محمد المصيلحي عـودة
23-11-2005, 10:34 PM
كنت أقطن مع أخي الأكبر في القاهرة ، هو بالجامعة .. وأنا بالمرحلة الثانوية
وكنا قد اتفقنا ليلا على أن أسـافر إلى القرية بعد الدوام الدراسي ، لأتزود من الوالد ببعض المال الذي يلزمنا ، بت والسعادة تملأ جوانحي لانعتاقي من زحمة القاهرة ليوم أو يومين .. فأنا لا أجيد التأقلم مع الزحام وأختنق من حرارة أنفاس السيارات التي تسرق نقاوة الهواء من رئـتيّ اللتين تعودتا على أنفاس الهواء الطازج الآتي من الأشجار والمناطق الزراعية المحيطة بقريـتـنا .
وبت ليلة مليئة بأحلام وردية .. رأيت فيها كل ما تمناه عـقلي الباطن في يومي الإجازة الذين سأقضيهما مـع طـعـام أمي المـسـبِّـك ، وفي أحضانها التي كنت ـ ومازلـت ـ أحن إليها بشكل طفوليّ ( رحـمـها الله )
انتهى الدوام .. فعـدت إلى المسكن .. وضعـت حقـيبة الهموم المدرسية في مكانها ، وبدلت ملابسي على وجه السرعة ، ثم توجهت إلى محطة القطار ، وأخذت مكاني على مقـعـد بجوار النافذة في الجانب البعيد عن الشمس ؛ حتى أستطيع فتحها ، والتمتع بما أرى من مناظر خلابة لريف بلادي ، وما يعج به من حركة ، وألوان رائعة تأسر عـينيَّ بجمالها ....
وإذا بمجموعة من الأولاد الصعاليك متشردي القطارات ، يلتـفـون حول رجل عجـوز متسوّل ، يعاني من تخلف عقلي ، يعرفه كل من يستخدم القطار على هذا الاتجـاه ، يشاكسونه ، ويسخرون منه ، ويهزأون به .... و .. و ..
إلى أن أطـفأ أحـدهم سـيجارة في قـفـاه .!!!!
فـظـلّ المسـكين يصرخ من الألم .. وبـكى بكاء أحـزنني .. وجعـلني أشـاركه الـبكاء بحـق .. !!!!
ولم أكن وحـدي الذي أصيب بهـذا الشعـور في هـذا الموقـف على ما يـبدو .. فـقـمت إليهم محاولا أن أفرقهم عـنه .. وأنـقـذ ذلك المسـكين من بـيـنهم .. وأطـيّب خاطره بكلمتـين ..
فتطاول أحـدهم عـليّ .. وســّبـني .. فـنشـبت بيننا مشادّة كلامية ، تطـورت إلى زعـيق وتهـديد .. فـنزل من عـلى شبكة الحـقائب أحـد الجـنـود ، كان نائما عـليها ، وتدخـل بـينـنـا لتهـدئة الموقـف ، فالـتـفّـت مجمـوعة الصعـالـيك حـولنا .. تدافعـنا .. واشـتعـل الموقـف ، ودارت المعـركة ، وحمي الوطـيـس .. أجـلسـنا الرجـل العجـوز على أحـد المقاعـد .. ووضعــت ظهري بظهـر الجـنـدي الذي تـدخـل لصالحي ، وهـات يا ضـرب كلٌ بما يقـدر عـلـيه ..
أيامها كـنت حاصلا على بطـولة المعاهـد الأزهـرية في الملاكمة .. والجـندي فـك القايـش ( الحـزام الميري ) من على وسطه . وفـعـلـنا مـا يـجـب فـعـله أنـا وهـو مع هـؤلاء الـسـفـلة
تدخـلت شـرطة القـطار بعد أن اسـتـنـفـدنا ما لـديـنا من طـاقـة ..
