عمر باعقيل
02-08-2005, 10:01 AM
http://kingfahad.8m.com/E863.jpg
غازي القصيبي
كنت قد رأيت الأمير فهد بن عبدالعزيز في الستينات الميلادية (الثمانينات الهجرية) مرات عدة ، إلا أن المقابلات لم تتجاوز السلام العابر . لم يتح لي أن أعرفه معرفة حقيقية إلا أثناء عملي في المؤسسة العامة للخطوط الحديدية . بعد أسابيع قليلة من انتقالي إلى الدمام زار الأمير فهد المنطقة ، وذهبت للسلام عليه . طلب أن يراني على انفراد ، وبقيت بعد أن انصرف الحاضرون . بدأ يتحدث بانطلاق وعفوية وفوجئت خلال الحديث أنه يتحدث عن فلسفة تنموية لا تختلف عن تلك التي كنت أطمح إلى وضعها موضع التنفيذ . قال الأمير فهد : " أنا لست من حملة الشهادات العالية ، ولست من المثقفين ، ولا أعرف النظريات الاقتصادية ، ولكني أعرف تماماً ما يريده كل مواطن ، يريد المواطن بيتاً لائقاً يضمه ويضم أولاده ، ويريد عملاً كريماً يرتزق منه ، ويريد مدرسة في الحي يرسل إليها أطفاله ، ويريد مستوصفاً متكاملاً بقرب بيته ، ويريد مستشفى لا تبعد كثيراً عن المستوصف ، ويريد سيارة ، ويريد خدمة كهربائية منتظمة ، ويريد .. " .اتضح لي من خلال الحديث أن الأمير فهد كان ـ عن غير قصد ـ يتبنى النظرية التنموية التي عرفت فيما بعد باسم إشباع الحاجـات الأساسية . كان الأمير فهد وقتها نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للداخليـة ، وقـد بدأ يضطلع بدور متزايد في إدارة شؤون الدولة .
وحينما توليت وزارة الصناعة والكهرباء كانت الخطة الخمسية الثانية تنصّ على إنشاء مشاريع صناعية كبرى في الجبيل وينبع ، فاتجه تفكيري أول ما اتجه إلى إنشاء مؤسسة عامة تتولى تنفيذ هذه المشاريع إلا أن الصديق محمد أبا الخيل وزير المالية والاقتصاد الوطني اقترح إقامة شركة مساهمة تجارية تعمل وفقاً للأسس التجارية الخالصة ، ويمكن مستقبلاً بيع جزءٍ من أسهمها إلى الجمهور .
حملتُ الفكرة إلى الأمير فهد الذي أصغى باهتمام وتحمس للفكرة حماسة شديدة ومنحني الضوء الأخضر ، وأهم ملمح جذب الأمير فهد إلى الفكرة هو وعدي القاطع بأن تتنازل الحكومة عن أسهمها مستقبلاً للمواطنين ، وكان الأمير فهد حريصاً كل الحرص على أن يمتلك المواطنون أسهماً في كل شركة تقيمها الدولة أو تسهم فيها . بدأتُ العمل الدائب لإنشاء الشركة السعودية للصناعات الأساسية التي سرعان ما اشتهرت باسمها المختصر " سابك " ، مع إنشاء الشركة بدأت ملحمة التصنيع .
ولم تتوطد علاقتي مع ولي العهد الأمير فهد وتتعمق إلا خلال الوزارة . عندما أتحدث عن علاقة وطيدة عميقة فأنا أتحدث عن علاقة عمل ، لقد لقيت من عطف هذا الرجل ، أميراً وولياً للعهد وملكاً ، ما يجعلني عاجزاً عن أن أفيه حقه مهما فعلت أو قلت . ولكني أكذب عليه وعلى نفسي وعلى التاريخ إذا زعمت أن العلاقة بين الرئيس والمرؤوس تحولت إلى صداقة . كان فارق السن بيننا يسمح لي أن أعتبره بمثابة الأب ، وكان الاحترام ، من جانبي ، يقودني إلى أن أعامله كما أعامل الأب .
