سمير الفيل
20-05-2006, 03:23 AM
* عبودية .
الرجال السود مشدودوا الوثاق يدمدمون بأصوات مبهمة . تراهم مقيدين بالسلاسل إلى مجاديف السفن المبحرة باتجاه الغرب . دوامات المحيط الأطلنطي تبدو في البعيد بالقرب من شواطئهم التي راحت تأخذ في الابتعاد. هناك في سفوح مزارع القطن ،وعلى مدارج حقول الموز رأيتني وسطهم . كانت بشرتي أفتح قليلا لكنني منهم. أشتغل بلا توقف في سهول غريبة العشب والنبات . حين أهم بالتقاط أنفاسي للحظة تلسع ظهري سياط السادة. قلبت وجهي في اتجاهات الدنيا واستقرت نظراتي نحو الشرق . قلت بلغة كنت قد نسيتها من طول اغترابي : يارب الرحمة. سمعني السيد الأبيض . جاء كي يلطمني . ثارت الدماء في عروقي . ركلته بكل غل بين فخذيه. ذبحني بمدية كان قد أعدها لهذا الغرض .
رأيت أبي يأتي من أقصى الشمال الشرقي لأفريقيا ، يميل نحو جسدي الهامد . يحملني بين يديه ويتمتم بسور قرآنية كريمة . كان يبكي في خشوع. مال بفمه نحو أذني يحدثني ، رغم أنه يعرف أنني ميت : هل تلوت الشهادتين يا ابني؟
بللت دموعه وجهي . بصعوبة حركت شفتيّ : نعم يا أبي كنت أعرف أنني قتيلهم.
* صعود .
كلما ازدادت الخطوات تجمدت الدماء في عروقه . كان مطلوبا لأنه فر من مهمته التي جهزوه من أجلها طيلة سنوات . العُصابة تغطي عينيه ، وقدماه تنغرسان في الطين اللزج بعد أن جروه في المنحنيات المعشوشبة بأوراق السيسبان . على شجرة توت ربطوه وتركوه قليلا. اقتربت الخطوات أكثر . شم رائحة التوت فيما سقطت ثمرات نارنج ناضجة على كتفه . تيقن أن طائر القمري فوق إحدى فروع الشجرة . ضحك ضحكة مريرة ، ولونه يشحب باصفرار مقيت. تلوا عليه وثيقة الاتهام . حين جاءت الإشارة بالابتداء خرقت أسماعه أصوات الطلقات . كان التصويب محكما . نال القلب القسط الأكبر . القلب العطوف الشفاف الذي كره القتل . كان ينزف قطرة قطرة . وحين انتهوا كان الوحيد الذي صعد.
* ثأر.
.
بومة عجوز انقضت على مجموعة من كتاكيت صغيرة كانت تتشمس فوق السطح. خطفت بسرعة البرق كتكوتا واحدا وارتفعت في الفضاء . جاءت الدجاجة مسرعة وقد نفشت ريشها . حركت جناحيها وأمالت الأيسر كي تسبغ حمايتها على بقية الكتاكيت. راحت تكاكي حزينة . بعد دقائق عادت البومة لتكرر محاولاتها الناجحة . من مكمنه رشق صاحب الحظيرة البومة بخنجر في العنق. تصويبه المحكم أرداها قتيلة في الحال .
سحب الرجل خنجره من العنق بجرأة بالغة . شق بقسوة جلد البومة في منطقة البطن مبعدا بيده اليسرى الريش الحائل والزغب الأصفر . أخرج بأصابع مدربة الكتكوت المخطوف . كان في هيئته الكاملة لكنه بلا نفس . ألقاه على بلاطات السطح وهبط . خرجت الدجاجة من العش تتحسس صغيرها .سحبته إلى وسادة القش وأنامته في سلام. ظلت تنظر في حيرة إلى جسد البومة ذات الريش الأسود وتستغرب . حين عادت للصغير وقلبته بمنقارها لم يبد حراكا. عادت للبومة وأعملت فيها منقارها. على المنقار تجمد دم أسود .
*منفلت العيار.
هذا الولد المستهتر الجانح لا فائدة ترجى منه . يسرق فصوص البلح من فوق "الشخشيخة " المجاورة لبيت العائلة .يقبل البنات بعد أن يغويهن بكلام منمق مسجوع . يعصي أمري فلا يقبل يد جده الحكيم . يسهر شطرا من الليل مستحضرا صورة أبيه الراحل ليحدثه حتى يطل غبش الفجر الخفيف .