وفي محطة الزقازيق .. تم توقيف المجموعة بكاملها .. أنا والجندي .. وهؤلاء الصعاليك .. والدماء تسيل من كل وجه وكل رأس ما عدا وجهي ووجه الجندي فقد تقطعت أزرار قميصي ، وضـاع من الجندي الباريه الخاص به ( غطاء الرأس العسكري .. وهي جريمة عسكرية يعاقب عليها .. لو أمسكت به الشرطة العسكرية بدونه ) تحولنا جميعا إلى مكتب الشرطة بمحطة الزقازيق
عندما علموا بما حدث .. بشهادة بعض الركاب الذين تطوعوا للشهادة معنا .. أحضر أحد أفراد مكتب الشرطة غطاء رأس للجندي .. وتم تحوله إلى وحدته العسكرية
واكتشفت أنني لا أحمل محفظتي التي بها بطاقتي الشخصية
تم تحـويلنا جميعا إلى مركز شرطة أول الزقازيق .. وهـناك لاقى هؤلاء المتشردون من الأخ سـلومة الاقـرع ( وفـرقـته الماسـية ) مالم يكن يخطر على بالي .. و.. أنـا قـضـيت ليلة معهم في التـوقـيف .. يملـؤني الرعـب مما يمكن أن يفعلوه بي .. ونحن معا في غرفة مـقـفـلة لـيلا .. فكـنت على درجة من اليقـظة والانتباه لم تدع لعيني فرصة للإغماض .. حـتى طلع النهار . وجاء الضابط المنوب ، واطلع على المحضر .. فحـولنا إلى النيابة .. التي حولتنا إلى مراكز الشرطة التي تـتبع عناويـنـنا الخاصة ..
فذهـبت إلى مدينتي برفـقة رجل شرطة ، مقـيدا بالحـديد في سـاعـديّ ، وملابسي متسـخة ، وقميصي مفتوح الصدر ، وهناك وجدت من وقـّع على ضمانتي .. وخرجـت من التوقـيف ،
فاتجهت فورا إلى منزل أحد أصدقائي بالمدينة .. واستعـرت منه قميصا بعد أن شرحت له ما حدث .. وذهبت إلى قريتي .
ولم يـعـلم أهـلي بما حـدث .. إلا بعـد عـدة أشهـر .. عـندما وصلهم إخطار بغـرامة عـشرين جـنيه لصالح السكك الحديدية تعـويضا عـما تكسر من زجاج النوافـذ .. ومقاعـد في القـطار .. مع أننا لم نكسر شيئا سـوى غـطـرسة هؤلاء السـفـلة الصعـاليك
وكانت هذه الليلة هي أول وآخـر ليلة أقضيها في الـتـوقـيـف في حــيـاتي ، ولم تـزل بصماتها عالقة بذهـني .. وتأبى منحه الاسـتـقلال والتحـرر من أثارها
ولكنني مازلـت سـعـيدا بها .. ولها مكانتها المميزة في نفـسي ومـشـاعـري وذاكـرتي .. حـتى اليوم .. و .. والغــد
تـحــيـاتي
وودي
وأطـيب الـمـنى
وكنا قد اتفقنا ليلا على أن أسـافر إلى القرية بعد الدوام الدراسي ، لأتزود من الوالد ببعض المال الذي يلزمنا ، بت والسعادة تملأ جوانحي لانعتاقي من زحمة القاهرة ليوم أو يومين .. فأنا لا أجيد التأقلم مع الزحام وأختنق من حرارة أنفاس السيارات التي تسرق نقاوة الهواء من رئـتيّ اللتين تعودتا على أنفاس الهواء الطازج الآتي من الأشجار والمناطق الزراعية المحيطة بقريـتـنا .
وبت ليلة مليئة بأحلام وردية .. رأيت فيها كل ما تمناه عـقلي الباطن في يومي الإجازة الذين سأقضيهما مـع طـعـام أمي المـسـبِّـك ، وفي أحضانها التي كنت ـ ومازلـت ـ أحن إليها بشكل طفوليّ ( رحـمـها الله )
انتهى الدوام .. فعـدت إلى المسكن .. وضعـت حقـيبة الهموم المدرسية في مكانها ، وبدلت ملابسي على وجه السرعة ، ثم توجهت إلى محطة القطار ، وأخذت مكاني على مقـعـد بجوار النافذة في الجانب البعيد عن الشمس ؛ حتى أستطيع فتحها ، والتمتع بما أرى من مناظر خلابة لريف بلادي ، وما يعج به من حركة ، وألوان رائعة تأسر عـينيَّ بجمالها ....
وإذا بمجموعة من الأولاد الصعاليك متشردي القطارات ، يلتـفـون حول رجل عجـوز متسوّل ، يعاني من تخلف عقلي ، يعرفه كل من يستخدم القطار على هذا الاتجـاه ، يشاكسونه ، ويسخرون منه ، ويهزأون به .... و .. و ..
إلى أن أطـفأ أحـدهم سـيجارة في قـفـاه .!!!!
فـظـلّ المسـكين يصرخ من الألم .. وبـكى بكاء أحـزنني .. وجعـلني أشـاركه الـبكاء بحـق .. !!!!