كان الأمير فهد يدرك ، بخبرته الطويلة ، أن الجهاز البيروقراطي التقليدي عاجز عن تحقيق الأحلام التنموية التي كان يريد أن تتحقق . وكان يعرف ببصيرته النافذة أن مجموعة التكنوقراطيين المحيطة به كانت قادرة على تذليل العقبات وتحريك الجهاز الحكومي البطيء . كنت واحداً من تلك المجموعة الصغيرة التي حظيت بثقة ولي العهد . ومع ذلك اكتشف الأمير فهد منذ الشهور الأولى عنصراً من عناصر شخصيتي كان يتمنى لو لم يوجد : الاندفاع الشديد . كان يقول ، أحياناً ، في مجالسه الخاصة : " لو رزق فلان بعض الصبر لكان إنساناً مثالياً " . قال لي أكثر من مرة : " لماذا أراك مشتطاً طيلة الوقت ؟ عمل الحكومة لا ينتهي " وقال لي مرة : " ارفق بنفسك . لو مت على المكتب هل ستعرف ماذا سيقول الناس ؟ سيقولون : " مجنون قتل نفسه " " . لو ولدتُّ صبوراً لكنت إنساناً أفضل من جميع الوجود ، ولكني كنت سأكون إنساناً مختلفاً عن الإنسان الذي عرفه الأمير فهد وعرفه الناس . في النهاية أدى " الاندفاع الشديد " إلى انتهاء تجربتي الوزارية .
في مجال الكهرباء كانت الكيانات الكهربائية الهزيلة المبعثرة ظاهرة تجاوزها الزمن ولا بد من سياسة جديدة تعتمد المنطق العلمي وتتفاعل مع المتغيرات الجديدة ، لا بد من توحيد شركات الكهرباء في كيانات قوية قادرة فنياً ومالياً وإدارياً ، على ملاحقة التعطش المتحرّق إلى الكهرباء . إن الشركات الموحدة بالإضافة إلى حتمية إنشائها لأسباب فنية وإدارية وتخطيطية تمثل حلاً موفقاً بيَّن ضرورة إشراف الدولة الفعال على مرفق الكهرباء ، وبيَّن مبدأ الاقتصاد الحر الذي تنتهجه الدولة . إن الدولة ممثلة في المؤسسة العامة للكهرباء هي المساهم الرئيسي في جميع الشركات الموحدة ، غير أن للمساهمين القدامى دورهم . بحثت فكرة توحيد الشركات في كل المناطق مع الأمير فهد وأبدى حماسة واضحة للفكرة ( يجب أن لا ننسى أن فكرة الشركة الموحدة الأولى نبعت من مبادرته الشخصية ) .
كان الأمير فهد ـ وفيما بعد الملك فهد ـ رجلاً جم الأدب شديد الحياء . لم أره ، قط يرفـض طلباً من وزير أو من أي إنسان آخر بصفة مباشرة . مع الزمن تعودت ، وتعود بقية الوزراء ، على أسلوب ولي العهد . عندما يوافق على طلب من وزير كان يوجهه بأن يمضي قدماً في التنفيذ ( كان يستعمل عبارات مثل " على بركة الله " أو " توكل على الله " أو " هذا مناسب جداً " ) . عندما تكون لديه تحفظات على الطلب كان يطلب من الوزير أن يكتب له رسالة عـن الموضوع ( يعني هذا أن احتمال الموافقة قد انخفض إلى 50% ) . عندما تكون لديه شكوك جدية حول حكمة القرار المطلوب كان يقول للوزير : " دعني أفكر " . ( معنى هذا أن احتمال الموافقة انخفض إلى 10%) . عندما يقرر عدم الاستجابة لطلب كان يطلب من الوزير أن يبحث الموضوع مع وزير المالية ( يعني هذا أن احتمال الموافقة أصبح 1% ) .
