادت كانت تمرحنة أخرى بلا روح . جسد خائر القوى ينام بالمسكنات ،ويصحو برنين المنبه المزعج، ولقد حاول أن يكسب رضاها ، فملأ عليها البيت الفاخر بأحواض زجاجية لأسماك الزينة ، وأقفاص عصافير ملونة، وببغاء له ريش عجيب ، وله صوت مبحوح يقول لكل من يهوب من الباب : تفضل يا باشا .
يقولها بصوت أخنف كأنه رجل بنصف أنف ، وبلا أسنان ، وإلى جواره يتدلى من خطاف في السقف قفص سلك به عصفوران لطيفان من جزر الملايو . وفي كل عودة يسألها : لماذا أراك حزينة . لم لا تتزينين؟
تطرق ، وفي الأرض تسمر نظراتها ، وهو يخرج لها هداياه المفضلة : ثعبان كوبرا من الأبنوس ، أسد أسيوي من العاج الشاهق ، نمر مفترس بأنياب حقيقية له عينان من الخرز ، تمساح محنط طوله نصف متر ، وآخر هداياه تمثال من خشب الصندل لإمرأة إفريقية حامل على وشك الوضع .
جاء بهذا التمثال قبل ستة أشهر من واقعة القط السيامي ، ثبت عينين شريرتين في وجهها : حتى النساء الأفارقة يمكنهن ذلك، وأنت رثة وبائسة.
كانت قد عرفت بعد أن عاشرته خمس سنوات وبضعة أشهر أنه لا يرمي من وراء كلماته الجارحة سوى إيلامها ، والانتقام لشيء لا تعرفه هي .
يخطو ما بين حافة السرير ، والصالة ذات نباتات الزينة من البلاستيك بعد أن قطع بالسكين في الحديقة الخلفية نباتات " ذقن الباشا " و" الجهنمية " ، و" أجهز على اللبلاب لكونه يتسلق الحائط بلا أدب ، حتى نبات اللوف الذي كان يتسلل برفق من الحديقة نحو الشرفة المطلة مباشرة على الحديقة ، ليعانق نبات " الفيكس " في أصصه الفخارية انتزعه في قسوة .
يعلو صوته : الرائحة تكاد تقتلني . أرحميني يا تمر حنة . أسكبي كل ما في الدولاب من عطور . هنا على وجهي ، وتحت ذقني ، ووراء أذنيّ . أريد أن أستريح. أستريح في ظل صلصال محروق!
وقد أركبه أبوه العمدة وهو طفل صغير حصان جامح ، حمله وانطلق به نحو الحقول فهوى على الأرض والحصان في أقصى سرعة له ، فتحطم له ضلعان ، وكاد يفارق الحياة غير أن الأب كان يريد رجلا يرث كل أملاكه ، رجل قوي الشكيمة ، قاس لا يخاف أي أحد في الكون ، ولا يعرف قلبه معنى الرحمة ، وفي المرة التي اصطاد الخفراء فيها ذئبا حيا ، أحضر صبري المر ابنه الوحيد ، وأجلسه في الحوش أمام الدوار الذي لا يزورونه سوى كل صيف . سأذبح الذئب أمامك ، وستأكل كبده حيا . هيه؟
اختفت نظرة الفضول في عيني الصبي ، وتظاهر بالشجاعة ، وهو يمد يده وينتزع الكبد الساخن النيء بعد أن طعن الأب الحيوان المفترس في رقبته فعوى عواءا مرعبا ، ثم عاجله بطعنتين مفاجئتين في الصدر . ذاق الولد الطعم المقزز النيء فأوشك على التقيؤ . حين هم بالفرار حاصرته أيدي الغفر ، وسمع صوت أبيه كأنه يأتي من واد سحيق : اتركوه كي يطلع امرأة . الناس تلعب به كالدلدول .
كانت أمه تخفي وجهها في طرف ثوب أسود يصل حتى الكعبين ، تحاول أن تمنع دمعها من الانهمار . بعد أن مضغ الكبد مغمضا عينيه أمرها في صرامة : زغردي يا إمرأة. ابنك صار رجلا بحق .
هو الذي أخبرها بكل ذلك وهو يداعب شعرها الأسود الفاحم الغزير المنسدل على كتفيها كشلال حرير أيام الخطوبة : سأحميك من أخطار الدنيا .
الشيء الوحيد الذي لم تفكر به تمر حنة هو سؤال ظل يعكر عليها حياتها بعد أن تمت الزيجة وتحولت من فتاة إلى سيدة في لحظة أو ظل لحظة لا أكثر : ومن يحميني من هذا الشقي؟
هي الآن تنظر إلى ظله وهو يتحرك في البيت جيئة وذهابا ، يفتح الأبواب ويغلقها ، وعيناه تغيمان فيما يشيح بيده نحو كائنات غير مرئية : رائحة لا تطاق .
