المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رقصة برتولوتشي الجديدة على ضفاف السين



الوجيه
30-12-2003, 04:54 PM
رقصة برتولوتشي الجديدة على ضفاف السين

ربيع 1968 هل كان مجرد تمرد شباب ام انه كان ثورة حقيقية غيّرت العالم وطريقة التفكير والعلاقة مع الأحداث والزمن؟ ليس لدى المخرج الإيطالي الكبير برناردو برتولوتشي اي ظلال للشك في ان الإجابة الأنسب على هذا السؤال في ما يختص بثورة الشباب والطلبة في باريس (وبعدها في العالم بأسره) هو الجزء الثاني من السؤال نفسه. كانت ثورة من اجل تحقيق حلم، "كان الشباب ينامون على امل ان يستيقظوا وأصبحوا في المستقبل وفي عالم متغيّر عن الذي يعيشون فيه"، ذلك العالم الذي خرج مضمّخاً بجراح الحرب العالمية الثانية ليدخل في نفق الحرب الباردة المظلم.

بفيلمه الجديد "الحالمون" يعود برتولوتشي الى احداث القرن الماضي وكأنه يحاول، من خلال قصة صغيرة تدور معظم احداثها داخل شقة سكنية، إكمال ملحمته الكبيرة "1900" التي سجلت احداث القرن الماضي في ايطاليا وتاريخها على الأقل. اقتراب بوتولوتشي الى تلك الحقبة الزمنية وأحداثها ليس اقتراب عالم الاجتماع او المؤرخ بل اقتراب الفنان والشاعر صاحب البصيرة الذي يحاول استقراء المستقبل من خلال ما حدث في الماضي سائلاً لماذا كَبَتْ ثورة كانت هي واليوتوبيا على مرمى حجر؟ برؤية نقدية غير متماثلة بشكل كامل مع احداث ربيع 1968 يحاول برناردو برتولوتشي، الشاعر، ان يفهم، هو اولاً، والشبيبة بالدرجة الأساس لماذا انحرفت عن مسارها؟ وهل كان في إمكان تلك الثورة ان تفضي الى تغيير الواقع في الحال ام انها كانت تحمل في رحمها اسباب الكبوة؟


البداية سينمائية

احداث الفيلم تدور في الأيام التي اشتعلت فيها الثورة عندما اقدمت وزارة الثقافة الفرنسية على عزل مدير سينماتيك باريس هنري لانغلوا من إدارة السينماتيك الذي اشرف على تأسيسه وإدارته لسنين عدة. إزاحة لانغلوا عن المنصب لم تكن إلا الصاعق الذي أطلق العنان للنار التي كانت تعتلج تحت الرماد. ولتأكيد هذه الحال يخترع برتولوتشي حدثاً يشير الى ان المجتمع بأسره، وليس الشارع الفرنسي، كان في حال غليان تسبق الانفجار. إذ يعرض الفيلم بضعة ايام من حياة ثلاثة شبان في العشرين من العمر: الأميركي ماثيو الذي يصل الى باريس ليدرس السينما والأخوين الفرنسيين ايزابيل وثيو اللذين يتعرفان على ماثيو امام مبنى سينماتيك باريس. ذلك المبنى الذي شهد تظاهرات وخطابات كبار السينما الفرنسية ومن بينهم فرانسوا تروفو وجان - لوك غودار. بعد تعرف الأخوين الفرنسيين على الشاب الأميركي، يعرض برتولوتشي للثورة الدائرة في الشارع من خلال لعبة السينما والتحرر التي يمارسها الشباب الثلاثة في البيت الذي غادره الأبوان في إجازة. الشبان الثلاثة يغلقون على انفسهم في المنزل ويحددون قوانين جديدة لذلك المجتمع الصغير. الحياة داخل المنزل تعيث قدراً كبيراً من الفوضى داخله، إلا انها تفضي الى قدر كبير من النضج والوعي لدى الثلاثة ما يؤدي بهم معاً الى خيار الاصطفاف النهائي في خضم الثورة.

