المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عودة السياسة الواعية من التلفزة الى السينما



الوجيه
27-12-2003, 01:03 AM
عودة السياسة الواعية من التلفزة الى السينما


لسنوات قليلة خلت، ساد رأي يقول إن السينما السياسية لم يعد لها مبرر، وبالتالي من الصعب ان يُلحظ لها وجود. وفي احسن الاحوال، قالت الآراء، صار شيء من السينما ممتزجاً بكثير من الافلام التي، قد تدنو من السياسة، ولكن من الصعب وصفها بأنها سينما سياسية من النمط الذي ساد في سنوات الستين وصنع احلى ايام سينما اميركا اللاتينية والسينما الايطالية ما - بعد - الجديدة، وصولاً الى افلام ناجحة تجارياً من نمط "زد" و"الاغتيال" الفرنسيين. والحقيقة ان رصداً لسينما التسعينات الناجحة، بما فيها تلك التي لم تخل من جودة فنية وحملت تواقيع بعض كبار سينمائيي الاجيال الاجد، عزز ذلك الرأي، اذ بدا ان السينما تتجه اكثر وأكثر لتكون ترفيهاً جماعياً يبحث عن نجاحاته في مواضيـع وأشكال ضخمة مخصصة لـ"الفرجة" لا للتفكير، العميق او الاقل عمقاً، الذي يستدعيه الفيلم السياسي.
اما السياسة نفسها، واما الاعمال التي يمكن ان تدنو من القضايا السياسية، فأحيلت الى الصحف والكتب والندوات السياسية والحزبية العتيقة... وفي احسن احوالها رميت في ساعات التلفزة الاقل جماهيرية. وكانت الاستثناءات تظهر فقط حينما تكون ثمة احداث راهنة كبيرة تملأ اخبارها وتحليلات اوضاعها الشاشات الصغيرة، وبالكاد يمكن للشاشة الكبيرة ان تلهث وراءها.

طبعاً هذا كله كان له استثناءاته. ومن هذه الاستثناءات، مثلاً، افلام وقّعها اوليفر ستون، تحدث فيها عن السياسة بالمعنى المباشر للكلمة. ولكن من خلال سير رؤساء (نيكسون او كندي) او من خلال بعض مظاهر المجتمع. ولكن كما ان السنونو الواحدة لا تأتي بالربيع، كان من الصعب الافتراض بأن ستون وسينماه يمكن ان يكونا على الموضة.

اليوم، يبدو ان هذا كله في طريقه الى التبدل. ليس جذرياً طبعاً، ولكن في شكل ما. واذ نقول "اليوم" قد نعني بهذا ان التبدل بدأ يظهر منذ فترة. ولعل النجاح الكبير الذي حققته افلام سياسية مباشرة وقعها الاميركي مايكل مور، كان اشارة التنبيه الى هذه "العودة" لسينما السياسة الواعية. ففي افلامه - التسجيلية - التي حققها مور، عادت السياسة بقوة "مُستَرجعة من الشاشة الصغيرة الى الشاشة الكبيرة. وعادت خصوصاً لتنبه، مثلاً، الى ان السينما السياسية لم تغب تماماً، لكنها شغلت الصفوف الخلفية من الاهتمامات. مع مور راحت تشغل الصفوف الامامية مدعومة بوعي سياسي متجدد أفاق على بعض المسائل الخطيرة، مثل تفاقم الاحتكارات المختبئة وراء العولمة، وارتباط اصغر امارات العنف في المدارس بالسياسة وسياسة التسلح ومصالح اصحاب المصانع وما الى ذلك.

لم يكن تدفق المتفرجين على فيلم مايكل مور الاخير "بولنغ لكولومباين" المعني بكل هذه الامور التي نذكر، صدفة في هذا المجال. فالفيلم توج في دورة "كان" قبل الماضية، ليتوج في الدورة التالية فيلم "قيل" عن القضية نفسها، وان في منحى اقل احتفالاً بالوجه السياسي للأمر... وفي خلفية هذا، من المؤكد، يكمن ذلك الوعي السياسي الجديد الذي نشأ في العالم منذ سنوات وبلغ ذروته إثر احداث 11 ايلول (سبتمبر) 2001، التي حتى وان كانت ذات طابع ومضمون يتعلقان بالارهاب، فإن البشرية استشفت من خلالهما وقائع سياسية لم يعد من الجائز المرور عليها مرور الكرام. وآية هذا الاستشفاف، في اعتقادها، مثلها الفنان الاميركي شين بن، من خلال فيلم قصير شارك به في العمل الجماعي "11، 9، 11" الذي اعطى فيه الى عدد من المخرجين من شتى انحاء العالم، حرية ان يعبروا عن حدث ايلول الخطير، كما يشاؤون. بين عبر من خلال حكاية بسيطة عن اميركي عجوز يعيش وحيداً يحن الى زوجته الراحلة ويحاول يومياً ان يسقي نبتة وضعها على حافة نافذته، لكن الشمس التي لا تصل تمنع النبتة من النمو. وذات يوم نرى خيال عمارة يختفي هبوطاً، لتغمر الشمس كل شيء... وتنمو النبتة.