ولم أكن وحـدي الذي أصيب بهـذا الشعـور في هـذا الموقـف على ما يـبدو .. فـقـمت إليهم محاولا أن أفرقهم عـنه .. وأنـقـذ ذلك المسـكين من بـيـنهم .. وأطـيّب خاطره بكلمتـين ..
فتطاول أحـدهم عـليّ .. وســّبـني .. فـنشـبت بيننا مشادّة كلامية ، تطـورت إلى زعـيق وتهـديد .. فـنزل من عـلى شبكة الحـقائب أحـد الجـنـود ، كان نائما عـليها ، وتدخـل بـينـنـا لتهـدئة الموقـف ، فالـتـفّـت مجمـوعة الصعـالـيك حـولنا .. تدافعـنا .. واشـتعـل الموقـف ، ودارت المعـركة ، وحمي الوطـيـس .. أجـلسـنا الرجـل العجـوز على أحـد المقاعـد .. ووضعــت ظهري بظهـر الجـنـدي الذي تـدخـل لصالحي ، وهـات يا ضـرب كلٌ بما يقـدر عـلـيه ..
أيامها كـنت حاصلا على بطـولة المعاهـد الأزهـرية في الملاكمة .. والجـندي فـك القايـش ( الحـزام الميري ) من على وسطه . وفـعـلـنا مـا يـجـب فـعـله أنـا وهـو مع هـؤلاء الـسـفـلة
تدخـلت شـرطة القـطار بعد أن اسـتـنـفـدنا ما لـديـنا من طـاقـة ..
وفي محطة الزقازيق .. تم توقيف المجموعة بكاملها .. أنا والجندي .. وهؤلاء الصعاليك .. والدماء تسيل من كل وجه وكل رأس ما عدا وجهي ووجه الجندي فقد تقطعت أزرار قميصي ، وضـاع من الجندي الباريه الخاص به ( غطاء الرأس العسكري .. وهي جريمة عسكرية يعاقب عليها .. لو أمسكت به الشرطة العسكرية بدونه ) تحولنا جميعا إلى مكتب الشرطة بمحطة الزقازيق
عندما علموا بما حدث .. بشهادة بعض الركاب الذين تطوعوا للشهادة معنا .. أحضر أحد أفراد مكتب الشرطة غطاء رأس للجندي .. وتم تحوله إلى وحدته العسكرية
واكتشفت أنني لا أحمل محفظتي التي بها بطاقتي الشخصية
تم تحـويلنا جميعا إلى مركز شرطة أول الزقازيق .. وهـناك لاقى هؤلاء المتشردون من الأخ سـلومة الاقـرع ( وفـرقـته الماسـية ) مالم يكن يخطر على بالي .. و.. أنـا قـضـيت ليلة معهم في التـوقـيف .. يملـؤني الرعـب مما يمكن أن يفعلوه بي .. ونحن معا في غرفة مـقـفـلة لـيلا .. فكـنت على درجة من اليقـظة والانتباه لم تدع لعيني فرصة للإغماض .. حـتى طلع النهار . وجاء الضابط المنوب ، واطلع على المحضر .. فحـولنا إلى النيابة .. التي حولتنا إلى مراكز الشرطة التي تـتبع عناويـنـنا الخاصة ..
فذهـبت إلى مدينتي برفـقة رجل شرطة ، مقـيدا بالحـديد في سـاعـديّ ، وملابسي متسـخة ، وقميصي مفتوح الصدر ، وهناك وجدت من وقـّع على ضمانتي .. وخرجـت من التوقـيف ،
فاتجهت فورا إلى منزل أحد أصدقائي بالمدينة .. واستعـرت منه قميصا بعد أن شرحت له ما حدث .. وذهبت إلى قريتي .
ولم يـعـلم أهـلي بما حـدث .. إلا بعـد عـدة أشهـر .. عـندما وصلهم إخطار بغـرامة عـشرين جـنيه لصالح السكك الحديدية تعـويضا عـما تكسر من زجاج النوافـذ .. ومقاعـد في القـطار .. مع أننا لم نكسر شيئا سـوى غـطـرسة هؤلاء السـفـلة الصعـاليك
وكانت هذه الليلة هي أول وآخـر ليلة أقضيها في الـتـوقـيـف في حــيـاتي ، ولم تـزل بصماتها عالقة بذهـني .. وتأبى منحه الاسـتـقلال والتحـرر من أثارها
ولكنني مازلـت سـعـيدا بها .. ولها مكانتها المميزة في نفـسي ومـشـاعـري وذاكـرتي .. حـتى اليوم .. و .. والغــد
تـحــيـاتي
وودي
وأطـيب الـمـنى