كان مجلس الوزراء ينعقد مرة في الأسبوع ، وكان الاجتماع يستغرق ما بين ساعتين وثلاث ساعات . كانت المواضيع التي تثار تبحث بكل حرية ، وفي كثير من الحالات لا يحسم الأمر إلا بالتصويت . كان الأمير فهد يرفض أن يمتنع أحد عن التصويت ، ويصر على سماع كل رأي ( حتى عندما يخالف رأيه هو ) . إلا أن مجلس الوزراء لم يكن يبحث سوى الموضوعات المهمّة . كثير من عمل الدولة الإداري والمالي الذي يصدر من مجلس الوزراء كان يتقرر في اللجنة العامة . بعبارة أخرى كانت اللجنة ـ لا المجلس ـ مكان المناقشات الصاخبة ، كانت اللجنة تضم نصف أعضاء المجلس ، وكان من حق أي وزير أن ينضم إليها عندما تبحث أمراً يخص وزارته . كانت اللجنة تجتمع مرة في الأسبوع ، من العاشرة صباحاً إلى الواحدة بعد الظهر .
أود أن أستطرد ـ هنا ـ فأقول : إنه لا الأمير فهد ولا مجلس الوزراء كان حريصاً على إصدار تشريع جديد كل يوم . كان ولي العهد يكرر دائماً : " اتركوا الناس تتنفس " ، " ولا تكتموا أنفاس الناس " ، و" دعوا الناس تتحرك " . كان أثقل شيء على نفس ولي العهد وعلى نفوس الوزراء إصدار نظام جديد يحتوي على قيود جديدة أو عقوبات جديدة .
كان " التخصيص " أولية من أولياتي قبل أن يصبح في عهد (مارجريت تاتشر) كلمة على كل لسان . كانت الدولة تملك أسهماً في بعض شركات الكهرباء وفي شركة الأسمدة ( سافكو ) . اتفقت مع محمد أبا الخيل على أن تباع هذه الأسهم للعاملين في هذه الشركات ، وأن تسدد أثمانها من الأرباح ، تحمس الأمير فهد للفكرة ، ونفذت على الفور . ظل الأمير فهد بعدها ، سنين عدة ، يتحدث عن هذه التجربة . الحـق أقول : إني لا أدري في ضوء ما أعرفه عن حماسة الأمير فهد ـ وبعد ذلك الملك فهد ـ الشديدة للتخصيص لماذا لم تتمش سرعة الإدارة مع حماسة الملك ؟
بعد قرابة شهر من تكليفي بوزارة الصحة سألني الملك فهد إذا كنت أحتاج إلى شيء . قلت له : إن ميزانية الوزارة تتجاوز عشرة بلايين ريال ، ولم يكن يصرف منها سوى أكثر من النصف بقليل . قلت : إن ما أحتاج إليه هو شعور الناس أنه يقف معي في كل الخطوات التي اتخذتها ، والتي سأتخذها مستقبلاً في بادرة سخية غير معهودة قال : " أعد الخطاب الذي يتضمن تفويضك بالصلاحيات المطلوبة وسأوقعه " . أعددت مسودة خطاب يؤكد تأييد الملك لي ويفوضني في اتخاذ " كافة الإجراءات " الضرورية لتطوير المرفق . سألني الملك ـ مرة أخرى ـ : " هل أنت متأكد أنك لست بحاجة إلى اعتمادات إضافية ؟ " . كان حرص الملك على تحسين الخدمات الصحية لا يقل عن حرصي ، وقد يزيد . قلت : " الاعتمادات تكفي . ولكن الإجراءات المالية ، أحياناً بطيئة . أستطيع أن أتحرك بسرعة إذا أمكن تحرير مبلغ معين ، ضمن ميزانية الوزارة ، من القيود الروتينية " . وافق الملك وتضمن الخطاب نفسه ، علاوة على التفويض ، تخصيص مبلغ مئة مليون ريال من ميزانية الوزارة ، يتفق بشأن تدبيره مع وزير المالية والاقتصاد الوطني ، ويجوز لوزير الصحة أن يصرف منه دون أن يتقيد بالإجراءات المالية المعتادة . عندما انتهى المبلغ الثاني لم تكن هناك حاجة إلى طلب مبلغ ثالث . الذين يتحدثون عن " الاعتمادات الهائلة " التي جاءت معي لا يعرفون أن المشكلة ـ وقتها ـ لم تكن في وجود الاعتمادات ، ولكن في بطء صرفها .