طبعاً هذا الفيلم كان في حاجة الى ان يُقرأ عميقاً بين السطور حتى تدرك خطورته ومغزاه السياسيان. وفي المقابل، وكما يفيدنا الزميل عرفان رشيد، الذي يقوم بتغطية جيدة لمهرجان "البندقية" السينمائي لـ"الحياة"، من المؤكد ان الطابع السياسي الغالب على الكثير من افضل الافلام المعروضة في دورة هذا المهرجان لهذا العام، لا يحتاج الى بحث دقيق حتى يظهر واضحاً. هنا تقفز السياسة الى الواجهة مرة اخرى، وخصوصاً من خلال الكثير من الافلام الايطالية التي يتناول افضلها وأكثرها اثارة للسجال، قضايا سياسية عشناها او عاشها الجيل الذي سبقنا مباشرة. فمن فيلم عن مجزرة حصدت شيوعيين في صقلية ما بعد الحرب العالمية الثانية، الى قضية آلدو مورو وخطفه، وخلفيات هذا الخطف والاغتيال، وصولاً الى ثورة الشباب في أيار (مايو) 1968 الفرنسي (كما صورها برناردو برتولوتشي في فيلمه الجديد "الحالمون")... ها هي السينما الايطالية تستعيد بزخم وبقوة عاداتها القديمة: تحشر انفها في امور كانت الحجب الكثيفة ارخيت عليها، وخيل لمقترفيها ان الزمن نسيهم ولم يعد احد يطالبهم بحساب، فإذا السينما تطلب هذا الحساب بكل قوة وعنف، وربما بشيء من المغالاة ايضاً. فالحال ان ما تطرحه السينما هنا ليس حقائق نهائية، وانما هو فرضيات جديدة توقظ من النوم "مسلمات" قديمة مزعومة... ولعل اجمل ما في هذا الطرح الجديد ان من الصعب اتهامه بالخضوع للأيديولوجية وللانتقائية اللتين كانتا من سمات "سينما اليقين" السياسية كما سادت قبل ربع قرن وأكثر. السينما اليوم تسأل. تطرح فرضيات. تدعو الى الوعي. تثير السجالات، حتى ولو بدت في جانب منها ميالة الى فرض بعض الحقائق.

وفي اعتقادنا ان النجاح هو الآن في انتظار هذا النوع من السينما وهذا النوع من الطرح. بل بحسب السجال ان يشتد من حوله ليكون في وسعنا القول ان نجاحه مؤكد. هذا من ناحية، اما من ناحية اخرى - وأساسية في رأينا - فمن الواضح ان نجاح السينما في استعادة ألق اهتماماتها السياسية، انما هو دين عليها للتلفزة. فلولا ان التلفزة، فشلت تماماً خلال الربع القرن الاخير في الدنو من السياسية دنواً حقيقياً واعياً موقظاً لوعي الناس، لما كان في امكان السينما ان تصل ما كان قُطع يوم خيّل الى الناس ان التلفزة قادرة على تحمل عبء السياسة منتزعة من السينما مواضيعها في هذا المجال. من الواضح ان التلفزة، في معظم توجهاتها وانتماءاتها، حولت السياسة الى زعيق، ومجموعة من الاكاذيب ومكاناً للتخبط من دون الوصول الى اي أسئلة حقيقية. وحسبنا هنا ان نذكر القارئ بمعظم الفضائيات العربية المحسوبة على السياسة، لكي يتيقن من هذا. حسبنا ان ندعو القارئ لكي يقارن بين السياسة كما قدمها له مايكل مور او اوليفر ستون، وبين "السياسة" التي تقدمها برامج مثل "أكثر من رأي" و"الاتجاه المعاكس" و"وراء المحيط" وعشرات من "التحف" التلفزيونية الاخرى، حتى يدرك ما نعني. اذاً، لمرة في هذا الزمن، يمكن للسينما ان تقول للتلفزة "شكراً" لأن هذه الاخيرة، في غرقها الايديولوجي والدعائي والديماغوجي في ما تعتقد انه سياسة، اعادت السياسة الحقيقية صاغرة الى بيت طاعتها الاول الاخير... الى شاشة السينما...