المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاوبرالي -- جوسيب فريدي --



الوجيه
06-04-2004, 01:58 PM
قبل قرابة قرن من الآن أمر القائمون على مدينة ميلان الايطالية ان تفرش شوارع

وأزقة احدى ضواحي المدينة بالقش حتى لا تزعج حوافر الخيول وعجلات العربات

التي تجرها (ملك الأوبرا العجوز) وهو في فراش الاحتضار. واليوم يعيد أبناء ميلان

نثر القش في نفس المكان للاحتفاء بمئوية شخصية لا يعدها الايطاليون اسطورة

موسيقية فحسب, بل احد رموز الوحدة الايطالية, والشخصية التي تقف عندها

كافة تيارات ايطاليا الفكرية اجلالاً واحتراماً.



أعمال جوسيب فيردي (1813 ـ 1901) الأوبرالية التي وصلت الى 32 عملاً, تمثل

حقبة حرجة في تاريخ الفن الأوروبي والأوبرا بشكل خاص, فقد شكلت تلك

المرحلة ذورة حمى الثورة الصناعية وما حملته من تداعيات على الحركات الفنية

والفكرية التي لم تستمر أمام تسارع الآلة والانتاجية الأوروبية, بل كانت تلك

المرحلة من أحرج الأوقات التي ظهرت وترسخت فيها المدارس الفكرية والأدبية

والفنية, وكما مثل جميع عظماء الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية حالة استثنائية

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر, كان لفيردي خصوصيته الشديدة.


http://www.albayan.co.ae/albayan/culture/2001/issue56/photos/52.gif


فإضافة الى كونه مدرسة أوبرالية بحد ذاته, فقد كان لأعماله تفاعلاً كبيراً مع

الشارع السياسي الايطالي المضطرب في تلك الآونة, ودخل فيردي في مراحل

متقدمة من تجربته الابداعية الى معمعة السياسة وانتخب نائباً في البرلمان

الايطالي, ووصلت شعبيته التي لا يمكن اغفال جوانبها الابداعية الى مناداة

البعض بتنصيب فيردي ملكاً على ايطاليا الموحدة, وصدح في شوارع ايطاليا هتاف

(فيفا فيردي), ورغم ان فيردي لم يكن مؤهلاً الى خوض هذه التجربة, لكن حماس

والتقاء الشعب الايطالي حول فيردي يمثل مكانة الفن والابداع في وجدان هذا

المجتمع.



السنوات الأولى لحياة فيردي, كانت خصبة وحيوية لتهيئة الطوفان الابداعي

لعقلية فذة, ولد في بلدة (رونكول) بشمال ايطاليا وسط عائلة متوسطة الحال,

في سن السابعة كان مساعد عازف الأورجن في كنيسة بلدته. وفي سن الثالثة

عشرة كان عازف الأورجن الرئيسي في كنيسة بلدة (بوسيتو) المجاورة الى

مسقط رأسه, وكذلك كان مساعداً لقائد أوركستراً تلك البلدة, وتجدر الاشارة الى

الدور الذي لعبته الكنيسة منذ عصورها المظلمة في ترسيخ الثقافة الموسيقية

عبر طقوسها الدينية ووفرت الكنيسة على مر العصور مناخا مثاليا وصارما لتهيئة

كافة عباقرة الموسيقى الأوروبية, ومن المدرسة الموسيقية الكنسية تدرج

فيردي الى المعهد الموسيقي لميلان, ليصل الشاب الموهوب الى درجة أكاديمية

عالية وبعد زواجه في عام 1836 من مارجاريتا باريزي بثلاث سنوات قدم مبدعنا

عمله الأوبرالي الأول في ميلان وباسم (أوبيرتو) والذي لاقى قبولاً معقولاً من

الأوساط الفنية, عمله الأوبرالي الثاني (Un giorno di fegno) فشل فشلاً

ذريعاً وقد كانت فترة تأليف هذا العمل انعطافة مفصلية في حياة فيردي ووصف

تلك الأيام القاتمة في عام 1879 الى صديقه الناشر (جوليو ريكوردي بهذه

الكلمات:


(في تلك الآونة بدأ أقسى مسلسل من البؤس في حياتي, في البداية رقد

طفلي مريضاً, ثم قضى نحبه في ذراعي والدته وبعد أيام قليلة جاء دور طفلتي,

وهي كذلك أخذت من بين أيدينا وفي الأيام الأولى من يونيو في عام 1840 أخرج

الكفن الثالث من منزلي ــ إشارة الى وفاة زوجته.