كانت ثقة الملك المطلقة التي عبر عنها الخطاب ، والتي عبر عنها شخصياً بأكثر من وسيلة في أكثر من مناسبة ، كانت هذه الثقة المطلقة ، قبل الصلاحيات وقبل الاعتمادات ، هي سلاحي الأول والأخير في معارك وزارة الصحة ، وكانت هناك معركة كل يوم .
وبعد أسبوعين من الإعفاء كنت بجانب الملك على مائدته نتبادل الأحاديث الودية . قلت له إنني أستطيع ـ الآن ـ أن أستأنف العلاقة الصافية ، علاقة الابن بأبيه ، بعيداً عن مشاكل العمل . وقال عني كلاماً طيباً يمنعني الخجل من تكراره . سألني عن الرحلة التي أنوي القيام بها حول العالم ، وحدثته عن خط سيرها وتحدثنا بعض الوقت عن جزر (هاواي) التي لم يزرها أحد منا . سألني عما أنوي أن أفعله بعد عودتي من الرحلة ، وقلت له : إنني قد أعمل في مجال الاستشارات القانونية ، ولكنني لم أقرر بعد . بعد العشاء بأسبوع تلقيت مكالمة هاتفية ليلية من الملك يسألني فيها عن موعد السفر . قلت له : إني سوف أسافر في الأسبوع القادم . قال : " استمتع بكل يوم من الإجازة ؛ لأني أود بعدها أن تعود إلى العمل " . عقدت المفاجأة لساني فتمتمت ببعض عبارات الشكر الغامضة ، وأنهى الملك المكالمة ، متمنياً لزوجتي ولي إجازة ممتعة .
أعود إلى العمل كانت هذه مبادرة نبيلة من رجل نبيل ، وكان الولاء يقتضي أن أرد التحية بمثلها على الفور بقبول العودة . ولكن إلى أي عمل أعود ؟ لم أكن بحاجة إلى كثير من الذكاء لأدرك أن العمل الوحيد المناسب لوزير سابق هو السفارة . كل السوابق في كل مكان تؤكد هذه الحقيقة .
غازي القصيبي
كنت قد رأيت الأمير فهد بن عبدالعزيز في الستينات الميلادية (الثمانينات الهجرية) مرات عدة ، إلا أن المقابلات لم تتجاوز السلام العابر . لم يتح لي أن أعرفه معرفة حقيقية إلا أثناء عملي في المؤسسة العامة للخطوط الحديدية . بعد أسابيع قليلة من انتقالي إلى الدمام زار الأمير فهد المنطقة ، وذهبت للسلام عليه . طلب أن يراني على انفراد ، وبقيت بعد أن انصرف الحاضرون . بدأ يتحدث بانطلاق وعفوية وفوجئت خلال الحديث أنه يتحدث عن فلسفة تنموية لا تختلف عن تلك التي كنت أطمح إلى وضعها موضع التنفيذ . قال الأمير فهد : " أنا لست من حملة الشهادات العالية ، ولست من المثقفين ، ولا أعرف النظريات الاقتصادية ، ولكني أعرف تماماً ما يريده كل مواطن ، يريد المواطن بيتاً لائقاً يضمه ويضم أولاده ، ويريد عملاً كريماً يرتزق منه ، ويريد مدرسة في الحي يرسل إليها أطفاله ، ويريد مستوصفاً متكاملاً بقرب بيته ، ويريد مستشفى لا تبعد كثيراً عن المستوصف ، ويريد سيارة ، ويريد خدمة كهربائية منتظمة ، ويريد .. " .اتضح لي من خلال الحديث أن الأمير فهد كان ـ عن غير قصد ـ يتبنى النظرية التنموية التي عرفت فيما بعد باسم إشباع الحاجـات الأساسية . كان الأمير فهد وقتها نائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للداخليـة ، وقـد بدأ يضطلع بدور متزايد في إدارة شؤون الدولة .
