المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النملة الصغيرة، والكذبة الكبيرة



الشمس
21-01-2004, 02:19 AM
القصة نشرت في أكثر من منتدى، وفي طريقها للنشر في إحدى المجلات المتخصصة .


...

لماذا أنا هنا، أجلس في هذا الركن القصي، أعاقب نفسي؟ ألم يكن من المفروض أن تعاقب هي؟ بلى هي من يجب أن توبخ وليس أنا..
كان بالإمكان أن يكون هذا النهار يوماً دراسياً ناجحاً. أدخل على الصف لأجد الطالبات على غير العادة يجلسن في أماكنهن وقد استعددن للدرس جيداً. كان بالإمكان أن تكون حادثة الأمس بمثابة الدرس لهن جميعاً فيتعلمن الانضباط، وأن المدرسة مكان له احترامه والمعلمة كذلك لها احترامها، فهي إنسانة قبل كل شيء، تكبرهن في العمر، وفوق كل هذا معلمة... معلمة.. يا الله، سامحك الله يا شوقي*! متى أستطيع التخلص من أسر أبياتك لي ؟
من هو صاحب هذه الكذبة، أنت، أم الكتاب الذي حمل أبياتك لنا، أم معلمتي التي لم تفتأ تتشدق بمدحك لها وبثنائك عليها؟ أي الأكف التي طمرت بذرتها الأولى، حتى نمت، ومع كل حلم يزهر به الطموح يتبرعم فيها غصن، لتصبح هذه الكذبة شجرة وارفة، تظلل كل الوعود المنتظرة للغد، متوثبة للإصلاح، تحمل بين ثنيات الروح بذوراً لكذبات كثيرة، تبحث عن قلوب غضة لتدس فيها كذباتها المحنطة كالمومياء منذ قرون.


^^^^^^^^


لازالت عبير تجلس واجمة في مكانها، في الركن القصي من فناء المدرسة. كان الفناء خالياً إلا من المستخدمة العجوز بكرتتها الخضراء الموردة، تلاحق بمكنستها ماخلفته الفسحة من آثار، وأسراب النمل والعصافير تسابقها على الفتات. عينا عبير تتابعان النمل في بحثه الدؤوب عن أي شيء يستطيع حمله، وعقلها لم يكن يحوم بعيداً عن نقطة تمركز أنظارها.
فيما كن بقية المعلمات في غرفتهن يلكن بألسنتهن ماحصل معها، وقد أضفن هذه الحادثة على بقية أصناف إفطارهن. قضين وقتاً ليس بالقصير وهن يراوحن بين رشفة شاي وقضمة رغيف وكلمات يعلقن بها على الحادثة بعدما أشبعن آذانهن من رواية القصة.
صوت :
الأستاذة عبير قامت بنهر إحدى طالبات الصف السادس، وعندما لم يجدي ذلك، أصدرت عقاباً بحقها وهو أن تظل واقفة طيلة الحصة، لكن الفتاة لم تمتثل لهذا العقاب وتمادت في عنادها وتحديها للأستاذة أمام بقية الطالبات، حتى قامت المعلمة بطردها من الفصل، وعندما لم تمتثل لهذا الأمر أيضاً قامت بجرها من كتفها إلى خارج الفصل.

صوت ثانٍ :
ظنت المسكينة أنها ردت اعتبارها أمام طالباتها، لكن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً، وهاهي تلقى التوبيخ من المديرة أمام والدة الطالبة.

الصوت الأول:
كان الأجدر بها أن تتجاهل خطأ الطالبة على أن تقع في مثل هذه الورطة. لا أعتقد أن ولية الأمر ستكتفي بهذا، بل لا بد أنها تفكر في طريقة تقتص بها لابنتها، وليس بعيداً أن تتجه لمكتب الإشراف التربوي لنيل مبتغاها.

الصوت الثاني:
وهل نسيتِ صاحبة المدرسة؟ بالتأكيد أنها ستشكو عبير عندها.

صوت آخر:
أعرف هذه الطالبة جيداً، إنها متمردة ولا أحد يقدر عليها. ألا تترك هذه المدرسة وتريحنا من شرها. مسكينة عبير، إنها لا تستحق هذا.