وإثر هذه الفواجع المتلاحقة, كاد فيردي ان يستسلم للقدر, ويعتزل الحياة, لكن

في غضون عامين قدم عمله الأوبرالي الثالث (Nabucco) ليشهد نجاح نتاجه

وهو يطوف اوروبا والعالم الجديد, ومن ثم أخذ الدفق الابداعي لرجل الأوبرا

بالتوالي والانتشار ليحدث حالة اشبه بالاعصار في عالم الأوبرا.


وإضافة الى الترميز السياسي امتازت اعمال فيردي بطابعها الموسيقي

الأوركسترالي الرصين التي مثلت قدراته التعبيرية, وذلك الى جانب طبقات الصوت

الغنية التي قدمت في اعماله, أما الجانب الأدبي وربما هو الأميز فقد انفرد فيردي

على وجه الخصوص من دون باقي مؤلفي الأوبرا على مر الأزمنة باختياره

للموضوعات القوية وغالباً كانت من جعبة التاريخ, وكانت معالجاته لهذه الأساطير

التاريخية ترتكز على البناء الدرامي المفعم بقيم انسانية سبرت في أغوار

السيكولوجية المضطربة لمواطن هذه الأرض, ورغم ان معظم أبطال أعماله

الأوبرالية هم من الطبقات العليا من الشعب, إلا ان الانسان البسيط بهمومه

وآلامه وأحزانه كان مثلاً وبشكل جلي في كافة أعماله...


ومن الناحية الجمالية كانت التعبيرية هي هاجس فيردي لإيصال فكرته وذلك عبر

اتقانه لعدة تقنيات أوبرالية أهمها التدريج المؤدي من حالات الزهو والشجاعة الى

أسحق حالات اليأس والكآبة, وهذه السمة كانت محور جماليات اعماله, اذ انه نقل

الأوبرا من الجماليات الكلاسيكية الى جماليات تعبيرية اكثر عنفواناً واضطراباً

لتحدث حالة تفاعل مع المتلقي, ظلت حية حتى الآن في وجدان محبي هذا

النمط الموسيقي والغنائي على اختلاف ثقافاتهم, إذ ان فيردي في عصرنا الراهن

هو نجم للطبقة العاملة وليس حكراً على النخبة المثقفة.


تنقل فيردي خلال مسيرته بين عدة حواضر أوروبية وأقام في باريس وقدم منها

عددا من أعماله الأوبرالية. خلال إقامة فيردي في مدينة جنوه الايطالية في عام 1870

بدأ العمل على انجاز أوبرا عايدا, والتي تعد واحدة من اضخم وأشهر اعماله, فقد

استطاع تطويع كافة الجوانب الملحمية في قالب أوبرالي, وكأن التاريخ حفظ قصة

عيدا فقط لكي يقدم فيردي عمله الأوبرالي هذا, ومع عام 1871 شهد دار الأوبرا

في القاهرة العرض الأول لأوبرا عايدا والذي طاف وما زال يطوف كافة أرجاء الأرض

ويكاد يكون العمل الأوبرالي الأكثر عرضاً في تاريخ الأوبرا.


آخر أعماله الأوبرالية كان في عام 1893 باسم (Falstaff) وهو مستلهم من

الروائع الشكسبيرية, وليمضي فيردي بعد انجازه الأوبرالي الـ 32 سنواته الأخيرة

في مدينته المحببة ميلان, وليشهد في السابع والعشرين من يناير عام 1901

قرابة 28 ألف شخص جنازة رجل الأوبرا العجوز, والعبقري الذي تتحدث عنه افئدة

الايطاليين, وتعالى اللحن الجنائزي في أرجاء ايطاليا حداداً على رجل عبث في

ماهية الخير والشر في ابداعه وشرب نخب الحياة المر بزهو الباحث عن حقيقة

الوجود.



---------

ارق تحيه


الوجيه