السينما والجنس والسياسة والموسيقى والسلطة والقانون كل هذه الأمور تتفاعل داخل مساحة ضيقة هي مساحة البيت - المختبر الذي قرر هؤلاء الشبان الثلاثة وضع انفسهم فيه موضع النقاش والتجريب. هي عزلة مختارة يخرجون منها لمجرد بلوغ اصوات الهتافات اسماعهم.، الهتاف ينهي الخلاف الذي نشب بين ايزابيل وشقيقها ثيو، الذي أدخل الى المنزل شخصاً رابعاً، وهي فتاة تعرّف إليها ودعاها الى المنزل من دون موافقة شقيقته. الجمهور لا يشاهد تلك الفتاة، لكنها كيان غريب مرفوض في مطلق الأحوال.


تحت يدي المايسترو

الممثلون الثلاثة (الأميركي مايكل بيت، الذي عمل في مسلسل دوزون كريك، والفرنسيان لويس غاريل وإيفا غرين)، منحوا انفسهم بالكامل الى المايسترو برتولوتشي الذي "استغل" كل ما فيهم من شجاعة، ولم لا، من نزق شبابي وقح، لإنجاز ما طلبه منهم. وجاء اداؤهم كورالياً رائعاً رسم مراحل التطور والنضج خلال الفترة القصيرة التي قضوها بين جدران المنزل. إنهم يكبرون، يفقدون براءة الطفولة والصبا وينبض وعيهم بضرورات الفرار صوب الصف الذي ينبغي ان يقفوا فيه. صحيح ان مواقفهم السياسية والاجتماعية تستند الى القراءات والمشاهدات الفنية، ويندرج سلوكهم تحت طائلة الاقتباسات السينمائية إلا ان فعل بروز الوعي واضح في نقطة الحسم. فها هما الفرنسيان يقرران الانضمام الى الثورة فيما يسير الأميركي في الاتجاه المعاكس مؤكداً لهما رفضه العنف كأسلوب للتعامل مع الأحداث من دون ان يدرك ان ذلك العنف كان وليداً طبيعياً لعدد من الأحداث الكبير التي ساهم جيل ماثيو في حدوثها كالحرب في الفيتنام، التي يبرره الشاب الأميركي من خلال اعتباره الوجود العسكري الأميركي في الهند الصينية امراً اعتيادياً.

برتولوتشي الذي كان يبلغ السادسة والعشرين من العمر في عام 1968، لا يعتبر نفسه احد صنّاع ذلك الحدث، إلا انه يعتبر نتاجه الإبداعي حصيلة طبيعية لتلك الثورة العارمة. ينظر الى ربيع عام 1968 بنقدية حانية، لكن ما يخرج من الصورة التي يعرضها كائن مليء بالكدمات والرضوض. فجيل تلك الثورة غير قادر على إكمال ما يصبو إليه، وهو عنيف لا يرفض جيل الآباء فحسب بل يتمرد على ما هو ايجابي ومقدس في الأعراف الاجتماعية التي صاغها الكبار ومن قبلهم. إنه جيل يوحي بالنزق لكنه يفقد بكارته بيد خارجية، هي اليد الأميركية التي اتت تشارك في صنع الوليد الآتي من افتضاض البكارة تلك.

قد لا يتفق المرء مع ما يرد في "الحالمون" من منطلقات فكرية وسياسية او مع اسلوب قراءة برناردو برتولوتشي لتلك الثورة، إلا اننا من دون ادنى شك امام عمل سينمائي كبير، حوّل فيه صاحب "الامبراطور الأخير" و"آخر تانغو في باريس" حكاية صغيرة لشخص او لمجموعة صغيرة من الأشخاص، الى قراءة ذات صبغة مجتمعية واسعة. ولئن كان برناردو برتولوتشي عنون رائعته مع مارلون براندو وماريا شنايدر بـ"التانغو الأخير في باريس" فإن رقصات هذا المخرج الكبير على ضفاف نهر السين لم تنته بعد ولن تكون رقصة "الحالمون" الأخيرة بالتأكيد.