وحينما توليت وزارة الصناعة والكهرباء كانت الخطة الخمسية الثانية تنصّ على إنشاء مشاريع صناعية كبرى في الجبيل وينبع ، فاتجه تفكيري أول ما اتجه إلى إنشاء مؤسسة عامة تتولى تنفيذ هذه المشاريع إلا أن الصديق محمد أبا الخيل وزير المالية والاقتصاد الوطني اقترح إقامة شركة مساهمة تجارية تعمل وفقاً للأسس التجارية الخالصة ، ويمكن مستقبلاً بيع جزءٍ من أسهمها إلى الجمهور .
حملتُ الفكرة إلى الأمير فهد الذي أصغى باهتمام وتحمس للفكرة حماسة شديدة ومنحني الضوء الأخضر ، وأهم ملمح جذب الأمير فهد إلى الفكرة هو وعدي القاطع بأن تتنازل الحكومة عن أسهمها مستقبلاً للمواطنين ، وكان الأمير فهد حريصاً كل الحرص على أن يمتلك المواطنون أسهماً في كل شركة تقيمها الدولة أو تسهم فيها . بدأتُ العمل الدائب لإنشاء الشركة السعودية للصناعات الأساسية التي سرعان ما اشتهرت باسمها المختصر " سابك " ، مع إنشاء الشركة بدأت ملحمة التصنيع .
ولم تتوطد علاقتي مع ولي العهد الأمير فهد وتتعمق إلا خلال الوزارة . عندما أتحدث عن علاقة وطيدة عميقة فأنا أتحدث عن علاقة عمل ، لقد لقيت من عطف هذا الرجل ، أميراً وولياً للعهد وملكاً ، ما يجعلني عاجزاً عن أن أفيه حقه مهما فعلت أو قلت . ولكني أكذب عليه وعلى نفسي وعلى التاريخ إذا زعمت أن العلاقة بين الرئيس والمرؤوس تحولت إلى صداقة . كان فارق السن بيننا يسمح لي أن أعتبره بمثابة الأب ، وكان الاحترام ، من جانبي ، يقودني إلى أن أعامله كما أعامل الأب .
كان الأمير فهد يدرك ، بخبرته الطويلة ، أن الجهاز البيروقراطي التقليدي عاجز عن تحقيق الأحلام التنموية التي كان يريد أن تتحقق . وكان يعرف ببصيرته النافذة أن مجموعة التكنوقراطيين المحيطة به كانت قادرة على تذليل العقبات وتحريك الجهاز الحكومي البطيء . كنت واحداً من تلك المجموعة الصغيرة التي حظيت بثقة ولي العهد . ومع ذلك اكتشف الأمير فهد منذ الشهور الأولى عنصراً من عناصر شخصيتي كان يتمنى لو لم يوجد : الاندفاع الشديد . كان يقول ، أحياناً ، في مجالسه الخاصة : " لو رزق فلان بعض الصبر لكان إنساناً مثالياً " . قال لي أكثر من مرة : " لماذا أراك مشتطاً طيلة الوقت ؟ عمل الحكومة لا ينتهي " وقال لي مرة : " ارفق بنفسك . لو مت على المكتب هل ستعرف ماذا سيقول الناس ؟ سيقولون : " مجنون قتل نفسه " " . لو ولدتُّ صبوراً لكنت إنساناً أفضل من جميع الوجود ، ولكني كنت سأكون إنساناً مختلفاً عن الإنسان الذي عرفه الأمير فهد وعرفه الناس . في النهاية أدى " الاندفاع الشديد " إلى انتهاء تجربتي الوزارية .
في مجال الكهرباء كانت الكيانات الكهربائية الهزيلة المبعثرة ظاهرة تجاوزها الزمن ولا بد من سياسة جديدة تعتمد المنطق العلمي وتتفاعل مع المتغيرات الجديدة ، لا بد من توحيد شركات الكهرباء في كيانات قوية قادرة فنياً ومالياً وإدارياً ، على ملاحقة التعطش المتحرّق إلى الكهرباء . إن الشركات الموحدة بالإضافة إلى حتمية إنشائها لأسباب فنية وإدارية وتخطيطية تمثل حلاً موفقاً بيَّن ضرورة إشراف الدولة الفعال على مرفق الكهرباء ، وبيَّن مبدأ الاقتصاد الحر الذي تنتهجه الدولة . إن الدولة ممثلة في المؤسسة العامة للكهرباء هي المساهم الرئيسي في جميع الشركات الموحدة ، غير أن للمساهمين القدامى دورهم . بحثت فكرة توحيد الشركات في كل المناطق مع الأمير فهد وأبدى حماسة واضحة للفكرة ( يجب أن لا ننسى أن فكرة الشركة الموحدة الأولى نبعت من مبادرته الشخصية ) .
