المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : "حيونة الإنسان"



الوجيه
05-01-2004, 02:34 PM
الإنسان حيوان ناطق", هكذا تقول الكتب, مؤكدة اللغة ضرورة اجتماعية والنطق نعمة جوهرية. غير أن النطق يصبح لعنة حين يفضي اللسان بصاحبه الى المقصلة. وعن هذه المفارقة, التي تستولد من حيوان ناطق وسائل ترد غيره الى "حيوان" فقط, تصدر مأساة الإنسان الأعزل, الذي يصبح على ما هو عليه بسبب آخر يُشهر في وجهه السلاح. كأن الطبيعة سلّحت بعض أبنائها وتركت ما تبقى مستباحاً في العراء. والأمر غير ذلك, منذ أن شاءت الطبيعة أن يُولد الناس جميعاً أحراراً, مثلما أعلن عمر بن الخطاب في زمن وصرّح جان جاك روسو في زمن لاحق. فقد ولد الإنسان في الطبيعة حراً, ومارس حريته في شكل طبيعي, الى أن جاءت سلطة تعيش حريتها في اجتثاث حرية الآخرين. وإذا كان لعب الإنسان الطليق في أرجاء الطبيعة الدافئة قد وضع على لسان الفلاسفة تعبير "الزمن الغنائي", فإن استباحة الانسان المسلّح لغيره جاء بتعبير "الزمن الفاجع", الذي يعزل بين الإنسان الأعزل ورغبة البوح الصريح.
ورطة الإنسان الأعزل" عنوان المقالة الثالثة في كتاب ممدوح عدوان الأخير: "حيونة
الإنسان", وهو جملة مقالات مترابطة عن "الشر الإنساني", وعن فضائل الكتابة المنادية بحق الإنسان الأعزل في الوجود. وممدوح عدوان, كما وصفه أحد أصدقائه, هو ذلك المتعدد الغريب الذي يكتب الشعر منذ أكثر من ثلاثة عقود, ويعالج المسرحية ويمارس الترجمة والمقالة والرواية والتدريس والمسلسل التلفزيوني, وهو الذي يواجه قتام الحياة بضحكة مجلجلة يمتزج فيها الاحتجاج بالمقاومة. وممدوح ملتبس في حياته وأقرب الى الأحجية, يبدو للقارئ كاتباً معتكفاً أدمن مزاملة الحبر والورق, ويبدو لمن يعرفه متخصصاً في معابثة الحياة والضحكات الصاخبة. وهو في الحالين ذلك "الضمير الهاوي", الذي يحقد على تاريخ العذاب ويفتش بين السطور عن كلمة نافعة. لذا يبدو كتابه "حيونة الإنسان" التجسيد الأمثل لهموم قديمة متجددة, تسائل "التعذيب عبر العصور" وتلاحق السلطة الفاسدة المفسدة في تاريخ "جمال باشا", وترثي أصدقاء حملوا أمتعتهم النظيفة ورحلوا. ولعل هذا الكتاب هو المدخل الموائم لقراءة روايته "أعدائي", ذلك العمل الموثق المجتهد المسؤول, الذي تأمّل "ورطة الانسان الأعزل" في متاهة سلطة بائرة تقود "السجناء" الى معركة النصر المستحيل.