وحدها الأستاذة منى تخلت عن كل هذا، وخرجت لتسري عن عبير ما ألم بها. جلست بجانبها ووضعت يدها على كتفها وهي تهزها برفق:
- لا أظن بأن ماحصل قد يؤثر على وظيفتك ياعبير، فلا تبتئسي. كنتِ على حق، واستحقت الطالبة مافعلتِ بها.
- ليس هذا مايهمني.
- إذاً لم تبقين وحدكِ هنا؟ إنهن يعتقدن بأنكِ خجلة من مواجهتهن.
- من، أتقصدين الزميلات؟ إنني أشعر بالشفقة عليهن أيضاً..
- ... .
- في الدقائق الماضيات عنّ على خاطري سؤال..
- وهل ستبحثين عن إجابة لدي؟
- ولم لا.. كنت أتساءل فيما لو أن هذا النمل كان أقوى بقليل وأكبر، ما الذي سيتغير بالنسبة إليه، وإلى هذا الكون الكبير؟
إنه يعمل منذ قرون طويلة، منذ الأزل وهو يعمل، يبني مستعمراته، يجمع غذاءه وكأنه لا يشبع. حشرة بحجمه هل يقلقها أمر بطنها إلى هذا الحد؟ أن تقضي يومها بطوله بحثاً عن فتات تعود به معها؟
أعني ماذا بعد العمل الشاق، والبحث المضني؟
أن يدهس بالأقدام، أن تحصل نملة على جناحين وتطير، وتنتهي إلى جوف عصفور؟
منى أنتِ مدرسة علوم، أخبريني ما العمر الافتراضي لنملة؟
- ... .


^^^^^^^^

عم الصمت المكان.


لم أتمكن من الإجابة على سؤالها، فأنا لا أعرف العمر الافتراضي لنملة، ولم أفكر فيه من قبل، حتى أني لا أتذكر مطلقاً أنني قضيت وقتاً أتأمله كما تفعل هي الآن. إنها تحيرني كثيراً. ما أجزم به أنها لا تحب عملها، ولا وجودها في هذا المكان، ولم أجرؤ على سؤالها لماذا لا تترك هذا العمل مادامت غير مرتاحة إليه، ربما لأنني أعلم، بل بالتأكيد لأنني أعلم أنها لا تجد غيره. أخبرتني أنها لم تأتِ هنا إلا بعد أن مضى على تخرجها ثلاث سنوات، وأعرف أنها تعمل في غير مجال تخصصها، حكت لي كثيراً أنها تشعر بالإحباط وأن سني عمرها السابقة قد ضاعت في دراسة العلم الذي تحب، وهي لا تجني أي فائدة الآن سوى هذا العمل المضني دون فائدة ترجى غير ماتقبضه آخر الشهر. أنا لم آت هنا إلا من أجل ما أقبضه، ولا أدري بالضبط إلى ماذا تطمح عبير غير الراتب!
ظننت أنها خشيت من الاستغناء عنها، أو تفكر كيف يمكنها الدخول إلى نفس الفصل لتطالعها عينا الطالبة المتبجحة بانتصارها عليها، ربما هي كذلك لكنها لا تريد الاعتراف بذلك أمامي!
كدتُ أن أسألها بدل أن أجيبها على سؤالها، أردتُ أن أعرف ما الذي يكدرها بالضبط، ولماذا هي واجمة طيلة وجودها معنا، الزميلات يقلن بأنها متكبرة، تنهمك في عملها و لا تتحدث إليهن إلا فيما ندر، لكني عندما أجلس معها أجدها لطيفة ورقيقة ومتواضعة جداً. بل إني لا أمل من الحديث معها إلا عندما تبدأ في نقاش سخيف كهذا.. كادت ضحكتي أن تفلت من بين شفتي عندما تخيلتها وهي تسير على أصابعها خوفاً من أن تدهس نملة دون أن تدري!


^^^^^^^^^^


أعرف أني أثير استغرابها، ولا أشك في أنها تتساءل كثيراً، إني أرى كرتي عينيها تتأملاني، تنطقان باستفهامات كثيرة، منى طيبة جداً، وتافهة أيضاً، سؤالي لم يكن كافياً ليلفت انتباهها لغبائها. قبل سبع سنوات فقط تخرجت من قسم أحياء حيوان، ولا يمكنها تذكر شيء عن هذا العلم غير ما ورد في كتب علوم الصفوف العليا. ولماذا أفترض أهمية هذا بالنسبة لها؟ وجدت ماكانت تريده، وظيفة براتب. وهذا نفسه مايتمنينه الكثيرات غيرها ولم يستطعن الحصول عليه، لهذا تشعر بأنها محظوظة ومتميزة أيضاً، وتستقبل يومها الجديد بتفاؤل وحبور دائمين.
لكن لو سألتها إحدى طالباتها سؤالاً مشابها، هل سيكون موقفها أمام طالباتها أفضل من موقفي الآن أمام طالباتي؟
هه.. لازلت أسيرة لكذبة شوقي.. لازلت أعتقد بأن المعلمة مثل أعلى للطالبة. يا لغبائي، إن الطالبة لا يهمها أن تحيط معلمتها بالإجابة .


^^^^^^^^

دق الجرس مؤذناً ببداية الحصة الخامسة. وقامت عبير لتذهب إلى حصتها. ومنى تشيعها بأنظارها.