كان الأمير فهد ـ وفيما بعد الملك فهد ـ رجلاً جم الأدب شديد الحياء . لم أره ، قط يرفـض طلباً من وزير أو من أي إنسان آخر بصفة مباشرة . مع الزمن تعودت ، وتعود بقية الوزراء ، على أسلوب ولي العهد . عندما يوافق على طلب من وزير كان يوجهه بأن يمضي قدماً في التنفيذ ( كان يستعمل عبارات مثل " على بركة الله " أو " توكل على الله " أو " هذا مناسب جداً " ) . عندما تكون لديه تحفظات على الطلب كان يطلب من الوزير أن يكتب له رسالة عـن الموضوع ( يعني هذا أن احتمال الموافقة قد انخفض إلى 50% ) . عندما تكون لديه شكوك جدية حول حكمة القرار المطلوب كان يقول للوزير : " دعني أفكر " . ( معنى هذا أن احتمال الموافقة انخفض إلى 10%) . عندما يقرر عدم الاستجابة لطلب كان يطلب من الوزير أن يبحث الموضوع مع وزير المالية ( يعني هذا أن احتمال الموافقة أصبح 1% ) .
كان مجلس الوزراء ينعقد مرة في الأسبوع ، وكان الاجتماع يستغرق ما بين ساعتين وثلاث ساعات . كانت المواضيع التي تثار تبحث بكل حرية ، وفي كثير من الحالات لا يحسم الأمر إلا بالتصويت . كان الأمير فهد يرفض أن يمتنع أحد عن التصويت ، ويصر على سماع كل رأي ( حتى عندما يخالف رأيه هو ) . إلا أن مجلس الوزراء لم يكن يبحث سوى الموضوعات المهمّة . كثير من عمل الدولة الإداري والمالي الذي يصدر من مجلس الوزراء كان يتقرر في اللجنة العامة . بعبارة أخرى كانت اللجنة ـ لا المجلس ـ مكان المناقشات الصاخبة ، كانت اللجنة تضم نصف أعضاء المجلس ، وكان من حق أي وزير أن ينضم إليها عندما تبحث أمراً يخص وزارته . كانت اللجنة تجتمع مرة في الأسبوع ، من العاشرة صباحاً إلى الواحدة بعد الظهر .
أود أن أستطرد ـ هنا ـ فأقول : إنه لا الأمير فهد ولا مجلس الوزراء كان حريصاً على إصدار تشريع جديد كل يوم . كان ولي العهد يكرر دائماً : " اتركوا الناس تتنفس " ، " ولا تكتموا أنفاس الناس " ، و" دعوا الناس تتحرك " . كان أثقل شيء على نفس ولي العهد وعلى نفوس الوزراء إصدار نظام جديد يحتوي على قيود جديدة أو عقوبات جديدة .