ينطوي الكتاب على وجوه متعددة متكاملة: هناك مادة معرفية واسعة, تقتفي آثار شرور قديمة وجديدة, كأن الشر جزء أصلي في الوجود, وكأن الإنسان الشرير مادة طبيعية جوهرية تستولد الإنسان الأعزل وتقضي عليه. شيء يذكِّر بالفاتح المنتصر الذي يحوّل سلخ الرؤوس البشرية الى مهنة جليلة, وبالسلطان الذي "يضحي" بخصمه "يوم العيد", ويذكّر أيضاً بنجيب محفوظ, وهو يتأمل الخلاء الموحش في روايته "أولاد حارتنا". والشر, كما يرى ممدوح, هو اختراع المتسلط لخصمه, بما يبرر إهلاك الخصم وإتلافه, أو هو أبلسة الآخر, بلغة تشومسكي, حيث على وكيل الرحمن أن يسدد ضربات قاتلة الى عملاء الشيطان. ولعل هذه الأبلسة, التي تقطع لسان الأعزل قبل استنطاقه, هي التي تجعل كتاب عدوان يتوقف أمام السجون والعنصرية والنازية والصهيونية, وأمام سلطات متمجدة, بلغة الكواكبي, تخترع فضائلها وهي تخترع عدواً مجرداً من الفضائل. وإضافة الى مادة معرفية عن معاني الشر والعنف والإرهاب وتقتيل العُزّل, وضع عدوان في كتابه وثائق أدبية كثيرة, تحتضن يوسف إدريس وغونتر غراس وجيمس بالدون وسعيد حورانية ومالك حداد وغيرهم, تضيء مواجهة الأدب للإرهاب, كما يذهب جابر عصفور, وتضيء أكثر ذلك السديم الإنساني الغامض, الذي يوزع البشر على جلادين وضحايا. وممدوح في ما يكتب يتوسل لغة سهلة جميلة مريحة منتهياً الى كتاب تربوي, يُلقي تحية على الأدباء, لكنه يرسل أولاً صرخة عالية تستنهض المحرومين والمستضعفين والمقموعين, أو "اللاممثلين" بلغة الراحل ادوارد سعيد. وربما يقوم في الأسلوب السهل الممتلئ معنى الكتاب ودلالاته, لأنه يرمي لغة الاحتراف بعيداً, ذاهباً الى لغة تستلهم لغة الذين لا يحسنون الكتابة, وتترك لغة الاختصاص لـ"مبدعين", يختزلون الكتابة الى مهنة متعالية تصفع "القارئ الأعزل", قبل أن تتوجه اليه.

الانسان الأعزل هو ذلك المسالم البسيط الذي اعتقد أن "خيار الأعزل" يقصيه عن عيون المسلحين. لكن هذا الإنسان الطيب سرعان ما يقع في ورطته, ذلك انه شرط وجود الانسان المسلح, الذي يخترع خصماً جديراً بالعقاب. والانسان المسلح, مهما تعددت وجوهه, يظل لصيقاً بالسلطة المستبدة وامتداداً لها, تؤمن له السلاح ويؤمن لها تجدد "حيوان خالص" لا يقرب السياسة ويشي بالناطقين بلغة صحيحة. وعن إرادة هذه السلطة يولد السجن الصغير والخوف الكبير والسجون المترامية, وسياسات التجهيل والتجويع والترويع والتحوين, وصولاً الى "مجتمع الأنعام", بلغة قديمة, حيث الإنسان هو صمته, وصمته هو تجويعه, وتجويعه أساس سلطة متبطرة ودولة فقيرة, فالأخيرة تحيل على "الضحايا" والأولى من اختصاص "الجلادين". يقول عدوان مستلهماً جان بول سارتر: "ولست أدعي أن من المستحيل أن تبدل انساناً فتجعله بهيمة, وإنما أقول: إنك لا تصل الى ذلك إلا بإضعافه إضعافاً كبيراً. واللطمات لا تكفي أبداً. لا بد من المبالغة في التجويع". بهذا المعنى, يبدو المنتصر المستبد خالقاً للبشر, خالقاً عجيباً مجافياً لطبيعة الخلق والإنسان, "يُحيون" ما تأنسن ويُصمِت ما نطق ويشل نعمة التفكير والمحاكمة ويرى في تحويل البشر الى حيوانات انجازاً عظيماً. ومن المفارقة, التي ليس فيها من المفارقة شيء, أن يكون استبداد المستبد تعبيراً عن ضعفه, وأن يكون في سجن الآخرين سجن له, وأن يكون في تجويعه للرعية صورة عن جوعه الذي لا ينقضي. انه الخالق الشاذ الهجين, الذي يلغي معنى اللسان ويعطّل وظيفة المكان ويبدّل معنى الإنسان, لأنه يحتفي بالرؤوس الخفيضة والقامات المتساوية واللغات المتجانسة.