يسعى بين خالاته بالوقيعة فيقول لكل منهن أن بنتها هي الأحلى في نظره ، وقد حجز بخديعته كل البنات الفاتنات : مسبسبات الشعر ، ومجعداته ، وذوات الفيونكات .
لا يذهب للحلاق أبدا ويفخر بذقنه النابتة بلا تهذيب ، لا يستحم إلا في النهر أو البحر ، ويرفض الطست النحاسي الذي اغتسلنا كلنا فيه صغارا وكبارا .
هذا ابن بطني ، وأنا أمه . صورته في "الكاكي " هي التي ترونها معلقة على جدار بيتنا القديم تبتسم لي في تحد أخشاه .
انحرق قلبي لأنه دفن هناك في الصحراء الخرساء البعيدة . لم أزر حفرته إلا مرة واحدة . هل ترون شاربه الخفيف الخفيف ؟ كان يشوكني رغم أنه لم يقبلني سوى مرة واحدة . بعدها لم يرجع أبدا.
* مبارزة.
بالتدريج توقفت السيارة " الفولفو" أمام المتجر . هبطت السيدة بهدوء وراحت تتهادى في ردهات المتجر الشهير بالمعطف السماوي ذي الياقة الفرو الثعلبي . تبعتها خادمة صغيرة تنتعل صندلا أسود ،لها عينان كالخرز . حملت الخادمة عشرات العبوات حتى كادت تفطس ، لكنها سارعت تتتبع خطوات السيدة . رائحة العطر النفاذ تسبقها في الخروج . مدت يدها بالحساب ، وتناولت الباقي بامتعاض واضح . وجدت ولدا صغيرا يطوق السيارة بفوطة مبتلة بالماء والصابون ، وابتسامته العريضة تتقاطع مع شمس فرحة . كان يدندن لحنا شعبيا ، وهو يشب على أمشاط قدميه ليطول السقف المعدني . ارتمت السيدة الفخيمة على مقعدها ، أغلقت الباب بقوة . طارت بالسيارة تسابق الريح فيما انطرح جسد الصبي على الإسفلت . انكمشت الخادمة في المقعدالخلفي . ندت عنها آهة فزع متحسرة . رمقتها السيدة بنظرة عدائية . داست على البنزين أكثر.
( كتبت النصوص جميعها يوم 28/ 1/ 2006 ماعدا منفلت العيار فقد كتب في 16 / 1/ 2006)
الرجال السود مشدودوا الوثاق يدمدمون بأصوات مبهمة . تراهم مقيدين بالسلاسل إلى مجاديف السفن المبحرة باتجاه الغرب . دوامات المحيط الأطلنطي تبدو في البعيد بالقرب من شواطئهم التي راحت تأخذ في الابتعاد. هناك في سفوح مزارع القطن ،وعلى مدارج حقول الموز رأيتني وسطهم . كانت بشرتي أفتح قليلا لكنني منهم. أشتغل بلا توقف في سهول غريبة العشب والنبات . حين أهم بالتقاط أنفاسي للحظة تلسع ظهري سياط السادة. قلبت وجهي في اتجاهات الدنيا واستقرت نظراتي نحو الشرق . قلت بلغة كنت قد نسيتها من طول اغترابي : يارب الرحمة. سمعني السيد الأبيض . جاء كي يلطمني . ثارت الدماء في عروقي . ركلته بكل غل بين فخذيه. ذبحني بمدية كان قد أعدها لهذا الغرض .
رأيت أبي يأتي من أقصى الشمال الشرقي لأفريقيا ، يميل نحو جسدي الهامد . يحملني بين يديه ويتمتم بسور قرآنية كريمة . كان يبكي في خشوع. مال بفمه نحو أذني يحدثني ، رغم أنه يعرف أنني ميت : هل تلوت الشهادتين يا ابني؟
بللت دموعه وجهي . بصعوبة حركت شفتيّ : نعم يا أبي كنت أعرف أنني قتيلهم.
* صعود .
كلما ازدادت الخطوات تجمدت الدماء في عروقه . كان مطلوبا لأنه فر من مهمته التي جهزوه من أجلها طيلة سنوات . العُصابة تغطي عينيه ، وقدماه تنغرسان في الطين اللزج بعد أن جروه في المنحنيات المعشوشبة بأوراق السيسبان . على شجرة توت ربطوه وتركوه قليلا. اقتربت الخطوات أكثر . شم رائحة التوت فيما سقطت ثمرات نارنج ناضجة على كتفه . تيقن أن طائر القمري فوق إحدى فروع الشجرة . ضحك ضحكة مريرة ، ولونه يشحب باصفرار مقيت. تلوا عليه وثيقة الاتهام . حين جاءت الإشارة بالابتداء خرقت أسماعه أصوات الطلقات . كان التصويب محكما . نال القلب القسط الأكبر . القلب العطوف الشفاف الذي كره القتل . كان ينزف قطرة قطرة . وحين انتهوا كان الوحيد الذي صعد.