كان " التخصيص " أولية من أولياتي قبل أن يصبح في عهد (مارجريت تاتشر) كلمة على كل لسان . كانت الدولة تملك أسهماً في بعض شركات الكهرباء وفي شركة الأسمدة ( سافكو ) . اتفقت مع محمد أبا الخيل على أن تباع هذه الأسهم للعاملين في هذه الشركات ، وأن تسدد أثمانها من الأرباح ، تحمس الأمير فهد للفكرة ، ونفذت على الفور . ظل الأمير فهد بعدها ، سنين عدة ، يتحدث عن هذه التجربة . الحـق أقول : إني لا أدري في ضوء ما أعرفه عن حماسة الأمير فهد ـ وبعد ذلك الملك فهد ـ الشديدة للتخصيص لماذا لم تتمش سرعة الإدارة مع حماسة الملك ؟
بعد قرابة شهر من تكليفي بوزارة الصحة سألني الملك فهد إذا كنت أحتاج إلى شيء . قلت له : إن ميزانية الوزارة تتجاوز عشرة بلايين ريال ، ولم يكن يصرف منها سوى أكثر من النصف بقليل . قلت : إن ما أحتاج إليه هو شعور الناس أنه يقف معي في كل الخطوات التي اتخذتها ، والتي سأتخذها مستقبلاً في بادرة سخية غير معهودة قال : " أعد الخطاب الذي يتضمن تفويضك بالصلاحيات المطلوبة وسأوقعه " . أعددت مسودة خطاب يؤكد تأييد الملك لي ويفوضني في اتخاذ " كافة الإجراءات " الضرورية لتطوير المرفق . سألني الملك ـ مرة أخرى ـ : " هل أنت متأكد أنك لست بحاجة إلى اعتمادات إضافية ؟ " . كان حرص الملك على تحسين الخدمات الصحية لا يقل عن حرصي ، وقد يزيد . قلت : " الاعتمادات تكفي . ولكن الإجراءات المالية ، أحياناً بطيئة . أستطيع أن أتحرك بسرعة إذا أمكن تحرير مبلغ معين ، ضمن ميزانية الوزارة ، من القيود الروتينية " . وافق الملك وتضمن الخطاب نفسه ، علاوة على التفويض ، تخصيص مبلغ مئة مليون ريال من ميزانية الوزارة ، يتفق بشأن تدبيره مع وزير المالية والاقتصاد الوطني ، ويجوز لوزير الصحة أن يصرف منه دون أن يتقيد بالإجراءات المالية المعتادة . عندما انتهى المبلغ الثاني لم تكن هناك حاجة إلى طلب مبلغ ثالث . الذين يتحدثون عن " الاعتمادات الهائلة " التي جاءت معي لا يعرفون أن المشكلة ـ وقتها ـ لم تكن في وجود الاعتمادات ، ولكن في بطء صرفها .
كانت ثقة الملك المطلقة التي عبر عنها الخطاب ، والتي عبر عنها شخصياً بأكثر من وسيلة في أكثر من مناسبة ، كانت هذه الثقة المطلقة ، قبل الصلاحيات وقبل الاعتمادات ، هي سلاحي الأول والأخير في معارك وزارة الصحة ، وكانت هناك معركة كل يوم .
وبعد أسبوعين من الإعفاء كنت بجانب الملك على مائدته نتبادل الأحاديث الودية . قلت له إنني أستطيع ـ الآن ـ أن أستأنف العلاقة الصافية ، علاقة الابن بأبيه ، بعيداً عن مشاكل العمل . وقال عني كلاماً طيباً يمنعني الخجل من تكراره . سألني عن الرحلة التي أنوي القيام بها حول العالم ، وحدثته عن خط سيرها وتحدثنا بعض الوقت عن جزر (هاواي) التي لم يزرها أحد منا . سألني عما أنوي أن أفعله بعد عودتي من الرحلة ، وقلت له : إنني قد أعمل في مجال الاستشارات القانونية ، ولكنني لم أقرر بعد . بعد العشاء بأسبوع تلقيت مكالمة هاتفية ليلية من الملك يسألني فيها عن موعد السفر . قلت له : إني سوف أسافر في الأسبوع القادم . قال : " استمتع بكل يوم من الإجازة ؛ لأني أود بعدها أن تعود إلى العمل " . عقدت المفاجأة لساني فتمتمت ببعض عبارات الشكر الغامضة ، وأنهى الملك المكالمة ، متمنياً لزوجتي ولي إجازة ممتعة .
أعود إلى العمل كانت هذه مبادرة نبيلة من رجل نبيل ، وكان الولاء يقتضي أن أرد التحية بمثلها على الفور بقبول العودة . ولكن إلى أي عمل أعود ؟ لم أكن بحاجة إلى كثير من الذكاء لأدرك أن العمل الوحيد المناسب لوزير سابق هو السفارة . كل السوابق في كل مكان تؤكد هذه الحقيقة .