المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حمار بين الأغاني



الوجيه
24-01-2004, 12:20 PM
حمار بين الأغاني

للكاتب اليمني وجدي الأهدل




نامت ثائرة على جنبها مواجهة النافذة المفتوحة، وقد أورقت في شفتيها ابتسامة رائقة. ورأت حلماً عجيباً.. رأت نفسها في باص تثرثر وتضحك مع زملائها في قسم التاريخ، ورأت أنهم كانوا متجهين صوب مأرب في رحلة علمية، وبعد قليل وصلوا إلى المعبد السبئي الأشهر المسمى (عرش بلقيس) وأخذوا يحفرون الأرض بحثاً عن الآثار السبئية القديمة، وجاد عليها حظها الحسن بالعثور على تمثال سبئي طوله ذراع تقريباً، آية في الإبداع، منحوت من المرمر الأخضر لم يمسسه ضرر، وأخذت تتحسسه بإعجاب، فلما وصلت أصابعها إلى خاصرته شعرت بشمعته تنبض، فارتعدت من الخوف، وإذا بعيني التمثال تشعان ببريق حي، وجسده يتحرر من جموديته ويصير شاباً فائق الوسامة من لحم ودم، احتضنها بين ذراعيه في شوق عارم، وامتزجا معاً كالوردة ورائحتها، وتحلق حولها دكاترة القسم وزملاؤها الطلاب الذين صفقوا طويلاً لنجاحها الخارق في إحياء التمثال وبعثه للحياة، وعندما آلت الشمس للغروب جمعوا أدواتهم وصعدوا الباص عائدين إلى المدينة، وفي منتصف الطريق توقفوا عند نقطة تفتيش عسكرية، ولمح العسكر التمثال المرمري، وبعد شد وجذب، صادروا التمثال وحذروا الدكاترة والطلاب من مغبة التنقيب عن الآثار دون تصريح مسبق من السلطات. فتحت عينيها ببطء وخمول، وبللت شفتيها الجافتين بلسانها، فتسرب إلى فمها طعم حلو من آثار الحلم.

نظرت إلى النافذة فلاحظت بانزعاج أنها لم تنم إلا قليلاً، لأن الظلام ما زال جاثماً على الدنيا. تذكرت التمثال السبئي المرمري البديع التكوين الذي أهداه لها زوجها علي جبران ليلة عرسهما.. كان هدية ثمينة جداً فرحت بها غاية الفرح، واتخذت الرجل السبئي سلوتها في الليالي بجوار سرير نومها على "الكومدينو" مدة عامين ونصف.

ويوماً زارتها صديقة حميمة متدينة ونصحتا بإخراج التمثال من البيت، لأن الإسلام حرم اتخاذ التماثيل في البيوت، وقالت لها بأن من الأفضل تكسيره ورميه في برميل القمامة.

ورغم أنها لم تأبه لنصيحة صديقتها المتدينة فإن فكرة تسليم التمثال للمتحف الحربي ظلت تؤرق بالها، وتسرب إليها هاجس بأن التمثال هو ملكية عامة، ولا يصح لها أن تستأثر بالاستحواذ عليه.

وتحت وطأة الشعور بتأنيب الضمير غلفت التمثال الأثير على قلبها بالورق، وسلمته يداً بيد لمدير المتحف الحربي. ولمعت في ذهنها فكرة غريبة.. أنها منذ أخرجت التمثال السبئي من البيت بدأت ترى في مناماتها كوابيس مفزعة ومنها ذلك الكابوس الرهيب الذي نغص عليها حياتها وأحالها إلى جحيم لا يطاق.

سحبت اللحاف إلى منكبيها وغفت إغفاءات متقطعة.. انقلبت على جنبها الآخر واراحت يدها على صدر شريكها في السرير، فأحست بحرارة غير عادية تلسع باطن كفها.. فتحت عينيها فوجدت الرجل الملثم بملابسه الشعبية الداكنة الألوان مضطجعاً بجوارها وعيناه تلمعان كأنهما جمرتان متقدتان. صرخت ثائرة واقشعر بدنها من الوجل، ورمت اللحاف ووثبت هاربة بأقصى ما تمكنها قواها من سرعة، فتحت باب غرفة النوم وهبطت الدرج، وعويلها يقطع نياط القلوب. نهض الرجل الملثم من فوق السرير وسحب جنبيته من غمدها وسار خلفها بخطوات وئيدة واثقة متفرساً في جسد ثائرة البض المحشو بداخل بيجاما قطنية وردية اللون. وصلت ثائرة إلى الطبقة الأرضية فوجدت زوجها علي جبران نائماً على الأريكة وبيده جهاز التحكم عن بعد، والتلفاز شغالاً على مباراة كرة قدم وصوت المعلق الرياضي يلعلع بصخب. حاولت ثائرة إيقاظ زوجها، نادته مراراً، استنجدت به، هزته بكلتا يديها، فلم يحرك ساكناً. كوّرت كفيها وراحت تضربه بقبضتيها متشنجة وهي ترى الرجل الملثم يقترب منها، طوح بالسكين قريباً من عينيها فابتعدت مذعورة عن زوجها علي جبران، وركضت صوب نافذة مفتوحة من نوافذ الصالة وقفزت منها إلى الحديقة. كانت الجنادب تطلق صريراً عالياً وكأنها تنوح، والكلاب تنبح وكأنها تشتم، والنجوم تلمع في السماء بشدة وكأن موتوراً أضرم فيها النيران.

كان الحارس الشيبه الملقب ب (مارد الثورة) المسلح ببندقية كلاشينكوف راقداً عند جذع شجرة كافور هرمة، وبجواره الكلب البوليسي (رغال) الغائب عن الوجود في سبات عميق. لمحته ثائرة فجرت نحوه هزته بعنف ليستيقظ ويقوم بواجبه، ركلته بقدمها، انحنت على يده القابضة على البندقية وحاولت انتزاعها، وفي هذه اللحظة طوقها الرجل الملثم من الخلف بذراعه اليسرى مكمماً فمها عن الصراخ، وباليد الأخرى ألصق شفرة السكين على رقبتها.

حاولت ثائرة مقاومته، لكنه بقوة النسر التي في بدنه أحكم سيطرته عليها وساقها أمامه تحت تهديد السلاح. كان باب الفيلا الخارجي مفتوحاً على مصراعيه فخرجا دون ضوضاء تذكر، وغابا في الظلام الدامس.

تدثرت السماء بسحب سمحاقية خفيفة، وأرسلت الشمس المختبئة خلف الأفق شعاعاً باهتاً، فانعكس هذا الحزن شفقاً أحمر رشحت منه بنايات المدينة وشوارعها وشجرها وترابها وكأنها ترعف دماً غامقاً له صنة مقرفة.

زحفت حارة الحلقوم على جبل (قربوس سام بن نوح) حتى وصلت إلى ركبتيه ثم عجزت عن الامتداد نحوه أكثر، وعند منتهى العمران اتخذ سكان الحارة من إحدى شعاب الجبل مكاناً يرفعون إليه قماماتهم حتى إذا كثرت أشعلوا فيها النيران.

إلى هذا المكان النائي الذي لا يرتاده أحد باستثناء الكلاب والزواحف والهوام وصلت سيارة شرطة جيب، ونزل منها عدد من عناصر الشرطة. اتجه الضابط سيف الدخيل إلى حيث تجمع عشرات الأطفال من مختلف الأعمار الذين شكلوا حلقة ضيقة. قام العسكر بتفريق الأطفال وأمروهم بالابتعاد عن المكان. تطلع الضابط سيف باشمئزاز إلى جثة مشوهة نهشتها الكلاب بلا رأس تخص امرأة كانت على ما يبدو ترتدي بيجاما نوم وردية، ثم أشاح بوجهه تقززاً من المنظر الموحش. شكل العسكر مربعاً حول الجثة الملقاة في أخدود صخري ضيق بين قمامات متفحمة. قال الضابط سيف مخاطباً مساعده وملامحه منكمشة إلى الداخل: غطو الجثة.

تحرك المساعد عبيد إلى سيارة الجيب واخرج من تحت المقاعد بطانية سوداء، عاد إلى الجثة، تأملها قليلاً ثم غطاها متحولاً ببصره إلى الغربان التي حطت على شآبيب صخور قريبة لا تبعد أكثر من ثلاثين متراً عن الموقع. دوّن الضابط سيف بضع ملاحظات في مذكرة الجيب الخاصة به ثم نادى مساعده وقال له وقد لاحظ أن الغربان منتشرة بكثافة في الشعب: انقسموا إلى مجموعتين ودوروا على رأس الجثة. انقسمت عناصر الشرطة إلى جماعتين، ومشت كل واحدة منهما في اتجاه تفتش عن الرأس المفقودة. نظر الضابط سيف إلى الغربان برهة، وأدرك أن رجاله لن يعثروا على شيء مادامت تلك الطيور المشئومة قد عجزت قبلهم عن الوصول إلى الرأس. شاس أكوام القمامة بنظرات مستاءة وسد أنفه متضايقاً من روائحها النتنة، وشعر بأمعائه تتقلقل وبأنه على وشك التقيؤ، فهرول إلى سيارة الجيب وصعد إلى مقدمتها وأغلق على نفسه بالزجاج، فاستعادت أمعاؤه هدوءها بمجرد أن أشعل سيجارة وفاح دخانها برائحة التبغ الزكية. انتابته نوبة سعال جاف أراحته نفسياً، لتوهمه بأنه قد لفظ من رئتيه شتى الروائح الزنخة التي تناوشته منذ غادر فراشه.

اجترأت الغربان على الاقتراب من الجثة إلى مسافة أمتار قليلة.. لم يحرك الضابط سيف ساكناً، واكتفى بالتحديق ذاهلاً في المنظر الخرائبي الماثل أمامه. وبعد دقائق سمع صوت طائرات حربية نفاثة تخترق السماء من الجنوب إلى الشمال، ثم تبع ذلك صوت انفجارات مدوية جعلت الأرض تهتز تحت قدميه، وبعد عدة طلعات هجومية تصدت الدفاعات الأرضية للطائرات المهاجمة وأجبرتها على الانسحاب. تأمل الضابط سيف ما حصل وأدرك أن الحرب قد قامت بين الشمال والجنوب، وخمن أنها لن تتوقف حتى تلتهم أكثر من عشرين ألف قتيل.

غرقت المدينة في الظلام إجبارياً بناءً على تعليمات مشددة من القيادة العامة للجيش، وذلك بغرض إخفاء الأهداف العسكرية عن أنظار الطيارين الجنوبيين المشهورين بمهارتهم في التصويب، وكذلك ليسهل على الدفاعات الأرضية رؤية الطائرات المهاجمة والتصدي لها وإسقاطها. ورغم أجواء الحرب وهدير طاحونتها الجهنمية فإن إجراءات التحقيق في حادثة القتل البشعة التي تعرضت لها ثائرة عبدالحق محمود لم تتأثر تقريباً.

كانت الدفاعات الأرضية المحيطة بالمدينة تنسج شبكة محكمة من النيران كلما لاحت في السماء أسراب الطائرات النفاثة السوخوي المغيرة من عدة مطارات جنوبية. عند بوابة قسم شرطة الحلقوم وقف عسكري مسلح للحراسة، وقد بدا عليه الاستمتاع الشديد بحفلة الألعاب النارية المقامة في الأعلى، وكان يرهف سمعه ليلتقط أزيز طائرات الحزب الاشتراكي الآتية من جهة الشرق ليبلغ عنها بواسطة اللاسلكي.. وأحياناً كان يبعث ببلاغات كاذبة فتهدر مضادات الطائرات راسمة في السماء خطوطاً حمراً متقطعة تتعامد في نظام هندسي شبيه بأقفاص السجون. وفي حوش القسم اصطفت ثلاث سيارات جيب شرطة، وسيارة واحدة مرسيدس سوداء. وعلى ضوء شمعة كان الضابط سيف يواصل عمله دون كلل، وبجواره مساعده عبيد الذي كان يتولى كتابة محاضر التحقيق وهو يكاد يسقط أرضاً من شدة الإعياء.

كانت غرفة التحقيق بسيطة الأثاث ضيقة إلى حد ما، ولها نافذة وحيدة تم سدها بدولاب حديدي لدواع أمنية. سأل الضابط سيف وهو يدخن منزعجاً من تجاوزه السقف الذي حدده لنفسه يومياً من السجائر: هل الجثة التي اطلعت عليها هي جثة زوجتك ثائرة عبدالحق؟ بدا علي جبران في حالة انهيار تام وعيناه محمرتان من البكاء فأجاب بصوت واهن مزعزع: نعم.

التهم الضابط سيف قطعة بطاطس مقلية من صحن بلاستيكي وضعه بينه وبين مساعده، وقال وهو يسوط علي جبران بنظرات فولاذية منذرة: هل عاشرت زوجتك ليلة الأمس؟ عض علي جبران شفته السفلى قائلاً وكأنه يندب: لا. قال الضابط سيف بلهجة جافة خشنة: لماذا حزمت القتيلة ملابسها في حقيبة؟ هل كانت تنوي السفر؟ تلكأ علي جبران في الإجابة، وسحب تنهيدة حزينة من لب كعبي قدميه قائلاً: نعم، كانت رحمها الله ناوية تسافر اليوم الصباح إلى عدن. رفع الضابط سيف حاجبيه غير متوقع نبأً كهذا: لماذا؟ مسح علي جبران عينيه بمنديل من القماش وتكلم بصعوبة لجفاف لسانه: قالت تشتي تزور واحدة قريبتها هاناك. رسم الضابط سيف بالأصبع الشاهد إشارة على سطح المكتب ربما كانت تعني عثوره على خيط مهم في حل لغز القضية، قال وذهنه شارد إلى حد ما: هل كانت بينكما خلافات زوجية في الفترة الأخيرة؟ تصبب علي جبران عرقاً لأنه أدرك أخيراً صعوبة موقفه: لا. أفلتت آهة سخرية مقصودة من ثغر الضابط سيف المقفل بصرامة، ثم قال وكأنه يزن كلماته في ميزان حساس لا يستخدمه إلا صاغة الذهب: أين كنت ليلة البارحة؟ وضع علي جبران يده على خده وأخذ يستعيد أحداث الليلة الماضية ووجهه يزداد شحوباً وضؤولة: شا احكي لك ما وقع بالتفصيل. تثاءب المساعد عبيد وألقى بقلمه السائل الأسود في سلة المهملات، وأخذ يفرد ذراعه اليمنى ويطويها ليعيد لها مرونتها بعد أن تيبست من جراء العمل ساعات متصلة في كتابة المحاضر. ناوله الضابط سيف قلمه الحبر المعبأ بسائل أزرق ليتابع التدوين، وأشار بهزة من رأسه لعلي جبران ليكمل روايته، فقال الأخير وعيناه تغيمان وكأنهما تنظران إلى الداخل في مرآة الذات: أمس الساعة واحدة بعد نص الليل قمت من النوم وحسيت بالأرق.. خرجت من غرفة النوم وتركت المرحومة راقدة في الشق الثاني من السرير، نزلت إلى الصالة وفتحت التلفزيون وتمددت على الكنبة وبيدي الريموت كنترول، وبعدها قمت أقلب القنوات، ولقيت قناة فيها مباراة في كرة القدم، تابعت المباراة حوالي ربع ساعة وبعدها ثقلت أجفاني ونمت. زم الضابط سيف فمه مفكراً، ثم سأل: ألم تشعر بحركة مريبة وأنت نايم في الصالة؟ -لا.- هل تتهم أحد معين بقتل زوجتك ثايرة عبدالحق؟ -لا.- هل لديك أقوال أخرى؟ -لا. خلع الضابط سيف قناع الصرامة وانفرج فمه عن شبه ابتسامة: تقدر تروح يا أستاذ علي، وآسف جداً إذا كنت أرهقتك بأسئلتي.

نهض علي جبران محني الظهر متيبس المفاصل وكأنه طوى في يوم واحد بحار العالم مرسياً سفينته عند ضفة الشيخوخة: ما بش مشكله، أنت بتقوم بواجبك وما بش لوم عليك، أتمنى لك التوفيق في القبض على المجرم. ابتسم الضابط سيف بمكر: معقول؟ أنا مش مصدق إنك تتمنى لي التوفيق من قلبك! فتح علي جبران باب غرفة التحقيق وعب ملء رئتيه هواءً نقياً: صدقني، من كل قلبي يافندم. أخرج علي جبران كشافاً يدوياً من جيب معطفه، وأرسل تحية باردة ملوحاً بيده اليسرى، ثم غادر مغلقاً الباب خلفه. ضيّق الضابط سيف عينه اليسرى وقد تناهى إلى سمعه دوي طائرات نفاثة، وبعد ثوان محدودة سُمعت قعقعة المضادات الأرضية التي كانت تتفاوت في شدتها بحسب قربها أو بعدها من قسم الشرطة، فبدت له في لحظة تجلي وكأنها تعزف النشيد الوطني.



* مقطع من رواية بنفس العنوان تصدر قريباً
للكاتب اليمني وجدي الأهدل



النص عن صحيفة "الثوري" اليمنية،

ROMEO
06-02-2004, 09:07 PM
للرفع