* ثأر.
.
بومة عجوز انقضت على مجموعة من كتاكيت صغيرة كانت تتشمس فوق السطح. خطفت بسرعة البرق كتكوتا واحدا وارتفعت في الفضاء . جاءت الدجاجة مسرعة وقد نفشت ريشها . حركت جناحيها وأمالت الأيسر كي تسبغ حمايتها على بقية الكتاكيت. راحت تكاكي حزينة . بعد دقائق عادت البومة لتكرر محاولاتها الناجحة . من مكمنه رشق صاحب الحظيرة البومة بخنجر في العنق. تصويبه المحكم أرداها قتيلة في الحال .
سحب الرجل خنجره من العنق بجرأة بالغة . شق بقسوة جلد البومة في منطقة البطن مبعدا بيده اليسرى الريش الحائل والزغب الأصفر . أخرج بأصابع مدربة الكتكوت المخطوف . كان في هيئته الكاملة لكنه بلا نفس . ألقاه على بلاطات السطح وهبط . خرجت الدجاجة من العش تتحسس صغيرها .سحبته إلى وسادة القش وأنامته في سلام. ظلت تنظر في حيرة إلى جسد البومة ذات الريش الأسود وتستغرب . حين عادت للصغير وقلبته بمنقارها لم يبد حراكا. عادت للبومة وأعملت فيها منقارها. على المنقار تجمد دم أسود .
*منفلت العيار.
هذا الولد المستهتر الجانح لا فائدة ترجى منه . يسرق فصوص البلح من فوق "الشخشيخة " المجاورة لبيت العائلة .يقبل البنات بعد أن يغويهن بكلام منمق مسجوع . يعصي أمري فلا يقبل يد جده الحكيم . يسهر شطرا من الليل مستحضرا صورة أبيه الراحل ليحدثه حتى يطل غبش الفجر الخفيف .
يسعى بين خالاته بالوقيعة فيقول لكل منهن أن بنتها هي الأحلى في نظره ، وقد حجز بخديعته كل البنات الفاتنات : مسبسبات الشعر ، ومجعداته ، وذوات الفيونكات .
لا يذهب للحلاق أبدا ويفخر بذقنه النابتة بلا تهذيب ، لا يستحم إلا في النهر أو البحر ، ويرفض الطست النحاسي الذي اغتسلنا كلنا فيه صغارا وكبارا .
هذا ابن بطني ، وأنا أمه . صورته في "الكاكي " هي التي ترونها معلقة على جدار بيتنا القديم تبتسم لي في تحد أخشاه .
انحرق قلبي لأنه دفن هناك في الصحراء الخرساء البعيدة . لم أزر حفرته إلا مرة واحدة . هل ترون شاربه الخفيف الخفيف ؟ كان يشوكني رغم أنه لم يقبلني سوى مرة واحدة . بعدها لم يرجع أبدا.
* مبارزة.
بالتدريج توقفت السيارة " الفولفو" أمام المتجر . هبطت السيدة بهدوء وراحت تتهادى في ردهات المتجر الشهير بالمعطف السماوي ذي الياقة الفرو الثعلبي . تبعتها خادمة صغيرة تنتعل صندلا أسود ،لها عينان كالخرز . حملت الخادمة عشرات العبوات حتى كادت تفطس ، لكنها سارعت تتتبع خطوات السيدة . رائحة العطر النفاذ تسبقها في الخروج . مدت يدها بالحساب ، وتناولت الباقي بامتعاض واضح . وجدت ولدا صغيرا يطوق السيارة بفوطة مبتلة بالماء والصابون ، وابتسامته العريضة تتقاطع مع شمس فرحة . كان يدندن لحنا شعبيا ، وهو يشب على أمشاط قدميه ليطول السقف المعدني . ارتمت السيدة الفخيمة على مقعدها ، أغلقت الباب بقوة . طارت بالسيارة تسابق الريح فيما انطرح جسد الصبي على الإسفلت . انكمشت الخادمة في المقعدالخلفي . ندت عنها آهة فزع متحسرة . رمقتها السيدة بنظرة عدائية . داست على البنزين أكثر.
( كتبت النصوص جميعها يوم 28/ 1/ 2006 ماعدا منفلت العيار فقد كتب في 16 / 1/ 2006)