رأت أن تقضي وقتها في شيء لا يجدد غيرته ،ولا يثير أعصابه ، ففتحت درجا صغيرا أسفل الدولاب ، وأحضرت بعض كتب كلية الحقوق التي حصلت على شهادتها دون أن تعمل . بدأت تطالع بعض الصفحات في القانون الجنائي ، وما تلبث أن تبتسم لخطها الدقيق المنمنم بالقلم الرصاص قبل أن تترك مقاعد الدرس . شعرت بنفسها خفيفة وهي تسير في طرقات الكلية مع زملائها : شبان وبنات ، هي المرجع لهم عند كل سؤال صعب ، فجأة شعرت بنفسها تسير مترنحة في الصالة ، وهو منطو في ركنه المنعزل ، سارع باحتوائها قبل أن ترتطم بقطع الأثاث ، وسار بها نحو السرير : إستريحي الآن .
ردت كالمأخوذة : لن استريح قبل أن أترك هذا السجن!
نظر نحوها في استغراب ، وتوقع أن تجمع ملابسها في حقيبتها الكبيرة : أذهبي للفراش واستريحي . لن أضايقك . في الصباح خذي قرارك .
حين خرج رأت أن العالم يتحرك فيه الشر ويظلل كل شيء . كانت طيبتها ونظرتها المتفاءلة للحياة هي سر تعاستها . قررت أن تدخل عالمه الدموي الشرير ربما تتقارب الأرواح فلا تخسر نفسها .
كان بالقرب من قفص الببغاء هذا القفص الدائري من السلك به عصفور وعصفورة . جاءت بشفرة حامية من درج " الكومدينو " . مدت يدها وهبشت الهواء . ربما لامس السن الحامي الجلد الرقيق ، فقد تقصف ريش الجناح ، طرطش الدم على يدها ، عمها غم عظيم ، وبكت في حرقة : يا رب كيف يتخلص هذا الرجل من الرائحة . وكيف أتخلص من عذابي ؟
شعرت بأنها اقترفت جريمة ، وملأها شعور بالعار ، مدت يدها للعصفور الذي انكمش وملأ عينيه برجاء مذهل ، فهمته ، بصبغة اليود طهرت الجرح ، وضمدته برباط حريري كانت تعقص به شعرها وهي فتاة قبل أن تتحول إلى إمراة في لحظة أو ظل لحظة .
مدت رأسها تشرب الظلمة بعينين باكيتين : رب لم خلقتني أنثى ؟
شعرت بالذنب فاستغفرت ربها ،وتيقنت أنها لا يمكن أن تكون شريرة أبدا لأن العصفور المسكين استكان بين يديها ، وراحت تمرر شفتيها وتبلل بريقها الزغب الخفيف ، وتمسح به ذلك الريش الناعم الجميل الذي تقصف بعضه . كانت حدقتاه بنيتين لامعتين ، يرقبها في لوم ، وهي ترجوه أن يسامحها ، وقد فعل حين شقشق ، فابتهجت ودفعته بيدها في القفص السلكي .
سمعت خطوات أقدامه تقترب ، والأبواب تصطفق خلفه ، صوته يأتي محتجا ، يقصف هدوئها : أين العشاء يا تمرحنة ؟
خرجت لتعد بيديها المرتعدتين السفرة ، فرأت وجهه كسيفا ، والعبوس يملأ مساحات سوداء تحت الجفنين ، شردت وهي تذهب للبعيد البعيد .
كان وجه الحاج عبد النعيم يلوح لها من سفر مرهق ، وجه صبوح رغم الغضون التي تملأه ، وجه تنيره عينان سوداوتان جميلتان تشعان بصفاء غريب ، هتفت به : أبي أرفعني معك .
فيما يشبه المواساة رد في خفوت : ليتني أستطيع يا تمر حنة.
كانت يده تسندها ، يد الأب الحانية ، وقلبه يدق في انتظامه الأليف الذي تعرفه ،ورائحة الجنينة تنعش صدرها ، حتى أنها فتحت أزرار البلوزة واستنشقت نسيما طازجا ، وهي تواصل تسلق غصن لدن بعيد ، بينما يدها المدربة تقطف ثمار البمبوظا : أمي حكت لي ما فعلته يوم الوردة الجوري . كيف تفعل ذلك في جدتي؟!
غمرته نوبة ضحك ، اهتز لها جسده الضئيل كله ، وهو يضع يده على فمها الدقيق : إياك أن تقولي لأحد . عيب يا بنت .
ضحكا في نفس الوقت : أبي .
تهدج صوته ووجهه النوراني يشع طمانينة : نعم يا ابنتي؟
قالت في ضراعة : خذني معك يا أبي . خذني ولا تتركني له.
انزوى البحار في الركن المظلم أ كثر، وهو يراها تشحب وتشحب ، وتصعد ، وقد خرس لسانه تماما ، فيما هي تمضي مبتعدة بوهن مستحيل وأنين لا قبل لأحد على احتماله .
كانت تمرحنة قد ابتعدت بما فيه الكفاية ، وكان عليه أن يظل وحيدا في هذا البيت الذي فسد هواؤه ، ولقد انحنى ممسكا قطعة قماش محاولا أن يزيل بقع الدم بلا فائدة . كانت السجادة قد تشربتها تماما . ولم يكن بحاجة لدليل غير ما رآه بعينه ، كي يتأكد أن تمرحنة لن ترجع أبدا .
القاهرة 20 / 9 / 2005.