يصبح الإنسان حيواناً حين تُهدر انسانيته وتتفكك معاييره السوية, ولهذا يضع ممدوح مقالة بعنوان: "الأخلاق المقموعة", تشير الى آثار القمع على الحيوان والإنسان معاً: "هذه السلوكيات (التي يمليها القوي على الضعيف) ليست وقفاً على الحيوان, بل يلجأ اليها الإنسان أيضاً في إعلان الاستسلام والانصياع, وحين يكون الخصم الأقوى هو السلطة الغاشمة يلجأ المجتمع كله الى هذه الأنماط السلوكية, وكأن كلاً منهم يحمل جلاده في نفسه ويمنعه من التصريح بحقيقة رأيه وعواطفه وحاجاته...". يحوّم عدوان فوق مواضيع كثيرة, وتظل السلطة موضوعاً مسيطراً قوامه الخلق الهجين وتشويه الطبائع. فإذا كان "السجن مصنع المجرمين" في البلدان المتقدمة, كما يذهب أحد الفلاسفة, فإن مجتمع السلطات المستبدة التقليدية مصنع لـ"التحوين", كما يذهب عدوان. وهذا "المصنع" في بنيته المتجانسة مؤلف من ثلاثة مستويات: المستبد, الحاشية, الضحايا. فالمستبد هو الحر الوحيد في مجتمع لا حرية فيه, أحادي القرار والمشيئة والخيار, يضع داخله كل ما هو خارجه, مولع بالكم وكاره للكيف, بل انه كاره لكل الأزمنة التي جاءت قبله, لأن وصوله للسلطة مبتدأ الزمن الوحيد. أما دور الحاشية فمقايضة التدليس بالنعمة, تخترع فضائل المستبد ورذائل رعيته, تقدسه وتبالغ في التقديس حتى يصبح مرجعاً وحيداً في الحكمة والفضيلة والمعرفة. لكنها تخلق فضائل المستبد وهي تعيد توزيع المنافع والثروة, مهندسة الجوع والتجويع بطراً سفيهاً حجارته من قوت الإنسان الأعزل. أما الضحايا, الذين نسوا معنى الاضطهاد بعد نسيان معنى الحرية, فهم راضون عن معيشتهم مغتبطون بها, ظناً منهم ان التجويع جزء من قوانين الطبيعة وان تحنيط اللسان عادة قديمة لا بدعة فيها. لذا يكون طبيعياً أن يقبلوا بالفساد ويبشروا به. فإذا كانت النزاهة تقتضي الصراحة, فإن في قطع اللسان الصريح ما يحوّل النزاهة والاستقامة والأمانة الى عادات بائدة. هكذا يكتمل النسيج الفاسد في مجتمع مستبده الأول هو الحر الوحيد, والمستبد بهم مخلوقات متماثلة الشكل ترى في القول الحر وافداً بغيضاً. وهكذا يتلاشى التاريخ ويتداعى, فلا تاريخ في مجتمعات راكدة تعيد انتاج ثنائية الاستبداد والخضوع بلا تغيير أو تبديل.

"حيونة الإنسان" كتاب هادئ حزين, يفتش في كتب كثيرة عن معنى الإنسان والحرية, ويفتش أكثر عن جدوى مجتمعات فارقت الطبائع السوية... "التاريخ مليء بالقيود, انه يولد مكبلاً بالسلاسل", يقول مالك حداد. ربما احتفاظ التاريخ بقيوده, في مجتمعات الاستبداد, هو ما دفع بعض الفلاسفة الى تعبير غريب وسوي يتحدث عن: شعوب بلا تاريخ


تقبلو تحياتي

الوجيه