منذ أن رأيتها هكذا أول مرة، ظننت بأنها يائسة، وأن الابتسامة لم تعرف طريقها لوجهها الفائر بدم الشباب، تبدو كمن حرم من أشياء كثيرة وفقد الأمل في الحصول عليها. لكن ما إن أتحدث إليها وتجد الفرصة لأن تتكلم عما في نفسها، حتى تبرق عيناها، ويشرق وجهها، وتملأ صدرها بهواء كثيف وكأنها لحظات تنفسها الوحيدة، ثم تتحدث عن أحلامها وهي تتطلع للأعلى بطريقة تشعرني بأنها ترى نفسها كما تتمنى، وماتلبث أن تنهي حديثها لتعود عيناها إلى مكانها قبل البدء في قص أحلامها، وتختم حديثها بعبارة حفظتُ مكنونها، أنها لم تنل ماتبحث عنه بعد، وفي عينيها بريق مختلف عن سابقه، تغمضهما عليه، أظن بأنها تنغلق على دمعتين تخجل من الانسكاب. وتتمتم بعبارة أخرى " بالتفاؤل، كل شيء جميل في هذه الحياة سوف يأتي".


^^^^^^^^^

عبير في طريقها إلى الفصل.

وبالرغم من كل ماحدث أجدني أعيد الكرة من جديد، قدماي اللتان تقوداني إلى مسرح الحادثة، هي نفسها التي وقفتا بي أمامها وهي تقذفني بأبشع الصفات، والمديرة تحاول تهدئتها وامتصاص عصبيتها، وتعاتبني. لم تحتمل أبداً أن تعود إليها ابنتها تسكب الدمع على وجنتيها وتشكي لها كيف أهنتها، لكنها لا يبدو عليها أي خيبة أمل من التصرف الذي قامت به ابنتها العزيزة، حتى أنه لم يؤثر فيها مطلقاً وأنا أحكيه لها، وأعبر عن مدى استنكاري لعنادها وإصرارها على الخطأ، كنت متحمسة لأن أرى أي أثر للانكسار في عينيها، أو حتى هبوط في حدة صوتها، كانت ترعد وتزبد مستاءة من توبيخي لابنتها على ماقامت به.
سحقاً للمديرة أيضاً، أجبرتني على الاعتذار، والاعتراف بخطأ إلى الآن لا أدري ماهو. فقط لو أمهلتني دقيقة أخرى لأبرر لها موقفي من ابنتها. بضع دقائق من التي استغرقتها في تكرار استيائها بكلمات متشابهة تخلو من الذوق والاحترام. ما الذي تظنه بنا؟ لست مسخرة لخدمتها وخدمة ابنتها، أنا هنا أحمل في عنقي أمانتين يجب علي أداؤها، تعليم وقبله تربية.
وهذه الممرات تقودني إلى الجحيم الذي ينتظرني، لست قادرة حتى على تذكر ماعلي قوله بخصوص درس اليوم، لولا أني أخشى اتهامي بالتقصير لعدلت عن شرح أي درس ماتبقى لي من حصص. الباب الذي أفتحه على العيون الصغيرة التي تطالعني، لست أكرهها. من بين كل الشفاه شفتاها تلوح بابتسامة انتصار، وعيناها الشامتتان لا أحقد عليهما، تشبهان كثيراً عيني أختي الصغرى وهي تحكي لأمي عن مغامرتها مع معلمتها، والمقلب الذي دبرته لها وأضحك طالبات الفصل طويلاً.. وجه أمي الغاضب من تصرف ابنتها يطل علي من أعينهن، إنها ترفض سلبية معلمة ابنتها الصغيرة، توبخني على تخاذلي، واعترافي بذنب لازلت أجهله.


.................. انتهت ...............


حنان الرشيد

هامش:

* الشاعر أحمد شوقي. والمقصود قصيدته التي مطلعها:
قم للمعلم وفه التبجيلا ... كاد المعلم أن يكون رسولا

ROMEO
25-01-2004, 04:53 PM
لي عوده بأذن الله

الوجه الآخر
25-01-2004, 07:25 PM
:SMIL:

زمن تبجيل المعلم قد ولى يا حنان...
نادرا ما تجدين من يحترم معلمه ويعتبره مثله الأعلى...
وعادة يا عزيزتي الطلاب من هذا الصنف ينالون ما يريدون..

رأيي في اسلوب القصه لن يؤثر كثيرا فقلمك دائما رائع..

تحياتي القلبيه وتقديري

عابده لله
25-01-2004, 08:11 PM
:SMIL:

وجودي إعجاب ولي عودة شموسة

الشمس
29-01-2004, 08:56 PM
روميو، الوجه الآخر وعابدة لله :)

شكراً لهذا الحضور ..
سيكون المكان رحباً لمن أراد أن يعود :SMIL: